//

تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد- Kitab Alhaddad10c







(1/241)

منها: إذا حججت فلا تجاور، وسر إلى بلادك بَرّاً، فكتبت ذلك في وريقة كالأصبع خوف النسيان، ومن حين كتبتها لم أدر أين وضعتها، وضاعت علي فلما كنت عشية يوم بالمدينة المنورة، والحاج العُقَيلي يريد المسير بعد صلاة الصبح، وفي عزمي الإقامة بالمدينة أربعين يوماً، وكنت ناسياً أمره لي بالسفر براً، فبيننا( ) إذ ذاك أقلب أوراقاً، والشمس قد اصفرت، وإذا بتلك الوريقة واقعة في يدي من غير قصد مني لها، فلما رأيت فيها ذلك، ولا يمكن إلا مع الحاج العقيلي المذكور، عزمت على المسير معه .
(1/242)

وقد مرض سيدنا نفع اللَّه به سنة 1130 وابتدأ به المرض في 27 شهر رمضان، وبقي يتزايد عليه إلى ليلة ثامن ذي القعدة منها ثم جعل يخف قليلاً قليلاً إلى ليلة عيد النحر، فخرج رضي اللَّه عنه ليلة العيد إلى المصلى وصلى فيه وحضر حلقة قراءة القرآن، وقرأ معنا من أول الأعراف إلى وما تكون في شأن من سورة يونس، ثم دخل، وبقي مدة السنتين متعافياً فلما كان يوم 27 من رمضان من سنة 1132 ابتدأ به المرض وبقي يتزايد وتختلف عليه أنواع من المرض، كما سيأتي تفصيله عند ذكر وفاته نفع اللَّه به، إلى ليلة ثامن ذي القعدة منها، فانتقل إلى رحمة اللَّه ورضوانه وقُربه، فقال لي ابنه السيد الحسين: لعل هذه السنتين هما اللتان، أعطاهما لحسين بافضل( )، لما استوهب له من أعمارهم، فكل من أصحابه أعطاه شيئاً، وإن سيدنا أعطاه هاتين السنتين، فعاش حسين المدة التي وُهبها، وإن مرض سيدنا الأول هو مرض الموت، ثم رد اللَّه تعالى عليه تلك السنتين كرماً منه ورحمة للعباد، فعاشهما سيدنا والحمد للَّه، ويشهد لِمَا قال السيد حسين: كون المرض في المرتين بسابع وعشرين رمضان، وأنه يتزايد إلى ثامن ذي القعدة، ثم جعل يخف المرض في الأول قليلاً قليلاً، إلى أن بريء منه، وفي الثاني جعل يتزايد كذلك إلى ليلة ثامن ذي القعدة، ثم انتقل فيها، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك .
وطلبه رضي اللَّه عنه صهر له أن يَمُرَّ عليه، فقال نفع اللَّه به: لا، ما عاد نقدر على ذلك، فتعالوا أنتم إلى عندنا لأنكم أخف منا، فأنا اليوم في فَيء العَشْوة، فاسأل فلاناً كيف كُنَّا أولاً في مراحنا ومجيئنا، وهذه الأمور قد مضى حِلّها( )، وقد شبعنا من كل شيء إلا من أمور الدين، وأما أمور الدنيا فلا رغبة لنا فيها، ولكنا أيضاً قد شبعنا منها، وما نحب اليوم من يتردد إلينا إلا لأجل أن يسمع كلمة ينتفع بها في دينه، أو كلمة عِظَة أو عبرةً تنفعه .
(1/243)

وقال رضي اللَّه عنه: بلغنا أن رجلاً قال للسيد أحمد الهندوان( ): إن فلاناً [ أي سيدنا ] سَلَبَكَ( )، فقال: إذا لم يسلبني إلا فلانٌ فبركة، حيث لم يكن غيره، وإذا كان إلا هو، الحمد للَّه، فحقنا عنده محفوظ، ونحن [ أي سيدنا ] ما معنا إلا ما قاله اليافعي في قصيدة يصف نفسه: ( فقير ضعيف يافعي مخلّط ) وكل أهل اللَّه يرون أنفسهم كذلك، ومعنا محبة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه وأهل البيت والأولياء الصالحين، وليس معنا ما نُسْلِب به، إذ لا يَسلُب صاحبَ السيف( ) إلا من معه سيف أقوى منه.
وسألته رضي اللَّه عنه عن سبب تكرير الشيخ علي في البرقة( ) إلباس الخرقة لعياله وأهله، ومن ذكر معهم، فقال نفع اللَّه به: لا بد في كل موضع من معنى، لكن البليد لا يتنبه للمعاني، فقد ذكر الإمام الغزالي، إن البليد إذا أَكَدَّ نفسه فقد يدرك القليل في الزمن الطويل مع التعب الكثير .
ما قال في محمل كلمة الصالحين
وإذا سمعت كلام أهل الخير، فما دمت تجد له محملاً في الخير، لا تخرجه منه، حتى إلى المباح، ونحن لو جاءنا رجل من أهل النفوس، وصَافَحَنا وكَلَّمَنا كلمناه، ومررنا على حالنا، ولكن لا بد ما يخطر في باله شيء فيقول ما درا بي، أو ما بالى بي، وربما يعزم على عدم الاجتماع بعد ذلك، فلا بد ما يخطر في بال الرائي شيء من هذا، وكل ينفق مما عنده، مثل الأسواق والمخازن، منها ما يباع فيه المسك، ومنها ما يباع فيه غيره، فلا يستوي العطار والبيطار، والكلام يتفاوت بتفاوت الناس، وتفاوت الحال، وتفاوت المجلس، وتفاوت حال المخاطب، وتفاوت الزمان .
ما قال في طبع الصغر
وقال رضي اللَّه عنه: من وقت صغر الإنسان يظهر عليه خلقه المطبوع عليه، وطبع الإنسان الذي ينسب إليه هو ما غلب عليه .
(1/244)

ثم ذكر قصة الشيخ أبي بكر بن سالم، ودَفْعه القروش إلى أولاده، يختبرهم، وأن ولده الحسين من دون إخوانه، ربط ما أعطاه إياه في ثوبه، والبقية لعبوا بها حتى راحت عليهم، وفي اليوم الثاني سألهم عن ذلك فأخبروه والحسين قال: هاهو مربوط في الثوب، فقال له: تضم الدنيا، ستقع عليك الدنيا من السقف، ثم بعدما كبر وقام في مجلس أبيه، فبينما هو جالس مع أصحابه، إذ وقع في المجلس وِجْبُ( ) تمر من أوجاب مصفوفة في الدار، فقال الحسين: اليوم تَمَّ علينا ما وَعَدَنا به الوالد، إنه ستقع عليك الدنيا من السقف .
وقال رضي اللَّه عنه: لا تَعُدَّ علماً إلا ما كان محفوظاً، وما لم تحفظه فهو علم غيرك، لأنك تنقله عنه، وإنما يربي الناسَ علماؤهم، وتربيهم ملوكهم، وتربيهم شيابتهم، واليوم ما شيء من هذا، وأكثر العلوم ما تلقيناها إلا من الأولين على ألسنتهم، كحضور المجالس، وإتيان الصلوات، وإجابة الدعوات، ونحو ذلك، والتأدب مع الجلساء، ومعرفة منازل الناس، ومراعاة حقوقهم ومعرفتها، وتنزيل كل إنسان منزلته .
وذكر رضي اللَّه عنه حضور المساجد، مع أكل ذي الريح الكريه، فذمه جدًّا وأنكره، وأنكر وذم من يتسبب في ظهور رائحة كريهة في الجابية، وذمّ أيضاً من يَجهر خلف الإمام، ثم قال: هذه العلوم التي على الألسنة، وإن كان في طاعة فيحصل بسوء أدبه ما لا تقابله طاعته، والأدب ما هو إلا ما تربى عليه الإنسان من صغره، وأخذه قليلاً قليلاً حتى يتربى عليه ويتقنه، ثم يقيس عليه ما في معناه .
والحاصل: إن التغافل والتجاهل في هذا الزمان ما أمكن( ) هو الذي ينبغي ويحسن، لئلا يتربوا ويخرجوا إلى الباطل .
وقال رضي اللَّه عنه: الأدب أن لا تؤذي أحداً، وإن أوذيت صبرت، وحسن الصحبة والمجالسة بما أمكن( )، ثم أنشد هذا البيت :
صيّرت ذاك المجلس صفَّ النِّعال ... إذا جلست مجلساً بلا أدب
ما قال في إنكار بعض العوائد
(1/245)

وقال رضي اللَّه عنه: علوم الأولين كلها سهلة، إنما هي حديث وأثر وكلام السابقين، فهذه كانت علومهم، والعلم يزكو إذا كان من الطرفين، وهو أن يأخذ ذو العلم القليل، من صاحب العلم الكثير، وهو أيضاً يعلّمه ولا يمتنع من تعليمه، وما عاد اليوم إلا عد النخيل والنخاش والتقصيف يسمى تقصيف الأظافير، وهو إخراج الثمرة من النحر، ولو بقيَتْ أكلها طير فكانت من رزقه، ولو وُلِّيتُ أمرَ البلاد أو أطاعني الوالي لَطَرَّبت( ) على أشياء من العبادات، وأشياء من العادات، أن لا تُفعل إلا في بعض الأوقات، كالسرعة بتخبير( ) النخل، وأن يكونوا فيه كعادة السلف، فإن المال مال اللَّه مُسْتخلف عندهم، ويريدون يمنعونه الفقراء والمساكين، بل حتى الطيور، ويجمع الإنسان ما يكفي جماعة، ويجعله عند امرأة، وتحت نظرها، وما عاد الدين إلا لازق، كالطينة تلزقها في الحائط، فعسى حسن الخاتمة، وأنا مؤمل مثل هذا يحصل من بعض من يلي أن يساعدنا عليه، والناس اليوم إنما هم عبيد العصا، وما معهم سيوف ورماح يقاتلون بها، فيحصل منهم الرجوع إلى الصواب قهراً، كما أطاعوا في أخذ أموالهم قهراً، وكنا مؤملين مثل هذا لكن هذا الرجل( ) ما لزق، فإذا كان الولاة بأنفسهم يتعاطون الربا، ويفتيهم في ذلك علماء السوء، كيف الحال؟، وهؤلاء إنما هم أعداء الدين لا ممن ينصر الدين، فالولاة طلبوا الولاية ليَظلموا، والعلماء تعلموا العلم ليتولَّوا على الأوقاف وأموال اليتامى، فيأكلوها، ويفتوهم بِحِيَل يَسْتَحلُّون بها الربا ونحوَه مما حرم اللَّه عليهم .
وقال رضي اللَّه عنه: إن أهل الزمان نسوا اللَّه بترك حقوقه، فسلط اللَّه عليهم ما يشغلهم، حتى لو دعَوا لم يستجب لهم، وتُنْكِرُ أصواتَهم الملائكة، لأنهم لم يألفوها بسماع ذكر أو غيره من أمور الطاعة، كما ورد في حديث: (( فأنى يستجاب لذلك )).
ما قال في المضطرب في المحنة
(1/246)

وقال رضي اللَّه عنه: قيل إن المضطرب في المحنة كالمضطرب في الحبل، كلما تحرك ازداد شنق رقبته، وأنشد هذا البيت :
مُتْعِبَةٍ خيرٌ من الصبر ... ليس لذي محنة مؤذيةٍ
ما قال في الماء المسخن على النار
وقال رضي اللَّه عنه: إنه لم يبلغنا عن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فيما بلغنا أنه توضأ بماء سخن على النار .
وقال رضي اللَّه عنه: لا ينبغي أن يُترك دخول السوق تكبراً، لأن اللَّه تعالى ذكر الأنبياء بدخول الأسواق، وذكر الكفار بإنكارهم ذلك عليهم، فيدخله لقضاء حاجته، أو كان طريقه عليه، وإنما تركوه تجنباً وتنزهاً من أماكن الشياطين واللغو .
وقد كان السلف يدخلونه يأخذون حوائجهم منه، واشترى سيدنا علي منه قميصاً وسروالاً.
وقال رضي اللَّه عنه: متى فرحت بشيء من أمور الدنيا، واطمأننت به، فأنت ناقص عقل ودين، وزيادة أحدهما أو نقصه يستلزم مثله في الآخر، ولا أحسنَ أهلُ الزمان تدبيرَ دينهم ولا دنياهم، بل هم في دنياهم كالعين العوراء ضعيفة النظر، وفي دينهم كالعين العمياء ليس تُبصر أبداً، فكلما دار الزمان قليلاً تغير أهله، فترى الإنسان يَقْصُر عن مماثلة أبيه، ويعجز في دينه ودنياه، حتى في القوة والهمة، ويعرف الإنسان مرض قلبه، ونقص دينه وعقله، وهو أعرف به من غيره، ثم لا يهمه ذلك أن يقصد طبيباً من أطباء القلوب يداويه، ويُسَلِّم الأمر إليه، ولو وقع له أدنى مرض في بدنه لاهتم له، وطلب المداوي، ويقال: إن المريض أعرف بالعلة من الطبيب، أو كما قال .
(1/247)

وقال رضي اللَّه عنه: لا ينبغي للطالب أن يقول مروني بكذا أو أعطوني كذا، فان هذا طالب لمطلوب نفسه، بل يكون كالميت بين يدي الغاسل، إن أقاموه في شيء ابتداءً منهم فليمتثل، وإلا فليقف، فإنه لا يدري بما يصلح له، وهم أعرف بذلك منه، فإن الناس مختلفون، أحد لا يصلح له إلا خدمة الشيخ، وأحد لا يصلح له إلا خدمة الفقراء، وأحد يصلح له غير ذلك، على حسب اختلاف غرائزهم وفِطَرِهم . فقلت له: فإن أقام الطالب عند الشيخ، وطالت المدة ولم يُقمه في شيء، فقال: في الطاعة بركة، ولكن يمتثل فإنه مادام يطلب شيئاً بنفسه، لم يحصل له، فإن الأشياء موزعة لكُلٍّ ما يصلح له، ثم ذكر قصة الإمام الغزالي حين مضى يطلب( )، فجاء إلى بعض المشايخ فقال: أريد عندكم خدمة، فقال: ما عندنا لك إلا حجر الاستنجاء تغسله كل يوم.
وقال رضي اللَّه عنه: أكابر الأولياء كالشمس، وقابس النار، إذا أتاهم الطالب، فإن كان متأهلاً للشيء، أقدحوه في لحظة، وإلا أقاموه حتى يتأهل، ثم إنهم مختلفوا الأحوال، فمنهم من هو كالقبس الصالح العامل يُوري من أول مرة، ويؤثر معه ذلك، ولكنه لا يظهر عليه له أثر في حياتهم، كما إنه لا أثر للسراج مع طلوع الشمس، ومنهم من لا يُوري إلا بعد مرار متعددة، ومنهم من لا يوري بحال كالعُطُب الدويل الذي ما فيه رائحة الدوى، ثم بعد الإيراء، منهم من يثبت فيه ذلك كما تقدم، ومنهم من ينطفي في الحال، ومنهم من يقيم معه ثم ينطفي على حسب الصلاحية لذلك وعدمها، وقد سمعت سيدنا الحبيب نفع اللَّه به يوماً بعدما فرغ القارئ من قراءته في رسالة المريد، يقول: إنا لم نُسَمِّ من ألَّفْناها بسببه، لأنه رجع بعد ذلك عن الإرادة .
وقال لي الأخ العزيز عوض بن صباح( ): سمعت سيدنا الحبيب نفع اللَّه به يقول: من جاءنا ومعه السراج والعشمة( )، ما علينا إلا نَعْلق له لا غير .
(1/248)

وقال لي رضي اللَّه عنه يوماً: أوصيك بهذه الوصية، وأوص بها أنت: إذا دخلت في أمر ديني أو دنيوي فاجتمع عليه .
وقال لي يوماً أيضاً نفع اللَّه به: الرجل الصالح لا يكلف أحداً إلا بما وافق عنده، ما لم يكن إثماً، أما سمعت قول شعيب لموسى عليهما السلام: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }( )، إذ لم يُعيِّن على موسى ما شق عليه بل ما هان وخف، ولو قال من الصابرين، لدل على أنه ما يراعي في الأمر أحداً .
ما قال في شدة الشوق مع البعد بخلافه مع القرب
ثم ما قال في العراق
وقلت له رضي اللَّه عنه يوماً، وذلك يوم المولد الشريف، بعد الظهر سنة 1125 وكان مجلس أنس وبسط: ما لنا في البعد عنكم نحس للقلب إليكم ميلاً كثيراً، فإذا كنا عندكم لم يبق لذلك أثر، فقال نفع اللَّه به: إن الصالحين يحبون قلة تعلق الناس فيهم، أو قال بهم، ويريدون منهم أن يجتمعوا للَّه ورسوله، لأن اللَّه تعالى يغار إذا رأى عبده متعلقاً بغيره، وكذلك الرسول صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وقد ذكر أهل الاعتقاد: إن المتعلِّق مع المتعلَّق به كالشمس، يُتَمكن من النظر إليها مع البعد أكثر منه في القرب، ثم ذكر أبياتاً من قصيدة ابن بنت الميلق :
والمرء إن يعتقد شيئاً وليس كما يظنه لم يخب واللَّه يعطيه
وليس ينفع قطبُ الوقت ذا خلل في الاعتقاد ولا من لا يواليه
(1/249)

فقلت: فعسى إن بُعْدنا عنكم يحصّل الاجتماع بعد ذلك، فقال نفع اللَّه به: إن الجسد قبرُ الروح، والقَبْرَ قبرُ الروح والجسد، الجسد ماكث فيه، والروح يتعهد، فإن رأيتنا في القبر الأول، وإلا ففي القبر الثاني، والسادة آل أبي علوي يحبون تلك الجهات، لأنها كانت أصل موطنهم ومهاجرهم، وهم هنا أغراب، حتى إن الشيخ عبداللَّه بن أبي بكر العيدروس، في أوقات غيباته حالة السماع، يذكرها يقول: حَضَرت في المكان الفلاني منها، واسألوا فلاناً اجتمعت به في المحل الفلاني، وَبَدَنٌ عندكم، وقلبٌ عندهم في العراقات والشامات، وفي أهل تلك الجهة من أصحاب سيدنا علي رضي اللَّه عنه، وهم الذين صبروا معه، ونحن نطرح الأمور على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وهو يجعلها إلى اللَّه، قلت: ونحن نجعلها عليكم، قال: إن شاء اللَّه.
وقال رضي اللَّه عنه: نود أن ننفع جيراننا وأصحابنا ونحوهم بما أمكن، ولكن خَالَفت الظنون اليوم، ومن نعرفه لا نسمح به للنار والعار، والزمان زمان حيرة، فينبغي أن يسمى: مخيّب الظنون، وهذا بسبب أهله، وأما الزمان فهو ليل ونهار، والميزان موجود بلا شوكة، وكل يطرح من الكفة هذه، ومن الكفة هذه( )، ولو تركوه من غير طَرْح عُرِف الوزن، فعسى اللَّه أن يلطف، واللَّه من ورائهم محيط .
وقيل له نفع اللَّه به: إن الناس اليوم لا يسمعون كلام الأخيار، فقال: لأنهم ما هم أخيار، وهل الحمار يساير الخيل . وقال: طرق التصوف وإن تعددت، فهي طريقة واحدة وهي مجاهدة النفس، والخروج من كل ما تدعو إليه، وهذا أمر عسر، ولكن ربما تكلم بعضهم في مسألة وأكثر فيها الكلام، فنسبت إليه .
(1/250)

ومر في القراءة في "قوت القلوب"( ) وقت الدرس ذِكْرُ التوكل، وأحوال المتوكلين، فقال: مثل هذا يتيسر للمتجردين( ) عن العلائق كلها. وما ذلك ببعيد في حقه، ويمكنه أن يكون بحيث لو مر على وادي ذهب لم يأخذ منه إلا قدر حاجته، وأما من ورط نفسه في العلائق، فلا يمكنه ذلك، وإن حدث نفسه به كان مطالباً بأشياء دونها نَزْع الروح، فَلْيَرض بدرجة أصحاب اليمين، والغالب إن الرجل المصلح اليوم في أول درجة أصحاب اليمين، إلا إن كان أحد خامل مضمر للصبر واليقين وحسن الافتقار .
وقال رضي اللَّه عنه: في قولهم في المتوكل: أن يكون بين يدي اللَّه كالميت بين يدي الغاسل، قال: أي يكون كذلك في الباطن لا في الظاهر .
وقال رضي اللَّه عنه: أمور الدين وأمور الدنيا كلها إذا رَخُصت هانت، وقد ضعفت كلها، ولا عاد بقي منها إلا رسوم كالزرع الذي صُرِب( ) وبقي أصوله .
وقال رضي اللَّه عنه: الهَلَع مع الفقر عيب، كالبطر مع الغنى، وينبغي لفقير هذا الزمان، أن يكون أخف من العُطُب( ) على الناس، وإلا أثم فيهم وأثموا فيه، وعلامة الزاهد في الدنيا إنه إذا دخل عليه شيء منها فوق حاجته يستوحش منه، فيرد الزائد أو يخرجه في الحال بلا مهلة، وهذا أقل الزهد، وعلامة الراغب فيها أن يستأنس بما يحصل له منها، ومن عرف الدنيا زهد فيها، ولو كان ما يؤمن بيوم الحساب، وقد أجمعت جميع الملل على ذمها وأجمعت جميع الأمم التي جاءت إليها الملل على حبها، ومعظم آيات القرآن في ذم الدنيا، ومرة قال: نحو ثلث القرآن في ذم الدنيا والتزهيد فيها، وأبلغ آية في ذمها قوله تعالى: {وَلَولآ أَنْ يَّكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا } إلى قوله: { لِلْمُتَّقِينَ }( ) .
انظر ما أخبر عن حاله
(1/251)

ونحن بحمد اللَّه لا نبالي بما يفوت منها مما في أيدينا، إلا إن كان في غير محله، غارة عمريَّة، وما هي عندنا إلا كحيثة جِربَة، سَهْلٌ علينا إخراجها، ولم نخش إلا من عدم الإخلاص .
ومرة قال: لو كان للدنيا عندنا قَدْر ما ولَّيناها فلاناً( )، يعني خادماً له كان كثير النسيان فربما أعطاه قروشاً يشتري بها حاجة فيضعها في طاقة فينساها فتفوت .
وقال رضي اللَّه عنه: الدنيا، وما هي الدنيا؟، قال بعضهم: إذا أردت أن تعرف الدنيا فاسأل عنها أحداً في سكرات الموت .
ما قال في التروح والتنقل
وقال رضي اللَّه عنه: كانوا إذا دخل آذار( )، يحبون التفرج والخروج من الديار، إلى الخلا والقفار، تنزيهاً للخواطر، وتروُّحاً للقلوب، لأن الروح في الجسم محصور، فإن انحصر الجسم أيضاً اجتمع حصران، فيتولد من ذلك ضعف المزاج، وهذا طبعنا نحن، والذي نحبه ونفعله، إلا إن حصل مانع منه، وينبغي للإنسان أن لا يستقر به مكان، بل يسير في أرض اللَّه، لعله أن يرى أكمل منه فيقتدي به إن قدر على ذلك، وساعده الحال والوقت، أو يرى معتَبَراً فيعتبر، أو يفيد أو يستفيد، ثم أشار إلى أبيات( ) :
تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرّجُ هم واكتسابُ معيشة وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته يعيش بها ما بين واش وحاسد
وأهل الزمان لو تعب أحدهم في شيء من أمور الدنيا غاية التعب، وعَرِق فيه عشرين عرقة ما عَدَّ هذا تَعَباً، ولا يبالي بذلك، ولو كان شيء من أمور الدين، رأى السهلَ عسيراً، والقليل كثيراً، وقال: من يقدر على هذا.
(1/252)

وذكر رضي اللَّه عنه: بعض الأشياء من علم الفلك واختلاف الزمان على الإنسان، واختلاف الأحوال عليه بسبب ذلك، ومعرفة شهور الروم، وما تدخل به من نجوم الشبامي، وما يناسب في كل شهر منها من مأكول وغيره، ثم قال: أردنا فلاناً يحفظ هذه الأشياء، فما أمكنه، والإنسان إذا حفظ في صغره، يرجع ينتفع بمحفوظه في كبره، سيما إذا صار له مظهر، وقد جعل اللَّه للإنسان بداية ونهاية ووسطاً، فيحفظ الإنسان المهم ويذاكر بغيره .
وقال رضي اللَّه عنه: الأشياء لها عسر ويسر، فخذ باليسر في الأمور التي تعرفها، حتى يساعدك الناس، لأن الطريق معك فساير أهلك وأصحابك بما يمكنك، وفيما لا لوم عليك فيه( ).
ما قال في السادة آل باعلوي
والسادة إلا طاهرين فلا تنجس نفسك( )، وهم خاملون ما يظهر أحد منهم إلا بالدين والزهد وأصل الإقبال والتوجه، وبيتهم معمور، وليس المعمور كالخارب، وقد قال السقاف: أولادنا كمن يحفر في طينة طيبة قريبة الماء، وغيرهم كمن يحفر في أصل جبل، أو قال سبخة، أو نحو هذا .
فتن آخر الزمان
وقال رضي اللَّه عنه: إن فتن آخر الزمان مثل النار تحت الرماد، فليفرح الإنسان مادامت مندفنة تحته، ولا يحركها فتظهر، وقد قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم( ): (( الفتنة نائمة، لعن اللَّه من أيقظها ))، والفتن موعود بها في آخر الزمان، وآخر ما تأتيه جزيرة العرب .
وقال رضي اللَّه عنه: إنما يُستدل على كمال الشخص بتأديته الفرائض على كمالها، لأنها عمود الدين، فمن أقامها بواجباتها وسننها، وحضورها من غير وسوسة، دل ذلك على كماله، وحسن عناية ربه به، وإن عكس دل ذلك على عكس ما ذكر .
(1/253)

وقال رضي اللَّه عنه: ثلاث مقامات الدين مُترتِّبة، لا يحصل للإنسان الثاني حتى يُحكِم الأول، مقام الإسلام، ومقام الإيمان، ومقام الإحسان، ولا تكلمْ أهل الزمان حتى في التوكل والزهد، إلا إن كان مر ذلك في كتاب، ومن لا يحسن الإسلام ولا قام بواجب صلاة ولا زكاة، كيف يمكن معه ذلك، ومن لم يكن معه لبن، من أين يستخرج الزُّبُد والسمن، وتراهم يقصرون في إخراج الزكاة، أحد يعطيها للأشراف، وأحد يجعلها ضيافات، يتجمل بها، ويحسبها من الزكاة، ولا تحرك من رأيته في هذا الزمان يسيّب( )، أو ساكتاً فقد كانوا إذا حُركوا يخرج من تحريكهم قطعة الذهب والجواهر، وأما هؤلاء إذا حُركوا لم يخرج إلا العظام، أو جهمومة الشاة .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يَهاب أو لا يَجبن مِن أُمُوِّ( ) الآخرة والكرم إلا خسيسُ الأصل، والبخيل هو الذي لا يتصدق مما في يده ويقول: لو جاءني كذا وكذا من المال لتصدقت، فإنه كاذب، لو جاءه ما أراده مَنَعَهُ منه ما مَنَعَهُ مما عنده الآن من وساوس النفس، وتقدير الحاجة إلى كذا، وإلى كذا، ويعزم على أمور لم يعزم عليها قبل ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: لم يتأسف الإنسان إلا على عمره إذا ضاع بلا فائدة دينية، وأما أمور الدنيا فكلما أقل منها كان أحسن، وأنشد هذا البيت :
ضَيّعت صفوك في أيامك الأُوَلِ ... يا وارداً سور عيش كلُّه كدر
وإذا رأيت الشمس على الجبل عادك تقول: أسير إلى الوادي، لا، إنما تقول: غدوة، والموت ما له غُدْوة، وما غدوته إلا القيامة وليلة البرزخ .
(1/254)

ودخل عليه رضي اللَّه عنه بعض السادة فسأله: كيف حالك وقوَّتك، ثم قال: نعم أيام القوة والراحة ما هي مثل أيام الشدة والضعف، فتراك إذا حصل لك قبض في باطنك، تحس أعضاءك ضعيفة، وما فائدة العمر إلا الطاعة، والشريف أدنى شيء يؤثر فيه، فينبغي أن يبقى على طهارته، ولا يتدنس بشيء من الأمور، وكانت الأوقات مضبوطة، وكلٌّ لازمٌ طَوره ولا يتعداه، واليوم كلٌّ متعدٍّ، وكلٌّ غيرُ مضبوط .
ثم ذكر نفع اللَّه به البرد، وإنه حصل به بعض منفعة لزرع البُر، فقال: إن اللَّه سبحانه لم يدبر شيئاً إلا وفيه صلاح، يدبر الأمر، يدبر الأمر( )، فإذا دبر الأشياء هو سبحانه، فما لك أنت والتدبير .
ما قال في الأدب مع المرموقين بالخير
(1/255)

وقيل له رضي اللَّه عنه: قد جاء إلى هنا السيد فلان . وقيل( ) له: إجلس إلى الظهر، فضحك، وسكت قليلاً، كذا عادته إذا لم يستحسن كلام المتكلم، ثم قال: لا عاد تمصّع النصاب المبلولة، وإلا قيل لك: إفتلها، وكل من كان عنده أحد من المرموقين في الدين أو في الدنيا يحتاج إلى أدب، وإلا ما حصّل شيئاً، ونحن نعرف أهل الزمان، وأنهم مثل الدابة، إذا وردت الماء ظمآنة ما تلبث إذا رويت أن تبول فيه، وأنت إيش لك في الفضول، تقول للناس: إجلسوا، وماذا عليك منهم، اتركهم وما أرادوا، ومن جاء عند أحد من أهل التصوف مستفيداً أو قال زائراً، فجلس إليه يحادثه بطلت فائدته، قال ذلك الفقير: فأعلمونا أنتم بالأدب، وإلا فعقولنا ما تهتدي إليه، فقال نفع اللَّه به: اترك كل ما لا يعنيك، ولا تسأل عما لا يتعلق بك، فإن جاء أحد من جهة أحد تعرفه، فاسأله عنه، والزيادة على ذلك فضول، قال: فإذا جاء أحد نحب له الاجتماع بكم، ما نقول له؟، قال: قل له تعال العصر، وقد جعلنا لهم مجالس، اللَّه يبارك لنا ولهم فيها، ونحن نيتنا فيهم رجاء أن ينفعنا اللَّه بهم، خير من نيتهم فينا، ومجالسنا مع الناس يلزمنا فيها أمور ليست تلزمكم، أقل الحال نسأله هل تزوج، وهل جاءه أولاد، وكيف هم، ومثل ذلك تضييع وقت، وقد قال لنا بعض مشايخنا الذين أخذنا عنهم: إذا صافحكم أحد، فلا تسألوا عنه، فقلنا: إذا جاء إنسان من بُعْد يحتاج إلى السؤال عنه، وكل أحد يريد منا كلاماً، والشيخ عبداللَّه العيدروس، مع أنه ما عاش في الناس إلا خمساً وخمسين سنة، ما مات حتى ترك زيارة التربة بسبب الناس، وكثرة شاغلهم، حتى إنه يصل إلى طرف التربة، ويقرأ الفاتحة ثم يرجع، فهل سمعتم عمن بلغ سننا هذا كان يجالس الناس كثيراً، ويخالطهم مثلنا، فقيل له: هذا أمر قد اختاره اللَّه لكم، قال: فاللَّه يبارك لنا فيما اختاره لنا، قال ذلك وهو جالس في
(1/256)

الضيقة، خارجاً لصلاة الظهر، يوم الخميس حادي عشرين ذي القعدة سنة 1128، وسنه إذ ذاك نفع اللَّه به 85 سنة، تنقص شهرين وستة أيام .
ونُووِلَ يوماً رضي اللَّه عنه ماء، وكان الوقت شتاء، فقال: سبحان اللَّه، أين تلك الحلاوة التي كانت في الماء أيام الصيف، الجنة ليس فيها برد ولا حر، البرد والحر في النار، الحر في مدنها، والبرد في أوديتها، ولا تلك الحلاوة فيه إلا إذا كان بارداً، ويمثّل به في شدة الحلاوة، فيقال: أحلى من الماء البارد للظمآن، ثم لا يقيد بكون ذلك في الصيف، لكون المطلق في كلام العرب، يحمل على المقيد عرفاً وعادة مفهوماً عندهم في لغتهم في كثير من الإطلاقات .
ما قال في الصبْر
(1/257)

وقال له نفع اللَّه به رجل من السادة: أخي يسلم عليكم، وادعوا له، وكان ضعيف الحال، وابتلي في ماله من بعض ظلمة الجهة، فقال سيدنا في حقه: ما عاد ينفعه إلا الصبر، وهو عماد المؤمن، ويقدّر ما وقع عليه، أنه وقع بعد موته، فإنه لا علم له منه، ولا شغل ولا تعب، ولو كان له تريم بأطرافها، لا يبالي بذلك، فلما أن حصل له ذلك وهو في الحياة، فإنما ذلك ليثاب عليه، لأن حصول الثواب إنما يكون في الحياة، ولو كان ذلك بعد موته لم يحصل له الثواب، ويقدر كل شيء نزل به أنه ما نزل، كما قيل لحاتم طي، وكان مشهوراً بالسماحة والكرم: ما الذي يسهل عليك الكرم، فقال: أقدّر الشيء أنه ما كان، وبلغ من كرمه، أنه أصابتهم سنة مقحطة، أذهبت الخف والظلف، ولم يبق معه إلا فرسه، فورد عليه ضيف فلم يجد له ما ينحر له، فذبح له الفرس، فقالت له زوجته في ذلك فقال: وما نكرم به ضيفنا، فلم يألُ بذبح الفرس لإكرام الضيف، مع أنه ليس معه غيرها، وكان يضرب به المثل في الكرم، ثم انجر الكلام إلى ذكر علو الهمة، فقال نفع اللَّه به: مع علو الهمة تصغر في عين الإنسان جميع الأشياء الدنِيَّة، ولا يهمه إلا المقصود الأعظم، وذلك كالشجاعة فإن الشاجع لا يبالي بما يَعرِض له، ويُحتاج كثيراً إلى سعة الصدر، فمع ضيق الصدر قلَّ ما يحصل على شيء، وكان الشيخ عبداللَّه العيدروس كثيراً ما ينشد هذين البيتين( ) :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وقال رضي اللَّه عنه: الفرق بين التأني والتواني: أن التأني التوقف حتى يتبين الأمر، والتواني مع تبينه يقف عنه، ويتساهل فيه ويتركه، والتأني في الخير محمود، والتواني فيه مذموم، وقد يتبين لك الأمر ولكنك غير مستعد له عدته، فلا ينبغي لك الإقدام عليه .
ما قال في القاضي
(1/258)

ودخل عليه رضي اللَّه عنه قاضي البلد، فبعد السلام والتحية كلمه بكلام يؤنسه، فقال له: لابد للإنسان من أمرين: الصبر والتقوى، لأنه ما يجيء عند القاضي إلا متخاصمون، ولو تبين لهم الحق( )، لأنه لو كان فيهم تقوى ما احتاجوا إلى الترافع للقاضي، فلا يرفع إليه إلا من بينهم مشاقة وخصومة، فالعمدة لك إنما هو الإصلاح، فاعتمد ذلك وتجنب الحكم ما استطعت، لأن الحكم عسر، فأصلح بين المتخاصمَين، واصرفهما عنك متراضيَين، وقد كان القاضي باهارون في وقته، جميع أحكامه إلا إصلاح بين الناس، وقد قال من تتبع قضاياه سنة كاملة: ما رأيت فيها حكماً واحداً، وإنما كلها إصلاح، وأين أنت اليوم وحكم الشرع، وقد قال الشيخ علي بن أبي بكر في وقته: لا يغرك قول من قال امش بنا إلى الشرع، فإنهم أخرجوا من الشرع عينَه، فبقي شَرٌ بلا عَيْن، فإذا أَرَيتَ اللَّه تعالى من نفسك الصبرَ، والورعَ، والتقوى، يرجى لك السلامة وتحرَّ ما استطعت . وذكر قصة: إن رجلاً كان يمشي في طين ووحل على طرف نهر، وهو متحفظ على ثيابه، ورافعها خوفاً عليها من النجاسة، فزلقت رجله فسقط، ووقع طرف ثيابه على الماء، فسيبها كلها، وجعل يجرها في الماء والطين، وهو يبكي، وقال: هكذا الإنسان ما يزال يتحفظ في دينه، حتى يقع في أمر ثم يغرق فيه بكله، فينبغي أن يكون القاضي من حين يجلس على نية صالحة، من إكشاف الحق وتبيينه، وإصلاح بين المسلمين، وما لم يظهر لك تتركه على غيرك، كما كان بعض قضاة تريم يخلي واحداً يقوم عنه بسيوون .
ما قال في ذم تمني البلاء
(1/259)

وقال رضي اللَّه عنه: لا تقل وأنت في عافية: لو ابتليتُ صبرتُ، فإن الغالب إن من يدعي الصبر مع اللَّه يُبتلَى، ولكن اسأل اللَّه تعالى العافية، فإذا ابتليتَ فاصبر، ولا تغتر في نفسك بأحوال أقوام بلغ بهم البلاء كل مبلغ، فصبروا، فلعلك لو ابتليتَ لم تصبر، فكم من قائل: لو ابتلاني اللَّه لصبرتُ، فلما حل به البلاء لم يصبر، فتراه إذا تحرك له ضرس، أو ضَرَب عليه عرق، بات سهراناً، وأما أولئك الذين صبروا، فإنهم انكشفت لهم الآخرة فشاهدوها، فلم يبالوا بالبلاء، ودانوا أنفسهم فلم يعبأوا بالرفاهية واستوت هي والشدة عندهم .
واعتذر إليه رضي اللَّه عنه بعض الفقراء، ظن أنه رأى عليه في شيء، فقال نفع اللَّه به: لا عاد يقع في خواطركم إن في خواطرنا عليكم شيئاً، لأنا أصبر منكم، وأوسع أخلاقاً منكم، وقد جربنا الزمان، وجربنا الناس، فمن فيه عشرة أخلاق وفيه خُلُقان تُعْجُبِنا منه عفونا عنه الباقي، قيل له: فإن لم يكن في الإنسان شيء يُحمد، قال: نرضى منه بقضاء حاجة، أو فتح كتاب، ونحو ذلك، ولو علم الناس بصبرنا على فلان، في قضاء الحوائج، لكان تعجبوا منا، فالحذر تظنون أنه يقع في خواطرنا على أحد شيء .
ما قال في كلمة لا إله إلا الله
(1/260)

وقيل له رضي اللَّه عنه: خاطركم بالدعاء لفلان بالثبات وهو شخص كبير السن، فقال: إذا أراد الثبات فليعَضَّ على قول لا إله إلا اللَّه، ويلازمها، فإن الطريق قريب جدًّا، وإن كان فيه مشقة، كطريق العقبة، تشق مع قُرْبِه، وإنما البعد على من دار عن الطريق، ولا ترى أحداً يَفتِن أحداً في دينه، إنما يَفتن من فَتَن أحداً في دنياه، فلا يكاد أحد من الرافضة، ونحوهم من المبتدعة، أن تسمعه يتعرض لأحد ليمنعه عن دينه ليدخله في مذهبه، وهذه الكلمة [أي لا إله إلا اللَّه] سهلة قريبة، فإذا رضي اللَّه ورسوله بقولها مرة واحدة، بعد كفر كذا كذا سنة، فأحرى أن يقبلها ممن لازمها مدة عمره، وإن كان عليه شيء من الكبائر، فمن لقي اللَّه بها يُرجَى منه تعالى له المغفرةُ ببركتها، وهي التي يشاغب الشيطان عليها، ويحرص أن يقطع الإنسانَ منها، وقد طلب النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من عمه أبي طالب أن يقولها مرة واحدة يشهد له( ) بها، وكذلك الدجال لعنه اللَّه، إذا جاء يدعي الربوبية، مع كثرة ما يجيء به من الفتن، إنما يرضى ممن تبعه أن يقول له بكلمة واحدة، بأن يقر له بالربوبية، فكذلك جميع الفتن وإن كثرت، ففي كلمة التوحيد للإنسان مخلص كاف من جميع الفتن .
وسمعته رضي اللَّه عنه يوصي بعض السادة فقال: إن أردت تنوير قلبك فعليك بلا إله إلا اللَّه في جميع أوقاتك، واجعلها شغلك، ولا تخرج منها إلا إلى قراءة القرآن، أو قول: اللَّه اللَّه .
ما قال في المهدي
(1/261)

وأمرني رضي اللَّه عنه أنشد، فأنشدت بقصيدته على ريم وادي الرقمتين سلامي( )، وفيها ذكر المهدي، وذلك في مسجده الأوابين، يوم الثلاثاء 21 صفر سنة 1128، فقال نفع اللَّه به: هذه الأخبار التي وردت في المهدي، وتقريب وقوعها، بمعنى إنها واقعة لا محالة، وإن بَعُدَت، ولما ذكر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من أمر الدجال وقَرَّب فيه وبالغ في قرب خروجه، ظن مَنْ سَمِعَه أنه خارج في وقتهم، بسبب تقريبه لهم، وكذلك ما أخبر اللَّه تعالى من قرب الساعة، وتفصيل ذلك وتقريبه، وإخبارُ اللَّه تعالى على قدره لا على قدر الخلق .
(1/262)

وأنشدت بها أيضاً بأمره بين يديه، يوم الثلاثاء في دار آل فقيه في 24 محرم سنة 1129 فقال نفع اللَّه به لأحد الحاضرين: أسمعت ما فيها من البشارة بالمهدي، وقد بُشِّر به من قديم، ولكن أمر اللَّه تعالى على قدره، والزمان قد كثر فيه الظلم وتَفَاحَشَ، وسنة كَثُرَ الخريف( ) قلنا لولا أن في الخبر تتقدمه فتن كثيرة، لقلنا إنها من سنين المهدي، ولكنه خارج ولا بد، وإذا ظهرت الشمس ذهب الظِّلال أو قال الظلام، وناس يتمنونه، ويَدْعُون بخروجه، كل ذلك لأجل الدنيا، ولو كان يعطي الناسَ حقَّ الناس، ما كان عادلاً، وكان جائراً، وإنما هو يقسم بيت المال بين الناس بالسوية، ولا يعطي أحداً حق أحد، ولا أحسن من سؤال العافية، مع ملازمة أمور التوحيد، الخاص للخصوص، والعام للعموم، والمهدي جامع بين القطبية والخلافة كما سيدنا علي على مقتضى الظاهر والباطن، وهو مجدد لهذا الدين، ومعنى التجديد تقرير أمور من الدين بين أيدي الناس، طال بها العهد فيهم حتى اختَلَف فيها اجتهادهم، فيقررها على الحق، لا أنه يخترع من الكتاب والسنة أمراً لم يكن. قيل فيحتاج إلى إلهامٍ من الحق، يعرف به الحق من الباطل، أو تقرير الصواب، قال: لكن كشف الأولياء لا يعمل به في الشرع، قيل: فالمهدي. قال: أما المهدي فيلزم العملُ بقوله، لأنه مقرر من الشارع، وعلومه كلها وهبية، يفتح اللَّه عليه معاني الكتاب والسنة، فيقرر الأحكام الشرعية على أكمل وجوهها، وعلى الوجه المحبوب عند اللَّه ورسوله، وهذا هو علم أهل البيت النبوي، كما قيل لسيدنا علي رضي اللَّه عنه: هل خصكم رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بعلم دون غيركم، قال: لا، إلا فهم في كتاب اللَّه .
(1/263)

وحضر عنده رضي اللَّه عنه جماعة جاءوا من الحج، فقال: الناس مشتاقون إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أكثر من شوقهم إلى البيت، ولكن يمنع من ذلك الضعف، وقلة الطاقة، وذكروا من رخص أسعار الحرمين، فقال: إذا صلحت أمور الحرمين، صلحت جميع الجهات، لأن جميع الناس إنما هم على اللَّه ورسوله .
وذكر رضي اللَّه عنه أشياء من أمور الأولين، خلفاء وغيرهم، فقال نفع اللَّه به: أمور التواريخ لا يحتملها ذو العقل الضعيف، لأنه يحصل له من ذلك عِبَرٌ ومذكِّرات، فلا يبلغه عن أحد فاضل ولا مفضول، إلا وله حساد، وعليه نمّامين، وناس يريدون الغدر به، مع أن الزمان صالح، والناس أهل دين، والخير ظاهر أظهر من الشر، فكيف في زماننا هذا .
(1/264)

أقول: فلهذا كان سيدنا نفع اللَّه به، لا يثق بأحد من أهل الزمان، حتى يأخذ حذره منه، وقد قال رضي اللَّه عنه: حصل لي مرة بعض مرض في الدماغ والرأس، فجاءني فلان بدهن الورد، فلم أقبله منه، وهو لنا صديق، غير كرهته لِمَا نعلم من ضعف عقله، فلم نثق به، ونحن لا نقبل من أحد دواء إلا أن يكون فيه خصلتان: العقل والنصيحة، فلا ينبغي أن يأمن كُلَّ أحد، لأن الطبائع تختلف، والجهات تختلف، والأدوية تختلف، والمقاصد تختلف، وقد حصل بيننا كلام وبين رجل ركب معنا في البحر، عندما سرنا إلى الحج بسبب الماء، لما رآنا نأخذ منه، ويعطونا أكثر مما يعطونه، فقال للنوخذا( ) له: هذا ماء حملوه معهم، وقد حملنا معنا مَلاَء جحلة( )، أو قال أكثر، فقال: أريد النزول، ولا صبر لي على هذا، فنزل ليلاً، فلما كان الصبح جاءنا رجل في المركب، بقدح فيه ماء مذاب فيه سكر أبيض، وكان الوقت صيفاً، وقال: هذا لكم هدية من بعض المحبين، يبرد عليكم، فقلنا: لعله أن يكون من ذلك الرجل، فأخذت منه قليلاً، ثم ناولته لآخر لعدم ثقتي به، لما وقع بيننا وبينه فسألت عنه. فقيل: قد نزل من الليل، وكان ذلك من غيره، وكذلك الملوك لا يأكلون طعاماً، ولا يشربون ماء، حتى يأخذ منه الذي أتى به خوفاً من وقوع شيء، وهذا في مقابلة ما يأخذونه من نعيم الدنيا، فإنها منغصة، وأيضاً فَالْوَهْمُ قد يعمل مع الإنسان في شيء ما منه شيء.
تحري النية في الأمور المباحة
(1/265)

وقال رضي اللَّه عنه: الأمور المباحة ينبغي أن يتحرى لها الإنسان نية، فإن لم يجدها من نفسه، فليسأل عنها أهل العلم المأمونين، وأَخْبِرْهُ بأمرك الذي تريد فعله، من بناء دار أو خلع( ) نخل، وغير ذلك، وكانوا يتحرون النية، ويتعلمونها كما يتعلم الصغار القرآن، وقد أدركنا منهم جماعة، بنوا غرفاً بقَدْر حاجتهم إليها، يبنون قدر ما يحتاج إليه في الحال الحاضر، فإذا تزوج أحد من العيال، واحتاج إلى منزل وحده، بنى ذلك، فإذا تزوج آخر فكذلك، وعلى هذا تصير الدار كبيرة، بتكرر الاحتياج .
ما قاساه من أهل تريم، وقصة آل باكثير
(1/266)

وذم رضي اللَّه عنه ما يتعاطاه بعض الناس، من التهاون بالصلاة والزكاة، ثم قال: قد قاسينا من أهل تريم من شرارهم مقاساة شديدة، لأنا جلسنا لهم مجالس لم يعرفوها ولو رأينا منهم قابلية، بانتفاع في دينهم، كنا جئناهم إلى بيوتهم، وما معنا ومعهم شيء إلا إن كان بالعناية، نحن وإياهم، وإلا فقراءة الكتب ومطالعتها، قد فعلنا من ذلك( ) ما شاء اللَّه، وما جئنا بشيء( )، وما عاد مثلنا ومثلهم إلا مثل حكاية عن أحد من آل باكثير، ناموا في بيتهم ليلاً وتركوا الباب مفتوحاً، فدخل سارق يدوّر( ) في البيت شيئاً يسرقه، فلم يجد شيئاً، فأحس به بعضهم، فقال له: ماذا تريد، نحن أعرف ببيتنا منك، وقد دورنا فيه نحن قبلك في النهار، فما وجدنا شيئاً، فلا عاد تتعب نفسك بلاش، فقال السارق: أسحقكم اللَّه فلأي شيء جلوسكم في هذه الخرابة، فهذا مثلنا نحن وهم، وما رأيناهم إلا مخلِّين بصلواتهم، وزكواتهم، ومن أخل بذلك فهو ظالم، ورأيناهم مرائين، ومن لا ينتفع بما يسمع من العلم فلا عاد يروح يدور عالماً ينتفع به، ويوم تِنَبّون عليهم حتى يأخذوا منهم زكاة عشرة أرطال، فمن أي شيء هذا إلا من ظلمهم، فإن اللَّه سبحانه لم يطرح حجره على بعرة( )، وستر اللَّه جميل، ولكن من لا عرف نفسه ما يعرفه أحد، أو كما قال.
(1/267)

ودخل عليه رضي اللَّه عنه بعض السادة ثامن نجم النطح، فقال سيدنا نفع اللَّه به: في الوقت بُريد، وفيه فائدة، ولو لم يكن من فائدته إلا أنه يذكِّرك نعماً تحصل لك، وقد كنتَ فيها، والفكر أفضل الأعمال، ولا محل الفكر إلا الدنيا، وأما الآخرة فلا محل له، وإن وجد فيها فما هو إلا حسرات، كما حكى اللَّه عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِير}( )، لأنهم ضيعوا الفكر في وقته، والقرآن فيه كل شيء، إلا إنه ما يعقله إلا العالمون، وعهدة بيانه إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم على الإجمال، وتفصيله( ) إلى العلماء وهو الاستنباط، وشيء بيَّنه للناس هذا البيان، لأن الاستنباط ليس كالوحي، والإنسان مأمور بالتفرغ للدينيات، ويصطفي منها ما هو الأحسن، لأن أمور الدين مختلطة، تستخلص بالفكر، والأمور ما تبغا إلا همة وفكر وفراغ .
ما قال في قوله تعالى: سنفرغ لكم، الآية
وما قال تعالى: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ }( )، إلا أنه سبحانه أمرهم بأشياء، وطلب منهم أن يتفرغوا لها، فلما لم يتفرغوا كافأهم اللَّه بما يناسب حالهم، أو قال مثل عملهم.
ما قال في عقائد أهل حضرموت
(1/268)

وذكر رضي اللَّه عنه ما يُتعارف بين الناس في لغاتهم وعوائدهم، مما لا مخالفة فيه للشرع، فقال: اعمل على الأمر المعتاد بين الناس، ولا تشذ عنهم حتى يتبين لك بطلانه، فحينئذ إتبع الحق ولا تشذ، فإن من شذ شذ إلى النار، لأنك ما عندك علم تُعوِّل عليه، ومثل هذا يحتاج إلى علم، وأهل الجهة قدهم مؤدبين في عقائدهم فقد كان فيها علماء، والعلم فيهم ظاهر، ألا ترى العامي يقول لخصمه: حسيبك اللَّه، واللَّه مُطّلع عليك، والنصيف اللَّه منك، ونحو ذلك، فهذا هو الاعتقاد فيُكتفى منهم بما اكْتَفَى به النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من العامة وأجلاف العرب، فلا تذكر لهم البرهان( )، وكلام أهل الكلام، فإن ذلك يشككهم، وأين الناس اليوم، فإنهم موتى، لو جَرَّيت برجْل أحدهم ما علم، فلا تخض مع الناس في أمور الاعتقاد وأمور الآخرة، إلا فيما يوجب الخوف وتأكيد الاعتقاد .
وقال رضي اللَّه عنه: اليوم ما يذوق بالفضائل إلا من هو من أهلها، أو قريب من أهلها، أعني الفضائل الظاهرة، خَل الباطنة فما فيها خوض، والأشياء إلا بالحظوظ، حتى إن رجلاً من أهل الكشف، ذكره الشعراوي اسمه الفرغل، وهو عامي لم يقرأ، فسمع قارئاً يقرأ، فبعد ساعة قال له: غلطت، قال: وما علمك؟، قال: كان يخرج من فيك نور، ثم بعدُ لم أره يخرج، فنظر فإذا هو قد انتقل من مقرأ إلى مقرأ، وهذه أمور السماع، ما يذوق بها إلا من يَعْرِف، إنْ ما ذاق بالصوت، ذاق بالمعنى .
ما قال في بامخرمة
(1/269)

وذكر رضي اللَّه عنه بامخرمة، وقال: في كلامه حِكَم، ولو هو على هيئة كلام العامة، فإنه عالم صوفي، صاحب رياضة، ما هو صوفي جاهل، قلت: هل كان في عسكر فلان( ) الكثير ي لما دخل تريم؟، قال: نعم، وقد قيل له في ذلك، فقال: ما تبعته، إنما تبعت السَّعد وهو معه، كما إن الشيخ عبدالرحمن( ) كان من حيث الغيب في عسكر فلان الكثيري، لما دخل شبام، حتى قال الشيخ معروف باعباد، لبعض جماعته: انظر من معه من الصالحين، فنظر فقال: معه الشيخ عبدالرحمن، فأهل الباطن لهم أحوال، تعرف من قصة الخضر فاستمد منها .
ما قال في طلب العلم
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي للإنسان أن يتبحر في فن من العلوم، حتى يُنسب إليه ويُعرف به، قال سيدنا علي كرم اللَّه وجهه: مَن أَكثَرَ من شيء عُرِف به، ويتطرف في البقية من كل فن، ويأخذ مجامعها وجملتها، حتى إذا سئل عن شيء، فإذا هو معه فيه معرفة، ولا يكون جاهلاً، ولهذا صنف الإمام السيوطي النقاية( ) وشرحها، وإذا حفظ علماً حفظ جميع العلوم المتعلقة به، بحيث إذا اقتصدتَ واقتصرتَ فيه كنت فيها كذلك مقتصداً ومقتصراً .
وقاعدة: من كان عارفاً بعلم ومتحققاً فيه، إذا سمع من يتكلم في ذلك العلم الذي يحسنه ينبغي له أن يسكت ولا يتكلم، فيظهر نفسه، فإذا تكلم فإن ذلك يُعَدُّ منه سخافة، وكثير ممن معه باب أو عشر مسائل يتكلم مع كل من سمعه يتكلم في شيء من المذاكرة، وخير لك أن تحسن عشر مسائل وتتقنها من أن تقرأ كتاباً تامًّا لا تتقنه، وقد جاءنا رجل وكان يغلب عليه السكوت، لا يكاد يتكلم، مع أنه يسمع المذاكرات فلا عُرِفَ، فإذا هو يدِّرس في المذاهب الأربعة .
(1/270)

وقال رضي اللَّه عنه لرجل من السادة يريد السفر: آل باعلوي ما هم إلا بالمسابح والأوراد، وما هذا، يعني الأسباب( ) إلا حق الضرورة، الذي لا بد منه، ومن خَرَج عن طريقة أهله، صار مثل الغراب، أعجبه مشي القطاة، فأراد أن يمشي مثلها فلم يحسن، ثم رجع إلى مشيته، فلم يعرفها ونسيها، وما يحسن بالإنسان إلا طريق أهله، فقال ذلك السيد: قد بَعُدنا منها، قال سيدنا: مازلت قريباً منها، فأنت عليها، ومن تركها بالكلية، فهو الخارج منها و اللَّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وما على الإنسان أن يحفظ إلا دينه وطريقته، والطريقة ما هي إلا القراءة والتسبيح والصلاة الجائزة، ما هو إذا نزل المنزل غفل ولَهَا، وجعل يهذي، ويصلي صلاة غير جائزة، أو أخرجها عن وقتها، وأَعِدَّ (يس) لكل مهم، وفيها سر عظيم، وعليها مدار كبير، حتى على ألسنة الناس، والسادة آل باعلوي ما يحسنون يربون الجاه، لأن أصلهم الفقر والمسكنة، وأهل الجهة لا يعرفون أمور الجاه، وإن حصل شيء منه أتلفوه، والجاه ما يكون إلا على جماعة مقتربة، فإن قَوِيَ عنها، كان على بلدان، فما هو إلا ولاية، ما يقوم بها إلا ولاة الأمور، والأمور اليوم تفلّتت عن قواعدها المعتادة، فالجاه يبغى عرف، والمال يبغى عرف، فإن فات العرف فاتت الأمور، وقاعدة: أوائل الأمور تكون سهلة ثم يكون الإشكال في أوساطها، كالبحر أول ما تدخله يصل إلى الكعب، ثم إلى الركبة، ثم إلى الوسط، ثم تحتاج بعد ذلك إلى السنبوق، ثم إلى المركب الكبير، إذا توسّطت فيه( ) الغبة، والغريق لا ينجي الغريق، فإن طلب منه أن ينجيه راح هو وإياه، قيل: فعسى ببركاتكم تتيسر الأمور، فقال: بركات الفقيه خير، وذاك مع انتظام الأمور، وأما حكاية من يقول أنا أمير، وأنت أمير، فمن يرعى الحمير، والاستعجال ما يحسن، ومن في نفسه شيء ينبغي أن يطويه، ومن كذب في شيء لغير غرض فأحرى
(1/271)

أن يكذب إذا كان له غرض، وإن اللَّه لينتقم بالظالم من الظالم، ثم يرجع ينتقم منهما، كما قال الشيخ عمر بن أحمد: هي تقع إلا ما بين عاجل وآجل، فقد كان آل باغوث خيراً من هؤلاء، ولا فعلوا عشر فعلهم، فجعلهم اللَّه عبرة، حتى صاروا سُوَّالاً، يطلبون على الأبواب، ولا أحد يرثى لهم، والعقوبة ما شرطها أن تقع على يد من تسلط بسببه، ولكن يكون ذلك لا محالة، على يده أو على يد غيره، ونحن ما بيننا وبين آل فلان وحشة، حتى في كلمة واحدة، وما نسير معهم إلا على ما يريدون ونخلِّيهم وما أرادوا، ولكن طريقهم إلى النار، حتى إذا كتبنا لهم نكتب فلان الفاعل التارك( )؟، وليس طريقنا الهتك والعنف، وإنما طريقنا الرفق واللطف، وما سلكنا مع أهل الزمان إلا بالرفق واللطف، لا بالشدة والعنف، وإلا لكنا خرجنا من بيوتنا، بسبب ضيقنا منهم، لا بسببهم .
ما قال في الفئة الطاغية في الجهة
ثم قال نفع اللَّه به: وحكاية هؤلاء( ) في الجهة مثل حكاية بخت نَصَّر في بيت المقدس مع بني إسرائيل، إلا كل شيء على قدره، من حيث الزمان والمكان والناس، وإن كان الأمور لا بد فيها من التقدير، فلما حصلت منهم تقصيرات وذنوب، حصلت لهم العقوبات، وإن كان أولئك كفاراً، وفي تلك الأرض أولاد الأنبياء، فهؤلاء يقولون: لا إله إلا اللَّه بألسنتهم، وقلوبُهم خلية منها، وبين أظهرهم الأشراف، وأولئك قد جاسوا خلال الديار، فكذلك هؤلاء بل نزلوا في الديار، فزادوا عليهم بهذه، ثم أنشد هذا البيت :
فأين اللَّه والقَدَرُ ... ولا تيأس أن ترى فرجاً
والدنيا كلها إلى نقص، ولكن قد ينقص في بعض الزمان الدين والدنيا، فانظر كيف صار أهل البدعة من الزيدية وأهل عمان في هذا الوقت خيراً من أهل السنة، لما في أرضهم من الأمان، وشفقتِهم على الرعية .
كثرة الظلم في حضرموت
(1/272)

فَأَجِلْ ذهنك، هل ترى اليوم أظلم ولا أجور، ولا أزعل من حضرموت، ولا عاد تقول إلا خيراً، فإن هذه الأخبار قد سارت بها الركبان، وانتشرت في كل البلاد، فلا عاد تصيح إلا إلى ربك، فقم له في آخر الليل لا تنام، ولا عاد تنفع الشكوى من ظالم إلى ظالم، فتراك إذا اشتكيت إليه، جعل يستهزئ بك، ولا يبالي بك، وهذه أمور لو رآها الإنسان في النوم استبعدها جدًّا ولو فَعَلَ مَن قَبْلَ هؤلاء بعضَها لانقلبت عليهم البلاد، فكيف ناس من ضُعْفهم لا يعرفون الدراهم، يُدَفِّعونهم قروشاً، لكن عسى رحمة من اللَّه، لا تيأس من اللَّه، ما هو إلا إذا جاءك ما يسخطك من الخلق، فافعل ما يرضي اللَّه، وابقوا على فقركم وهِجْرتكم حتى إن راح قليل من الدنيا، بقي الدين سالماً أو كما قال .
وذكر رضي اللَّه عنه امتداد مدة الظلمة في الجهة، ولم يصبهم شيء، فقال: هم مع ظلمهم، وهؤلاء مظلومون يدعون عليهم وإنما زادهم الدعاء عليهم جراءة، ولو أن دعاء المظلوم مستجاب، لكن اللَّه سبحانه حليم لا يعجل، فإذا أخذ أخذ بمرة واحدة، فعسى يحصل للناس فرج من السماء، وقد أفرط بهم( ) الطمع، حتى غيروا على أنفسهم وانجرَّ الغَيارُ على الناس، وما هذه صفة من له عقل، لأن العاقل يجر لنفسه ما ينفعها، وهؤلاء نفروا الناس وأضعفوهم، وما عاد أهل الزمان إلا كحيتان البحر، يأكل الكبير منها الصغير، والوعد القيامة قال اللَّه تعالى: { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَا أَنْتُم بِمُعْجِزِينَ}( )، وما عاد لهم وعد إلا القيامة، ولم يبلغنا فيما سمعنا إن حضرموت صارت إلى هذه الأمور في وقت من الأوقات، وكثرة الحركات وشدتها على الضعفاء والمساكين، وهي حركة الفعل أفعال الخلق، لا حركة الباطن حركة المقادير.
وقال رضي اللَّه عنه: حصلت في نحو خمس سنين، أو ست سنين مصائب، ولم نرها إلا مختصة بأهل البيت، وإن تَمَّتْ هذه فهي آخرهن( ) .
(1/273)

وذُكِر له رضي اللَّه عنه وهو خارج من البلاد إلى الحاوي: أنَّ عمر بن جعفر أتى بمحطة من القبلة على يافع، فخرج يافع إليهم، فالتقوا معهم، أو مع بعضهم بطرف حذية( )، فانكسر أهل القبلة، فقال لي: أتحفظ هذا البيت :
وَلَيُغْلَبَنَّ مُغالِب الغَلاَّب ... زعمت سخينةُ أن ستغلبُ رَبَّها
قال: وسخينة لقب لقريش .
وقيل له: إن فلاناً تولى وتفاسل( ) معهم، فقال: فَلِمَ يدخل العار وقد جرّب، والعار هو نار الدنيا، ولم يحسن، ودخول الأمور من غير أبوابها عسر تريد تدبيراً أولاً .
وقال رضي اللَّه عنه: لا تحسب أن الزمان كان صافياً فتكدر، بل كان متكدراً من قديم، وإنما زاد كَدَرُه الآن .
وقال رضي اللَّه عنه: هكذا الدنيا يستولي إدبارُها على إقبالها، وأحسن ما ينبغي في هذا الزمان قطع العلائق، لأن الزمان مظلم، وخرجت فيه ظلمات الساعة .
وقال رضي اللَّه عنه: الزمان هكذا كلما ابتنى فيه الأمر من جانب، انهدم من جانب، حتى إن بعض ملوك الجهة سَأَلَنَا، وقال: ما أراكم قمتم بنا على سيرة الخلفاء الراشدين، فقلنا: إن هذا بسبب الزمان، لا لتقصير حصل، فإذا كان عمر بن عبدالعزيز رحمه اللَّه لم يمكنه أن يسير بسيرتهم من كل الوجوه، بل قرب من سيرتهم جدًّا، فكيف يمكن في هذا الزمان .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان فيهم تَشبّح، ومن لم يتشبح تشبحوا له، وعَادَ ضررُ ذلك عليه .
ما قال في من قال من أهل الشطح
(1/274)

وقال رضي اللَّه عنه: اعمل للَّه خالصاً، لا لشيء آخر، ثم إن أعطاك بعد ذلك شيئاً، فهو من باب الفضل والمنة، ولا يسع أمور الآخرة إلا هذا، ومن خالفه ممن قال من أهل الشطح: بنقصِ مَن عَمِل رَجَاء الجنة أو خوف النار، ونقله الناس عنهم، وسموهم لذلك زنادقة، لأن هذا مذهب الزنادقة( )، وكلما كثر الشطح كثر الاعتراض، والإخلاص ما يتبين إلا بالامتحان، ولو هو يسمع الكتب وما يُذكر فيها، فإن الهوى لا يذهب، إنما هو مختفي كاللص، ولا يموت، وإن اختفى قليلاً فما تحس به إلا وقد ظهر عند مقتضاه، انظر قصة الذي دعته نفسه إلى الجهاد، فخالفها حتى تبين له أن موجب داعيتها، أن يموت قتلاً في الجهاد، فيتحدث الناس أنه استشهد . ما هو إلا كن لربك على نفسك، حتى يكون لك، ولا تكن لنفسك فلا يكون لك، وقد دخل الرياء وغلب الهوى على الناس حتى في العبادات، أو كما قال .
ومر في القراءة في شرح الحِكَم، في قراءة السيد زين العابدين، كلام يتعلق بمحبة المدح وكراهة الذم، فقال نفع اللَّه به: المقصود من ذم النفس الذي يذكرونه، أن يكون الإنسان أجنبيًّا من نفسه، حتى لا يتبعها في باطل، كالعدو لا يؤمن، وإلا فلا حاجة إلى أن يذم نفسه، أو يذمه غيره، بل إن كان ذا علم وصلاح، فمدحه قربة، ولا عبرة بذمه لنفسه، بل الشأن إذا جاءه الذم من غيره بديهة( )، وإلا فكم إنسان يذم نفسه إظهاراً( )، ثم لو ذممتَه بما ذم به نفسه، قامت عليه القيامة، ثم قال: التواضع والخمول نعمتان، ما يُغْبط عليهما أحد .
(1/275)

وذُكِر عنده رضي اللَّه عنه بعض الناس بأدب، فقال: أكثر هذه الآداب تكون عند الملوك ومن يتصل بهم، وإنما يكون الشيء عند ظهور مقتضاه، فقد يغلب الطبع الأدب عند ظهور مقتضاه، فإذا ظهر ما يقتضي أحدهما( )، ظهر كما في قصة هِرِّ بعض الملوك، لما أدبه فتأدب، حتى صار يطرح الشمعة على رأسه، فلما رأى في بعض الأيام لحماً مطروحاً، أو فاراً مر به طفر( ) له، ورمى بالشمعة، فقيل لصاحبه في ذلك، فقال: غلب طبعُه أدبَه .
ترك الأدب في محله
(1/276)

ودخل عليه رضي اللَّه عنه بعض طلبة العلم من السادة، وكان صغير السن، وعنده رجل من السادة شيبة، فجعله بينه وبين ذلك الشيبة، فقال له: اجلس، وفلان ما نحاذره، قال هو: لكن تقديم الكبير في المجلس من الأدب، وإن كنت أريد القرب من مجلسكم، فقال سيدنا نفع اللَّه به: الأدب يعفى عنه في بعض الأوقات، وفي بعض المجالس، إذا عَرَف عند ذلك من أهل الأدب أنهم يؤثرون منه ترك الأدب، فتركُ الأدب مع المحبة من حسن الأدب، فقد قال ابن عربي: جلست مرة مع جماعة، وبقوا متأدبين، حتى ضِقْت من تأدبهم معي، وكنت أريد منهم الانبساط، فلم يفعلوا، فصنفت كتاباً سميته كتاب "الإرشاد في خرق الأدب المعتاد" . فذكرته يوماً لجماعة كانوا جالسين معي في بعض الأيام، فقالوا: أرناه، قلت: ما هو حاضر الآن، ولكني أحفظ منه الآن باباً، قالوا: أرْوِه لنا، قال: فناولت رجلي أكبرهم، وقلت له: فصها( )، ولذلك شاهد من السنة وهو إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لما كان جالساً في بعض الأيام، في بعض الأماكن، وكان كاشفاً عن فخذه، فدخل عليه أبو بكر، ثم عمر، وهو كذلك حتى دخل عليه عثمان، فغطى فخذه، وكان لأبي بكر وعمر منه من الانبساط إلى هذا الحد، ولعثمان من الحياء كذلك، وفي ذلك شاهد، ثم لما دخل سيدنا علي والمكان غاص، فلم يجد له محلاً، فقام له أبو بكر وأجلسه بينه وبين رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فشكر صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لأبي بكر رضي اللَّه عنه ذلك، وقال: يا أبابكر أنت من أهل الفضل، فإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهلُ الفضل، وإنما نزلت آية :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا}( ) في أهل بدر، يتفسح لهم من ليس من أهل بدر، لأنه كان عليه السلام، إذا جلس يَسبِقُ إلى مجلسه من يحضره من غيرهم، فإذا أتوا إذ المجلس ملآن من غيرهم، فأُمِروا بالتفسح لهم، أو كما قال .
(1/277)

وقال رضي اللَّه عنه: كانوا ينظرون لمن يتولى شيئاً من الأمور، من قضاء أو صدقة مسجد وغير ذلك، ويعينونه، فصاروا اليوم ينظرون ويتتبعون له الزلات، فغلبت العمومية .
ذم من يدخل وسط الجابية
ثم ذمَّ نفع اللَّه به من يدخل وسط الجابية يغتسل، وقال: إذا رؤي الماء بعد الدخول متغيراً تغييراً فاحشاً حكم بنجاسته، كمسئلة الظبية، مع أن الإنسان لا يخلو في بدنه وعورته من نجاسة في الغالب، خصوصاً في العوام، والمحترفين كالضَّعْفاء( ) ونحوهم، ولكن إذا ضاق الأمر إتّسع، قيل: وأيضاً فيه إسراف، فقال: نعم، واللَّه لا يحب المسرفين، وإذا قال اللَّه في شيء إنه لا يحبه، فابحث عنه ما هُوَ لتَعْرفه .
معرفة موازين القرآن
وقد ضاعت من أيديهم الموازين، حتى يقرأ الإنسان القرآن من أوله إلى آخره، ما يعرف لآية معنى ولا يهمه أن يعرفه، وأعجب من ذلك إن رجالاً لا يقرأون القرآن، يَمَلُّون من سماعه ويضيقون منه، وكان ينبغي لمثل هؤلاء أن يشتاقوا لسماعه، لعدم ممارستهم، إذ من يقرأه فربما به ملل، وأما هؤلاء فما عذرهم، ثم قال: وما هو الميزان المذكور في القرآن، أهو( ) القَفَّان أو موازين البيع( )؟ . إنما هو تقدير الأمور ومقايستها، ونسبة الشيء إلى مثله ومقابلته بضده، وأول ما حصل الغَيار من مجيء الزيدية، وبقيت كالنار تزيد، ولا يدرون، وكان حصوله باختيار أهل الجهة واختيار الزيدية( )، وكان في الجهة عسف والزيدية مظهرين الدين، وما كانوا أهل دهاء، وأرادوا أن يولوا أحداً منهم، فغلبوا عليهم لئلا يصير في الجهة ظلمان، أو قال ظالمان، وأما اليوم فما هو إلا شعق( )، تَلِفَ الشيء بالكلية، وما مَثَلُه إلا مثل الرضة( )، أو مثل الفار، فما عاد إلا لا تيأس من اللَّه أن يأتي منه فرج كما قيل: إن أبا عمرو القاري( ) خرج من بلاده فارًّا من الحَجاج، فخرج إلى مكة، فبينما هو يطوف أو يسعى سمع رجلاً ينشد( ):
(1/278)

إن في الصبر حيلة المحتال
ـــــر له فَرْجَةٌ كحل العقال
رب أمرٍ أتى بغير احتيال ... صبِّر النفس عند كل ملم
ربما تحرج النفوس من الأمـ
لا تضق( ) في أمورك ذرعاً
وذكر رضي اللَّه عنه: الاقتداء عندما مر في القراءة، الأسرار الثلاثة في الأربعين( )، فقال: الاقتداء على درجات وكل درجة فيها أعلا وأدنى، وعموم وخصوص، حتى ينتهي إلى أن يصير كالميت بين يدي الغاسل، ودون ذلك درجات كثيرة، ولو أن يشاور في أمر أراد فعله . ومن بقي يفعل كلما أراد من غير توقف على رأي أحد غيره ما يمنعه إلا العجز وعدم التمكن فهذا قلبه خارب .
ما قال في الذهن
وقال رضي اللَّه عنه: ذهن الإنسان كالماء، إنْ كَثُرَ صُرِفَ في أماكن كثيرة، وإن قل لا يحتمل إلا دون ذلك .
وذكر رضي اللَّه عنه بعض المصنفين، لما ذُكِر كتابُه، فقال: إنه لم يتم له مقصوده في كتابه لأنه تبجح به، والعُجُبُ ما يحصل معه شيء، سواء كان من عالِم أو من عامي، فينبغي لمن أعجب بنفسه، أو بشيء مما يخصه ولو ثوبه، أن يخفض من نفسه .
وقرئ عليه أول الورد الذي فيه يا باسط عشراً، فقال: هذا، يعني المكرر ثلاثاً وعشراً، إنه من أذكارنا السرية، التي لم نُظهرها، وإنما استرقه منا بعض الناس، فلان أو غيره، ولكن من أخذ شيئاً من الأمور السرية، لا يبارك له فيها، حتى يأخذه من صاحبه، وأما قوله أبسط علينا الخير إلى آخره، فهو من أذكارنا( ).
(1/279)

وقال رضي اللَّه عنه: استكثر من أعمال الخير ما استطعت، وخذ منها ما تطيق المداومة عليه، ولا تحقر منها شيئاً. فقد رؤي الإمام الغزالي في النوم بعد موته، فقيل له: ما فعل اللَّه بك؟، فقال: غفر لي، فقيل: بم ذلك؟، قال: بذباب بَرَّح( ) على القلم وأنا أكتب فتركته حتى رَوِي، فإن الخير كله في أمور الخير السهلة، التي لا تراها النفس ولا تعدها شيئاً، وأما التي تراها وتعتد بها فإنها يتطرق إليها البطلان، إما من جهة الفاعل أو المفعول معه، أو الحاضر بينهما .
تعزية وتسلية
وذُكِر عنده رضي اللَّه عنه رجل مات له ابن، فتعب عليه كثيراً، فقال نفع اللَّه به: لا بد للإنسان من الصبر، وإن لم يصبر رجع إلى التسلية، فإن الإنسان يتسلى كما تتسلى البهائم، فقد مات آباء الإنسان والأعِزة عليه، والناس مع الموت إلا مثل القافلة، هذا قد حط، وهذا يسير، وهذا يُحَمِّل، ومن مات ما عاد عُرِف له خبر، وغفل الناس عنه، كأن لم يكن، فإن الناس في دعوة الملائكة، فإنه ورد: (( إذا وضع الميت في قبره قالت الملائكة لمن حضر: إرجعوا إلى دنياكم، أنساكم اللَّه موتاكم ))، والمصائب أول ما تبدو عظيمة، ثم لم تزل تضمحل، حتى تفنى كلها، وهذه الدنيا كثيرة البلايا والمصائب، ولهذا زهد الصالحون فيها.
وكلم رضي اللَّه عنه رجلاً ذهب بصره، رأى عليه أثر الجزع، فصبّره وذكر له قصة عروة بن الزبير، ثم قال: إن اللَّه يعطي عبده الكثير، وقد يأخذ منه القليل، ليدخره له عنده، وتفكرْ في نعم اللَّه الماضية عندك والموجودة، وذُكِر أن ابن عباس لما ذهب بصره أنشد :
ففي لساني وقلبي للَّهدى نور ... إن يُذْهِبِ اللَّه من عينيّ نورهما
وفي فمي صارم كالسيف مأثور ... عقل زكي وقول غير ذي خطل
(1/280)

وقال رضي اللَّه عنه: من طبع النفس إنها إذا ألفت الراحة ثم حصلت لها مصيبة، أنها تجزع، وهذا الطبع موجود حتى في الأكابر، إلا إنه فيهم ضعيف، وفي غيرهم قوي، وأصل الإيمان موجود في الكل، إلا إنه عند ذلك يبقى في الأكابر قويًّا، وفي غيرهم ضعيفاً .
ما قال في حديث أن لا تغضب
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( أن لا تغضب )): أنه عليه السلام قال ذلك لرجل كان كثير الغضب، وكانوا( ) يغضبون غضباً شديداً، حتى يفعل أحدهم أموراً، ويقول أقوالاً مذمومة من غير ضبط، وفي الحديث( ): (( إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))، أي لا يملكها إذ ذاك إلا قوي، أعني قوي الإيمان والعقل، فلا يقول ولا يفعل إلا ما ينبغي له .
ما قال في معنى حديث: (( ما جلس قوم .. الخ ))
وفي حديث( ): (( ما جلس قوم مجلساً ـ ـ الخ ))، يعني: أن المجلس لا يخلو أن يكون معموراً بحرام أو فضول في الغالب، فإذا لم يحصل ذكر يكفر ذلك كان عليهم تِرَه وحسرة على فعلهم .
بركة لا إله إلا الله . وذكر العمود
وأوصى رضي اللَّه عنه رجلاً، فقال له: اللَّه اللَّه في الهمة، وفي الذكر بلا إله إلا اللَّه، فإذا خرجت هذه الكلمة من الصادق مع الهمة، يكون لها عمود، حتى تبلغ إلى عند العرش، قال اللَّه تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ }( )، وهو لا إله إلا اللَّه :{وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ } وهي الهمة ترفعها إلى أن تبلغ بها إلى عند الحق تعالى .
(1/281)

أقول: ومما هو شاهد لكلام سيدنا نفع اللَّه به، ما رأيته في تاريخ بغداد( ) للخطيب أحمد بن علي بن ثابت بن عساكر، من رواية أحمد بن محمد السمرقندي، بإسناده إلى ابن عباس، في قوله تعالى: { هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ }( )، قال: إن للَّه عموداً أحمر، رأسه مَلْويّ على قائمة من قوائم العرش، وأسفله تحت الأرض السابعة على ظهر الحوت، فإذا قال العبد: لا إله إلا اللَّه، تحرك الحوت، تحرك العمود، تحرك العرش، فيقول اللَّه تعالى للعرش: اسكن، فيقول: لا وعزتك لا أسكن حتى تغفر لقائلها ما أصاب قبلها من ذنب، فيغفر اللَّه له .
وقال رضي اللَّه عنه في معنى: ((ووسعني قلب عبدي المؤمن ))( ): أي وُسع معرفة، وحمل الأمانة .
ما قال في حديث الأئمة من قريش
وفي حديث( ): (( الأئمة من قريش ))، قال: الأئمة في الدين والعلم، ومن كان منهم ضَعيف الدين جاهلاً، بأي وجه يستحق التقديم، بل يتعين عليه يجتهد أن يصير عالماً تقياً، ليصير أهلاً للتقدم .
وقد قال الشيخ علي بن أبي بكر رضي اللَّه عنه: تفخسس( ) تسلم، لا تكن عقرباً تقتل، كن ذَنَباً في الخير، ولا تكن رأساً في الشر، فإن الرأس أول ما يقطع .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان عَدِموا الصبر والإحسان، فإن عدموا اليقين والعياذ باللَّه فقدت ثلاث أثافي( ) الدين، فانكفأت بُرْمَتُه( ).
وقال رضي اللَّه عنه: طريقتنا إذا أردنا شيئاً فغالَبَنا فيه أحد، تركناه له .
وقال رضي اللَّه عنه: الأولاد في هذا الزمان، بَغَوْا( ) منك صبراً، وإلا حرمتهم وأشغلتهم، والولد في هذا الزمان، لا يؤمن على الأهل، فكيف بالأجانب، لأن الدين ضعف جدًّا، ومن لا دين فيه كيف يصح منه الورع، والورع إنما هو خوف من اللَّه، ومن يفرق بين التمرة والجوهرة( )، فلا تأمنه على الورع .
(1/282)

وعتب رضي اللَّه عنه على رجل في تركه أهله من غير مراعاة لهم في أمر المعيشة وغيرها. فقال نفع اللَّه به: فلان صالح( ) يتزوج ويترك أهله، ويقول: اللَّه الرزاق . وكل عارف بهذا، حتى البهائم لو تَكَلَّمتْ أخبرت به، واللَّه سبحانه ما يعامل الناس بمقتضى الحقيقة، ولو عاملهم بمقتضاها، ما كان حَرَّاث يَحْرث، أو تاجر يتجر، ثم إنه لو عاملهم بذلك، إنما يريدهم يتفرّغون لعبادته، أيرزقهم ويتركهم يأكلون ويشربون وهم جلوس؟، ما يتركهم كذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: كل من أعمال الطاعة، إذا كان فيه شيء من الهَوَى، يخفّ على النفس، ويسهل عليها، إن قل الهوى قَلّت رَغْبتها، أو كثر كثرت حتى يتجرد للحق فقط دون هوى، فحينئذ يثقل عليها وتشمئز منه .
وقال رضي اللَّه عنه: ليس مع اللَّه ومع أوليائه غربة، إنما الغربة مع النفس والهوى.
وقال رضي اللَّه عنه: إنما تَمّ النعيم لأهل الجنة، لتمكُّن الأرواح منهم، كما تَمَكَّنت الأجسام في الدنيا، لأن النعيم والراحة مع تمكن الأرواح، والتعب والشدة مع تمكن الأجسام، ولهذا كانت الدنيا سجن المؤمن .
وقال رضي اللَّه عنه: الزمان زمان ظُلْمة وحِجَاب، الطالب والمطلوب، لأن الطالب محجوب بالظلمة، ظلمة النفس والهوى، والمطلوب محجوب بالنور، العبادة والأذكار، وليس الأول كالثاني .
أقول: وفي معنى هذا شَرْحٌ لأبيات من قصيدة من نظمه الشريف، وهو قوله فيها( ):
فاقطع الحجْب الكثيفة بالسير عنها غير مقتصر
واقطع الحجب اللطيفة بالسير فيها غير مغترر( )
فإذا جاوزت مرتقياً سدرة الأسرار والقدر
فتوقف وانتظر علماً من علوم الأمر وادَّكر
معنى الحرفان المهملان
وقد سألته رضي اللَّه عنه عن بيت في هذه القصيدة مراراً، وهو يشير لي بالسكوت، وهو قوله :
وانخفاضاً فارم بالبصر ... أين أين المهملان عُلاً
(1/283)

قلت: ما هما المهملان؟، فقال في جوابه بعد الثالثة أو الرابعة: المهملان حرفان مهملان من النقط، حاء مهملة أول حرف من اسم الحوت، الذي هو البهموت، الذي عليه الأرض، وعين مهملة أول حرف من اسم العرش، وهو إشارة إلى أن هذا: الغاية في السفل، والآخر: الغاية في العلو . وقد أشار رضي اللَّه عنه إلى ذلك في مواضع من الديوان كقوله( ): شاهدتَ من عرش إلى بهموت، وفي أخرى( ) :
تطالع أحوال الذرا والمراكز ... وسرت( )وقلبي فيه أيّ عزيمة
ولعل أمثال هذه المعاني من الديوان هي الأسرار التي قال نفع اللَّه به: إنا أودعنا فيه من الأسرار ما لم نودعه في غيره من المؤلفات .
ذم الدعوى
وقال رضي اللَّه عنه: كل مُدّع مخذول، ولا بُدّ أن يقيِّض اللَّه له من يُعْجزه فيَنْخَذل عند ذلك، ولو كان كثير العلم، وما نرى أحسن للإنسان من الاعتراف، وطرح نفسه في الأرض، فإن كان عنده فضل فما يَزيده ذلك إلا رفعة، وإن كان غير ذلك فقد خُلِقَ من التراب فلا لوم عليه إذا صار فيما خُلق منه، وقد ذكر الشعراوي: إن رجلاً من العلماء قال: لا أعلم في هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق أعلم مني، فقال له آخر: صدق الأستاذ، فكم في لحيتك من شَعْرة، فلم يجد جواباً، إختذل بسبب دَعْواه، وكذا وقع لابن عربي في قصته مع دابة البحر، ثم قال سيدنا نفع اللَّه به: من طَبْع ابن آدم الطغيان إن وجد له مَحَلاً، سواء كان مُحِقاً أو مبطلاً، إلا إن قُرع بالخوف، فإذا كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مع كماله المطلق، استعاذ وقال: (( أعوذ باللَّه من مال يطغيني )) الحديث، فما ظنك بغيره: { كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءآهُ اسْتَغْنَى }( ) .
(1/284)

وقال رضي اللَّه عنه: الدَّعوى على حَالَيْن، مُدّع متكلِّم بأن يقول: أنا كذا وكذا، ومدَّع ساكت، ولم يَذْكر نفسه بشيء، ولكنه إذا قيل له: إنك جاهل، أو لم تَعْرف شيئاً أو وُصِف بأي شيء فيه نقص يغضب، فهذا مدَّع أيضاً، ولو لم يكن مثل الأول .
ثم قال نفع اللَّه به: إذا حمد الإنسان نفسه، وأثنى عليها، بقوله: نحن، وأنا، وكان أبي، سقط من العين، ولم يكن لنا فيه نظر واعتقاد، لأن إبليس مَقَته اللَّه وأخرجه من الجنة، بكلمة واحدة بقوله: أنا خير منه، فإن هذا ليس بعبودية، بل تكبُّر وتَجبّر، فليت شعري لو مر على هذا القائل أخص محبيه من قرابته وغيرهم، وهو موضوع على شفير القبر ميتاً، ورأى قبره إلا قدر ذراع فقط، فما يقول؟، ألا يقول: غَوِّطوا( ) قبره، فأين كِبْره ونفسه وافتخاره، والمُشْفِقون عليه.
المتخفي بكِبره
وقال رضي اللَّه عنه: صاحب النفس المُسْتَتِرة أخس وأشنع من صاحب النفس الظاهرة، لأن هذا ظاهر للناس يحترزون منه ويخشونه، والأول يظنونه على ظاهره، فينشبون( ) به . ومثاله كالذي يقول لِذِي فضيلة: إن لي فيك اعتقاداً، وإني أتيتك قاصداً، ونحو ذلك في الظاهر، وهو على خلاف ذلك، ومثال الآخر كالذي يُظْهر العداوة وعَدَم المحبة والاعتقاد، فيفهم حاله، ويُعَامَلُ بمقتضاه .
ما قال في معنى حديث: الناس معادن .. الخ
(1/285)

وقال رضي اللَّه عنه في قوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( الناس معادن الخ ))( )، فقال: إذا كان هذا يجري في العموم، ففي الخصوص أولى، فمن عَمِل في صغره شيئاً من مكارم الأخلاق المحمودة شرعاً قبل أن يعلم كونه محموداً، ولم يصدر منه عن قصد، فهذا دليل على طِيْب معدنه، فإذا كبر كان من ذلك في زيادة وغاية، ومن عَمِل في صغره خلاف ذلك على الوجه المذكور( )، دَلّ ذلك على خُبْث معدنه، فكان في كِبَرِه في زيادة من الخُبْث، وغاية من الشر، فمثال الأول من ظَهَرَ من أول نشأته يحب الإحسان وصلة الأرحام، وغير ذلك، فكلما كبر كَثُر منه ذلك، وازداد معه تمكّناً، ومثال الثاني من هو من أول بُدؤه، متعلق بحب الدنيا ومنهوم بجمعها مع تكالبه عليها، ولم يسمح بإخراج شئ منها، فهذا كلما كبُر ازداد شحًّا وقساوة ونحو ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: كلما ازداد الإنسان خسّة ودناءة، ازداد تكبّراً وافتخاراً، ووجود أحد هذين، يدُلّ على اتصاف الشخص بما ذُكِر .
وقال رضي اللَّه عنه: الدين كالطريق، فمن رأى طريقاً متسعاً سَلَكه أحد من الأخيار فيسلكه، أو ضَيِّقة فذاك مشكل، وفي الحديث: اضطروهم، أي اليهود والمنافقين، إلى أضيق الطرق( ) .
قوله: نصلي خلف كل بر وفاجر
وقال رضي اللَّه عنه: نصلي خلف كل بر وفاجر، كما في الحديث( )، ولا نعيد، لأن هذا تعنت وغلو في الدين، وقد صلى الأئمة خلف الدّول الظالمين والمبتدعين، كدول بني العباس وغيرهم، وإذا صلينا جمعة لا نعيد ظهراً .
وقال رضي اللَّه عنه: اجتماعات الخير يحضرها ناس على مقتضيات نياتهم، بخلاف اجتماعات الشر، فلا يحضرها من حضر تلك .
تأويل تبجح الأكابر
(1/286)

وقال رضي اللَّه عنه: كل ما( ) ذكر عن الأكابر من الكلام، الذي ظاهره التبجح، كقول الشيخ أبي الحسن الشاذلي: منذ أربعين سنة ما حُجِبْتُ عن اللَّه، وقول أبي العباس: لو حُجِبَتْ عني جنة عدن لحظة ما عددت نفسي من المؤمنين، كل هذا مؤول وليس على ظاهره .
ما قال في الإحسان
وقال رضي اللَّه عنه: إحسانك إلى من أساء إليك أكمل منه إلى من أحسن إليك، وتقديمك الإحسان إلى المحسن أولى وآكد .
وقال: لو شرحنا بعض الرسائل، لبلغ ذلك كراريس، لأن أكثرها حقائق وحِكَم وأسرار، وقد قيل: إن أسرار أهل هذا الشأن في مراسلاتهم، وقد فَنِيَ المتحققون بذلك من زمان بعيد، ولم يَبْق إلا العلم بها لبعض الناس، وهو النادر، وأحوال المجتهدين مختلفة، يشير بذلك إلى من ذكر .
وقال رضي اللَّه عنه: الأكابر في آخر أعمارهم يَخْلُون بأنفسهم، لأن أمور الحق ما يسعها الخلق، ويتروّحون من ذلك بالمباحات إذا أحسوا غلبة، وفي المباح لهم راحة، ثم ذكر قصة موسى عليه السلام، بعد المناجاة وضيقه من الخلق،وإذا كان صاحب تمكين لا بد له من تلوين مع الناس.
وقال رضي اللَّه عنه: مدة ما كنا في المدينة، عزمنا على ثلاثة أشياء أن لا نستعملها: سماع الملاهي، واستعمال الطيب الأحمر، وأكل الكُرَّاث، ولما خرجنا إلى الحرمين تجنبنا ذكر الأوطان، وأن لا تخطر لنا ببال، ولا نسمع القصائد التي تُذَكِّرُنَاهَا، ولكن الخواطر التي يُخْطِرُها اللَّه على القلب فما عاد ذلك إلينا، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: أول كتاب كتبه إلينا الشيخ أحمد القشاشي( ) كان أول خطبته: بسم اللَّه مجراها ومرساها، من اللَّه مبتداها، وإلى اللَّه منتهاها، قال: وأجازنا في أشياء مخصوصة، ونجيز فيها أناساً مخصوصين، وسمعته رضي اللَّه عنه يقول: مما أخذنا عنه من الأوراد، أستغفر اللَّه للمؤمنين والمؤمنات سبعاً وعشرين مرة بعد كل صلاة من الخمس.
(1/287)

قال: وأما الشيخ محمد بن علوي( )، فهو في كل كتاب يكتبه إلينا يقول في أوله: من الداعي بطول البقاء، وعُلُوّ الارتقاء، محمد بن علوي، إلى السيد الفاضل فلان، قال: وأجازنا إجازة عامة، في الخرقة وغيرها، ونجيز فيها عموماً، وأرسل إلينا يأمرنا بالخمول، وعدم الشهرة، وذكر إنه حصل عليه من ذلك تعب كثير( ) .
ذكر حجه نفع الله به
وقال رضي اللَّه عنه: مرادنا عام حَجَجنا، أن نجتمع برجلين، أحدهما متبحّر في العلوم الظاهرة، والآخر متبحر في علوم الحقائق، فنسألهما عن أشياء إختلجت في الصدر، ولم نجد من يجيبنا عنها، وكل من وَصَفَ لنا من هو معروف بعلم الحديث، وسألناه، قال: نحن نستمد منكم ونطلب الإفادة من لدنكم، فلم نر من يَشفي الغليل، وكلما رأينا أحداً ممن يُنْسب إلى العلوم الظاهرة، وسألناه، قال: أنا مستمد، وطلب القراءة علينا، فنتركه يقرأ على نيته، ومن رأيناه ممن ينسب إلى العلوم الباطنة، وسألناه عن شيء، انخفض وقال: أنا أريد أن تعطوني الطريق وتُلبسوني، حتى إن رجلاً كان من أهل الخطوة، اجتمعنا به في عرفة، وطلبنا منه الاجتماع في خلوة فقال: إن طلعتم الليلة إلى مكة حصل ذلك، وإلا الوعد في المدينة، فلم يتفق لنا الطلوع إلى مكة تلك الليلة، وهي ليلة العيد، فلم نتفق به إلا في المدينة، فاستضافنا وطلب منا الإلباس، فألبسناه، وإذا له بيت وحاشية، وكنا ظنناه متجرداً .
ومرة قال: وكل من سألْنا عن من هذا وصفه قال: ما يكون هذا إلا أنتم .
وقال رضي اللَّه عنه: عام حججنا وهي سنة شلهام سنة قحط، كثيرة الجوع، فقلنا: إن كان الوقت إلى أشر منه الآن من الزمان والقحط، فقد الآن أسهل مما بعده، وإن رجع إلى خير منه من الرخص والخصب، فأحسن ما ينهض الإنسان لأمر اللَّه، حيث يشق على النفس .
(1/288)

وقال رضي اللَّه عنه في مجلس آخر: ولَمّا حَجَجْنا، كان نيتنا بالمسير إلى مكة بعد نية أداء فريضة اللَّه من الحج وإقامة مناسكه، لطلب بحرين: بحر في العلم الظاهر، عالم بالكتاب والسنة على الإطلاق، وبحر في العلم الباطن متبحر فيه، لأن في باطننا إذ ذاك سؤالات كثيرة في هذين العلمين، فلم نر في الحرمين أحداً منهما، ولم نعلم أهما اختفيا في تلك السنة أم فُقِدا؟، لكنا رأينا آثاراً يسيرة، كالشيخ أحمد القشاشي، والشيخ عبدالخالق المغربي، وكان يقال إنه من أهل الخطوة، وقلت له: أنت من رجال السر الذين سألت اللَّه أن يرينيهم، فأراني ثلاثة أنت منهم، قال: أجل، وكان جاء إلى حضرموت ولنا به بسبب ذلك معرفة . وقال: إنه حج بالخطوة، وقضى مناسكه، وأصبح سائراً من يومه إلى المدينة، فلم نتفق به إلا بالمدينة، وكنا ظنناه متجرداً، وإذا به له بيت وحاشية، وطلب منا الإلباس، فألبسناه، وكان من أهل البيوتات، وقال لي: إيش مذهبكم؟، وكنت أعتقد وأرى إنما مذهبي الكتاب والسنة، وأردت أن أقول له ذلك، فخشيت من الإنكار، فقلت: مذهبي شافعي، فقال: لا، إنما مذهبك الكتاب والسنة، فقلت: أسلافنا كلهم على مذهب الإمام الشافعي، فقال لي: ولِمَ تقول إنك شافعي، وإنما مذهبك الكتاب والسنة، ولم يكاشفنا أحد إلا هذا، وآخر في الهجرين من أهلها من آل بن نعمان، أضمرت بحضرته هل لنا عَوْدة إلى الحرمين غير الأولى التي حججنا فيها الفرض، فكاشفني، وقال: يكون ذلك بعد مدة طويلة، وكثيراً ما يقول سيدنا: نحن موعودون بعودة إلى الحرمين، يشير إلى هذا .
قال: وكاشفه رجل في تعز عام سار إلى الحج، قال: وذلك إنه كان معنا رجل يدّعي الشرف، وفي نفسي من دعواه الشرف شيء، فاتفق إنا كنا عند هذا الرجل، وكان يُذْكر بالكشف، فقال: ليس الرجل بشريف، قال نفع اللَّه به: ولم يكاشفنا أحد إلا هؤلاء الثلاثة .
(1/289)

أقول: إن من مسائله الباطنة ثلاث، وإنه سأل عنها كثيراً من أهل الباطن، وكانوا كثيراً متوافرين في قرى حضرموت، فلم يشفوا له غليلاً، حتى رأى الحكم باقشير( )، فسأله عنها، فأجابه عن اثنتين جواباً شافياً، وقال له: أما الثالثة فلا يجيبك عنها إلا السقاف، فخطر بباله إذ ذاك أن المراد من هو من أهل تسليك المريدين في هذا الوقت من آل السقاف، فسأل عمن هو كذلك اليوم من آل السقاف، فذكر له السيد محمد بن علوي، فكتب إليه يسأله عن المسألة، ويطلب منه الإلباس، فكتب إلى سيدنا يعتذر، ويقول: لا يمكنني ذلك حتى يأمرني النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ثم بعدما أرسل الاعتذار بأيام، حصلت له( ) الهمة على الزيارة، فسار إلى المدينة، فلما وقف في المواجهة تِلْقاء النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، حصل عليه حال عظيم وغيبة، وجعل العرق يصب من جسده، ورمى ثيابه كلها، وما بقي عليه إلا سروال، حتى رأسه مكشوف، ثم سُرّى عنه فلبس ثيابه، ثم قال للسيد أحمد بن هاشم الحبشي، وكان حاضراً ذلك: هات دواة وقرطاساً نكتب للسيد عبداللَّه كتاباً غير ذاك .
فذكر في هذا الكتاب: إنك كتبت تطلب إلباس الخرقة، وإنَّا اعتذرنا عن ذلك إلى أن يأذن لنا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وإن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قد أمرنا بذلك، وها هي واصلة إليك، وأرسلها وأظن قال: معها جواب المسألة، فاتفق وصولها إليه يوم وفاة السيد محمد المذكور، وفيه إشارة إلى أنه خليفته، كما قال سيدنا في مرثاته للسيد محمد المذكور :
بقية قوم قد مضوا وخلفتهم وهم خَلّفوني في الحمى عندما ساروا
وهذا الكلام، حفظت بعضه عن سيدنا نفع اللَّه به، وبعضه عن السيد أحمد بن هاشم بنفسه، وذكر إنه حَصَلت معه بعض غَيرة، لما أمره السيد محمد بن علوي بكتابة الورقة مع الخرقة .
وسمعت سيدنا مرة قال: رأيت في النوم: كأني قابض بتلابيب السيد أحمد بن هاشم، وأقول له: امش بنا نتحاكم أو قال أحاكمك إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم .
(1/290)

أقول: لعل ذلك بسبب الغَيرة التي حصلت له، ولم يجتمع سيدنا بالسيد محمد، فإنه توفي قبل مسير سيدنا إلى مكة بنحو ثمان سنين، لأنه توفي في 14 ربيع ثاني سنة 1071، وسيدنا حج سنة 1079.
قال سيدنا رضي اللَّه عنه: يقال إن السيد محمد بن علوي لما جاء طالباً إلى السيد عبداللَّه بن علي صاحب الوهط( )، قال له السيد عبداللَّه: متى ولدت؟، قال: سنة 1002، قال: لو عادك أدركت من القرن العاشر لحظة لحصل لك مطلوبك وأنت قائم في لحظة، لكنه تركه عنده مدة طويلة، يروّح عليه إذا نام، ويملأ الحوض، وفي ثياب خَلِقَة، ونحو ذلك حتى حصلت له الرياضة، ثم بعد ذلك كان من أمره ما كان .
ومن جملة مسائله التي أراد أن يسأل عنها في الحرمين من هو متبحر في علم الحديث، كما سمعته من لفظه: عن كيفية صلاته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في مرضه؟، قال: وكانت 17 صلاة، وعن من صلى وخطب بهم الجمعة التي مَرّت عليهم في مرضه؟، وكيف صلوا تلك الجمعة؟، لأنه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم صلّى بهم صلاة المغرب من ليلتها لما ابتدأ به المرض، وقرأ فيها بالمرسلات، ولم يصل بهم صلاة بعدها، فكيف صلوها؟، ومن صلاها بهم؟، أبوبكر أو غيره؟، أو صلوها ظهراً؟، ولم يذكر أحد من أهل الحديث ذلك .
وكان سيدنا يتعجب من كونه قرأ في المغرب بالمرسلات، وهو في مرضه الذي مات منه، فيدل على أنهم كانوا يطيلون القراءة في الصلاة .
وقد رأيت في ورقة من جملة أوراق دفعهن رضي اللَّه عنه إليّ وقال: خلهن عندك، وإذا فيها من مسائله التي أراد أن يسأل عنها من العلم الظاهر، ما صورته: الحمد للَّه وحده.
مسألة: هل نقل أحد من الحفاظ للحديث وحَمَلَةِ الأخبار، كيف كانت صلاة رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في الأيام التي لم يخرج فيها للناس في آخر مرضه الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام، والجمعة التي مرت عليهم في مرضه، كيف صلوها، هل صلاها بهم أبوبكر أو غيره، أوصلوها ظهراً .
(1/291)

مسألة: لما قبض رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في بيت عائشة رضي اللَّه عنها، ودفن فيه، هل بقيت ساكنة في البيت، على مثل حالها في حياته، أم انتقلت منه إلى غيره .
مسألة: الحديث الذي في صحيح البخاري من رواية عمرو بن العاص، إن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قال: (( آل أبي فلان ليسوا بأوليائي )) الحديث، هل بَيَّنَ أحد من الشراح، آل فلان من هم، وهل رَوَى هذا الحديث أحد من الصحابة غير عمرو بن العاص، وهل إسناد الحديث في غاية القوة والثبوت، أم هو دون ذلك انتهى . وهذا قليل من كثير مما أراد أن يسأل عنه .
أقول: ذكر الإمام القسطلاني في شرحه على البخاري على شرحه لهذا الحديث، قال: وجزم الدمياطي في حواشيه أن المراد آل أبي العاص بن أمية، وفي سراج المريدين لابن العربي أن المراد آل أبي طالب، وأيده في الفتح بأنه في مستخرج أبي نعيم، وسياق الحديث يشعر بأنهم من قبيلته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وهي قريش قال السفساقي: من لم يسلم منهم فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، وحمله الخطابي على ولاية القرب والاختصاص، لا ولاية الدين .
قال في شرح المشكاة: المعنى لا أوالي أحداً بالقرابة، إنما أحب اللَّه لما له من الحق الواجب على العباد، وأحب صالحي المؤمنين لوجه اللَّه، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح، سواء كان من ذوي رحمي، أو لا. ولكن أراعي لذوي الرحم حقهم بصلة الرحم، انتهى ملخصاً لكاتبه، ومتن الحديث: عن عمرو بن العاص: قال رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم :(( آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إن وليي اللَّه وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أَبُلُّها بِبِلاَلِها))، انتهى . وفي بعض الروايات: آل أبي فلان، ولم يروه غير عمرو، وهو صحيح رواه البخاري( ) .
(1/292)

وقال رضي اللَّه عنه: وعام حججنا، رأينا في مكة المدد والفتوح كثيراً في أيام الموسم، وبعد رجوعنا من المدينة إليها، رأيناها أفرغ، فالحضور والخشوع في أيام الموسم أكثر، وبعده أفرغ، وينبغي أن يطلب ذلك آخر الليل، عند بقاء ثلث أو ربع من الليل، حيث ما في المطاف إلا واحد أو اثنان، فعند ذلك يكون الحضور والخشوع، لأنه إذا حصل التجلي الإلهي، يَتَقَسَّم على من حضر، فإن كان الناس قليلاً كثر لهم النصيب، وإن كثروا قل، كمن يقسم مالاً على الناس، فيقل إن كثروا ويكثر إن قلوا .
وسألته رضي اللَّه عنه: أيما أفضل المدينة أو مكة؟، فقال: أما مكة، فإن كان بالنسبة إلى اللَّه، فهي أفضل، وإن كان بالنسبة إلى إبراهيم، والمدينة إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فالمدينة أفضل .
قال رضي اللَّه عنه: ولما طلب منا المجاورة، يعني أهل الحرمين، قلنا: إن مكة لا تصلح إلا لأحد رجلين، إما خامل لا يُعرف أبداً كالتراب، فَلَوْ دُحِق لا يبالي، أو سايح في الجبال، كابن الفارض، أو بحر لا يتكَدّر ولا يضيق من كثرة الناس وإقبالهم، ولا يشغلونه عن اللَّه مع تبحّره في الكتاب والسنة، وتحققه بالعمل، فيجاور في الحرمين، يأخذ مما فيهما من الخيرات، ويسلم مما فيهما من العوائد، وأما المتوسط فيشتغل فيتعبونه بسبب أمور الدنيا وأحوالها .
(1/293)

وقال رضي اللَّه عنه وذلك يوم 21 محرم سنة 1130: ولما وَصَلنا من مكة وتوصّلنا إلى شبام، ما انْمَرَّتْ لنا الطرق من كثرة الناس، وقد قلنا: إن كان أُذِن لنا في التنقل في الأرض، ما أخذنا معنا إلا واحداً كما فعل الشيخ عمر العطاس، ولكن من بعد تلك الحركة [ أي مسير الحج ]، ما وقعت لنا حركة إلا إلى هود، ومرادنا نتوقّى الشهرة، ويفعل اللَّه ما يشاء، ولا دخلنا بلداً إلا وفيها أناس من أهل الصلاح مرموقين، إلا في هذا الزمان، ما تلقى حتى من يواظب على الصلاة، وكان في بلدان حضرموت ناس مكاشفون، ويقال إن في الهجرين من آل العفيف كلهم إذ ذاك يكاشفون حتى أخدامهم، وما كاشَفَنا إلا ثلاثة، يعني المتقدم ذكرهم، ومرة قال: ما عاد يمكننا ذلك، يعني عَوْدة إلى الحرمين، إلا إن كان خرج المهدي في حياتنا، وطلب منا المجيء إليه لا بد ما نخرج لمبايعته .
قال: وأقبل علينا الناس كثيراً( )، ومرادنا السلامة منهم على طريقة سلفنا، لأن الظهور فتنة، وأرسل إلينا السيد محمد شليه( )، قال للرسول: قل له يسلم عليك، ويشير عليك بعدم المجاورة، فقال له الرسول: إنه ما له نية في ذلك، فقال: ولو، عادك قل له زيادة . ونحن كنا عازمين على أن لا نجاور، وكنا نخف أنفسنا خوفاً من أن تحصل لنا إشارة في المجاورة، ونحن عارفون أن المجاورة على هذا لا تنبغي، ولا تنبغي المجاورة إلا لأحد رجلين، إلى آخر ما تقدم ذكره آنفاً .
ومرة أخرى قال: فأجبناه بأن المجاورة ليست لنا على بال، ولا نَوَيْناها أصلاً، لما رأينا أحوال أهل الحرمين .
وقال رضي اللَّه عنه: قلنا لأهل الحرمين: لو مكثنا معكم لتشاكينا معكم إلى السلطان، لما نرى من أحوالكم .
وقال رضي اللَّه عنه: لا تنظر من الحرمين، إلا إلى البيت الحرام والحجرة الشريفة، ولا تنظر إلى ماعداهما .
(1/294)

وقال رضي اللَّه عنه: ما أحسن ذكر الحرمين، ولو كنا إلا بجدة أو نحوها بالقرب من مكة، لكنا نعتمر في كل شهر، ولكن كان أمر اللَّه مفعولاً .
فقلت له: إن الناس منتظرون ومشاوفون لوعدكم الذي أنتم موعودون به من العود إلى الحرمين( )، فقال: لا، ذلك قد مضى وقته، والوعد متوقف على شروط، ولا تَمَّتْ، ألا ترى إلى العشرة من الصحابة مع كونهم قد بشرهم النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بالجنة، ومقطوع لهم بها، ما ركنوا إلى الوعد، وما زال بهم الخوف، وإنما ذاك أن رجلاً كان يكاشف، فكاشفنا بأشياء وقعت صدقاً.
(1/295)

وقال لي نفع اللَّه به يوماً وذكر أيام حجه، ونزوله مع رفقة معه، نحو العشرة، بدار حسين بافضل، قال: فقال لنا: الحذر إذا بدت لكم حاجة ما تقولون لنا بها، فقلنا: إن بدت لنا حاجة تطلب إلى المخلوقين، فما أحد أولى منك، وقدنا عندك، وإن قضى اللَّه سبحانه الحوائج كلها فما بقي كلام، فاعلم هذا أنت، واعمل عليه، قال: ولما كنا بجدة قادمين للحج، جاءتنا كتب كثيرة من عند محبين يطلبونا أن نقصد عندهم، وأول ما سبق منها ووصل كتاب حسين بافضل الدّويِّلة، وقال: إن عندي داراً بَنَيْتُها، وما تركت أحد ينزلها قبلكم، ومرادي أن أول من ينزلها أنتم، فأجبناه إلى ذلك، فلما قدمنا ونزلناها قلنا له: لا تتكلف لنا بشيء، ومعنا حوائجنا كلها، يعني ما نحتاج إليه، فقال: أنتم في بيتي، ولا بد من ضيافتكم الليلة، فأضافنا، فلما كان غدوة، أرسل لنا عشرة حمران( )، فلمناه على ذلك، فقال: إنما هذه حق الحطب، فلما كان الليلة الأخرى، فعل عَشاء، آخر الأمر إنه قام بالمؤنة كلها، ولا ترك لنا عذراً، حتى إنه اكترى لنا إلى المدينة كراء مرجعاً، فليلة أردنا الخروج من المدينة، رأيت في النوم كأني خرجت من الدار التي نحن فيها، وهي دار محمد أمين، قاصداً إلى مسجد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فعارضتني في الطريق امرأة أرادت تُقَبِّل يدي، فوضعتُها في كمي، ثم قَبَّلَتها، وقالت: ما أشبه هذه اليد بيد السيد محمد بن علوي، وقالت لي: قال جدك النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: عادك امكث في المدينة لا تخرج منها، وكنا قد أمرنا أن تُشد الرحال للسفر، وإذا رجل خلفي يقول لي: هذه رَحْمه، يعني بها المدينة، لأنها تسمى بذلك، فأعجبني اسمها تفاؤلاً بالرحمة، فمكثنا في المدينة لذلك أربعين يوماً .
قال رضي اللَّه عنه: وأخذنا بالحرمين عن جماعة من آل الوفا وأخذوا عنا، والحاصل أخذنا قواعد الإسلام الأربعة عن أربعة .
(1/296)

وقال رضي اللَّه عنه: جمعنا من الكتاب والسنة ما لم يستطع حمله إلا المهدي، فإن أدركناه أديناه إليه، وسلمنا من تلك الأمانة .
وسمعت غير مرة من غير واحد يقول عن شيخه السيد عمر العطاس رحمه اللَّه قال: من جملة من يصل إلى اللَّه على يد سيدنا عبداللَّه ممن اسمه عمر أربعون، قال سيدنا: ونقل لنا عن الشيخ عمر المذكور، أن أولاد فاطمة في آخر الزمان، يفوشون، يعني يزيدون .
أقول: ولهذا إن السفياني، لما كان أصله العداوة لهم، لكونه من بني أمية، وعداوتُهم لبني هاشم تالدة خالدة، إذا رأى كثرتهم يتتبعهم بالقتل حسداً وبغياً .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا اجتمعت بالطبيب فلا تستبعد أن تنال من حكمته شيئاً .
وقال رضي اللَّه عنه: لا نتحكم لأهل هذا الزمان، ولا نتحكم فيهم، فإن تحكمنا فيهم وضعنا على كُلٍّ قَدْر استطاعته بالتخفيف .
وقال رضي اللَّه عنه: ما بقي شئ من الأمور التي يحتاج إليها السالكون إلا وضعناه في كتبنا، فمن أراد شيئاً من ذلك، وجده فيها، ومقصودنا أن نجعل لهم بعضاً من أحكام التوحيد.
وقال رضي اللَّه عنه: القيام بما أخذ المشايخ فيه العهد على المريدين، كتمسك الأعمى بيد البصير، فينبغي أن يبقى لازماً لها( ) حتى يصل حيث طلب، فإن أخل بشيء من ذلك فقد فلَّتَ يده منه، وراح عنه، وضاع عليه الطريق .
وقال رضي اللَّه عنه لي:لو نعمل بكل ما نعلم، لملّنا كل شئ حتى الثياب التي فوق أبداننا.
وقال رضي اللَّه عنه: قد نعزم على الأمر نفعله، فلم يتفق، ولكن يجعله اللَّه على يد أحد من الأولاد أو الأصحاب .
وقال رضي اللَّه عنه: سمع بعض أجلاء السادة شريفاً يقول: أبي وجدي، فقال له: قَعْ( ) كما جدك، وإلا فأنت سيرة وصورة، ولا شئ في المقصورة .
ما قال في السماع ونحوه
(1/297)

وقال رضي اللَّه عنه: السماع يدل على ما في ضمير صاحبه، من خوف ورجاء أو شوق أو محبة، وإذا خرج عنه يزيده من حاله ذلك، ويحصل له بذلك تخفيف وتروح، كما نقل عن سيدنا علي كَرّم اللَّه وجهه، إنه لما كثرت عليه العلوم، ولم يجد من ينقلها عنه، وقف على فم بئر، وتنفس فيها، ففاض الماء على جوانبها، فنبت منه اليراع .
وقال رضي اللَّه عنه: نود أن نحضر السماع في بعض الأحيان، ولكن نخاف أن الروح تخرج، ثم قال: إن الروح قد تقوى في الجسم، حتى تخرج عنه، أو كلمة قريبة من ذلك .
وقال مرة: إن حضرناه ربما يغير علينا، ويحصل لنا بذلك تنسم، ولكن ربما يغير على الحاضرين بتغيرنا، وإن تماسكنا ما نخلو في الباطن من شاغل وتعب، فبقي إذن تلاوةُ كتاب اللَّه وذكرُ اللَّه أفضل .
وقرئ عليه رضي اللَّه عنه شئ من نظم السودي( )، مما فيه غَزَل وذِكْر العود والطار( )، فأعجبه ذلك النظم كثيراً، فقال نفع اللَّه به: أدركنا ناساً على هذا، وكنا نفعله، ولا تركناه لأجل الناس، إنما هو لأنا ما رأينا من يحسنه، وقد أردنا أن نربي عليه أحداً يتعلمه كما ينبغي، لكن ما أحد قَبِلَ التعلم، وكان رجل من آل العمودي من بِضَة يُسَمِّع للشيخ محمد بن علوي، وكان غالب وقته في السماع، وأمره بالجلوس عنده حال مرضه الذي مات فيه، فهو جالس، وأتى أهله( ) إليه يشوفونه، فأراد أن يقوم، فأومى إليه أن اجلس، وكلما رأوه عنده ما أمكنهم المجيء، وكلما هَمَّ بالقيام أمره بالجلوس، حتى مات وهو عنده، فذكر أن آخر ما تكلم به أن قال: ياسيدي يارسول اللَّه، ومكث عند قبره سنة ما يميل عنه إلا للصلاة أو لحاجة .
(1/298)

ولما حججنا، قرأ علينا ثم أصبح وحلقه مشحّم( )، فقال: أخاف أن السيد محمد ما أراد أن أقرأ عليكم، قلنا: لا، نحن والسيد محمد شئ واحد . وكنت عزمت أن لا ألبس الشاية لأنها من لباس المترفهين، فيوماً كنت في المواجهة في زيارة الرسول صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فجاءني بشاية فوضعها على ظهري، وألبسنيها من غير ما أدرى، فلما كان ذلك في المواجهة، اتخذت ذلك رخصة ثم لبستها بعد ذلك، وسَمَّع لنا فأعجبنا تسميعه، وأرسل إلينا السيد علي بن عمر يقول: إن معي لكم وصية من غيري، ما هي مني، إنما أنا رسول، إن فلاناً يقول ما يحسن منكم التسميع، لكون الناس يقتدون بكم، فقلنا له قل له: هذا أمر لا بد فيه من الحَجْب، وسقط عليَّ بعد هذا بعض الكلام، ثم قال سيدنا: وإنما يحسن( ) مع صفاء الوقت، وانشراح الصدر، ومساعدة الإخوان، وقد عدم ذلك اليوم، وإن حَرَّمه جماعة فقد أباحه آخرون لم يطلع أولئك على دليلهم، فيكفي في تحليله، أن الإمام البكري أبا الحسن وابنه محمد كان يحبه كثيراً، وأمر بالعود يضرب عنده في مرضه، حتى مات وهو يقول: اعشق ياقلبي، أو كما قال.
وقال رضي اللَّه عنه: إن أصل الدِّرِّيج( ) أن قابيل بن آدم، ولد له ولد فمات فحزن عليه، فعلقه في الهوى مدة ينظر إليه، فتدخل الريح في جوفه، ويسمع له عند ذلك صوت حزين، فاتخذ أخياطاً من الشجر وفعله كالدريج، فذلك أصله،ولذلك لا يخرج من أهل الباطن ونحوهم إلا حزناً.
وقال رضي اللَّه عنه: أول ولد وُلِد لآدم بعد نزوله إلى الأرض مات، ولم تعلم حواء بوفاته، فلما رأته لا يتحرك، قالت لآدم: لِمَ لا يتحرك؟، فقال: إنه مات فصاحت، فقال لها: لك ولبناتك الصياح، ولي ولأولادي الوقار .
وذكر رضي اللَّه عنه السماع يوماً، فقال: قرائن الأحوال تحسّن الأمور وتقبّحها، فقد يكون السماع في نفسه مباحاً، ولكن إذا حصلت القرائن التي تلحقه بالتحريم أو الشبهات، صار كذلك.
(1/299)

وقال رضي اللَّه عنه: مع الجراءة ما عاد انتفع الناس، والغالب أنه لا يقع الإمهال كثيراً إلا للجريء .
وقال رضي اللَّه عنه: من لم تقومه التقوى والقرآن، لم يقومه إلا السيف والسنان( )، وما بغوا أهل الزمان إلا السيف والنصال .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يأمن الإنسان نفسَه أبداً، ولكن يجنبها الأمور التي يخشى عليها منها الفتنة، ولا يغتر بقوّته عليها، فربما غلبته أو فتغلبه .
وقال رضي اللَّه عنه: للروح مطالب( )، وللنفس مطالب أخرى( ) وقد يجتمعان، فإذا اجتمعا في مطلب طاب للشخص عيشه في ذلك، وزاد نشاطه، ويحصل فيه من النشاط أكثر مما يحصل له في فعل شيء غيره، لأن كلاً من النفس والروح سَلِمَ من منازعة الآخر، واجتمعا على ذلك، ولهذا قال عمر بن عبدالعزيز: إذا اجتمع الروح والنفس في شيء كان كالشَّهْد بالزُّبد .
وقال رضي اللَّه عنه غير مرة: والعجب من قلة خواطر النفس حالة الأكل، ما لم يحصل مثل ذلك في الصلاة، لأنها حينئذ مجتمعة( ) على مطلوبها، بخلافه في الصلاة .
وقال رضي اللَّه عنه: من لم يحكم على نفسه، لا يمكنه أن يحكم على غيره، وإذا رأيتها جَمَحَت لما لا ينبغي، فتَرَقَّها( ) إلى عكسه، كما تترقى ولدك، وإذا لم تقدر على منعها من الحرام، وتعكت( ) عليك، فسيبها في المباح، ولكن خل الناس على ربهم، ومن اطلعتَ عليه منهم على أمر، فإن كان يقبل النصيحة فانصحه، وإلا فاتركه.
وقال رضي اللَّه عنه: خروج النفس عن مُقتضى الطبيعة أمر عَسِر، ولا تخرج منه إلا بكسر أو بعَصْر، ومن طبعها محبة المدح، وكراهة الذم من الغير، ولهذا لو ذم نفسه، فقال: أنا ظالم، مثلاً، فلو قيل له ذلك لضاق منه وتبرم .
وقال رضي اللَّه عنه: إن النفس كسلانة عن الخير فليقهرها الإنسان على فعل الخير وما ينفعها، وإلا جرته إلى الشر، لأنها مجبولة عليه، وفعل الخير يعسر عليها، لأنه خلاف طبعها، فليُكرهها ولا يدعها وطبعها .
(1/300)

واستأذنه رضي اللَّه عنه بعض الفقراء في صوم عشر ذي الحجة، وذلك سنة 1124، فقال: صُمْها لا تخلها، واغتنم ما أمكنك من هذه النفس السوء، إذا أمكنك منها فرصة في شيء من أمور الخير فانتهزها، وخذ منها لها، لأنك إنما تخبئ( ) لها، لأنها محتاجة، بخلاف القلب فإنه مستغن بمعرفة اللَّه وذكره، كالملائكة، فإن غذاءهم ذلك، ومن طبع النفس الخداع والغرور، والخُلف بالوعد، فإنها توعد بالخير ولا تفي بما وعدت .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا وقع للنفوس التي لم يكن لها رياضةٌ مَظهرٌ، ظهرت، ولما جلس في الضيقة خارجاً لصلاة الظهر، يوم الخميس ثالث رمضان سنة 1128، سكت ساعة، ثم قال: النفوس في هذا الزمان مثل غرماء السوء، خذ منها ما جاء، ولكنك إخلص، فقلت له: إن الغرماء ينقادون بالبينة وبأمور أخرى، وأما النفس فلا تكاد تنقاد، قال: نعم، لأنها عدو محبوب، فإذا كان غريمك ابنك الذي هو أحب الناس إليك، أو أحد من أهل بيتك، فماذا يكون الحال، وأنت تريد منها لها وهي مع ذلك تنفر، فقلت له: وهذه الأعمال القليلة الحاصلة منها، اللَّه أعلم ماذا يكون الحال فيها، وقرائن الأحوال تدل على أنها لا شيء، فقال رضي اللَّه عنه: الأعمال حيث وُجِّهت، فإذا حَذَفتَ بحصاة إلى جهة الغرب، ما ترجع إلى جهة المشرق .
ما قال في تأني الحاكم
وقال رضي اللَّه عنه: لا ينبغي للحاكم في هذا الزمان أن يحكم لأحد بمجرد دعواه، حتى يُحْضِر خَصْمَه، ويجمع بينهما، لأنه غير مأمون عليه، فقد قيل: إنه أتى شخص إلى ذي القرنين حاملاً عينه في يده وقال له: إن فلاناً قلع عيني فاحكم لي، فقال له: ادعه، أخاف إنك قلعت عينيه كلتيهما، فكان الأمر كذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: كلما جاوز حد الوسط والاعتدال، فهو شر وبلاء، وخصوصاً في العادات، فإن ذلك في العبادات قد يُغتفر، إذا زيد على القدر الممكن، إما لشغف بالعبادة أو للاحتياط .
(1/301)

ما قال في القضاء والقدر
وذكر رضي اللَّه عنه أمان الطرق فقال: إذا أراد اللَّه أمان الأرض، وضع الأمان في قلب الخائف والمخيف، فحصل الأمان، هذا فعله وعليهم الأسباب، ولهم الاختيار وإليه القدرة والفعل، هذا في هذا العالَم، لأنه عالَم الأسباب والحكمة، فترى الإنسان لو أراد يسافر أو يفعل أو يترك، ونحو هذا كل ذلك باختياره، وأما في الآخرة فإليه تعالى الفعل والقدرة، ولا عاد لهم اختيار ولا سبب، بل لو أرادوا فعل شيء ما قدروا، وتولته الملائكة دونهم، ثم تلا قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ إِن اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَاْنفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}( )، وقال: هذا في الآخرة، لأن إذ ذاك معاد شيء أسباب، ولأن الأسباب قد استوفوها في الدنيا، وقد فُسِّر قولُه تعالى: { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ }( ) المطر ،{وَمَا تُوعَدُونَ } الجنة، لأنها في السماء، فيُنزّل لهم اليوم المطر من السماء الذي هو سبب الرزق، ثم يسكنهم الجنة في الآخرة .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يأمره بالحج، وذكر حديث: (( إنما الأعمال بالنيات ))، ثم قال: الإنسان ينوي ويتحرك، ويُتِمُّ اللَّه ما أراد، فقد توافقُ الحركةُ القضاءَ والقدر، فإن وافقتهما تم العمل، وإن لم توافق ذلك لم يتم العمل، ولكن يبقى الإنسان على ما نوى من خير وشر .
وذكر رضي اللَّه عنه التفريط في الأمور، فقال: الحزم لا يَرُد القدر فكيف التضييع، وأنت إبق على المطلوب منك، حتى يغلبك القدر وأما إنك ترمي بنفسك في البئر، وتقول: مقدر عليَّ . استغفر اللَّه، هذا لا يجوز .
(1/302)

وقال رضي اللَّه عنه: حالُ المشيئة فيه تفصيل طويل ما هو حال الجبر، وفيه كلام طويل يعرفه الإنسان من أفعاله الاختيارية والاضطرارية، فلينظر الإنسان كل أمر، إذا شاء فَعَله، وإذا شاء تركه، فهو محل التكليف والثواب والعقاب، وهو غير كلام أهل الجبر، إنه مكتوب عليّ ومقدر عليّ، وكلهم محجوجون، فمن أين علموا أنه كتب عليهم، وقد احتج إبليس لعنه اللَّه بين يدي اللَّه تعالى بهذه الحجة، فما نفعته: قال اللَّه سبحانه له: لأي شيء ارتكبتَ معصيتي، وعصيتَ أمري، قال: يا رب هذا أمر قد كتبتَه علي، قال اللَّه سبحانه: متى علمتَ أني كتبتُه وقَدَّرتُه عليك، قبل الفعل أم بعده؟، قال: بل بعده، قال تعالى: بهذا أخذتُك . والتفاصيل الغامضة ما يعرفها إلا العالِمون، ولكن اللَّه من اللَّه( )، وهذه المسألة مذكورة من زمن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بوجوهها الثلاثة، كما في قصة الذي أُتِيَ به إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مراراً ليُحَدَّ في الخمر، فلم يقل كُتِبَ علي .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث ابن عباس الذي فيه: (( واعلم أن الأمة لو اجتمعت )) الخ، أي غير مُستقلين بذلك، بل سعوا فيه، ووافق القدر في حصوله، فالإيمان بالقدر إجمالاً واجب، فلا يُحتج به في فعل معصية أو ترك طاعة، فإن هذه بدعة وهي تضر بالعامة، وهي حجة لا تنفع، يحتجون بقَدَرِ اللَّه، فالإيمان واجب ،وبعد ذلك إذا أَصَبْتَ معصية تب منها واعمل الطاعة وأنت مع ذلك تؤمن أنها بِقَدرِ اللَّه .
وقال رضي اللَّه عنه: ما الرضا إلا بالأقضية المُرّة، وأما من وقع له ما يريده فرضي به، فلا يظن أنه رضي بذلك عن اللَّه، وكذلك من يعمل على ما يهواه، ويقول هذا مقدّر علي، فإن هذا مبتدع، واللازم عليك أن تُسَلِّمَ لقضاء اللَّه فيما كرهت، وتعملَ بطاعته .
(1/303)

وقال رضي اللَّه عنه: في أوقات الشدائد لا ينبغي للإنسان أن يشفق إلا على دينه، لأنه الذي يبقى معه في قبره وفي الآخرة، وأما الدنيا فزائلة، ولا بد من زوالها، شئت أو كرهت، إما زالت عنك، وإما زلت عنها، إما زالت عنك اليوم، وإما زالت عنك غداً.
وقال رضي اللَّه عنه: إذا رَجَعت إلى خيرة اللَّه، ففيها كل شيء، والأشياء التي على أيدي الناس كلها عنده موجودة، وإلا فالعلامات علامات سوء، إذا نظرت إلى أحوالهم في أمور دينهم ودنياهم، من صلاتهم وزكاتهم ومعاملاتهم، وما تُذكَر هذه الأمور، إلا لتُعرف أواخرها، لأن اللَّه لا يأخذ بغرَّة، ولا بد للشيء من مقدمات، وهذه الأمور مقدمات الساعة، وكل أمورهم ما شيء منها وقع في محله، وكلها عسعسة( )، ولا تكون العسعسة إلا في الغَدرى، ووَصفُه تعالى نفسَه بقوله: { يُدَبِّرُ الأَمْرَ }( ) في غير محل من القرآن، تعرف أن التدبير أمره مهم، ولا شيء يستقيم إلا به، وأين الرجل الصالح اليوم، ما عاد إلا شر وشر منه .
وقال رضي اللَّه عنه بعدما انجر الكلام إلى ذكر القَدَرية والجَبْرية، فذكر: إن بعض الصالحين جاءه قَدَري، ليحاجه فقام القَدَري وقعد، فقال: ها أنا قمت بنفسي وقعدت، فقال له الصالح: فقم إذاً، فرام القيام فلم يستطع، فانقطعت حجته، وأما الجبرية المحتجون على اللَّه، فإذا قام أحدهم للمعصية مختاراً، وقال: إنما أقامني اللَّه لها، فنقول له: تكذب على اللَّه، إن اللَّه نهاك عنها، ولا نراك مكرهاً عليها، ومن قال لك إفعلها، ولكن اللَّه تركك من حفظه، فأخذ بيدك الشيطان فَجَرَّك إليها .
(1/304)

وذكر رضي اللَّه عنه أفعال الناس في المقادير الكائنة بها، وحركات الناس على مقتضاها، فقال: المقادير أرواح، وأجسادها الأفعال الصادرة من الخلق، فالأجساد تُرى ويُدرك كنهها، والأرواح لا تُرى، ولا يُعرف كنهها، فكذلك الأفعال في المقادير، فيسافر الرجل ويقول أريد مكان كذا، ولا يعلم ما قُدِّر له، فربما مات قبل مقصده، وربما وافق القدر فوصل إلى حيث أراد، فالمقادير لا يُعلم بما جرت به ولو عُرِفت الأفعال . ففي الدنيا تخفى الأقدار وتظهر الأسباب، وفي الآخرة تظهر الأقدار وتخفى الأسباب .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يريد السفر: المقدورات لا بد لها من أوقات، المقدورات لا بد لها من أوقات، كذا كررها مرتين، ثم قال: وما ليس بكائن فلا قُدِّر ولا وُقِّت، اللَّهم خِرْ لنا واختر لنا .
(1/305)

وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً في القضاء والقدر، فقال: هذه الأشياء هي أفعال العباد، فيؤمِن بأنها من اللَّه، ولا يحتج على اللَّه بالقضاء والقدر، بل يجتهد ويختار الأحسن حتى يُغلب، وقد عَلَّمك اللَّه القضاء والقدر فخذ به، لأن اختيارك من فِعْل اللَّه فماذا تحتج به، كما إذا حضر الطعام عندك وأنت جائع أو قَصَدك عدو من سبُع وغيره ومعك سلاح وأنت قادر فتترك ذلك فلا تأكل ولا تقاتل، وتقول: إن قدر اللَّه شيئاً هو يكون، فهو قَدّر لك بأن أعطاك الاختيار والقدرة، وفَصَّل لك أنواع الخير والشر، وبيّن الأحسن والأسوأ، فاجتهد أنت وتَحَرَّ ما يحسن، ولا تجلس وتعتذر، ومعك خصلتان يعتل بهما الناس، وما عرفوهما، لأنهم أخذوهما بجهل، جاهل عن جاهل، ولا يعلمونهما: القضاء والقدر، والتوبة، فيحتج بالقضاء والقدر، مع التقصير في حقوق اللَّه، والاحتجاج بهما مع المعصية معصية أكبر من تلك المعصية، وفي التوبة ربما تاب من بعض الذنوب فَنَقضها . وما جاء في طلب الرضا بالمقدور هو يعني في أمور الدنيا من فقر أو غنى، أو ربح في تجارة أو خسران، أو مرض أو صحة أو موت وأمثال ذلك، لا بأن ترضى بترك واجب أو فعل محرم، لأن اللَّه لا يرضى لعباده الكفر، وكذلك فروعه، فمن قال لك ترضى لنفسك بالمعصية، ولم يرضها لك ربك( ).
وقال رضي اللَّه عنه: ما وقع من أفعال اللَّه هو الأصلح على أي وجه كان، وفيه حِكَم لا يحيط بعلمها الخلق، لأنهم لم يحيطوا علماً بكل شيء، وإن كان يَظُن في الشيء أن الأصلح خلافه، فيقول: لأي شيء يكون الشوك، وإنما الفائدة في الثمر، وكذلك لا حاجة إلى نحو الحيات والعقارب، ففيها حكم ومنافع، لا يحيط بها الوهم، أقل الحال أن لا يبطر الخلق إذا كان كل شيء على ما أرادوا .
(1/306)

وقال رضي اللَّه عنه: المُصِرُّ على الذنوب مع رجاء العفو متمنٍّ، والمعتل مع ذلك بالقضاء والقدر مبتدع، وهذه مسألة قديمة، حتى اعتل بها الكفار، ولكنها شاعت عند العامة، فأول ما يلام على المعصية إحتج بذلك، وجعلوه كالجبر، وليس هذا عذراً لمن بقي معه الاختيار، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: هذه مسألة مهمة في الدين، إحفظوها: لا يحتج الإنسان بالقضاء والقدر، حتى يعطي الأشياء غايتها، ومن كان طبعه لا يقبل الرياضة، فلا تُتعب نفسك معه وتُتعبه .
وسمعته رضي اللَّه عنه مراراً يقول: لا عاد عمدة في ذي الوقت إلا على المقادير فقط، لأنا نرى التدابير والسعي ما ينفع( )، ولا يبلغ الإنسان ما أراده .
وقال رضي اللَّه عنه: من العجائب أن الإنسان قد يصيبه السبب الداعي إلى الهلاك، ولكن حيث لم يقدّر عليه لم يضره، وإن عظم السبب، وقد يصيبه السبب جدًّا، فيضره لأنه مقدر عليه .
وذكر رضي اللَّه عنه القضاء والقدر، فقال: هو مضر بالعامة، حتى غيَّرهم، وليس هذا مقصود الإيمان، فإن مقصوده العمل مع الاحتجاج للَّه تعالى على النفس لا بالعكس، وهذا( ) هو مذهب الجبرية، ومذهب القدرية خير منه، ( وسقط بعد هذا بعض الكلام ) ثم قال: ضَعُفَتْ في هذا الزمان النيات والمروءات والهِمَم، وضعفُها أكثر من ضعف الدين .
(1/307)

ولما مر في القراءة في "الفصول العلمية": إنه يقع كثيراً في كلام أهل التصوف: أنه ينبغي للعبد أن يرضى بما أقامه اللَّه فيه من الأشياء، ولا يطلب الخروج من ذلك، لأن اختيار اللَّه لعبده أحسن من اختياره لنفسه، ولكن قد يلتبس الأمر على بعض المغترين من الجاهلين، فمن الظلمة الغشَمة من يحتج بإقامة اللَّه تعالى له فيما هو فيه، ومن المخلطين الذين يعملون الربا، ويأخذون المال من غير حِلِّه، ووضعه في غير حَقِّه، من يحتج بمثل ذلك، وذلك بهتان عظيم وضلال مبين، وإنما تكون إقامة اللَّه للعبد إذا كان فيما يحبه( ) من الأمور والأحوال، ويكون عاملاً بطاعة اللَّه، وطالباً وراغباً في الترقي إلى ما هو فوق حاله ومقامه، إلى آخر ما قال . ثم قال: هذا الكلام ذكره ابن عباد في أَوّل "الحِكَم"( ) والفرق أن من كان في طاعة واعتقد إقامة اللَّه له فيه، فهو كذلك، وإن كان في معصية فاعتقد ذلك، فهو الاحتجاج على اللَّه، ومثل هذا: الاعتمادُ على القضاء والقدر مع ترك العمل، ومثله التعلق بالحقيقة دون الشريعة .
وذكر رضي اللَّه عنه الأسباب فقال: إذا أراد اللَّه أمراً جعل له سبباً، لأنه سبحانه لا يكلم الناس، فيقول لهم افعلوا كذا، واتركوا كذا، ثم قرأ: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً}( ) الآية، واللَّه سبحانه هو الفاعل .
وذكر رضي اللَّه عنه رجلاً فقال: إنه فعل أموراً لم يشاورنا فيها، ولكن الفعل فعل اللَّه، فما وقع فقل: فعل اللَّه، وما لم يقع فقل: فعل فلان .
وقال رضي اللَّه عنه: ما يليق في تفسير القرآن، وشرح الأحاديث إلا الخشوع والخوف، لأنها رقائق، ولا يحسن فيها البحث ونقل الأقوال، ومسألة القدر فيها إشكال لا يزول، وهي على ثلاث درجات: مذهب القدرية وقد انقرضوا، حتى لم يبق اليوم منهم أحد، والجبرية، ومذهب أهل السنة وسط بينهما (وسقط هنا كلام) .
(1/308)

وتكلم رضي اللَّه عنه في تعاطي الأسباب، وعدم الاعتماد عليها، فقال: كل الأشياء من اللَّه، ولكن لا تَنْسُب إلى المليح إلا المليح، والشر ليس إليك، وأما قولك: كله من اللَّه وللَّه، فلا يعرفه إلا العلماء الأكابر، وإذا قال: هذا وقع لي من اللَّه، فلا شك أنه من اللَّه، ولكن بأسباب موقوفة على أسباب، فخذ الشيء من الوجه الذي أذن لك فيه، ولا تكن كالذي رأى في يد رجل شيئاً فنهبه منه وقال: هذا جاءني من اللَّه، فنهب هو منه شيئاً آخر، فقال: وهذا أيضاً جاءني من اللَّه، فإذا كان أحد معه شيء، فقال: هذا من اللَّه، فلا ينبغي لآخر ليس معه شيء، أن يقول: كيف يعطيك ولا يعطيني، فإذا أراد مثل ذلك فينبغي أن يعرف الوجه الذي حصل له هذا منه، فيعمل فيه مثل عمله ليحصل له مثل ما حصل له، وناس كثير يغلطون في الصواب، فيحتاجون إلى التعليم، ولو أراد شبام أو الشحرـ مثلاً ـ لاحتاج إلى جَمَّال( )، فينبغي أن يعرف أمور الدين بهذا الوجه . وإذا قال أعطانيه اللَّه فيحتاج إلى شاهد من الشريعة، قال اللَّه تعالى في قسم الفيء: { وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}( )،ثم قسمه تعالى بنفسه بقوله:{لِلْفُقَرَآءِ المُهَاجِرِينَ }( )، ثم قال: والدنيا كلها مفروغ منها، والناس فيها بين ناج وفائز، وهذه أمور قد فُرغ منها، ولا مدخل للعمل فيها، ولكن إذا مات الإنسان على الإسلام فلا يبالي بشيء .
وشكا إليه رضي اللَّه عنه رجل ضيق الحال، فقال: ما عاد معك اليوم إلا الرضى والتسليم، لكن بشرط موافقة الأمر، فإذا وافق الأمر الرضى بالقضاء والقدر، تَمَّ أمره . ثم أمرني بتقسيم أسوكة، فبقي يتكلم ولا عقلت منه شيئاً .
(1/309)

وذُكِر له رضي اللَّه عنه يوماً رخاء الأسعار، فقال: ضَمُّوها للناس، وباءوا بإثم احتكارها وحدهم، لأن المحتكر ملعون، يحشر مع قَتَلة النفوس، وذلك من غير اختيار منهم، ومن أبغضه اللَّه وأراد به شراً يَسّره لفعل الشر، شاء أم أبى، ومن أحبه اللَّه وأراد به خيراً يَسّره لفعل الخير، شاء أم أبى، وكل فعل يفعله الإنسان باختياره في الظاهر أو في الباطن، ففيه المدح والذم .
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً في معرض المدح، وآخرين في معرض الذم، ثم قال: الأفعال أحد يُمدح بها وأحد يذم، والأسباب من فوق .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ) محاجة موسى لآدم، وقوله: فحج موسى آدمُ، إن هذا أمر قد مضى وتاب منه آدم، وكم قد بقي يبكي ذنبه، حتى بكى عليه نحو مائتي سنة، ما إنه جلس يضحك ويحتج بالقضاء والقدر، ولو أن العمل ما هو إلا بالقضاء والقدر، لكن إلى الإنسان منه شعبة، هي محل التكليف، وبِحَسبها يثاب ويعاقب، وهي الاختيار، فما دام يميز بين الفعل والترك، ويعرف الأحسن منهما ويمكنه ذلك مع الاختيار، فلا حجة له، والحاصل: إن المدح والذم متعلقان بالاختيار، حتى إن الإنسان قد يثاب مع عدمه، فيما لو فعله معه لَذُمَّ به، كمن يسقط في بئر وهو غافل، أو فَعَل ما فيه تلفه، وأما المضطر المجبور، فلا ثواب له، ولا عقاب عليه، لعدم الاختيار .
وقال رضي اللَّه عنه: لم تظهر مجاري القضاء والقدر إلا بعد تعدي خطة الاختيار، وما يتكلمُ في القضاء والقدر وفي الرجاء مع العامة في هذا الزمان إلا الأحمقُ .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يمكن الإنسان مادام في الدنيا أن يمسك المحفر بِعُروتيه أبداً، بل إن تمكن جداً قبض بإحديهما، وإن حركه كثيراً سقط كل ما فيه أو بعضه، فينبغي أن يأخذ بها( ) بالتي هي أحسن، لئلا يرجع به خالياً.
ومر في عقيدة الرائية وقت الدرس قوله :
ولا كائن قد كان أو هو كائن سوى بمراد اللَّه من غير حاصر
(1/310)

فتكلم رضي اللَّه عنه عند ذلك في القضاء والقدر فقال( ): هذه الأشياء هي أفعال العباد، فيؤمِن بأنها من اللَّه، ولا يحتج على اللَّه بالقضاء والقدر، بل يجتهد ويحسن الأحسن حتى يُغلب، وقد عَلَّمك اللَّه القضاء والقدر، فخذ به، لأن اختيارك من فِعْل اللَّه، فماذا تحتج به، كما إذا حضر الطعام عندك وأنت جائع أو قَصَدك عدو من سبُع وغيره ومعك سلاح وأنت قادر، فتترك ذلك فلا تأكل ولا تقاتل، وتقول: إن قدر اللَّه شيئاً هو يكون، فهو قَدّر لك بأن أعطاك الاختيار وهداك، وفَصَّل لك أنواع الخير والشر، وبيّن الأحسن والأسوأ، فاجتهد أنت وتَحَرَّ ما يحسن، ولا تجلس وتعتذر، ومعك خصلتان يعتل بهما الناس وما عرفوهما، لأنهم أخذوهما بجهل، جاهل عن جاهل، ولا يعلمونهما: القضاء والقدر، والتوبة، فيحتج بالقضاء مع التقصير في حقوق اللَّه . والاحتجاجُ بهما مع المعصية معصية أكبر من تلك المعصية، وفي التوبة ربما تاب من بعض الذنوب، فَنَقضها . وما جاء في طلب الرضى بالمقدور هو يعني في أمور الدنيا من فقر أو غنى، أو ربح فيها أو خسران، أو مرض أو صحة أو موت، وأمثال ذلك، لا بأن ترضى بترك واجب أو فعل محرم، لأن اللَّه لا يرضى لعباده الكفر، وكذلك فروعه، فمن قال لك ترضى لنفسك بالمعصية، ولم يرضها لك ربك( ).وما وقع من أفعال اللَّه هو الأصلح على أي وجه كان، وفيه حِكَم لا يحيط بعلمها الخلق، لأنهم لم يحيطوا علماً بكل شيء، وإن كان يَظُن في الشيء أن الأصلح خلافه، فيقول: لأي شيء يكون الشوك، وإنما الفائدة في الثمر، وكذلك لا حاجة إلى نحو الحيات والعقارب، ففيها حكم ومنافع لا يحيط بها الوهم، أقل الحال أن لا يبطر الخلق إذا كان كل شيء على ما أرادوا.
(1/311)

أقول: رأيت في بعض القصص: أن رجلاً أنكر خلق الخنفسا وقال: لا فائدة فيها بوجه، فابتلاه اللَّه بقرحة عجز عنها الحكماء وأُيس من بُرئها، فسمع رجلاً ينادي على أدوية لأمراض ذكر منها: من به قرحة صعبة فدواها حاضر، فشكى له ما به، فقال: إئتني بخنفسا، فرضَّها وجعلها على قرحته، فبرئت بسرعة، فعجب من ذلك وتاب من اعتراضه وعلم أن للَّه حِكَماً في كل شيء .
وقال رضي اللَّه عنه( ): الإصرار على الذنوب مع رجا العفو تَمَنٍّ، والمعتل مع ذلك بالقضاء والقدر مبتدع، وهذه المسألة قديمة، حتى اعتل بها الكفار، ولكنها شاعت عند العامة، فأول ما يلام على المعصية إحتج بذلك، وجعلوه كالجبر، وليس هذا عذرٌ ما بقي الاختيار .
وذكر إقامة اللَّه للعبد فقال: من كان في طاعة واعتقد إقامة اللَّه له فيه، فهو كذلك، وإن كان في معصية واعتقد ذلك، فهو الاحتجاج على اللَّه، ومثل هذا: الاعتمادُ على القضاء والقدر مع ترك العمل، ومثله: التعلق بالحقيقة دون الشريعة .
وقال رضي اللَّه عنه يوماً في مجلس الدرس، في معنى نسألك اللطف فيما تجري به المقادير، معناه: إن المقدور لا راد له، ولكن يسئل اللطف في ذلك، كما قال أبو الحسن الشاذلي: لا نسألك دفع ما تريد، ولكن نسألك التأييد بروح منك فيما تريد، وأما نسألك الرضا بعد القضاء، فذلك عند الحاجة إلى الرضا، وأما قبله فإنه عازم عليه، وما يدريك عند حصوله، وأما برد العيش بعد الموت فذاك شيء آخر، وقبل الموت يرغبه في الدنيا، فمن سأله اللَّه كرهه اللَّه منه، كما يبغض الدنيا، ودعا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لذاك الرجل الذي يكرهه: بكثرة المال والأهل، وكذا دعا بذلك لأنس بن مالك، فما الفرق بينهما؟، إن هذا دعاءٌ مع المحبة بسؤال امرأة صالحة فصار نافعاً، وذاك بخلافه فصار ضاراً.
(1/312)

قال بعضهم: إذا أردت أن تسأل أحداً عن الدنيا، فسل عنها من هو في سكرات الموت . وأكثر الناس قلوبهم مرضى، فيشتهون ما لا يُشتهى( ).
ما قال في ذم الدنيا
وذكر رضي اللَّه عنه الدنيا فقال: إن المحب لها كلما ظفر منها بشيء غرق فيه على قدره، إن قل أو كثر، لأنها كالبحر، فأول ما يدخله تغرق فيه أقدامه، ثم إذا دخل أيضاً غرقت رُكَبُه، ثم وسطه ثم يغرق كله، وسرورها يعود على حزنها، وحزنها يعود على سرورها، فإذا سَرّته أحزنته، وإذا أحزنته سَرّته، ثم ذكر قصة المرأة التي مر بها عيسى عليه السلام مع غنمها وهي في أسوأ حالة من الجدب، وضعف الغنم، وهي فرحة، ثم مر عليها بعد مدة فوجدها في حالة حسنة من الخصب وسمن الغنم وهي محزونة، فقالت: أنا في الحالة الأولى فرحة بتوقع الأخرى، وحزنة فيها( ) لتوقع الأولى .
وقال رضي اللَّه عنه: الولاة كالحيات، العافيةُ في سكونهم، وما يجيء من تحركهم إلا الشر، والناس في هذا الزمان ما معهم من الدنيا إلا الهم والتعب، ولو أن أحداً معه شيء من الدنيا فقال لك: خذه بما معه من الهم والتعب، لأبيت منه( ) واخترت الراحة من ذلك، فقد قال عيسى عليه السلام: الدنيا قليل، وما بقي من القليل إلا القليل، قد شُرِبَ صَفوُه وبَقي كَدَره .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا أراد الإنسان من متاع الدنيا شيئاً عن حاجة إليه وضرورة، فإن اللَّه يعينه وييسره، وإن أراده بطراً من غير حاجة فليقدر .
(1/313)

وذكر رضي اللَّه عنه الزهد فقال: كل الناس راغبون، إلا إنها رغبة دون رغبة، فينبغي أن يعرف الإنسان قَدْره، ولا يدّعي ذلك، فيَلقى اللَّه مُدَّعياً، وبهذا تعرف أن الزهد عزيز، وأنت لا تُظْهِر للناس أنك زاهد، فإن كنت كذلك فلا عليك من قول الناس، وإلا صرت مدَّعياً ولقيتَ اللَّه كذلك إذا ظهر لك الحال في الآخرة، وفي الدنيا ما أنت سالم بما أنت عليه، وقد رأينا أناساً يدّعون الزهد، وهم بَعْدُ لم يصلحوا لطلب الدنيا لجهلهم وقِلّة ورعهم، فكيف بالزهد، فيسمعون مثل هذه الأشياء في الكتب فيَدَّعونها .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل: ما ترى لو وَقَعْتَ على كنز، أو على مال، ماذا كنت تصنع، وانظر أن للنفس حالة قبل وجود الشيء، وحالة عند وجوده، وحالة بعد وجوده، وإذا حصلت أمور الدنيا فاسأل من اللَّه السلامة فيها، وقبل حصولها اسأل اللَّه السلامة منها، فإنما هي فتنة..
وقال رضي اللَّه عنه: لا تفعل شيئاً من أمور الدنيا إلا مع الحاجة الظاهرة إليه، فإن الاستكثار من أمور الدنيا، ما هو شيء أصلاً، فلا تجعل لنفسك منها شيئاً، ولا تقل ربما تدعو إليه حاجة، فحاجة الآخرة والدين أهم إليك من هذا، غير إنا ما نحب أن نكثر على الناس فيما هم فيه( )، وكلما قدر الإنسان يضيِّق على نفسه في هذا الزمان، لوجه اللَّه لا لشيء آخر، فإن ما عند اللَّه خير وأبقى، قال: وهذا عزيز ونادر جداً، ومعناه: طمأنينة تحصل في قلبه لا يضطرب، ولو ما عنده شيء، ورزقه في خزائن اللَّه، لكن أين من يطمئن بذلك قلبه .
(1/314)

وقال رضي اللَّه عنه: ما كان من أمور الدنيا لا تتعلق به، واتركه لغيرك، من خادم ونحوه، واشتغل أنت بأمور الدين والأمور الإلهية، وأمور السماء ملكوتية، وإن كان فيها مُلك، لأنها من قول كن، وإن كان فيها مثل أنهار وغيرها، من أمور المُلك، وأما هذه الأرض العليا فهي مُلك، وما فيها كله ملك من الحرث وغيره، وفيها الاحتياج إلى كثرة الأكل والمعاش، وما أسفل منها لا يحتاجون إلا إلى قليل كالجن .
وقال رضي اللَّه عنه لبعض الناس يسليه عن شيء ذهب عليه من المال: الدنيا كلها ما تسوى شيئاً، وإنما فيها صيانة المؤمن وسِتْره واستغناؤه عن الناس، ويعمل منها صالحاً إن وفّقه اللَّه، وإلا فما هي شيء أصلاً .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الدنيا المحبين لها إن كان جعل اللَّه في قلوبهم شيئاً من الزهد تَخُفُّ( ) بسببه في قلوبهم استقاموا على الأحسن، وإن حصل لهم غرضهم وهواهم تعبوا في أنفسهم، وأتعبوا غيرهم، إلا إن كان حصل لهم مانع، والأموال الحرام ما تروح إلا في الحرام، ومرة قال: المال الحرام يرجع من حيث أتى، كالحية التي دخلت جحراً ليس له إلا ثقب واحد، ولم تدخله إلا تلك المرة .
ومرة قال: إذا أردت أن تعرف مالاً هل هو حرام أو حلال، فانظر فيماذا يصرف في حلال أم حرام، فإن المال الحرام يأبى أن يصرف إلا فيما هو أصله، وشبّه رضي اللَّه عنه أموال أهل الزمان بالنار، لكونهم في غير الطريق يسهل عليهم إخراجه، وفي الطريق يعسر عليهم ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه في قولهم: يبنون ما لا يسكنون، أي إذا أردت أن تسلم من آفات الدنيا، فلا تبن قبل أن تدعوك الحاجة إلى البناء، من ضيق منزل، وكذلك في أمر المعيشة، لا تقدر الحاجة إليها قبل وقوعها، لئلا تكون من الذين يخبأون ما لا يأكلون .
(1/315)

وقال رضي اللَّه عنه: الدنيا كالبقرة الصعبة، إن أمسكها الإنسان برأسها كسعته( ) برأسها، وأن أمسكها بذيلها رمحته، فلا أجدر بالعاقل من تركها.
وقال رضي اللَّه عنه: من طلب الدنيا للدنيا لا وزن له ولا ينتفع بها، ولا يحصل له بها الستر، ولو حصل له منها ما عسى أن يحصل فهو مذموم الحال، ومن طلب الدنيا للدين، ولو سأل على الأبواب لم يضره ذلك، بل يعظمه اللَّه وملائكته .
وقال رضي اللَّه عنه: من استوى عنده هاك وهات، فهو من الزاهدين، فقيل: هذه رتبة شديدة، فقال: ورتبة أخرى أعلا من هذه وأشد منها، وهي أمثل( ): أن يكون هات أحب إليه من هاك( )، وهي أشد، ثم ضحك وقام ضاحكاً ليدخل المصلى للصلاة، وكان كلامه ذلك عند جلوسه في الضيقة .
وقال رضي اللَّه عنه: الصديق إذا قضى لك حاجة بعد السؤال، فلا خطر لقضائها، وإنما المليح أن يقضيها إذا علم احتياجك، وأما إذا سألته إياها فلم يقضها، فلا تعده حتى من المعارف( ).
(1/316)

وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً يعسر عليهم قضاء الحاجة، فقال: فلان له أكثر من عشرين سنة، ما استقضينا منه حاجة، ولو بالثمن حاضراً، لأنا لا نصحب اللئام، ولا نداخلهم، ولا نستقضي منهم حاجة، فإن طلبوها منا قضيناها لهم، وكان واحد عندنا له شيء قليل من الدراهم، وطلبنا منه حاجة بقيمة مثلها، فقال: تلك ما فيها خوض( )، ولم يقضها( )، فأرسلنا له دراهمه، ولم نقبلها لأن ذكره لها لا معنى له، ولو اعتذر بأن ما معه شيء في الساعة كان أحسن، قال: وآخر طَلَبْنا منه كذلك، وقلنا له: نرهنك شيئاً في مقابلته، فقال: ماذا؟، قيل: كذا، قال ما أريد إلا كذا، فتركناه، وأمثال هؤلاء أحسبتم إن اللَّه سلط عليهم الدولة سُدَى، ما سلط عليهم إلا بسوء أعمالهم، كما قال السيد أحمد( ): الدولة ما هم الظَلَمة، ما الظلَمة إلا أهل البلاد، والحاصل: إن اللئيم ما هو ممن يُعَرَّج عليه في شيء، فلا تستقض منه، فإن استقضى منك فاقض له .
وقال رضي اللَّه عنه: الدنيا لا تخلو أن تكون سجناً للمؤمن من كل الوجوه أو بعضها، ولو لم يكن إلا أن الروح فيها مسجون في الجسم .
وقال رضي اللَّه عنه: علامة الزاهد في الدنيا إنه إذا دخل عليه منها فوق حاجته، يستوحش منه، فيرد الباقي أو يخرجه في الحال بلا مهلة، وهذا أقل الزهد، وعلامة الراغب فيها، أن يستأنس بما يحصل له منها، ومن عرف الدنيا زَهد فيها، ولو كان لم يؤمن بيوم الحساب .
وذكر رضي اللَّه عنه جماعة من السادة معهم شيء من الدنيا، فذم دنياهم وضعف أمرها، وقال: من رأيته من السادة معهم دنيا تحسب أن معهم شيئاً منها، وما معهم منها شيء، لأنه قاعدة: من دخل في أمور الدنيا وليس آباؤه وأجداده من أهلها، فلا يحسنها ولا يعرف مواقعها وتدبيرَها، كالشجاع الذي أهله ليسوا شجعاناً، فإنه لا يحسن أمور الحرب وتدبيرَه، وكذلك في كل شيء، كما قيل في المثل: ولد الصانع خير من متعلم سنة.
(1/317)

وقال رضي اللَّه عنه: من أراد أن يسلم من الدنيا، فلا يمدّن عينيه ؛ فإن مَدّهما راح دينه، أما سمعت قوله تعالى :{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ }( ) الخ، والدنيا ما تسوى الاستغراق بها.
وقال رضي اللَّه عنه: إن خير الدنيا مبشر بشرها، وشرها مبشر بخيرها، كما في قصة الراعية التي مَرَّ عليها عيسى عليه السلام .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل: فلان رِزْقه متيسر، وهو يسمع، ثم أقبل عليه بالخطاب، وقال له: وكان أهلك فيهم كرم، فهل فيك كرم مثلهم، فقال: نعم، إلا ما تأتت الأمور، فقال له سيدنا: الأول فالأول، فالأول إطعام الطعام، ثم القهوة ثم الماء، والدنيا من وقت آدم إلى هلم جراً ما تسوى عند اللَّه جناح بعوضة، وما فيها إلا الإيمان والنية الصالحة، والعمل الصالح، وكان أهل ذاك الزمان، إذا قيل لأحدهم: هاك، قال: أنت أحق به، لزهادتهم وقناعتهم، وكانت أمور الدنيا لا تضيق بهم، واليوم إلا يتناهبون، ما تحسبهم إلا أعداء، وإيش يُسكِّن قلوبهم الملآنة حرصاً، لأن الحرص إلا نار .
وقال رضي اللَّه عنه: من تعلق قلبه بحب الدنيا وإعراضه عن الآخرة، يكون ذلك من أحد سببين، إما غفلة مع كونه موحداً، وإما شك في اليوم الآخر والعياذ باللَّه من ذلك، ويُعرف ذلك منه عند الموت، فمن كان إذ ذاك خائفاً من أمور الآخرة فذلك من الغفلة، وهو مؤمن، وإن كان بقي خائفاً على أهله وعياله ماذا يكون حالهم بعده، فهو شاك .
وقال رضي اللَّه عنه: أمور الدنيا لها ثلاث حالات: إقبال وإدبار واستواء، وهو أحسنها وأقلها، كاستواء الشمس، واستواء القمر، وأما أمور الآخرة إذا تمت فأطولها مدةً حالةُ التمام في الخير والشر .
وقال رضي اللَّه عنه: الدنيا ما فيها فراغ، إنما فيها التفرغ، فإنك إن لم تكن مشغولاً بظاهرك، فأنت مشغول بباطنك، فإذا حصل الحزم فما عاد شيء وقت .
(1/318)

وقال رضي اللَّه عنه: لا تخص الدعاء بأمور الدنيا فقط إذا دعوت، ولكن إذا سألت اللَّه شيئاً من أمور الدنيا، فاسأله قبله شيئاً من أمور الآخرة، فإنه سبحانه أكرم من أن يعطي بعضاً، ويترك البعض، بل يعطي ذلك جميعاً .
وقال رضي اللَّه عنه: زهد الرجل وخروج الدنيا من قلبه أدل دليل على ولاية اللَّه له، وأنه من أولياء اللَّه .
وقال رضي اللَّه عنه: خذ من الدنيا ولا تتركها تأخذ منك، وإن كان ولا بد فخذ منها وتأخذ منك، والحذر الحذر أن تأخذ منك، ولا تأخذ منها.
أقول: والذي ظهر لي أن معنى الأخذ منها كما جاء في الحديث: (( خذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك ))، الخ، وأخذُها منه تَرْكُه ذلك واللَّه أعلم .
وقال رضي اللَّه عنه: اتباع أمور الدنيا هي قولك: باافعل كذا، وافعل كذا، فهذه هي الشُّعب شُعَب الدنيا، التي من تَتَبعها لا يبالي اللَّه به في أي واد من أودية جهنم أهلكه، ولكن إنما هي أقوال تَتْبع أوهاماً، وتَتْبعها الأعمال، وأهل الزمان يريدون صبراً.
وقال رضي اللَّه عنه: الدنيا للدين مثل الغشاوة للمصحف، وما زاد على ذلك فهو مضر، فقد قال بعضهم: الدين مثل العمامة، أي يُرفع كما ترفع العمامة فوق الرأس، والدنيا مثل النعل، أي توضع، واليوم انعكس الأمر، أي وُضِع ما من شأنه أن يُرفع، وُرِفع ما من شأنه أن يوضع .
وقال رضي اللَّه عنه: اسأل ربك العافية، والرضى بالدون من أمر الدنيا، وانظر مَنْ هو فوقك، وفَضُل عليك فيها، هل هو يجمع ذلك لينفقه في سبيل اللَّه أم لا، ولا شك أنك لست بفاعل خيراً منه .
وقال رضي اللَّه عنه: من تأمل أحوال الأنبياء ومن تبعهم من العلماء والصالحين في الدنيا، عرف أنه لم يسترح فيها ويطمئن بها إلا أحمق جاهل .
(1/319)

وقال رضي اللَّه عنه: الهَمُّ الذي ليس لأجل أمور الدين، ما فيه فضل، وهو ضِيقُ الصدر، والآخر يسمى الحُزْن، والدنيا بجملتها ما تسوى اشتغال القلب بالهَمِّ لأجلها، بل هي أحقر وأقل من ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: ما طالبنا أهلَ الزمان بالزهد، فأين الزهد اليوم، وإنما طلبنا منهم التوسط، فيأخذون أمورَ الدين بأيمانهم وأمورَ الدنيا بشمائلهم، وكل الناس في هذا سواء، إلا بين آخذ بيده، وآخذ بيديه، ولو أردنا الزهد التام، لَكُنَّا رحنا إلى جبل لبنان( ).
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يباسطه: هل عندك الآن واحدة من كافات الشتاء( )، فإذا كان عندك ثنتان أو ثلاث ففيه كفاية، لأن الدنيا كلما علت منها كِفَّة، تَوَطَّت كفة، فإن ارتفعت كلها انحطت كلها .
وذكر رضي اللَّه عنه أحوال الدنيا، وأناساً مضوا، فقال: إنها راحت بالناس، أحد يروح، وأحد يجيء، وعلى هذا السبيل، وإنما الشرف: الطاعة وفعل الخير .
وقال رضي اللَّه عنه: لا نسلِّم لأناس يدّعون أنهم متورعون في أمور ينكرون على من يتعاطاها تنطّعاً حتى يكون كذلك في جميع الأشياء، وإما إنه يكدّ نفسه في درهم، ويأكل رأس الفيل، ثم هو ينكر أشياء درج عليها من هو خير منه .
وذكر رضي اللَّه عنه التفضيل بين الفقر والغنى، فقال: دع التفضيل حتى ترى فقيراً و غنياً متدينين متمسكين، حتى ترى أحوالهما، فتفضّل أحدهما على الآخر، وأما أهل الزمان فما فيهم حجّة، ولا بهم حجّة، فدعهم حتى يجيئك من تحتج به، فأول ما تحتج على أهل الزمان بالزكاة، ويكفي في هذا( ) شأن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه وأن الغالب من أولياء اللَّه كانوا متجردين عن الدنيا، ومن كان في يده شيء منها، إنما يمسكه لينفقه، ولا يبالي كيف كان، وأما هؤلاء الذين أحدهم يبيع ويشتري، ويقامر ويخون، وأوقات لا يصلي، ولا يبالي بالدين، فما هؤلاء، فلا يُفاضَل بينهم، ويُتركون فيما بينهم وبين اللَّه .
(1/320)

وقال رضي اللَّه عنه: الدنيا مثل البحر، وإذا رأيت الإنسان كلما له يتوسط البحر، خَف عليه، وإذا رأيته كلما له يتقرب إلى الساحل، فارْجُ له الخير، وقد ضرب اللَّه لها الأمثال، وشبّهها { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}( ) وغير ذلك، وقد كان الأكابر من السلف قُرْب مماتهم يتجردون عنها بالكلية، وكان الشيخ عبداللَّه العيدروس رضي اللَّه عنه في آخر عمره، كلما رأى عنده مما فيه زينة الدنيا، يغيّره، حتى مسامير الباب.
انظر ما قال في الرياء
وجرى ذكر الرياء في المجلس يوماً، فقال رضي اللَّه عنه لي: إن الإخلاص عَسِرٌ، تراك تعتقد في نفسك بينك وبين اللَّه أنك على حالة مذمومة، ثم لو قال لك أحد: يا كذا، على الذي تعتقده في نفسك، غضبتَ، قلتُ: لقد تعجبتُ من ذلك، فقال: هذا غضب الطبع، وقليل من يخرج منه، فقد غضب النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ولكنك ارم أنت بنفسك في الأرض( )، فإن كنت على حالة مرضية عند اللَّه، فيزيدك بذلك رفعة، وإن كنت على خلاف ذلك، فما تسوى الكلام .
وقال رضي اللَّه عنه في معنى قول الفضيل رحمه اللَّه: ( ترك العمل لأجل الناس رياء): أي إن الشيطان مراده منك بطلان العمل بالرياء أو العُجُب، أو غير ذلك، حتى لا يحصل لك منه نفع، فإذا تركته بالكلية فذاك مراده منك .
(1/321)

وقال رضي اللَّه عنه: كل فعل قَصَد به فاعله الناموسَ( )، لا يقبله اللَّه، ولا ينتفع به صاحبه في الآخرة أصلاً، كالذي يفعل بصدقته رياء، إلا أن يكون قد وافقت صدقته مثلاً يتيماً محتاجاً ومضطراً، فيحصل له ثواب من وجه آخر، كأن دعا له بسببه، أو بنى نحو سقاية يرائي بذلك، فشرب منها رجل فقال: اللَّهم اغفر لمن بناها، ففي مثل هذا لا مانع منه، وذلك من المروءة إذا تَكَرّم وأعطى أحداً فذاك شأن العقلاء، وذلك في المباح، بأن لم يقصد به التقرب، ولا الرياء والمفاخرة، وقد حكم سيدنا علي بالنهي عن أكل طعام المتفاخرَين اللذَين كل واحد منهما شيخ جماعة، فذبح أحدهما كذا وكذا من الجُزُر، ففعل الآخر أكثر، وتكرر منهما ذلك مراراً، فلما علم بذلك أمر بإلقائه على المزبلة، وذلك كمن يوصي أن يُفعل له خَتْم، ويُجعل على قبره ختمة، ويجتمع الناس عند ختمه وضيافته، ونحو ذلك الذي يقصد به الناموس، وقد انقلبت أمور التربة عندنا في هذا الوقت، كلها لأجل الناموس .
وقال رضي اللَّه عنه: الرياء منه حثيث، ومنه دقيق، وتكتبه الملائكة باختلاف أنواعه، إلا إن منه ما لا تطلع عليه الملائكة، كالدقيق منه، لكنها تعرفه بالقرائن، فتكتبه بقرائنه .
وقال رضي اللَّه عنه: من عمل شيئاً من الطاعات وظن أنه مخلص في ذلك، فليجرب نفسه، فإن عرض له ما منعه عن ذلك، وتأسف على عدم فعله، فهو مخلص، وإلا فلا، وإن اهتم بفعل طاعة، وادعى الإخلاص فيها فليطرح جميع أغراضه، فإن بقي على همته فهو مخلص، وإلا فلا .
وذكر رضي اللَّه عنه الرياء فقال: العاقل إذا سمع أحوال الرياء، لا يتهم إلا نفسه، ولا يتهم غيره، وأما أهل هذا الزمان زمان البركة، إذا سمع ذلك أحدهم، وعلم أنه فيه قال: وَرَىْ فلان، ولو أحد أعطاه شيئاً ما ذكر فلان .
(1/322)

وقال له رضي اللَّه عنه رجل: إني أريد الحج، ولكن ما خَلُصت لي النية، لمجرد قصد الحج، فإن نفسي تمنيني أن آخذ حجة، فقال له: إذا أردت أن تعرف النية الدينية، فَنَصِّل كل ما حواليها من النيات الأخرى، فتعرفها حينئذٍ، وأين النية الخالصة، ولكن حَيَّا اللَّه الإنصاف، بأن يَتّهم نفسه في صدق النية، فإن لم تكن إبل فمعز، وإن لم يكن وابل فَطَل، ولكن ينبغي للإنسان أن يحمد اللَّه حيث لم يجعله ينوي نية سيئة، ولم يَهِم بقطع طريق أو مراياه للناس .
وقال رضي اللَّه عنه: المسافر معان، سواء كان سفره في بر أو بحر، إلا إن عليه أن يحرر النية، لئلا يضيْعَ سعيُه، فإن المسافر سفراً مباحاً، سعيه ضائع، وكذا المسافر لزيارة أو حج، إذا لم يصحح النية سعيه ضائع، إذ معلوم أن من حَجّ أو جاهد مرائياً أن سعيه ضائع، والرياء هو الفعل بالقصد، لا الخواطر التي تخطر من غير اختيار، فإن قلوب الضعفاء تكثر فيها الخواطر من هذا الجنس، حتى يتخلى القلب من الخلق، وقليل خطورها في قلوب المتقين، فإذا خطر فيها خاطر نادراً، بادر( ) إلى الرجوع، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ }( )، وذلك حين يتخلى القلب وينخلع من كل ما سوى اللَّه تعالى، وذلك هو الكبريت الأحمر، الذي يعز وجوده ويُتحدث به ولا يوجد .
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً المباهاة، فقال: إن أناساً صحبوا أحداً من الصالحين، فتباهوا بصحبتهم، فأذهب اللَّه عنهم بركتهم، لأن المباهاة بأمور الدنيا تُذهب البركة، كيف المباهاة بأمور الدين، والناس اليوم نزلوا .
(1/323)

وقال رضي اللَّه عنه في قول الإمام جعفر الصادق: ( ومن خان اللَّه في الستر، هتك ستره في العلانية ) أي إذا كان يُحَسِّن الصلاة في الملا مع الناس أكثر منه خالياً ويرائي، ويُرى في الملا خاشعاً خاضعاً، وليس كذلك في الخلوة، فهذا هو الخائن في الستر الذي يهتك ستره، ويقرَّب في الآخرة من الجنة، حتى يرى حورها وقصورها، ثم يُصْرف عنها، فيقول: يارب لم أريتنيها؟، فيقال له: هذا أردتُ بك لأنك راقبتَ عبادي ولم تراقبني، وتلك الأمور ينبغي أن يراقبها الإنسان من نفسه في الخلا والملا، فإذا رآها وارتقب حاله فيهما فليتكلف تركها ويكرهها، وأما من كان على حالة فيهما، ولكن قد تَعْرض له عند الناس خواطر رياء وحياء، وهو يكرهها ولا يعمل بمقتضاها، فليس كذلك، ويعرف من نفسه، ولا ينتظر من يعرِّفه، لأن الناس مأمورون بالسِّتر والكف عن التطلع إلى عورات الناس وإفشائها، فليراقِب هو ربه، ويراعي قلبه، أو كما قال بمعناه .
وذكر رضي اللَّه عنه أناساً يَتَلبّسون بصلاة غير جائزة فقال: إنما فعلهم هذا معصية، لأن من تَلَبّس بطاعة باطلة، فهو عاص، ولكن ماذا نقول في هذا الزمان، ومن استحسن الباطل ما عاد معك له إلا السيف، إن كان معك سيف فاقهرهم على الحق . ومرة ذكر مثل هذا الكلام، وذكر له مثلاً، فقال: ومن عشق علته فليس له طبيب .
وقال رضي اللَّه عنه: الكتمان في هذا الزمان، أحسن من الإعلان، إلا لأحد أمرين: إما لضيق في صدره، أو لحاجة له في إظهاره، لأن الزمان إنما هو شوك بلا ثمر، ولم تزل الأمور تَتَناقص إلى قيام الساعة، وقد يضيق صدر الإنسان، حتى من أمر أو أمرين، ومن كتم أمره أو غفل عن أمر، حتى لم يعرفه ولم يطلع عليه، ولا هو سلطان يلزمه أن يتطلع على الأمور، فذلك خير له، وقد سلم من الإثم والشاغل .
(1/324)

وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي للإنسان أن يفتش عن نفسه، ولا ينخدع بغرورها، فكم ممن يبرئ نفسه من شيء، وهو ملابس له .
انظر ما قال في سبب نزول المحن
وقيل له رضي اللَّه عنه: إن الجراد أصاب حرث بعض البلدان، فقال نفع اللَّه به: قد أمرناهم يدعون بقلوبهم وألسنتهم متضرعين إليه بالدعاء كذلك، لأن الإنسان ما له إلا ربه، وما له من غيره من غياث: {إِنَّ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوه }( ) الآية، وإن اللَّه وَجَّه إليهم مصائب وأَمَرَهم بأشياء من الخيرات، إن فعلوها صرف عنهم تلك المصائب، وسَلّط عليهم موانع تمنعهم من الخير، سَلّط عليهم شياطين وأهواءهم ونفوسهم، فإن جاهدوها، وفعلوا ما أُمِروا به، فواسَوْا محتاجاً، وأقرضوا مستقرضاً، وأطعموا جائعاً، وكَسَوا عرياناً، ونحو ذلك، صَرَفَ عنهم ما حل بهم، وإن لم يفعلوا ضاعَفَها، فإن فعلوا زالت عنهم، وهكذا ينبغي أن يفعلوا كلما عادت تلك إليهم عادوا إلى الخير، ليزول عنهم أو كما قال .
انظر ما قال من الإشارة إلى سيل نجم الحوت قبيل مجيئه
وما قاله عنه بعد مجيئه رضي الله عنه
وقال رضي اللَّه عنه: للأسماء الإلهية سَرَيان في المخلوقات، ما( ) غير ما يدري الخلق بذلك، أسماء الرحمة في أهل الرحمة، وأسماء العذاب في أهل العذاب .
(1/325)

ثم قال نفع اللَّه به: رحمة اللَّه في عذابه، وعَذَابُه في رحمته، وقد يكون الشيء مما يُرسله اللَّه على بعض عباده، يكون مَظْهره العذاب، وباطنه الرحمة، فهو في الظاهر عذاب، وفي الباطن رحمة، فظاهره العذاب وباطنه الرحمة، ويكون رحمة وتخفيفاً في حق أقوام، وعذاباً في حق آخرين، وهو شيء واحد، كما جاء في الخبر ما معناه: (( إذا أرسل اللَّه على قوم عذاباً فهو تعذيبٌ للمعتدين، وثواب للمحسنين )) . وفي قصة الذين يخسف بهم، وفيهم أهلهم وأسواقهم، فيبعثون على نياتهم، ثم ذكر: إن خمساً من الأمم الذين أهلكهم اللَّه بالعذاب، وقد ذكر الجميع في هذه الآية: { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ }( ) الآية .
أقول: قوله نفع اللَّه به: للأسماء الإلهية سريان الخ، فيه إشارة لمن يفهم الإشارة، لما يقع في الكون من المظاهر الإلهية، وقد وقع بعد هذا الكلام، بنحو أربعة أشهر إلا ثلاثة أيام، وذلك في آخر رمضان من سنة 1124 السيل الهائل العظيم، سيل الحوت الذي أخذ جملةً من النخيل، فكلامه مقدِّمَة له وإشارة إليه، كشفاً منه رضي اللَّه عنه.
وقال رضي اللَّه عنه: أهل البيت ودائع نبوية، فينبغي لكل إنسان أن يستوصي بتلك الودائع النبوية، وهم وإن كثروا لا يبلغون عشر معشار الخلق، وأهل بلدتنا في بواطنهم تعظيم السادة، ومن طبعهم ذلك، ولكن هنا أناس، ذكرهم من أصحاب الدولة، لا يرون احترامَهم وتعظيمَهم، فإذا أخذوا على هذا مدة، فما يدرون إلا وقد جاءهم مثل هذا السيل العظيم، وَنَبَرَهُمْ ولكن لا يعتبرون .
وسلّى رضي اللَّه عنه رجلاً في مال كثير أخذه عليه هذا السيل، فقال نفع اللَّه به: إن الدنيا ما نقص منها زادَ في الآخرة، وما الدنيا إلا ذاهبة بكل حال .
(1/326)

وذكره يوماً ــ أعني هذا السيل ــ فقال نفع اللَّه به: إذا فعلوا هم ما يَبغون( )، فعل اللَّه بهم سبحانه ما يبغي( )، لأنهم ما اتقوا اللَّه في حقّه، فما أبقى فيهم، وأقوى رابطة لهم باللَّه الصلاة وقراءة القرآن، فانظر ماذا يفعلون فيهما، يتَعْتعون في القراءة، ويقرأ الرجل المقرأ في نَفَس واحد، ولا معهم توحيد [ أي كامل ] .
وقال رضي اللَّه عنه: إنهم غيروا فَغَيَّر اللَّه عليهم، جَارَ الدولةُ في الخُبَر( )، فأخذ النخلة بأصلها، ومثالهم في ظلمهم للناس وانتقام اللَّه منهم، مَثَل من يقول لرجل: اترك فلاناً يضربك أو يقتلك، فإن فلاناً يضربه أو يقتله( )، فإن الغِيَر وأعمال السوء نار، فنارُكَ منك، وسمعنا فيما سمعنا: إن منازل النار مكتوب عليها أسماء أهلها، يدخلونها بأعمالهم، وإنما يدخلون الجنة برحمة اللَّه .
وقال رضي اللَّه عنه: وما كلٌّ يسقط، ولا كلٌّ يسير، ولا كلُّ أحد يَصِل، وكلُّ الناس يسيرون، إلا منهم سائر إلى الجنة، ومنهم سائر إلى النار، حتى إنه ما يموت أحدهم إلا وهو على باب النار .
(1/327)

وذكر رضي اللَّه عنه قوماً في معرض المدح، وآخرين في معرض الذم، فقال: الناس في الفعل، منهم الممدوح ومنهم المذموم، والأمر من فوق( )، ولعل في الناس من له عمل مثل عمل قوم نوح، حتى جُوزوا بمثل جزائهم( )، وكان من عملهم الاستكبار وقلة الحياء، والإصرار على المعصية إذا نُهوا عنها، قال اللَّه تعالى: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}( ) الخ . وقال تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا}( )، إلى آخر ما حكى اللَّه عنهم، فكذلك في الناس الآن من يصر على المعصية، فإذا نُهيَ عنها قال مَرْحباً بلسانه، وأصر بعزمه، واستكبر ولا يستحي من اللَّه، فجوزوا بهذا السيل( )، كما جوزوا أولئك بالطوفان، فقد قال فلان من السادة: إن هذا السيل من بقية طوفان نوح، والجزاء من جنس العمل، قال اللَّه تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } الخ .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يسليه: عسى أن يقع الأجر والعوض إن شاء اللَّه، والأجر، أو قال العوض واقع لا محالة، لأن اللَّه سبحانه ما يأخذ شيئاً إلا أعطى خيراً منه .
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً على أهل النخيل الذاهبة( )، فقال نفع اللَّه به: الرجل عنده أربعمائة نخلة، يأخذ ثمرها ولا يتصدق منها حتى بمائة سعفة، ولا يعمل خيراً قط، ثم إنهم يتأسفون( ) على أنهم لم يبيعوا ويتخلصوا منها بأي وجه، وهذا من قلة الخيرية، ولو لهم نية في الخير لتأسفوا على أنهم لم يكونوا فعلوا منها خيراً، فإذا لم يكن شيء من الدين فأين العقل والمروءة .
(1/328)

وقال له رضي اللَّه عنه رجل: إن هذا السيل أذلَّهم، فقال: إن الإنسان قده ذليل بالنسبة إلى ربه، وإنما أظهر ذله، والإنسان إذا وقع في شدة أو حصل له مرض، أو شيء من الأمور، يستبين ضعفه وذله، وإلا فهو ضعيف ذليل من أصله، فقد قال سيدنا علي: الإنسان ضعيف، تقتله شرقة، وتؤذيه بقة، وتنتنه عرقة، وقال بعضهم: الإنسان أنف في السماء، واسْتٌ في الماء.
وقال رضي اللَّه عنه: إن هذا السيل أشغلهم عن الغِيبة، حتى لم يتفرغوا لها، وبقوا مشغولين به عنها، والرب يغضب ويرحم، والرحمة تحيط بالغضب، وإذا غضب ورضي لا يعود إلى الغضب سريعاً .
وقال رضي اللَّه عنه: هذا( ) غضب نزل، وماعاد معهم فيما مضى إلا الإستغفار، ولكنهم يراقبون اللَّه فيما بقي، ويخشونه ويتقونه، ويؤدون حقوقه، وأفعال القوي( ) قوية، لا تثبت لها أفعال الضعيف( )، لأن فعل الضعيف ضعيف، وحق هؤلاء أن لا يتعرضوا لسخطه إلا بقدر ما يطيقون، ولا معهم استعداد، ومن يؤمن بالآخرة، أيصلي صلاة غير معتبرة؟، أو يزكي زكاة غير معتبرة؟، ولا يستحيون من اللَّه ومن ملائكتهم الذين يكتبون كلامهم وكثرة هذيانهم، وإذا أردت تعرف هل في الإنسان خير أم لا، فانظر إن كان يضحك حال جلوسه في المسجد وتلاوته القرآن، فاعرف أن ما فيه خير، وإذا لم يكن فيه حينئذ خير، فمتى يكون ذا خير، ولا يكون جلوسه في المسجد معشار أوقاته، فلا يجعلها أيضاً كلها للَّه، ومع هذا تجري عليهم مذاكرات فلا يعتبرون، والظاهر أن صحائف الشر لا ترفع إلى اللَّه، بل ترد من السماء الدنيا، وإنما تصعد الملائكة بصحائف طاهرة فيها الخير، فترد أو تقبل عند ذلك .
(1/329)

وقل ما ذكر رضي اللَّه عنه هذا السيل العظيم، إلا تكلم في مانعي الزكاة وذمَّهم، فمما قال فيهم بعد أن قيل له: إن الحطب قد كثر للمساجد، وانتفعوا به لحرارة الماء لها، فقال نفع اللَّه به: إن الحطب لا يعيض في النخل، لكن حيث استحقوا ذلك بتركهم الزكاة، يضم الإنسان كذا وكذا من التمر، ولم يُر أنه أعطى فقيراً واحداً، أما سمعوا قصة أهل الجنة( ) فيعتبروا بهم، ولا نفع فيهم الوعظ في الخطب على المنابر والتذكير، ولو جاءهم من يطلبها( ) إلى دورهم ما أعطوه شيئاً، فأعطاهم سَحقة ولا يمهلهم( ) حتى ساعة زمانية، فليأخذوا من تركهم الزكاة: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُم وَلَكِنْ كَاُنوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون }( )، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم }( )، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَالِمِين }( )، ولم يجعل أحد منهم للَّه حِمل حطب في مسجد، ولكنه إذا دخل الجابية، تحسبه كذا ( ونسيت ما قال ) ومن تأمل صنيعه في النخل، علم أنه ما جاء إلا بقصدها، وهذا نتيجة قطع الحطب والتخبير( ) وترك الزكاة، وقد نهيناهم عن هذه الأشياء فحصل لهم كما حصل لأصحاب الجنة من ثقيف حيث حكى اللَّه عنهم: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ }( ) إلى آخرها، وما قصه اللَّه في القرآن إنما يراد به الاعتبار، لا الحكاية والأسمار، وما يأخذ اللَّه سبحانه إلا بوجه، يقنمون( ) الثمرة، وهو( ) ينظر فلا يعطى.
وقال رضي اللَّه عنه: إن هذا السيل عقوبة جاءت على غفلة، وعسى أن تكون مصحوبة باللطف، وما ظننت أن هذه الهملة( ) يكون منها مثل هذا السيل المهول، ولم نسمع بمثله، ولم يحصل في الإكليل الأول ولا الثاني ما حصل مثل هذا، وبين كل سيل من هذه السيول المدة المتقاربة نحو 74 أو 75 أو قريبا من ذلك .
(1/330)

أقول: وقل ما جلس رضي اللَّه عنه مجلساً إلا وذكر هذا السيل، ولهذا طال كلامه فيه، وكثر ما ذكرناه عنه مما يتعلق به، وذلك فيما قارب قرب وقته، ولما بَعُدَ قَلَّ ما يذكره.
وكنت يوم الاثنين في 24 شهر رمضان، قبل مجيء هذا السيل بيومين، جالساً في حلقة مع جماعة سيدنا نقرأ القرآن بحضرته بعد صلاة الصبح، كما هو مرتب ذلك في هذا الوقت، في العشر الأواخر من رمضان، فبعد ما قرأت المقرأ وأنا مستند قاعد مستقبل القبلة، وسيدنا جالس في المحراب، إذ أخذني النوم قليلاً، فرأيت قبة فيها قبر، ولها باب واحد، وفي القبة ثقبان، قبلي وشرقي، وكأنَّ عتم ماء يجري إلى القبلي، فيدخل منه الماء إلى القبة ويجري فوق القبر ويسفح منه إلى الثقب الشرقي، ثم يخرج منه يجري في العتم إلى نخيل كثيرة وبساتين يسقيها، وكأن ذلك القبر قبر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وكأني أقول في نفسي: يا سبحان اللَّه هذه البقعة، أعني البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة، أفضل من العرش والكرسي وما دونهما، وهذا الماء متروك هكذا يجري عليها، وفي خاطري أن ذلك الموضع الروضة الشريفة، وكأني أتمثل بهذين البيتين، من قصيدة البكري :
لما حَوَتْ والفلكُ الأكبر ... قد حَسَدَتْها سدرةُ المنتهى
كانت قناديلَ بها تزهر ... ودت نجوم الأفق لو أنها
وبقيت في رؤياي هذه إلى أن وصلني المقرأ، فحركني الذي أقرأ بعده، فحكيت لسيدنا عندما قام من مجلسه ذلك، فقال رضي اللَّه عنه: هذا أمر بايقع لا يتحمله إلا هو صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فلما وقع السيل ثالث يوم من الرؤيا، قال نفع اللَّه به: إنه كان يريد أن ينزل ما هو أعظم من ذلك، لكنه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم تحمل منه ما لا يتحمله غيره .
وقال رضي اللَّه عنه: إن سيلاً سابقاً كان يسمى قاحش، وهذا نابر، والنبر أشد من القحش، لأنه ينبر الأرض فيخرج منها النخل، وذاك يقحش ما عليها، وهذا السيل نابر واللَّه جابر.
(1/331)

وذم رضي اللَّه عنه أقواماً غرسوا في أماكن النخيل التي أخذها هذا السيل، فجاء سيل آخر، فأخذ ما غرسوا( ) فقال نفع اللَّه به: لو سمعوا كلامنا ما رجعوا يفعلون، وإن كان ولا بد فيصبرون السنة، ينظرون أولاً، وإذا رأيت مظاهر القهر، فاخشع ولا تبطر، وعند مظاهر الرحمة يكون أمر آخر، كيف نخيلكم تلك بأجمعها مع كثرتها أخذها في مدة قريبة، من وقت السحر إلى بعد الشروق، ثم أنتم تعودون على القرب إلى الغرس، فهذا الفعل منكم كالمغالبة منكم للقادر القوي. وذكر هنا لذلك مثالاً، وهو: إن رجلاً فقيراً كان قام له رجل آخر غني بكل ما يحتاج إليه، وأعطاه من المال حتى أغناه، فقال اللَّه تعالى لذلك الرجل الغني: نحن أفقرناه فأغنيتَه( )، فأمتناه فأحيه إن كنت تقدر على ذلك، ولعل ذلك على لسان أحد من الأنبياء، انتهى ما أردنا ذكره من قوله فيما يتعلق بأمر هذا السيل، وعاش سيدنا بعده ثماني سنين وشهراً وثلاثة عشر يوماً .
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: قد يقابل الأمرَ من اللَّه شيء من العوارض فيمنعه، فإذا جاء أمر برحمة قَابَلَتْها حصولُ معصية فامتنعت، أو حصول عذاب فقابله صدور طاعة فرجع، حتى إنه جاء عن اللَّه تعالى إنه قال: ربما وجهت على أحدٍ العذابَ فيمنعني منه القائمون بالأسحار، ثم حكى: إن رجلاً كان عابراً في سفينة في البحر، فانكسرت بهم السفينة، فألقاه البحر إلى جزيرة في البحر، فصعدها فرأى فيها مسجداً، وفيه سبعة من الأولياء منقطعين للعبادة، فهبت ذات يوم ريح شديدة في البحر وفي الجزيرة، فلما رأى شدتها قال: لا إله إلا اللَّه، فلما قالها سكنت الريح في الحال، فالتفت إليه واحد منهم وقال له: هداك اللَّه، إن هذه الريح أرسلها اللَّه ليغرق بها جملة مراكب من الكفار غاروا على المسلمين ليأخذوهم، فلما ذَكَرْتَ اللَّه سكنت عنهم .
(1/332)

أقول: ويشهد لذلك حديث الجامع الصغير( ): (( إذا أُذِّنَ في قرية، آمنها اللَّه من عذابه في ذلك اليوم ))، قال المناوي في شرحه: وهنا فائدة ذكرها الإمام الرازي: إن الماء زاد ببغداد يوماً حتى أشرفت على الغرق، فرأى بعضُ الصلحاء كأنه وقف على( ) دجلة، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، غرقت بغداد، فجاء شخصان أي ملكان فقال أحدهما للآخر: ما الذي أُمِرتَ به، قال: بتغريق بغداد، ثم نُهيتُ عنه، قال: ولِمَ؟، قال: رفعتُ لملائكة( ) الليل، إن البارحة افتض ببغداد سبعمائة فرج حرام، فغضب اللَّه فأمرني بتغريقها، ثم رفعت ملائكة النهار بسبعمائة أذان وإقامة، فغفر اللَّه لهؤلاء بهؤلاء، فانتبَهَ وقد نقص الماء . انتهى .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل هذا الزمان أحاطت بهم ذنوبهم، ولو أنهم يمتثلون ويفعلون ما نأمرهم به لكان فرج اللَّه عنهم ما بهم، ولكن راح بهم العصيان .
انظر ما قال فيما يدفع المحن
وقال رضي اللَّه عنه: إنما تستدفع الامتحانات بالصدقات، سيما المحن المالية، فإن الجزاء من جنس العمل، وكانوا( ) يزدادون بالبلاء والمحن خضوعاً وذلة وافتقاراً إلى اللَّه تعالى، ويجأرون ويكثرون من الصدقات عند ذلك، وهؤلاء( ) لا يزيدهم ذلك إلا بخلاً وافتجاعاً على الدنيا وحرصاً، وما بهم إلا أعمالهم السيئة، فحيث لم ينصفوا ويؤدوا حق اللَّه من أنفسهم بأنفسهم، من أداء أوامره واجتناب نهيه كما ينبغي، انتصف اللَّه منهم بنفسه، والدنيا في أيديهم كالعدانة فيها الدجاج .
أقول: يعني بالعدانة المزبلة . وحركتُهم في دنياهم واشتغالهم بأسبابها من غير معاملة صحيحة، ولا نية للَّه صالحة، مع قلة أو عدم إخراج واجب ومندوب، كحركة الدجاج، وبحثها في المزبلة، كما قال ابن المقرب الشاعر الاحسائي( ) :
لا يُعرف المعروفُ في ساحاتهم إلا كما يُحكى عن العنقاء
(1/333)

وإذا انتَدوا( ) بَحَثُوا النَّدا( ) فكأنهم دُجَجٌ تُبَاحِثُ عَذْرَةً بفضاء
ثكلتهم الآباءُ إنَّ حياتهم غمُّ الصديق وفرحة الأعداء
وقال رضي اللَّه عنه: أدركنا زمناً إذا وقعت على الناس شدة وابتُلوا، رجعوا إلى اللَّه، وتابوا واستغفروا ولزموا الطاعات وتركوا المنهيات، وخافوا أن قد عجل عليهم من العذاب في الدنيا، ثم يرجعون على أنفسهم باللوم على التفريط، وأهل هذا الوقت إذا نزل بهم شدة تركوا الواجبات، فضلاً عن المندوبات، وارتكبوا المحرمات، ثم إنهم يتمنون ما لم يستحقوا، فهيهات أنى يكون لهم ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: أعطوا المحن أحكامها، فإن من أعطاها إياها كانت عليه نعمة، وإلا صارت كل محنة محنتين، أو ثلاثاً .
انظر ماقال في العلم وفي أهل العلم أو تفسير حديث
وتكلم رضي اللَّه عنه في العلم فقال: من رأيته يعلّم العلم النافع، كعلم كتاب اللَّه، وسنة رسول اللَّه، وينطق بذلك، ثم لا يظهر عليه العمل به، فذلك عالم سوء، فإن لم يكن ما عَلَّم من العلوم النافعة، فلا يسمى عالماً أصلاً، وأما العالم بأحكام الفقه، لو كان كذا، لو كان كذا مما لم يقع، فإنما هذا صناعة لا علم، ومَنْ عَلِم البيع والشراء ولم يبع ولم يشتر له فضل بذلك؟، لا، بل إن فعل فائدتُه أن يتقي اللَّه في ذلك، فالفضل حصل من التقوى، لا من ذلك .
ثم تكلم كثيراً حتى انجر به الكلام إلى أن قال: لا تنكر على أحد من أهل الحق، ممن علم اللَّه إخلاصَه ونصيحَتَه، حتى تختبر، أو كما قال .
وتكلم رضي اللَّه عنه في أهل الزمان وأَكثرَ، ثم قال: إن شهود الزمان فَسَقة، وكذا قضاته وعدوله، وإنما تُقْبَل فتاويهم وشهاداتهم للضرورة، وإذا تأملت حال العُبَّاد فيه، فضلاً عن غيرهم، تراهم في كل مباح من أكل ونوم ونحو ذلك في غَفْلة، أين الآداب، أين الأذكار الواردة في هذه الأشياء، هيهات، ذهب الدين ولم يبق منه إلا الرسوم .
(1/334)

وتكلم رضي اللَّه عنه أيضاً في هذا الزمان وكثرة اختلافهم ومخالفتهم في أشياء من ظاهر العلم، ثم قال: إن أهل الزمان ليسوا بأهل مجادلة( ) وإنما هم أهل شقاق، فإذا قال تعالى في حق أهل الكتاب: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }( ) فكيف بالمسلمين، وهذا في أشياء من العلوم الظاهرة، فكيف لو أظهرنا لهم كلمةً صوفيةً، أو قال: فكيف لَوْ هُوَ في التصوف .
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه تعالى يبغض العلم الذي يَمْنَع من العمل، ويبغض العمل الذي يمنع من العلم المهم، والعمل بلا علم سقيم، والعلم بلا عمل عقيم، وفرق بينهما، وإن كان كل منهما آفة .
وقال رضي اللَّه عنه: ما قَطَع أهلَ الزمان من معرفة العلم العجزُ، إنما قطعهم الزمان، لأن من عَلَّم شيئاً لم يُحفظ منه، ولو أملاه( ) لم يُحفظ، وإن حُفِظَ شيء فيبقى مصرًّا عليه( )، فينساه، فلو ألقيت في الأرض دراهم، فلم تجد من يلتقطها لم تَرْمِ مرة أخرى .
وقال رضي اللَّه عنه: خذ مع أهل الزمان بالرفق ما أمكنك، ولا تشدد عليهم، فإن حبالهم رامّة( )، وما كنت تعلّمه أحدهم في يوم اجعله في ثلاثة أيام، لأن قلوبهم مائلة أو قال منصرفة، وخصوصاً الصغار، ما معك منهم إلا الترقوة واللطف بهم والرفق، ومثال أهل الزمان كالبعير الشارد، فلا تضربه فتزيده شروداً .
وقال رضي اللَّه عنه: المبتدي الذي لم يتبحر في العلوم، إذا نظر إلى الخلاف في العلوم، تفرق قلبه وتشتت همه وفاته التحصيل، سيما في الإلهيات والنبوَّات، وربما يقع في شبهة، ولا معه من العلم ما يزيلها به، وأما إذا تمكن في العلوم، فلا بأس أن ينظر في الخلافيات ليعلم ذلك، وذكر حجة الإسلام: إن العلم كالسلطان، إما مَلَكَ وارتفع إلى أعلا المراتب، وإما لم يتمكن من ذلك ورجع إلى أسفل المدينة ثم تمثل :
فإياك والرتب العالية ... بِقَدْر الصعود يكون الهبوط
(1/335)

وقال رضي اللَّه عنه: وأصول الإعتقاد ثلاثة: التوحيد والنبوة واليوم الآخر( ).
وقال رضي اللَّه عنه: ذكر: إن سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا في سفر صائمَين، ففتح لهما بشيء، فأخرجه إبراهيم ولم يدّخره إلى الإفطار، فقال له سفيان: تحتاج إلى شيء من العلم يا إبراهيم، فسكت إبراهيم ولم يَرُد له جواباً، فلما آن وقت الإفطار، جاء أحد إليهما بطعام كثير من خبز وتمر، فالتفت إبراهيم إليه وقال: يا سفيان تحتاج إلى شيء من اليقين، لكن هؤلاء قلوب مجردة في الأبدان بلا نفوس، أبدانهم في الدنيا وقلوبهم في الآخرة . وقراءة أحوال هؤلاء إنما هي للتبرك، وإلا فلا مَطمع في العمل بمثل عملهم، لأن الناس كلهم ناشبين مخاليبهم في الدنيا، وهم فيها كَعَرقِ الموقف، بعضهم إلى ساقه، وإلى ركبته، وإلى حلقه، وإلى رأسه .
ولما قرأت بحضرته قصيدته التي فيها ذكر القطب منشداً بها، ووصفه وهو قوله( ):
بطريقة الإجمال فاسمع سائلي ... ... إن شئت تعرفه وتعلم وصفه
ورع تقي زاهد في العاجل ... ... هو سيد متواضع متخشع
ومن العبودة بالمقام الحافل ... ... الشرع سيرته الحقيقة حاله
يرعى الوجود بعين لطف شامِلِ ... ... بَرّ رحيم بالخلائق كلهم
خيرِ الأنام بعاجل وبآجل ... ... يمتد من بحر البحور محيطِها
(1/336)

فقال نفع اللَّه به: هذا وصف جامع لصفات القطب، حتى يعلم الواقف عليه أن من خالف ذلك لم يكن قطباً، إلا إن كان بالمعنى الأعم، لأن القطب: السيد في كل طائفة، وهذا الوصف إنما هو في القطب الذي هو أفضل أهل زمانه من الأحياء، ولو علت درجات أحد منهم( )، ولا يقوم في مقام القطبية إلا ظاهر، فإن لم يكن فيه أهلية للظهور، يستنيب أحداً ممن فيه أهلية للظهور، فقلت له: أيكون القطب المتقدم أفضل من المتأخر؟، فقال: لا يشترط، فقد يكون في المتأخر مزايا لم تكن في المتقدم لاختلاف الزمان، ولا يكون في كل زمان إلا واحد، وما ذكر عن جماعة في زمان واحد أنهم أقطاب، فلعل أن يكون كل واحد منهم قطباً في جهة .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب))، أي أعلمته أني محارب له، وذلك لأن الولي لا ينتصر لنفسه، فيكون اللَّه سبحانه هو الذي ينتصر له، ثم أنشد :
يكون مِيراً يوم عَزْله ... إنَّ الأمير هو الذي
لم يفُت سلطن فضله ... إن فات سلطان الولايةِ
وقال رضي اللَّه عنه: إذا رأيت اللَّه قد عدل عن كلمة إلى أخرى في شيء من الألفاظ، إمَّا في ذكر أو غيره، فخذ بما ذَكَر، وإن كانت الأخرى تماثلها في اللفظ أو مع المعنى ،كما ذُكِر في الوضوء( ): يوم تَبيض، ويوم تَسود، أي بفتح أوليهما كما جاء في القرآن.
ورأيت بخط ابنه السيد الجليل علوي، مما نقله عن والده رضي اللَّه عنه، قال سيدي: أهل هذا الزمان أخذوا السيوف إلا ليقطعوا بها الطريق، ما أخذوها ليؤمِّنوا بها الطريق، ويشير بذلك إلى العلماء. انتهى .
وقال سيدنا رضي اللَّه عنه: قد قلنا لرجل تفَقّه، فقال: الفقهاء إلا كذا، يعني يذمهم، فقلنا له: الزم التقوى والورع، فإن أهل التقوى والورع يعظّمهم الناس ويعتقدونهم، فخذ لك سراجاً ولا تبرزه للَّهبوب ينطفئ، ولا تُعْلِقه( ) في النهار، فلا يبقى له أثر، لأن الأمر إلا نبوة .
(1/337)

وقال رضي اللَّه عنه: التوسع في علم الفقه زيادة مليحة، ولا تضر إلاَّ مَن قلبه مُظْلم، وإلا فالعلم نور وحياة، وقد ذكر الإمام الغزالي: إنه لم يختلف أحد في أن قوله تعالى: { أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } ( )، أن المراد به العلم، ولكن العلم يحتاج إلى نور: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ }( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: إن أهل الزمان قد بَعُدوا من الدين جدًّا، حتى إنهم إذا سمعوا شيئاً على قاعدة الشرع لم يطرق أسماعهم ينكرونه لعدم اطلاعهم على ذلك، بسبب همَّتهم في الدنيا، وعدمها في الدين، ولو تَولَّينا مثلاً شيئاً من الأمور، لرأيتم ما لم تطلعوا عليه، إلا إن كان قد سمعتموه .
وذكر رضي اللَّه عنه في حديث المَلَكين يناديان كل صَباح، ينادي أحدهما: اللَّهم أعط منفقاً خلفاً، والآخر ينادي: اللَّهم أعط ممسكاً تلفاً، قال: هذا فيمن لم يخرج الزكاة، فيمنع حق اللَّه الواجب، أو لا يتصدق مع قدرته على ذلك، بل يبخل عن ذلك ويخبئ المال وينميه ويحرص عليه ويحب زيادته .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( غَيرتان إحداهما يحبها اللَّه والأخرى يبغضها اللَّه، ومَخْيَلتان إحداهما يحبها اللَّه والأخرى يبغضها اللَّه ))، وفصلهما في الحديث، فقال سيدنا: المخيلة روحنة يجدها المتصدق في نفسه عند الصدقة، يفرح لكونه وُفِّقَ لذلك، وعندما يُسأل فيَرُد السائل، يرى في نفسه انقباضاً، إن كان هو بصيراً بأخلاقه ضد ذلك، أي ضد تلك الروحنة، وكذلك المخيلة في الجهاد يفرح إن وفق لذلك .
(1/338)

وقال رضي اللَّه عنه في حديث: (( الرجل يحب القوم ولَمَّا يلحق بهم ))، أي يحبهم ويتشبَّه بهم، ولم يبلغ درجتهم، فلا بُدّ في ذلك من التشبه، وهو إنك إذا سمعت عنهم، أن أحدهم يصلي الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة مثلاً، ومثل ذلك مما لا يكاد يدخل في قوة البشر، فتقوم من الليل ما تيسر، فهذا تشبه بهم في صلاتهم كذلك، وأما من نام الليل كله، حتى يكاد يفوت صلاة الصبح، ويعتل بالمحبة لهم، فقد احتج بعض الناس بذلك فأجابه بعض الصالحين، بأن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم، وهم مخلدون في الشقاء، ما نَفَعهم ذلك، لعدم تشبههم واقتدائهم بهم .
قف على شدة تواضعه لربه
وقال رضي اللَّه عنه: إنا لا نأذن لمن وَصَفَنا، ولا نحب أن نُذْكَر بأكثر من أنا من أهل البيت ومتمسكين بالعلم، ولنا إلمام بأهل التصوف، ونحن لا نريد الظهور وعسى في تريم، لو بات إنسان فيها بلا عشاء ما عَشّوه، ولو اجتمع عندنا فقراء محتاجون ما سلفونا شيئاً لنفقتهم .
وقال رضي اللَّه عنه: الدنيا لا تخلو أن تكون سجناً للمؤمن من كل الوجوه أو بعضها، ولو لم يكن إلا أن الروح فيها مسجون في الجسم .
وذكر رضي اللَّه عنه العلوم وما يشغل عنها من طلب المعاش، فقال: المعاش شَغَلَ الناس عن قراءة العلوم وعن العمل بها، وقد قال سفيان الثوري: لو اشتغلت بِبَصلة، ما فهمت مسألة . وما جعل اللَّه لرجل من قلبين في جوفه، فعسى السكون والصلاح، فإنه لا تصلح أمور المسلمين حتى تسكن ولاتهم .
(1/339)

وقال رضي اللَّه عنه: كل شيء يمكن فيه التعلّم، وإن كان الطبع بخلافه، فَطَبْعٌ وتَطَبُّع، فالعلم بالتعلّم، والحلم بالتحلم، فلو غضب مرة وحلم مرة عاد أسهل، ومن الناس من يعجِز عن القيام، فإذا قُوِّمَ قام، ومنهم من فيه حركة، ويقوم من نفسه بقوة، فالحاصل إن طبع الإنسان قابل للتعليم، إلا إنَّ ما كان مطبوعاً أهون، ويتكلف به المكتسب، ولهذه الأشياء نهاية، إذا انتهت إليها فلا تعاوده، وغالب الحركات في الصغر. وكلما كبر قَلّت، والأشياء في الأكثر مستطاعة، فَلْيُوَطّنْ نفسه عليها ويقاسيها في الخلوة، ونحن منذ طالعنا في العلوم، ما أخذنا منها إلا كلّياتها وجُمَلَها، والأصولَ التي يُعْتَمد عليها، وأما الفروع النادرة التي لا يحتاج إليها، ويرتبون عليها واجباً وحراماً من غير دليل، لا يقبلها خاطري إلى الآن، وخصوصاً الفقهيات، كنت غير مائل خاطري إليها .
وذكر رضي اللَّه عنه الكتب والمطالعة فيها، فقال: لا ينبغي أن يُنظر فيها إلا لطلب الفائدة، لا للَّهو والفضول، بأن يريد أن يقف على كُنْه ذلك الكتاب، من غير أن يقصد منه تحصيل فائدة، لأن الفضول ما هو في الدين، إلا إن كان كتاب أدب، يريد يقف عليه للفرجة، فلا بأس، ككتاب "الفرج بعد الشدة " أو كتاب نحو أو لغة، فكتب الأدب شيء، وكتب علوم الدين شيء آخر، ولكن لو جَعَل المطالعة في كتب الأدب إعانة على معرفة العلوم الدينية فهو أحسن من ذلك، فيرجع فضوله دينيّاً، وذلك نادر، أي كون الفضول يرجع دينيّاً، وأما الدين فلا يرجع فضولاً، إلا كان عند سفساف الناس .
(1/340)

وذكر رضي اللَّه عنه العلوم واختلافاتها، فقال: أكثِروا من كل شيء، ولكن ينبغي أن يأخذ منها ما تحتمله بديهته، وقد ذكروا: إنه ينبغي أن يأخذ( ) في فن واحد يُحكمه، ثم يتطرف من كل شيء، وقد تفننوا في كل فن، حتى أعجزوا الطالب، فإذا كان الكتاب عشرين مجلداً أو أكثر، متى يتم مطالعته، ولا يتمه حتى ينسى أوله، وهذا الجمع تسخير إلهي، وقد يمكث في تصنيف كتاب من أول عمره إلى آخره، كالإمام النووي في المجموع، فإنه يؤلفه من صغره( )، وقد قال فلان: لو ذَهَبت الكتب كلها، وبقي المجموع كفى منها، فنقول له ولأمثاله: وأما المبتدئ فما يفعل بالمجموع.
وقال رضي اللَّه عنه: أكثرَ الناسُ في كل شيء من كل شيء، فليأخذ الإنسان بما أمكنه، وإلا إذا عجز عن الكل يترك البعض، لأن من نظر فيها مع كثرتها أورثه ذلك حَيْرة، كما إذا اعترضت له عشر طرق، ما يدري أيتها يسلك، فليسلك الطريق الكبيرة ولا يأخذ في بنيّات الطرق.
وقال رضي اللَّه عنه: في قوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( يَشيب ابن آدم، وتشب منه( ) اثنتان: الحرص وطول الأمل ))( )، هذا خاص بمن كانت في قلبه من صغره، كلما كبر ازداد حرصه عليها، وأما من عاش في صغره بالزهد ونحوه، فبالعكس من ذلك، ودليل ذلك من الحديث الآخر: (( يموت المرء على ما عاش عليه ))، أو إن معناه: إن صاحب الدين والزهد في الدنيا كلما كبر ازداد زهداً فيها وتقللاً منها، وصاحب الدنيا المحب لها كلما كبر ازداد ضعفاً( ) وعجزاً عنها وعن التمتع بها وفي قلبه تعلق بها، ورغبةً فيها وطلباً لزيادتها، أو كما قال .
(1/341)

وقال رضي اللَّه عنه: هذا مقرا( ) فيه عبرة، لو تأمل الناس فيه كفاهم، قَصَّ اللَّه فيه أحوال قوم، ودعا فيه قوماً لاستجابة اللَّه ورسوله، وحَذّر فيه أقواماً عن الوقوع في الفتنة، وأخبر كلاً أن اللَّه مع المتقين، ورغبهم في التقوى وهو :{ إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُّكْمُ}( ) إلى {وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِين} آخر المقرا .
وقال رضي اللَّه عنه: الرجوع في العلم إلى الأصول، وجميع الفروع والنوادر ترجع إليها، والتصانيف على مقتضاها وإن اختلفت العبارات فهو قصد كل منهم، ولهذا يقول بعضهم: يُفْهم من قول فلان كذا، وتُحمل العبارة الفلانية على كذا، ونحو ذلك، وقد قررها المتقدمون كما ينبغي، فأتى هؤلاء المتأخرون، ورأوها محررة، فأرادوا أن يضربوا بسهم معهم، فأَلَّفوا وعَرَّضوا وطَوَّلوا، منهم مَن قَارَب ومنهم من أبعد، أو كما قال .
(1/342)

وذكر رضي اللَّه عنه عَجَلة الناس في نقل الكلام، ثم قال: ما عاد أحسنوا السكوت ولا الكلام، وإذا لم يحسنهما كان لا شيء، وما عاد مع الإنسان اليوم إلا يطوي لسانه، حتى إن لم تقع سلامة يقع أقل منها:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا}( ) ثم ذكر الدَّولتين الأموية والعباسية، ثم قال: الحاصل أنه لم يكن فيهما مثل عمر بن عبدالعزيز، ثم امتد الكلام إلى ذكر الأئمة، وقوة العلم والدين في ذاك الزمان، ثم قال: وما عاد الناس اليوم إلا في الذيول والكبول ما عاد شيء نور، وإلا كان اهتدى الإنسان، لكنها ظلمة لا يُهتدَى فيها، ولكن رحمة اللَّه مرجوّة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (( في كل زمان من أمتي سابقون، وليجدن ابن مريم من أمتي قوماً هم مثل حواريه ))، وآية من كتاب اللَّه تكفيك، فإن لم تعرف معناها فاسأل عنه( ) أهل العلم به، وإذا كان في الأمر شيء عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فلا لأحد عنه معدل، وما كان عن الصحابة فَيُتّبَع، وما كان عن غيرهم فيؤخذ منه ويُتْرك، كما قال أبو حنيفة: وقد كان الذي عليه المعول شيء قليل، إما آية يحفظها ويعرف معناها، أو حديث كذلك، وهذا هو الدين الذي كان من قبل، وإنما اتسع الأمر بعد ذلك، حتى صار الكتاب الواحد في مجلدات، ثم نقحه الإمام النووي رحمه اللَّه بعد ذلك هو وحجة الإسلام المجدِّدَين للدين، ثم قال: لا يهمك في هذا الزمان إلا نفسك ومن يهمك، كصاحب السفينة الذي هو الربان، فإنه إنما يراعي نفسه خوفاً من الغرق، وكذلك من معه، لأن نفوسهم وأموالهم عنده .
(1/343)

وقال رضي اللَّه عنه لبعض القراء: تأنّ، مرات متعددة، وقال له في بعض المرات: تكرير الكلام لا يحتاج إليه، فإنه إذا تكرر سقط وَقْعه على النفوس، ولهذا ترى عيال العالِم أكثر تساهلاً في كلامه من غيرهم، لتكرر كلامه معهم، ونحن ما عاد نعاقبهم، كما كان الأولون يعاقبون، لأنا مدْبرين( ) وهم مقبلين، وهم من طبقة ونحن من طَبَقات، وإنما نريد منهم أن يأخذوا ما تيسر مع الإصغاء والاستماع، وفي الحديث: (( في آخر الزمان خير العيال البنات))، لأن الولد إذا كَبِر( ) ما يريد لك معه وجود، لا في مال ولا أمر، فإن كثروا كان أكثر لذلك، والبنت تكون في ميزانك، بسبب اهتمامك بها وبمعاشها، والولد تكون في ميزانه( ).
وقال رضي اللَّه عنه: الزمان مفتون، وكان الزمان الأول إذا أردت خيراً نفعك الآخر، واليوم لا اهتمام في ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: والعلم يؤخذ إلا من أهل العلم المتعلمين، وأهل الاستقامة المستقيمين، وأما هؤلاء الذين لم يتعلموا كذلك، فهم ضرر على الناس، فنصف العالِم لا ينفع، وإذا قَصُر نظرك خَلّ غيرك ينظر لك طريقك إن كان فيها شَخْر أو شوك .
ومرت القراءة في حِكَمه رضي اللَّه عنه، فقال: هذا على التحقيق هو الأصل، ولكن أهل الزمان تاركون له، ولو كان في شيء من أمور الطب تزاحموا عليه، والدنيا على الحقيقة هي التي لا شيء، الأول: إنها مضمونة( )، والثاني: إنها ذاهبة، ثم التفت إلى القارئ وهو بعض القراء، فقال: وأخرى إن ذَنَبها أملس( ).
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( ماء زمزم لما شرب له ))، يعني من شربه لمرض شفاه اللَّه، أو لجوع أشبعه اللَّه، أو لحاجة قضاها اللَّه، أي لأنها في الأصل للاستغاثة أغاث اللَّه بها إسماعيل عليه السلام، وقد جَرّبه الأئمة في المطالب، فوجدوه صحيحاً من خَبَره عليه الصلاة السلام، ولكن يحتاج لنية وإخلاص ما هو لكل الناس .
(1/344)

وقال رضي اللَّه عنه: عجبت كل العجب من رجلين، أحدهما من يستعير الكتب، فإذا غفل عنها صاحبُها أخذها، والآخر من يزني ويغتسل من الجنابة، أقدم على هذه الكبيرة ولم يراقب اللَّه تعالى فيها، ثم هو يغتسل من جنابته .
وقال رضي اللَّه عنه: أكثر العلم إلا فِعْلٌ وترك، ما المقصود إلا أن يعمل ويتفكر، حتى إذا ظهر له شيء سأل عنه، فيعلم ويعمل، فاعلموا لتعملوا، والعلم إلا بالعمل، وإلا كان ضياعاً ويُنسى، وأما الأخلاق فيحصل للإنسان منها نصيب مع الرياضة، ودَرَسَةُ الوقت لَبَّسوا على الناس، فأخفوا عنهم مثل سيرة الشيخ سعد بن علي، وسعد باعبيد المعلم، وهو مذكور في الجَوْهر( )، كان يرتِّب ليله ونهاره، وكان يصوم ولا يفطر إلا بالماء، مشغولاً بالمذاكرة، لأن عندهم الاستقامة خير من الكرامة، لأن الاستقامة ما يُخاف فيها الاستدراج، بخلاف الكرامة فإنه يُخاف منها الاستدراج، وكانوا موزِّعين أوقاتهم .
وذكر رضي اللَّه عنه العلماء، فقال: سبحان اللَّه، قد يجيء العالم يريد أن يُنَكِّت على أحد من العلماء، ويستدرك ويعترض، فلا تحس به إلا وقد وقع في أمر، كل ذلك طلباً للكمال، فلا كمال للإنسان، لأن اللَّه منعه الكمال خوفاً من الكبر والإعجاب، وخصوصاً بالعلم، لأنه أشرف الأشياء، فإذا كان يتكبر ويعجب بالذهب والفضة، وهما مثل الحجارة، فكيف بالعلم الذي هو أعز الأشياء .
انظر معنى الشكر
وقال رضي اللَّه عنه: الشكر في حال الشدة الصبرُ وترك الاعتراض، والشكر في حال الرخاء البذلُ وتعظيم النعمة، وأما أهل هذا الزمان فشكرهم مجرد لفظ: الحمد للَّه، وتوبتهم قول أستغفر اللَّه، في اللسان( ) فقط، مع خلو القلب من التحقق بذلك، ثم قال: أكثر ما يُدْخل الناس الجنة التقوى وحسن الخلق، وأكثر ما يُدخلهم النار الأجوفان البطن والفرج، وقد ورد: (( أشقى الناس من أدخلاه أجوفاه النار )) .
(1/345)

وقال رضي اللَّه عنه: الفقيه مَن فَهِم أسرار الدين . والذي عِلْمه إلاّ أَيُّما أفضل، أو كذا أفضل من كذا فما هو إلا موسوس .
وقال رضي اللَّه عنه: ما تظهر بركات الصالح على من صحبه إلا بعد موته .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يُفتح على أحد في العلم حتى يطلبه ويعتقد أنه خلي منه، لأن المظاهر الدنياوية قد تنقص من المظاهر الأخراوية .
وقال رضي اللَّه عنه: من شأن أهل الحق ترك الجدال، وإن جادلوا فبكلمة واحدة، لقوله تعالى: { وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }( ).
وقال رضي اللَّه عنه لرجل: أتعرف الحديث الوارد في يا أرحم الراحمين، فلم يعرفه، وقال لآخر: هل تعرف حديث يا ذا الجلال والإكرام، فلم يعرفه، فقال نفع اللَّه به: راح بالناس الاهتمام بأمر المعيشة، حتى اشتغلت بذلك بواطنهم وظواهرهم، وهم في ذلك كما قيل( ):
فصادف قلباً فارغاً فتمكنا ... أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
تَربَّوا على ذلك من صغرهم حتى كَبِروا، ورأوا أقرانهم على مثل ذلك، والدنيا لئيمة، إذا وَقَعَت في القلب ارتحلت عنها الآخرة، لأنها كريمة، فلا تكاد تخطر له الآخرة على بال، إلا إن كان نادراً، حق الإيمان .
وتكلم رضي اللَّه عنه: في حديث الكلمة التي تقال صباحاً ومساء أربع مرات: اللَّهم إني أصبحت أشهدك الخ، وفيه: (( من قالها مرة أعتق اللَّه ربعه من النار، وثنتين نصفه، وثلاثاً ثلاثة أرباعه، وأربعاً كله ))، ثم قال نفع اللَّه به: إن هذا عِتْق اليوم أو الليلة مما يصيبه في أحدهما من الذنوب، فإن قالها مرة صباحاً أو مساء، عتق عنه ربع سيئاته التي أصابها في ذلك اليوم أو في تلك الليلة، ومَرّتين نصفها، وثلاثاً ثلاثة أرباعها، وأربعاً فكلها، ولكل من العتق على قدره خصوص لخصوص وعموم لعموم، أو كما قال .
(1/346)

وقال رضي اللَّه عنه: في حديث: (( إن اللَّه حمى أمتي أن تجتمع على ضلالة ))، يعني إنهم لا يجتمعون كلهم عليها، بل لا بد من قائم على الحق ولو قليل، وما ورد إنهم( ) السواد الأعظم، لعله لم يصح، لأنه لم يبق في زمن بني العباس، من لم يقل بخلق القرآن إلا القليل، أحد يُظهره ويدين به، وأحد يُظهره، وظهوره وخفاه بحسب ملوكهم، فالناس على دين ملوكهم، يعني: يُظهرون ما يكون عليه ملوكهم، إما إنه كذلك وإما تقية وخوفاً.
وقال رضي اللَّه عنه لرجل وهو يذاكره في الأنساب: لا بد لك من معرفة ثلاثة أشياء هي ألزم عليك من البحث عن أشياء لا فائدة فيها: أن تعرف نسب النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إلى عدنان( )، وأن تعرف كم عدد أزواجه، وأن تعرف العشرة المبشرين بالجنة .
وقال رضي اللَّه عنه: إن أهل الزمان ما صححوا إيمانهم بالنظر والسؤال، حتى إن عامتهم إيمانهم قاصر عن إيمان المقلدين لقلة بصائرهم، وقد أدركنا الناس يعلمون الصغار: ( قل رضيت باللَّه رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً، ولد بمكة وبعث بها، وهاجر إلى المدينة ومات بها)، فما زال الأمر ينقص حتى لم يبق لأمثال هذه الأشياء أثر، فإذا كان هذا في أمور الإيمان، الذي هو الأصل، فماذا يكون غيره، وعلى هذا ينقص الدين شيئاً فشيئاً، حتى يُرفع ولم يبق منه شيء، ثم رجعت فراستهم في أمور الدنيا .
وقال رضي اللَّه عنه لي يوماً: أيٌّ ترى أعم، الصلاح أو الفلاح؟، قلت: اللَّه أعلم، قال: الصلاح عمل، والفلاح جزاء، ألا ترى حيث يذكر اللَّه الصلاح، فيذكر أعمالاً يمدح فاعليها ثم يصفهم بالصلاح( )، ويذكر ما يجازي به أقواماً فعلوا الخير، ثم يصفهم بالفلاح( ).
(1/347)

وقال رضي اللَّه عنه: إن عيسى عليه السلام ذُكِر مع أمِّهِ في القرآن في نحو أربعين موضعاً، وذِكْرُه معها في الغالب، وقد يفرد أحدهما عن الآخر، وذلك صريحاً وكناية، وإنما كَرَّر اللَّه ذكر مريم، لأن امرأة عمران قالت: رب إني وضعتها أنثى الخ، فاستحقرتها لذلك بكونها لا تصلح لخدمة بيت المقدس، فلما استحقرتها نَوَّه اللَّه بذكرها وكرره، وفيه دليل على أن كل من اتضعت منزلته عند الخلق، ارتفعت عند الخالق، يعني مع الإحسان في جانب الدين والدنيا . وفي ذكر مريم سِرٌّ .
وقال رضي اللَّه عنه: فَاضَل العلماء بين أزواجه عليه السلام، والسكوت عن هذه الأشياء أحسن، لكن إذا دَعَت الحاجة إلى الكلام، لم يسع العلماء إلا أن يتكلموا بالصواب، وإلا أدَّى إلى الوقوع في الباطل .
وسئل رضي اللَّه عنه: عن رؤية النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم للأنبياء ليلة الإسراء، كل واحد منهم في سماء، أرؤية أرواح أو أجسام؟، فقال نفع اللَّه به: رؤيته لهم على قدر درجاتهم بالنسبة إلى القرب من اللَّه تعالى، ويمكنه عليه السلام أن يرى الأشياء قبل وجودها، فقيل له: كيف رؤية آدم لداوود عليهما السلام، واعجابه حسن صورته، هل هو في الحسن أكمل من يوسف عليه السلام، وهو المشهور بذلك؟، فقال نفع اللَّه به: إن اللَّه أَطْلعه على داوود، ولم يطلعه على يوسف، وإلا فهو أكمل في الحسن، فقد ورد إنه أعطي شطر الحسن، وإنما أطلع اللَّه تعالى آدم على داوود دون يوسف ليظهر تفرده تعالى بالعلم .
وقال رضي اللَّه عنه: من سألَنا عما لم يكن، لما( ) يكون؟، لا نجيبه، وكثير من الناس سألونا فأجبناهم، وطلبوا وصايا فكتبناها لهم، ولكن كلهم لم يبارك لهم في ذلك لعدم انتفاعهم بذلك، لأنهم إنما أرادوا مجرد علم يحكونه، وإنما رأينا البركة حصلت في المكاتبات والوصايا التي جعلناها لأناس من غير سؤال منهم لذلك، بركة بالنسبة .
(1/348)

وقال رضي اللَّه عنه: الناس اليوم كمن يشل المحفر بأحد أذنيه، لا عذر من أن يَطَّيّر( ) منه شيء، لأنهم لم يأخذوا الأمور بأطرافها .
وقال رضي اللَّه عنه: الهوى يعمي عن الحق، كالريح، إذا اشتدت تعمي العين عن النظر، فكذلك الهوى يعمي البصيرة عن الحق، والهوى شدة ميل النفس إلى الشيء بالباطل، ولما رأى نفع اللَّه به أن هذا الكلام قد شَقَّ على من سمعه من الجماعة، قال لمن كان يخاطبه في معرض التسهيل: إذا حصل لك شيء من غير تعب ألا تريده، فكل يريد شيء بلا شيء، أما سمعت قول بامخرمة: فتشت في قشاشي لقيت فيه ماشي يا اللَّه بشيء بلا شيء . ولو كنت لم تدر إلا وقلنا لك هذا الزاد والراحلة فقم سافر، لشق عليك جدًّا، أتريد أن ندخلك الخلوة ثلاثة أيام، فانظر كيف تخرج هارباً، وقُدَك في خدمة لنا، فمن أمرناه بأذان أو قراءة مثلاً أو بساقة( ) أو حاجة، أو أي أمر فهو في الخدمة، ونحن إذا تكلمنا أسندنا الكلام إلى واحد، وقَصْدنا الكل، لأنا لو جردنا لكل واحد خطاباً حرنا معهم، وفي الكلمات تكون عشر كلمات من الطالب، وكلمة من المعلم، وإن تكلم هو بمراده قبل أن يسأله، يأخذها ويسكت، قال له رجل: اللَّه ينفعنا بكم، فقال رضي اللَّه عنه: اللَّه ينفعكم بنا، وينفعنا بكم، فقد قيل: إن المعلم ينتفع من المتعلم أكثر مما ينتفع المتعلم منه، وقد أتكلم مع الجماعة في بعض الأوقات بأشياء لم يفهموها، لنستذكر بها أشياء كنا نعلمها فنسيناها حتى كأنا لم نقف عليها، وقد قرئت علينا رسالة القشيري أكثر من عشرين مرة( )، وإذا مرت علينا كأنا ما سمعناها، ولولا التبرك بذكر أحوال الصالحين، تركنا باب الإصطلاح منها، لأنها أين الآن من يعرفها، ومن يتحقق بها، وفيها أيضاً إشكال، مثل السكر، وما استشهد في ذلك من الأبيات فإن أكثرها من قول أهل الخمر، وهذا هو الذي حصل بسببه الإعتراض على الصوفية، ونحن لنا بهذه الأشياء معرفة
(1/349)

وذوق، ولكنا صادفنا قوماً ليسوا كذلك، ولكن بعدما يرق باطنه ويصفو، تظهر له أمور، حتى إن الشاطحين بعدما صفت بواطنهم، ورأى من رأى شيئاً منها، ظنَّ ما ظن، فحصل( ) عليه الاعتراض في ذلك، كقول أبي يزيد البسطامي: سبحاني، والسلامة في اتباع السلف وما هم عليه من الزهد في الدنيا، كأويس القرني والحسن البصري، ولكن جزى اللَّه الإمام الغزالي خيراً حيث تتبع طريقة الصوفية، فرأى أنها حق، وأسسها وبَيّن ما اختُلف فيه، بسبب تغير الأسماء الاصطلاحية، ومثل الإمام النووي في زهده والبغوي في تقللَّه ما بعد هم في طريق الصوفية، وإنما هم على طريقة السلف، فكيف يريد هؤلاء أن يصيروا ويتحققوا بحقائق الصوفية، وهم يعجز أحدهم أن يرد عن نفسه الخواطر في الصلاة، وربما تراوده نفسه في الصلاة بشهوة ويعجز عن ردها، فلا يطمعوا في حال أولئك، فرحم اللَّه امرأً عرف قدره ولم يتعد طوره، ولا خير إلا في أسلوب عالم عامل، من الانزواء عن الدنيا والتقلل منها جدًّا، إلا قدر الضرورة أو على قدر الحاجة، مع التمسك بالكتاب والسنة، وهو المهيع، ويترك عنه الإشارات والأشياء المشكلة الغامضة، فإن طريقة الصوفية لا يكاد يقبلها العقل، ولا يصدق بها، وإن كان لك نصيب، فهو يأتيك، فأين كنت يوم خلق اللَّه السماوات والأرض أو كما قال .
(1/350)

وقال رضي اللَّه عنه: نحن قد سئلنا عن أمور مشكلة فأوضحناها، حتى عن كيفية الجنة والنار، ولكن ذلك يخص السائلين عن ذلك، ولو جاءنا واحد ليس بزاهد في الدنيا، وطلب أن نعرّفه كيفية الزهد، لم نبيِّن له ذلك، إذ لو حصل له قصعة طعام، جعل يأكل منها نهمته، أو وقع له درهم رَبَطه بعشرين رباطاً، ونسي في جميع ذلك الزهد، أو طلب أن نبين له الجنة، وهو على حالته تلك لم نُبيِّن له، لأنه إيضاح لغير مطلوب، بل لغير متأهل لذلك، فقد ذُكِر: إن ابن المبارك قال لأصحابه: البارحة اجترأت على ربي فسألته الجنة، هذا مع ما هو عليه من العلم والعمل والزهد، فكيف بهذا أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي للإنسان إذا كان عند عالم، أن يكون على ما يريده ويأمره به، لا على ما يريده هو، وإلا فوّت أكثر مما حصل، إلا أنه ينبغي أن يعرف من هو العالم صاحب الطريقة من غيره، فيفرق بين صاحب الطريقة وصاحب العلم، فإنه لا يجري صاحب العلم في طريق إلا ويجري صاحب الطريقة في طريق فوقه، وبعض العلماء المتبصرين من قطاع الطريق على عباد اللَّه، فلهذا ذكر الإمام الغزالي أنه لا ينبغي أن يدخل الطريق حتى يحكم علوم الأصول على طريق الصوفية، لا على طريق المتكلمين، ويعرف من هو الداعي إلى اللَّه حقيقة، ولا يتبع كل من نعق، ثم قال نفع اللَّه به: فإذا كان العالم يبات نائماً شبعاناً، فعالم إيش هذا، فلنفرض هذه مسألة يجوّب عليها، وكل من دخل على السلاطين، وأكل أموالهم ولا نفع المسلمين ولا شفع فيهم، فهو كذاب مراءٍ، فلا تصدقه .
(1/351)

ثم قال رضي اللَّه عنه: علم الأصول عِلْمان علم أصول الدين كالعقائد، ولا بد أن يأخذ الإنسان منه قدر الحاجة، كعقيدة الإمام الغزالي، وعلم أصول الفقه وهو عَسِر، لا يكاد يُفهم ولا يجب على كل أحد، فينبغي أن يأخذ من الأصولَين قدر الضرورة، ثم بعد يأخذ في كتب الرقائق التي ترقِّق قلبه وترغبه في الآخرة، وتزهده في الدنيا، ليأخذ في العبادة فيجتهد فيها، ويكثر من تلاوة القرآن جهده، فإذا لم يمكنه( ) في بعض الأوقات، أكثَرَ من الذكر، ويلازمه في كل أحواله، فإن العمر قصير والبطالة ذاهبة بأكثره، وليجعل غاية اعتنائه ومطالعته في المهم منها، فيطالع المهم ويحفظ المهم، وإن أراد مطالعة غير ذلك جعله في نادر من الأوقات .
وقال رضي اللَّه عنه: العلم علمان: علم الإيمان وعلم اللسان، أعني المهم منهما، فيأخذ من ذلك ما يعرف به قواعده ويتسلى به .
وذكر رضي اللَّه عنه أناساً فقال: إن اللَّه ما قبل أعمالهم لأنهم عملوا بلا علم، ولو قبلها لرفعت ورحمهم، ولا يقبل اللَّه عملاً حتى يكون أوله علم وآخره إخلاص .
وقال رضي اللَّه عنه: الأعمال تُرفع من الأرض إلى السماء، ثم من هناك ترفع وتقبل، أو ترد ولا تقبل، وأماكن العبادة والعباد معروفون عند الملائكة لاعتيادهم لنقل العمل منهم من أماكنها، ألا ترى كيف أنكروا بطن الحوت لأنه ليس موضع عبادة، وعَرَفوا صوت يونس عليه السلام، فلما سمعوا صوت تسبيح يونس من بطن الحوت، قالوا: صوت معروف في مكان مجهول، لم يدروا أين هو، لعدم اعتيادهم لنقل العبادة منه . ...
(1/352)

وقال رضي اللَّه عنه: لو أدركنا ناساً يرغبون في العلم، لجعلنا واحداً يقرأ فقط ونتكلم معه ونُملي عليه والبقية يستمعون، ولكن هؤلاء ما بَغَوا إلا كثرة قراءة، ولا بالوا فهِموا شيئاً أم لا، وأنا يعسر علي إخراج الكلام، ولا أَسْخَى به، وقد كانوا إذا حضر أحدهم مجلس علم يتفقد نفسه ويقول: ماذا حَصَّلت من علم أو من زهد في الدنيا، وأمر القراءة والكلام إنما هو إلى العالِم والبقية يحفظون ويكتبون، على أنَّ بعضهم كان يغضب من الكتابة، ويقول: لا، بل احفظوا كما حفظنا، أو كما قال .
وذكر رضي اللَّه عنه علم الحديث وأكثَرَ فيه، ثم قال: ما جمعنا كتب الحديث إلا لأجل المهدي، فإنه إذا خرج لا يأخذ بفتاوي الفقهاء، بل إنما يأخذ بالكتاب والسنة، ويَدَع ما عداهما، أما ترى الاختلاف الحاصل بينهم، ولولا ما جرى عليه سلفنا من الأخذ بمذهب الشافعي، كان أحببنا أن نأخذ بمذهب مالك، لأن فيه مسائل إذا تأملتها رأيت أنها هي السنة، لأنه عالم المدينة، وعمدته ما أجمع عليه أهل المدينة، ولكن الشافعي مالكي، لأنه تلميذه أخذ عنه، ولكن لما تأخر عن مالك، وقد أتقن مذهب مالك، وعثر على علوم وأحاديث أخرى لم يقف عليها مالك، فخالفه في بعض المسائل، ثم جاء بعده الإمام أحمد، وتتبع مذهب الشافعي وحَرّره، فكَانَ المذاهب الثلاثة لذلك مذهباً واحداً .
وسمع رضي اللَّه عنه في كتاب قرئ عليه فيه: إن اجتماع أهل المدينة على أمر: إنه سنة، فقال نفع اللَّه به: أما قلنا لكم لولا أن سلفنا كانوا على مذهب الإمام الشافعي لأخذنا بمذهب مالك، وذلك لأنه من أهل المدينة، وأخذ بما اجتمع عليه أهل المدينة، ولكنا نظرنا في ذلك فما رأينا بينهما كثير خلاف، ومذهب الشافعي مذهب مالك .
أقول: وهذا يدل على أن سيدنا كان مجتهداً لا مقلداً.
(1/353)

وذكر رضي اللَّه عنه شأن الصلاة، فقال: من رأى صلاة الإمام مالك بن أنس، علم أنها السنة، لأن مسكنه المدينة، فرأى من اقتدى بصلاة رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فهو على الإقتداء به فيها، ويليه الإمام الشافعي، لأنه من مكة فهو على قدم الاقتداء، ولو كان الإمام مالك أقدم في السِّن، والحجاز محل الدين ومنه خرج، وهو الوسط فيها، والإمام أحمد أخذ بالاحتياط، والإمام أبوحنيفة أخذ بالعلم، وقول أهل الحجاز جواز السماع، أي الإمامان مالك والشافعي، وقول أهل العراق السكوت، أي الإمام أحمد وأبوحنيفة، قال: وينبغي أن يحفظ وحكاه عن أرجوزة أُلفت في ذلك .
وتكلم رضي اللَّه عنه في القُصَّاص فقال: كانوا يفتشون أحوالهم وينظرون ماذا جاء وماذا حدث، وقد ذكر الإمام الغزالي إن العلم نافع من حيث إنه ينفع به غيره، أي نفعاً غير نفع العلم( ) به، فيعلّم أحداً يكون يعمل بعلمه خالصاً به للَّه، كما إن أباسليمان( ) تاب لما سمع القُصَّاص، ولو عمل بلا علم ما نَفَعه ذلك، فمن هذه الحيثية، فَضُل العِلْمُ العملَ، ويوم تتأمل زمانك، ترى الناس في نزول ما هم في صعود، ولَوَنَّ واحداً منهم رأى كتاباً صُنِّف جديداً ما يعجبهم إلا من حيث يتنفس به، ولا يتأسف على أحد من الأكابر أنه ما أدركه لينتفع به، ومن الناس من تردَّد إلى الأخيار، فصار منهم، ومنهم من تردد إليهم، ولا حصَّل شيئاً، وإنما جعل مجالستهم كالعادة، وما ينفع السراج في الهبوب، فإنه يذهب ولا يبقى، وإنما ينفع مع القلوب، ويكون كالسراج تحت الصَّحْفة، وما عاد مقصود الناس أن يستمعوا ليعرفوا، وإنما مرادهم أن يعذروا أنفسهم، وكان بعض الناس من أهل تريم راح الهند، ومدة ما هو هنا ما جاءنا ولا تردد إلينا، فلما راح الهند طلب أن نحصِّل له "رسالة المريد" فتعرف أنهم إنما طلبوا الكتب لأهواء وأغراض، وقد قال الشيخ أبوبكر بن سالم :
(1/354)

ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته ... ومن صَدَّ عَنَّا حَسْبه البين والقلا
وكان الشيخ مع كبر حاله وبلوغه في السلوك، ما تبعه من الناس إلا القليل، وقد نفع اللَّه على أيدينا ناساً كثيراً أكثر ممن انتفع على أيدي من قبلنا، إلا إنه نفع على الطريق العام، الذي يضطر إلى نفعه الخاص والعام، الذي جاء فيه التفصيل عن اللَّه ورسوله، ويكفي الناس عن غيره ولا يكفيهم غيره عنه .
وقال رضي اللَّه عنه: لا ينبغي للطالب أن يبتدئ بمطالعة كتب الشاذلية حتى يطالع أولاً غيرها قبلها ويُحكمها، ككتب الإمام الغزالي، ثم يطالع بعد ذلك كتب الشاذلية، ليستفيد، فإن ابتدأ بها أولاً رَجَع يحتج بالأقدار، وبقي كلحم على وَضَمْ .
وقال رضي اللَّه عنه: الناس غافلون، وإلا ففي نفوسنا أشياء غامضة، لو رأينا أحداً يفهمها لأظهرناها وبَيَّناها لهم، لكن لما رأيناهم ورأينا أحوالهم، قلنا لِمَن، وهذا ميراث لنا من سيدنا علي، فإنه قد شكا ذلك، إلا أن الميراث كلما طال الزمان ضعف، وقد سمعنا فيما بلغنا عنه، أنه لما ازدحمت العلوم في قلبه، وشكا من عَدَم من يحملها عنه، أتى إلى بئر وتنفس فيها، ففاض منها الماء على جوانبها، فنبت على جوانبها من ذلك شجر اليرع .
وقال رضي اللَّه عنه: العلوم لها مقار ولها ناس، فإن وقعت في أهلها فذاك، وإلا صارت كالهزل، وإن كانت في الأصل جدًّا، ومن العلوم ما هو كالرَّوَط( )، وهي التي توضع مع غير أهلها، وينبغي للعالم أن يستصْلح نفسه أولاً، ثم يستصْلح العامة .
(1/355)

وقال رضي اللَّه عنه: كان الأولون قريبين المرتبة من النبوة، ما بينهم وبين النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إلا نحو ثلاثة أو أربعة، والمتأخرون إنما اقتضبوا من كتب الأولين، وأما اليوم فقد بَعُدَ العهد جدًّا، حتى قال السيوطي: وأين العلماء والعلم، فما عاد بقي علم، والعمدة ما في الكتاب والسنة، وما خالفه فلا تتوقف في رَدِّه، وما أشكل عليك فَكِلْه إلى قائله، وما ثبت عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فهو أحق أن يُتَّبع، وما لم يصح فخذ فيه بالأرجح، وإن لم يكن ترجيح فاجتهد إن كنت من أهل الاجتهاد وإلا فخذ بما رَجّحه أحد من أهل الاجتهاد .
وقال رضي اللَّه عنه: الحسد لا يترك صاحبه يقرّ بالحق، فمن في قلبه حسد، إذا قلت كلمة وأنت فيها صادق، قال لك: تكذب، قبل أن يتعرف صدقك، فلا يدعه دخان الحسد من التوقف حتى يتبين الأمر . وإجمال الأمور: إن كلما قَبِلَه الكتاب والسنة هو الحق، وما لم يقبلاه هو الباطل، وما المقلَّد إلا رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وإنما اختلفت الطرق عنه من حيث الصحة والضعف من جهة الإسناد، فإذا رأوا أحداً حدَّث بحديث مرتين واختلف لفظه فيهما، أو رأوه ينشد شعراً خالياً ونحو ذلك ضَعَّفوه، وتكلموا( ) فيه، وقد قال بعض أهل الحديث: إنا لنتكلم على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة، وهذا لأن المبتدعة قد فعلوا إسنادات، بعضها على متن صحيح، حتى يوصلوه إلى الإمام جعفر الصادق أو غيره من أهل البيت،وبعضها على كذب على مقتضى أقوالهم ومذاهبهم الباطلة.
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي في هذا الزمان أن المطلوب هو الذي يدوّر للطالب ولو هو خلاف ما عليه السلف، وليحصل له التذكر، لأنه لولا المذاكرة نسي، ولأجل الثواب.
وقال رضي اللَّه عنه: كانوا يكون للواحد مشايخ كثيرة، وإن اختص بواحد واشتهر نسبته إليه، لأنهم إذا لحق أحدهم أحداً صحبه وأخذ عنه، لأنهم إنما يأخذون العلم .
(1/356)

وقال رضي اللَّه عنه: السائل المتعنت لا يبارك له، ومن حين يأتي والشيطان يلقي في أذنه ما ألقاه في آذان المنافقين بحضرة رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إلا أن أحوال النفاق مختلفة، فحالُ متعنت، وحالُ منافق، ثم ذكر قصة الخليل بن أحمد لما جاءه السائل المتعنت وسأله، فسكت وفكر في جوابه، إلى ستة عشر قولاً، ولم يجبه، وقصة الشيخ عبدالقادر والذين معه لما دخلوا على ذلك الولي الذي يختفي متى شاء، وقصتهم مشهورة .
قف على ما قال في نظمه
(1/357)

وقال رضي اللَّه عنه: ما لنا في الشعر رغبة البتة، وإلا فنحن قادرون على ذلك، لو أردناه لفعلنا نحو ثلاثة مجلدات، ولكنا لما رأينا خصوصاً في هذا الزمان، الناس في غفلة جدًّا حَثّنا ذلك على شيء منها( )، لأنها تشيع في العامة وغيرهم، فعسى أن تُنَشِّط عاملاً، أو تُيَقِّظ غافلاً، وفيها الوعظ والتذكير وغير ذلك، ولعل أن تَرُدَّ أحداً إلى الإقبال على اللَّه، ومن طبعي أني لا أذوق بنظم أحفظه، ولم يبق في الحفظ شيء مما نظمناه، حتى لولا نسمع من ينشد به لما عرفناه، وإذا حدثت في الذهن شيء من القصائد لا نكتبها، فإذا أخذت مدة ولم تَزُل عن الخاطر كتبناها، وفي شهر رمضان لم يمكنِّي أن أفعل شيئاً من النظم، ولو بيتاً واحداً، وقد تكلفت ذلك فيه فلم يمكن، وأما في غيره فلا يعسر علي متى أردته منه، ولم يحصل منا في رمضان شيء من المؤلفات إلا رسالة المريد والراتب لا غيرهما، والإتحاف( ) ابتدأنا فيه في رمضان من سنة 1073، وتم في ذي الحجة، ثم ذكر من استملى منه كتبه، وهم مذكورون في غير هذا الموضع، ثم قال: وهذه الأشياء حمدنا اللَّه عليها، وقد كانت في معرض فسحة، نجمعها لهم من كتب شتى، ولا هم داريين به، وما أنا خائف من جمع ذلك إلا من الديوان، لأنه يُري الإنسان أشياء يظهر كأنه ذائق لها، كما من ذكر عن أحد أنه يوبخ نفسه، أنت كذا كنت كذا، فترى الإنسان منهم يقول شيئاً ثم ينكره، ويقول: ما قلته، فهذا قد كان بلسان الحال، قد كان ثم راح منه، لكنا نوينا في الديوان: أن كل ما قلناه مما لم نكن متلبسين، على لسان من هو له أهل ومتلبس به .
(1/358)

وقال رضي اللَّه عنه: ما يوجد في نَظْمنا مما يخالف قواعد النحو فهو مما أنشأناه قبل القراءة لنا فيه، وقد مضى على الإخلاص، ثم إنا لا نغير منه شيئاً لأجل الفصاحة، إلا إن كان يتغير منه المعنى، وقد قال بعض العارفين: أعربنا في ألسنتنا فلم نلحن، ولَحَنَّا في أعمالنا فلم نعرب، ومرة قال: إن الصالحين يكثر لحنهم في قصائدهم لذهولهم، وإن كانوا فصحاء ونحاة، وربما تبينوا بعد ذلك شيئاً من اللحن، فلا يصلحونه لمُضِيّه على الإخلاص، وإصلاحه ربما عرض فيه رياء .
وقال رضي اللَّه عنه: وربما خطرت لنا الأبيات فنذكر الإعراب فنتركها، وإلا فتعرض غير معربة، ولا حاجة لنا بالنظم ولا بالإعراب، ولما أنشأنا الرائية التي في الشيخ عبدالقادر، وكنا أنشأنا فيه أبياتاً على نمطها، فلم يتم لنا ذلك، ثم إنا في هذه الأيام احتجنا إليها لأمر مهم، وقد فعلنا في الفقيه المقدم والعيدروس أيضاً قصائد لأجل أمور أسهل من هذا، وأما هذا فهو في بلادهم، فلم يحتاجوا إلى التنبيه، وهم أشد غَيرة منا عليها، وأما السيد عبدالقادر فلم نكن ببلده، ولأن لنا به اتصالاً من حيث رحم أهل البيت وغير ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: إن الشيخ عبدالقادر رضي اللَّه عنه من الذين أُذِن لهم في الظهور، المكرهين عليه، وهو من ذوي الغارات الظاهرة، حتى إنه كان ذات يوم يتوضأ فاستغاث به مستغيث قد نزل به العدو، فخلع قبقابه في الحال فضربهم بها، ثم الأخرى كذلك، فوقعت كل واحدة في واحد من مشايخ العدو، فَفَرَّج اللَّه عن أولئك ببركته، ثم إنهم أتوه بالقبقابين وقد رأوا عليهما رطوبة الماء، وكان بينه وبينهم حينئذ مسافة أيام متعددة .
وقال رضي اللَّه عنه: إنا لم نحتج لتسويد عند إنشاء قصيدة أو تصنيف كتاب، كما يُعتَاد، بل مسودتنا هي المبيَّضة، لا اختلاف بينهما، إلا إن أشكلت كلمة على من يرى، أبدلناها بأوضح منها .
(1/359)

وأنشد بين يديه رضي اللَّه عنه بقصيدته التي مطلعها( ): قل للذي جد بالأظعان يا حادي، فقال نفع اللَّه به بعد تمامها: هي من قديم القصائد، فإن لم تصح لنا( ) فهي على لسان من تصح له، وكذلك كل ما هو بهذا المعنى .
وقال رضي اللَّه عنه: يقال مِنْ أحسنِ نعم اللَّه على الإنسان في الدنيا ثلاث: أن يرى ولد ولده، وأن يأكل من غرس يده، وأن يُنشَد بين يديه بشعره، وقد حصلت لنا كلها بحمد اللَّه .
وأنشد عنده بقصيدته( ): بشر فؤادك بالنصيب الوافي، الخ . فقال نفع اللَّه به عند قوله (راحُ اليقين أعز مشروب لنا): الراح والكأس ونحو ذلك مما يذكر في كلامهم، المراد به اليقين .
وأنشد عنده أيضاً بقصيدته( ): قل لأحبابنا بسُوح المقام . فقال رضي اللَّه عنه: لا تخلو أبيات من هذه القصيدة من زحاف، بالنسبة إلى هذا البحر، لأن ما لنا كثير نظم فيه( )، وعادتنا إذا اطلعنا على رِكّة في بعض القصائد بعدما أنشأناها كذلك لا نتكلف إصلاحه، وربما فعلنا ذلك بالقصد، قال: وفيها أشياء ما توجد في الرائية، من فصاحة وغيرها، ولو شرح هذه الأبيات عالم منصف، خلي عن الحسد والمنافسة، لأتى فيها بجميع مناسك الحج، ولا ينافس الإنسان إلا أصحابه( ) .
وأنشد أيضاً بقصيدته( ): الناس في ضيق وفي حرج . فلما فُرغ من إنشادها، قال نفع اللَّه به: اللسان الآن غير اللسان في ذلك الوقت، فيختلف اللسان، وإن كان اللسان الحسي واحداً، فلسان الحال ولسان الوقت ولسان الداعي وأمثال ذلك، فربما يتكلم في البداية، وفي النهاية كلام آخر، وربما تكلم في وقت بكلام يستحسنه، ثم يكرهه في وقت آخر، وربما أنكره، كل ذلك لاختلاف الألسنة المتقدم ذكرها، أو كما قال بمعناه .
(1/360)

وعندما أنشد عنده بقصيدته( ): يا جيرة الحي عليكم سلام . قال رضي اللَّه عنه: هذا ومثله من نداء النفس للروح وخطابها معه، ويفعل ذلك المتغزل لحصول النظم، ويذكر نُعمان، وهو المكان الذي أخذ اللَّه فيه العهد على بني آدم ليصرف وَهْمَ السامع عن ظن كون ذلك في الحضرة الإلهية أو النبوية وهو دون ذلك إذا ثَبَتَتْ وهو دونها، لتنزهها عما يوهمه الغزل .
وقال رضي اللَّه عنه لبعض الفقراء: طالع في كتاب مقال الناصحين لباجمال( )، فإنه مليح، فقال: إني أطالع في تفسير البغوي، فقال نفع اللَّه به: البغوي، والإحياء، والبخاري، وهذه الكتب الكبار كالمدن الكبار والأمصار إذا دخلها الإنسان يحير فيها، فيحتاج إلى من يعرّفه، وأما الكتب الصغار فهي كالقرى الصغار، ينبغي أن يدخلها الإنسان يتنفس فيها، فينظر إلى ما يعجبه ويستحسنه، وتلك يدخلها بعض الأحيان، ويأخذ ما يستحسنه من هذه ومن هذه .
وقال رضي اللَّه عنه: من يقرأ القرآن لا يمكنه أن يقول بالجهة، فيفرق بين معراج النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وتكليم اللَّه سبحانه لموسى عليه السلام من الشجرة، لأن الأمور الإلهية لا يدركها أحد، وما أوهم إشكالاً من كلام المحققين، فلا ينبغي أن يسارع إلى الإنكار عليهم، بل يدَعهم، ويسعهم الكتاب والسنة، ويجعلها من قبيل المتشابهات الواردات في الكتاب والسنة، ولِمْ جاءت هكذا حتى احتاج الناس فيها إلى التسليم، وإما إلى التأويل .
وقال رضي اللَّه عنه: التغزل في اللَّه ورسوله لا يجوز، ومن فعل ذلك يكاد يكفر، وإنما هو في الروح والنفس، فما كان من ذكر المطل والخلف والجفا، ونحو هذا فهو تغزل في النفس، لأنها موضع القساوة، وما كان من ذكر الوصل وذكر اللطافة والأنس ونحو ذلك فهو في الروح .
(1/361)

وذَكَرتُ له رضي اللَّه عنه: إني رأيت في الحسا، في كتاب "الغنية" للشيخ عبدالقادر، ما يشبه كلام المجسمة، فقال نفع اللَّه به: اطلب ذلك الكتاب وأسمعنا ما رأيتَ، فطلبته من عند السيد عبدالرحمن بن عبداللَّه بلفقيه( )، وأسمعته ذلك، فلما سمعه أقَرَّه، وقال: لا بأس به، وفي كلامه من السعة أكثر مما يسعه ظاهر الآيات والأخبار، فليحمل أقل ما في الحال على ما يحتمله ظاهر الآيات والأخبار، لأنه الظاهر، أو قال: الأصل أو كلمة نحوها، وإنما صرف عنه بالتأويل، واللغة واسعة، فلا حرج، وشأن الأمور الإلهية وذِكْرها في العلو أعظم شأناً منه في السفل فأين ما يوصف به السماء السابعة وما حولها وبأن سكانها الملائكة على طبقاتهم، مما يوصف به الأرض السافلة، وأن سكانها الجن، وإحاطة علمه تعالى بكل شيء، لا يفيدهم شيئاً، وأين الأمور الإلهية من قياس العقول، قلت له: إن الأشاعرة في تلك الجهات يقولون، إن مثل هذا الكلام مدسوس على الشيخ، فقال: هذا إن صح عنه( )، وإلا فقد دُس على الشعراوي في كتبه، وذلك غير بعيد .
وقال رضي اللَّه عنه: التنزيه على قسمين، قسم أضافه الحق إلى من لا إيمان له من المشركين والملحدين، وقسم نَزَّه نفسه عنه من غير أن يقع، فربما يقع في خاطرٍ شيءٌ فنفى ذلك.
(1/362)

وقال رضي اللَّه عنه: إذا أردت أن تنفي الجهة في حقه تعالى، وتعلم أنه غير محتاج لجهة، فأثبت حدوث العالَم، فإذا ثبت فلا خفا في ذلك، فأين كان قبل وجود الموجودات، وأين يكون عند قيام الساعة، وعندما يطوي السماواتِ والأرضَ بيمينه، فيعدمهما، فيُعْلَم غناه عن الجهة، فأين كان قبل ذلك وبعده، وقد يُغلط في لفظ الشمال في حق اللَّه سبحانه، من يقول له شمال، وإن كان قد جاء في بعض الأحاديث، وإنما كلتا يدي ربنا يمين، اليمين الكبرى بها فضله واليمين الأخرى بها عدله، فلا يوصف بشمال، وكذا يقال فوق الفوق، وفوق التحت، ولا يجوز أن يقال تحت التحت، لأنه فوق كل شيء، والأمور التي لا تدركها العقول كثيرة، منها ما هو في الوجود، ومنها ما هو في القدرة، لم يبرزه اللَّه سبحانه، ولا يعرف الإنسان منها إلا ما يألفه، فيقيس عليه ما يقرب منه، وأما ما لا يعرفه ولا يألفه طبعه، فلا يعرفه أصلاً ويرى ما عداه محالاً، وما لم يره أو يعلمه لا يمكنه أن يتعقله، فخل الخوض في الحق( )، وانظر إلى الملائكة، إنما غذاهم الذكر، لو قيل حي لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، يقال: ما هذه الحياة؟، وكيف تكون؟، ويستبعده، وكذا الجنة حيث يقال: طولها كذا، وعرضها كذا، وصفتها كذا، فإذا استبعد يقال له: نعم، لو كان ذلك في هذا العالَم الضيق، وهنالك عوالم شتى، منها ما هو في الوجود، ومنها ما هو في القدرة .
(1/363)

وسمع رضي اللَّه عنه شيئاً من كلام ابن الفارض فيه غزل، فقال: هذه الأمور لما كانت في أوصاف المخلوق، أنكرها عليه بعض الناس، ظنوا أنه يريد بها الخالق، وهذا خطأ منهم، لأنه لما كان ذلك في وصف الخلق، تبين أنه ليس في الخالق، فإذا صرح المخلوق بالمخلوق، فهو بالمخلوق أحق، وأجاب عنه بعضهم ممن يقول بالشاهد، بأن ذلك في النور الساري في المخلوقات، وهو من نور اللَّه سبحانه، وكل هذه أمور باطلة، قال: وفي نظمه فصاحة وملاحة ورقة، كأنه كان متمرناً عليه، وفي نظم الطرائفي وغَزَلِه مثله، ويقول عند التخلص رجعت عنه، فمثل هذا يبريهم ويفيد غيرهم، ويسمى هذا التشبيب، ومثله في كلام ابن علوان، لأنه كان مجتهداً في علم الأدب، ليكون في مرتبة أبيه عند الولاة، ثم ذكر قصة جذبه، كما ذكره في "طبقات الخواص"( ) للشرجي، وكثيراً ما يذكر آل طه، وآل يس حتى توهم بعض الناس أن له نسباً حسياً في الأشراف، ومرة قال: كان أبوه حسن الخط، فخط كتاب "البيان" ووصل إلى بغداد، فتعجبوا من حسن خطه، فقال بعض أهل تلك الجهة: ما حسبنا أن في اليمن إنسان، حتى جاءنا البيان بخط علوان، وكان مؤلفه( ) من أهل اليمن، قال اليافعي في تاريخه: إنه ممن يقول بذلك القول من الشافعية .
وقال رضي اللَّه عنه: النظم تحن إليه الأرواح أكثر مما تحن إلى النثر، بشرط أن يكون السامع مجرداً عن الهوى، لئلا ينزل الأشياء على أغراضه، وقد سأل الشعراويَّ الجنُّ عن مسائل، فأجابهم وجعل الجواب نظماً، فقيل له في ذلك، فقال: لأنهم يطربون إلى النظم خيراً مما يطربون إلى النثر، ولا يجوز تنزيل الغزل على الحضرة الإلهية، ولا ما فيه الخُلْف على النبوة، بل ما كان فيه الوفاء والمدح على الروح، وما كان فيه الخُلف والجفا والمطل على النفس، لأن هذا طَبْعُها .
(1/364)

وأمر رضي اللَّه عنه منشداً ينشد، ثم قال: كل ما في النَّظم من المدح، فنَزّله على الروح أو الكعبة أو الجنة، وكل ما كان فيه من الذم، فنَزّله على النفس والدنيا، والحذر من تنزيله على ما تنزله العامة عليه، من كونهم ينزلونه على الحق سبحانه، أو على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فهذا لا يجوز، فإذا صرح المخلوق بالمخلوق، فهو بالمخلوق أقمن وأحق، ويكون في معشوق حلال، وإن احتمل ذا وذاك فيمكن حمله على شيء من الحضرات الإلهية .
وذَكَرَ رضي اللَّه عنه: أن لابن عربي نظماً، ثم قال: لكن يرتفع في نظمه، وآخرون وإن كان معهم حقيقة، يتنزلون في نَظْمهم للناس لقوله عليه السلام( ): (( كلموا كل إنسان بما يعلم، أتريدون الخ ))، وهذه الأشياء من علوم الحقائق، يستحبون بها لكونها لا تتعلق بعمل ولا حكم، ومن حق النظم أن يكون في وعظ أو تذكير، أو حَثّ على خير، أو تحذير من شر، أو تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة .
وقال رضي اللَّه عنه لبعض المنشدين: ما فيه ذكر النساء وأوصافهن أنشده في محاضر الأعراس، وما كان فيه غَزَل ونحوه في مجالس الضيافات، وما فيه ترغيب في خير، أو مدحٌ للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وما جرى مجرى هذا، ففي مجالس الأخيار .
وقال رضي اللَّه عنه: إن أبا مخرمة قصد السودي، واجتمع به، وكان إذ ذاك قد حصل في حضرموت قحط شديد، فأنشأ السودي فيه هذه القصيدة، مكاشف له :
( غُرَيِّبْ مُطِّرَتْ بلادك )( )
، والشيخ يعني بامخرمة، قد يفعل قصائد على ألسنة العامة يطلبون ذلك منه .
وذُكر عنده رضي اللَّه عنه يوماً السودي وبامخرمة، وقيل: كان وقتهم صالحاً، كثير الخير والأخيار، فقال: كان في وقتهم سحاب يمطر عليهم، وأما الآن فكما قال الجنيد لما قيل له: ألا تفعل السماع؟، فقال: لمن؟، فقيل: لنفسك، فقال: مع من؟، وهذا لأن الأشياء إنما هي في أوقاتها ومع أهلها .
(1/365)

وقال رضي اللَّه عنه: الغَزَل حجار الأساس يُبنى عليه النظم، ولا يحسن النظم إلا بالغزل، وقد جَرَت به عادة العرب، ولا بد فيه من ذكر أوصاف النساء، ولما كان العشق إنما يعرف في النساء، حتى جرت العادة بالتغزل فيهن، جرت عادة الصالحين أيضاً في قصائدهم بالتغزل بهن، وإن كان مقصدهم غير مقصد غيرهم، وقال لي رضي اللَّه عنه يوماً: أنشد، فأنشدت بقصيدة ابن علوان: ألا عرِّج أضاء لك السبيل ـــ وبعدها بقصيدة سيدنا: اللَّه لا تشهد سواه ولا ترى ــ الخ فلما فرغت منها أنشد هذا البيت :
واللَّه أكبر من إشارة عالم ... اللَّه أعظم من إشارة عارف
وهذا البيت أيضا:
وكل إلى ذاك الجمال يُشير ... عباراتنا شتى وحسنك واحد
ثم قال نفع اللَّه به: إن الحوت إذا غار عنه الماء هلك، وعكسه الضب إذا وقع في الماء مات، وذكر النظم المقول في ذلك وهو :
فكم تلبث النفس التي أنت قُوتُها ... إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها
يعيش ببيداء المفاوز حوتها ... ستبقى بقاء الضب في الماء أو كما
فقلت: قولكم: اللَّه أكبر غار بحر الحوت، هو إشارة إلى ماذا؟، فتبسم ضاحكاً، وسكت قليلاً ثم قال: ولما تجلى الحق لموسى كيف كان حاله؟، إلا خر صعقاً، والجبل صار دكَّا، وأهل الحق يرمزون في النظم، ويشيرون فيه إلى أسرار وأمور تقع في خواطرهم لا يمكنهم التصريح بها، ولكنهم يتنفسون بمثل ذلك، ويتسلَّون به .
(1/366)

وقال رضي اللَّه عنه: العلم دليل الفعل، فإن لم يكن فعل( )، فهو خسارة على الطالب والمطلوب، والأحسن للمحترف إذا لم يسهل عليه أن يعمل بما في البداية( )، أن يعلم بما يَدُلُّه من علوم الإيمان( ) وعلوم الإسلام( )، ويشتغل بحرفته، ويترك طلب العلم [ أي ما زاد على الواجب ]، ويَسْلم من خَطَره، ويَدَعه على غيره، سواء كان برًّا أو فاجراً، فإن قدر أن يعمل بها فليطلبه، فإن العلم يزيده خيراً، وإلا فمن عجز عن القليل، فلا شك أنه عن الكثير أعجز، وفيها( ) ميزان عجيب، أو قال عظيم، ذكره مصنفها فليجرب نفسه به .
وتكلم يوماً رضي اللَّه عنه كلاماً على أهل الجهة وعوائدهم ثم قال: هذه أوعية ملآنة، ما عاد تقبل التعليم، فأين يُطرح فيها .
وقال نفع اللَّه به: الغلو مذموم، لأنه يولد غلوًّا في الجانب الآخر، فالغلو يولِّد غلوَّاً، والتفريط يولِّد تفريطاً .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( العلم لا يحل منعه ))، أي لأهله، أو العلم الواجب من كيفية الصلاة والطهارة وأمور العبادات، لأن العلم أنواع، شيء يبذل لعامة الناس، وشيء للخصوص، كالمال ينقسم إلى جهات مختلفة، شيء منه لأهل الخُمُس، والفيء، وشيء للفقراء والمساكين، وغير ذلك .
وسألته رضي اللَّه عنه عن حديث( ): (( يستوفى للقرناء من الجماء ))، فقال نفع اللَّه به: لعل ذلك مبالغة، ويبقى هذا على ظاهره، لأن ذلك في قدرة اللَّه تعالى، وأمور الآخرة كلها تمر على ظاهرها، ولا حاجة فيها إلى تأويل شيء، إلا إن كان حديثاً واحداً، واحتيج إليه، فإن كان وردت أحاديث عند ذلك على معنى يترك( )، ويجعل من الأمور السمعيات، لأنها عند أهل العلم لا تؤول، وقد جاء تخصيص بعض الحيوانات بدخول الجنة، ولكن ذكر الإمام الغزالي: أن من ظَنّ أن اللَّه تعالى سيحيي كل بقة وبعوضة حتى يسألها، فقد انحل عن غريزة العقل، فلعل ذلك إنما هو في حيوان له خطر.
(1/367)

وقال رضي اللَّه عنه: إذا كان فضيلة في النفس سَهُل على الإنسان تناولها في أقرب وقت، وحصل له الفتح كما كان ذلك للإمام الغزالي حتى صنف في وقت شيخه إمام الحرمين .
وذكر رضي اللَّه عنه جماعةً اجتمعوا في الطلب، فقال: إذا كان شيء مناسبة، حصل الإتحاد كالماء مع اللبن، والماء مع الدهن، وإن كان إلا كالعود مع الماء لم يحصل .
وقال رضي اللَّه عنه: ما العلم إلا معرفته والعمل به، وتعليمه لمن تأهل، وإلا كان متلاعباً بالدين، والدين أعمال واتصاف، فيطالب نفسه بالعمل، فمن لا ينصح نفسه، ما نصحه الناس، خصوصاً في هذا الزمان المبارك، لو رأوك تسيء الصلاة، وعرفوا أنك لا تقبل، ما كلمك واحد.
وقال رضي اللَّه عنه: قولهم: إذا ضاق الأمر اتسع، هو أن اللَّه هو الذي يضيقه، وهو الذي يوسعه، ما هو أنت، فإذا ضيقته من حيث الأعمال، فاذهب إلى أهل العلم يعرّفونك، وقد قال بعضهم في المعاملات: معاملة الحق بالحقيقة والسنة، ومعاملة الخلق أيضاً بالحقيقة والسنة، ومثلوا لذلك بقصة صاحب الدَّين الذي جعله في الخشبة ورماها في البحر، ثم بعد ذلك سافر إليه بدَينه، فهذا عمل بالحقيقة والشريعة، ومعاملة الحق بالحقيقة فقط، ومثلوا له بحال أصحاب الغار الثلاثة، يتوسل كل منهم بأصلح ما علم من عمله الصالح في انطباق الصخرة عليهم، ومعاملة الحق والخلق بالسنة، وأما الذي يعامل الخلق بالظلم، فلا تبالي بما يقع له، فإنه لا يموت مستور الحال، لتهاونه بأخذ أموال الناس، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: قولهم: فيها أفلاك، يحذفون الكلمة، ومعنى ذلك فيها أفلاك دائرة، يعني تدور عليك بما تحب، بعدما كنت فيما تكره .
% % % % %
وبفضل الله سبحانه وتعالى كان هذا نهاية الجزء الأول من كتاب تثبيت الفؤاد . فله الحمد أولاً وآخراً .
وتتميماً للفائدة ننقل ماوجدناه مكتوباً على ظهر بعض النسخ التي تمت المراجعة عليها:-
(1/368)

1 - الموجود على النسخة الأم، نسخة الحبيب أحمد بن حسن الحداد :
وكان الفراغ من نساخة تحريره بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء 19 جمادى الأولى سنة 1170 على يد العبد الفقير إلى الرب القدير، المعترف بالقصور والتقصير، الراجي لعفو الله الكريم الجواد، الشريف أحمد بن الحسن بن عبد الله بن علوي الحداد عفا الله عنه وعن والديه وأحبابه والمسلمين، ( أي وعمره - أي الحبيب أحمد بن حسن - إذ ذاك 44 سنة، حيث كان وجوده في شوال سنة 1127هـ ) . وأفيدك أيها القاريء الكريم: أن الإمام المدقق الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد، قد قرأ هذه النسخة وراجعها وحققها، فقد وجد بخطه مايلي :- قرأ في هذا الكتاب، تثبيت الفؤاد بذكر مجالس الحبيب عبدالله الحداد - علوي بن أحمد بن حسن بن عبدالله الحداد باعلوي أول قراءة فيه، وثانية، وثالثة، على جده القطب العارف بالله الحسن بن سيدنا الغوث عبدالله، جعل الله في ذلك البركة والعاقبة الحسنة آمين . ثم قرأ فيها الحبيب عبدالله بن علي الحداد، وكتب مايلي :- بلغ مقابلة على الأم المنقول منها التي هي بقلم الحبيب أحمد بن الحسن بن الحبيب عبدالله الحداد حسب الطاقة والإمكان نحن والمحب المنور أحمد بن عبدالرحمن عقبة الشبامي بتاريخ 13 شهر رجب الأصب سنة 1313 هجرية . قال ذلك وكتبه الفقير إلى ربه عبدالله بن علي الحداد عفا الله عنه آمين . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . ثم طالع في تلك النسخة الحبيب علوي بن محمد الحداد، وكتب مايلي :- طالع في هذا الكتاب الفقير إلى ربه الجواد، علوي بن محمد بن طاهر بن عمر الحداد، رزقه الله الإنتفاع بما فيه، وغمر بفيوض المعارف واديه، وجعله وذويه من المتبعين للحبيب الأمين . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الميامين . وأسأل من الواقف على هذا الكتاب أن يدعو لي بصلاح ظاهري وباطني، وكمال الإتباع للحبيب وآله، وكمال اليقين والتمكين ،
(1/369)

والإنتظام في سلك الصالحين، وبحسن الختام، والوفاة على الإسلام .
فأعظم بها من نسخة، كتبها وحررها الحبيب أحمد بن حسن الحداد، ثم راجعها وقرأها مراراً الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد على جده الحبيب الحسن بن عبدالله الحداد، فأكرِمْ بهم من قاريء ومستمع . ثم الحبيب عبدالله بن علي الحداد، ثم طالع فيها الحبيب علوي بن محمد بن طاهر الحداد .
2 - الموجود على نسخة الحبيب أحمد بن عبدالرحمن الحداد :
وقد تمت المراجعة على الجزء الثاني منها ومكتوب على ظهرها :- كان الفراغ من نساخة تحريره، ضحوة يوم الخميس 20 من شهر جمادى الآخرة سنة 1252هـ . بقلم الفقير الحقير، راجي عفو ربه الجواد، أحمد بن عبدالرحمن بن أحمد بن حسن بن عبدالله بن علوي الحداد . عفا الله عنه ووالديه، آمين . وأيضاً مكتوب عليها :- بلغ بقراءة الفقير إلى مولاه، علي بن حسن بن حسين بن أحمد الحداد، على والده في مصلى الحاوي، بعد صلاة العصر آخر جمادى الآخرة سنة 1254 هـ . وهي ملك الحبيب حسن بن حسين بن أحمد الحداد .
3 - الموجود على ظهر نسخة الحبيب الإمام، حجة المتأخرين: عيدروس بن عمر الحبشي :
(1/370)

... ... وكان الفراغ من نساخة تحريره، ضحوة يوم الثلاثاء 11 خلت من شهر رمضان المعظم من سنة 1293هـ . على يد العبد الفقير الحقير إلى مولاه، أقل العباد: علي بن حسن بن حسين بن أحمد بن حسن بن القطب الغوث عبدالله الحداد علوي، عفا الله عنه وعن والديه وأولاده وأجداده وأحبابه ومحبيه، آمين . وذلك بعناية محبه وخلاصته، الموفق عمر بن أحمد عبادي بنذياب، كان الله له عونا ومعينا، ووفقه لما يرضيه ويرتضيه ربُّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . ثم انتقل هذا الكتاب إلى ملك إبراهيم بن عمر بن أحمد بن عبدالله عبادي بنذياب، خاص له . وابراهيم بن عمر المذكور قد وهب هذا الكتاب بالهبة الصحيحة لسيدنا وبركتنا الحبيب القدوة البركة عيدروس بن عمر بن عيدروس الحبشي، وصار ملكاً من أملاكه، تقبل الله ذلك بمنه وكرمه،آمين. وذلك بتاريخ يوم الاثنين 26 خلت من شهر جمادى الأولى سنة 1301هـ . ثم صار إلى ملك الفقير إلى مولاه محمد بن عيدروس بن عمر الحبشي، عفا الله عنه .
... وعلى النسخة المذكورة أيضاً: تشرف وسعد إن شاء الله تعالى بمطالعة هذا السفر الجليل وسماعه، العبد الحقير علي بن محمد بن عيدروس الحبشي، وأنهى قراءته في شهر ربيع الأول سنة 1365هـ، رزقه الله كمال محبة قائله، والانتظام في سلكه، آمين . ثم انتقل إلى ملك الفقير عبدالله بن عبدالقادر بن أحمد الحداد، مشترى من الأخ علي بن محمد بن عيدروس الحبشي . اهـ.
(1/371)

ونحمد الله سبحانه وتعالى أن مَنَّ علينا ووفقنا لقراءة هذا السفر المبارك، وبذل الجهد لمراجعته على النسخ التي ذكرناها، وانتهى بنا المطاف على أن يكون الضبط والتحقيق على نسخة الحبيب أحمد بن حسن بن عبدالله الحداد (النسخة الأم)، وهي النسخة التي حققها الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد، حيث وجدناها في قمة الضبط، ومهمشة بفوائد وتدقيقات من قبل الحبيب أحمد بن حسن نفسه، وعليها عناوين المقالات . وتلك النسخة هي التي وجدت عند الحبيب البركة أبي بكر العطاس بن عبدالله بن علوي الحبشي، حيث تكرم بها علينا في آخر أيام حياته، فجزاه الله خير الجزاء، وقد كان انتقاله [ أي الحبيب أبي بكر العطاس ] إلى الدار الآخرة يوم الأربعاء 29 من شهر رجب عام 1416 هـ . فرحمه الله رحمة الأبرار .
... كما قام بتخريج بعض الأحاديث، وتوضيح معنى بعض الألفاظ الدارجة، وإسناد بعض الأبيات التي يستشهد بها إلى قائلها - السيد عبداللاه بن علي الحبشي، فجزاه الله خيراً .
كما تشرف وقام بنساخة السفر، ومزيد المراجعة السيد عدنان بن يحيى بن أحمد العيدروس .
وكان الوقت المخصص للمراجعة والقراءة، هو مابين صلاة الصبح إلى الإشراق من كل يوم إلا يوم الجمعة . وكانت المراجعة بمساعدة ومجهود كل من الشيخ المحب محمد بن سالم بن عبدالله الخطيب، والشيخ المحب أبي بكر بن زين بن أبي بكر الراقي بافضل . وقد استغرقت المراجعة قُرابة الخمس سنوات .
... ومن الجدير بالذكر: أن بعض الألفاظ تم إيرادها كما وجدت بالأم، لا كما ينبغي من حيث حركات الإعراب . كما أن هناك جُمَلاً تعد بالأصابع لم يتوضح لنا معناها، فأثبتناها كما هي بالأم . ونلتمس من كل من يجد ملاحظة نحو المراجعة من كل ما ينسب إلينا أن يفيدنا عنها مشكوراً .
(1/372)

... نسأل الباري جلَّتْ عظمته: أن يتقبل منا وأن يعفو عنا بمحض الفضل والجود والكرم، وأن ينفعنا ويدخلنا في دائرة الإمام الحداد، وأن يكفر عنا السيئات، ويرزقنا كمال الاتباع للرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يشمل بالمغفرة والدينا وأحبابنا وذريتنا وجميع المسلمين، وأن يعم نشر هذا الكتاب في أرجاء المعمورة ليعم به النفع إنه سميع مجيب. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . والحمد لله رب العالمين .
المشرف على المراجعة الفقير إلى الله الملك القدوس: يحيى بن أحمد بن عبدالباري العيدروس . عفا الله عنه . حرر في جدة صبح يوم الخميس السابع من ذي القعدة من عام 1418هـ. ومن يُمن الطالع أن هذا اليوم يوافق يوم وفاة الحبيب عبدالله بن علوي الحداد، حيث كان انتقاله في السابع من ذي القعدة من عام 1132 هـ - أي قبل حوالي 286 سنة - نفعنا الله به في الدارين آمين . والحمد لله رب العالمين . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
................................................................
آخر الجزء الأول من كتاب " تثبيت الفؤاد "
ويليه (إن شاء اللَّه) الجزء الثاني الذي أوله: (( ودخل عليه رضي اللَّه عنه السيد زين العابدين)).
(1/373)

فهرس الجزء الأول حسب العناوين
ذكر شيء مما نَوَّهوا به من وَصْفِه ... 3
اعتناؤه بمن تعلق به نفع الله به ... 19
انظر ما قال في سبب خمول الصالحين بتريم ... 43
ما قال في خمول السادة ... 44
ما قال في الإخلاص وعزته ... 36
ذكر ما يتعلق بالنساء ... 37
ذكر ماقال في مطالعة كتاب التنوير ... 39
ذكر ما قال في حرمان الرزق ... 42
انظر ما قال في الجهة الحضرمية ... 48
انظر ما قال في بلدان حضرموت ... 50
انظر ما قال في التشبه بالسلف واستدلاله بالحديث المذكور ... 50
انظر ما قال في فضل هذه الأمة ... 56
ذكر ما يتعلق بالرزق ... 71
كلمات تقال عند الوقاع ... 86
ما قيل في حسن الظن في غير محله ... 86
ما قال في القضاء والقدر ... 90
كلامه رضي الله عنه في الحسد ...
ذكر ما قاله في الإلباس ...
ما قاله من المقابلة لتصحيح النقل والتوصية بذلك ...
ما قال في من يرث الولي إذا مات ...
قصة أصحاب السفينة ...
ما قال في طلب المريد الطالب للقراءة ...
ما قال في آداب مطالعة الإحياء ...
ذكر العقيدة ...
معنى الطُرُق إلى الله ...
ما قال في التأني والعجلة ...
ما قال في الهمة ...
ما قال في طلب العلم ...
ما قال في الاغترار بالكرامات ...
ما قال في الخمول والشهرة ...
ما قال في انتفاع السادة بعضهم من بعض ...
ما قال في معنى حديث: إن الله جميل ...
ما تكلم به السيد أحمد بن زين على قصيدة سيدنا ...
ما قاله في النفس ...
مفاضلة الأولياء ...
ما قال فيمن ينتسب لابن علوان والرفاعي ...
ما قال في التواضع ...
قصة صاحب الشجرة ...
ما قال في العقيدة ...
ما قال فيمن له في العمل وجهان ...
ما ذكره عن السيد عبدالرحمن بن محمد الجفري صاحب (تريس) ...
ما قال فيما هو في وقت السلف ...
ما قال في كثرة من انتفع به ...
ما قال في باجابر ...
ما قال في الصغار وتربيتهم ...
ما قال في الخمول ...
حكاية الطبيب ...
ما قال في الذي يضيق من القراءة ...
ما قال في العدل بعد المائتين ...
ما قال في النفس ...
ما قال في الأمانة ...
المرأة لا تكون بدلاً ...
ما قال في القرآن ...
ما قال في الحِظاية ...
ما قال في الأمراء ...
ما قال في عدم قبول الملوك والأغنياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخلاف الفقراء ...
ما قال في كلام ابن الفارض وابن عربي ...
ما قال في تنزيل الغَزَل ...
ما قال في علماء الزمان ...
أخذ العلم من المتأهل ...
انظر طلبه أيام بدايته ...
ما قال في طبع النفس ...
ما قال في حديث النفس في رمضان والسجود ...
ما قال في سهر كل الليل في رمضان ...
مسئلة فقهية ...
ما كان يقرأ في السكتة ...
ما قال في المواساة ...
ما أشار به إلى وفاته ...
ما قال في محمل كلمة الصالحين ...
ما قال في طبع الصغر ...
ما قال في إنكار بعض العوائد ...
ما قال في المضطرب في المحنة ...
ما قال في الماء المسخن على النار ...
ما قال في شدة الشوق مع البعد بخلافه مع القرب ...
ثم ما قال في العراق ...
انظر ما أخبر عن حاله ...
ما قال في التروح والتنقل ...
ما قال في السادة آل باعلوي ...
فتن آخر الزمان ...
ما قال في الأدب مع المرموقين بالخير ...
ما قال في الصبْر ...
ما قال في القاضي ...
ما قال في ذم تمني البلاء ...
ما قال في كلمة لا إله إلا الله ...
ما قال في المهدي ...
تحري النية في الأمور المباحة ...
ما قاساه من أهل تريم، وقصة آل باكثير ...
ما قال في قوله تعالى: سنفرغ لكم، الآية ...
ما قال في عقائد أهل حضرموت ...
ما قال في بامخرمة ...
ما قال في طلب العلم ...
ما قال في الفئة الطاغية في الجهة ...
كثرة الظلم في حضرموت ...
ما قال في من قال من أهل الشطح ...
ترك الأدب في محله ...
ذم من يدخل وسط الجابية ...
معرفة موازين القرآن ...
ما قال في الذهن ...
تعزية وتسلية ...
ما قال في حديث أن لا تغضب ...
ما قال في معنى حديث: (( ما جلس قوم .. الخ )) ...
بركة لا إله إلا الله . وذكر العمود ...
ما قال في حديث الأئمة من قريش ...
معنى الحرفان المهملان ...
ذم الدعوى ...
المتخفي بكِبره ...
ما قال في معنى حديث: الناس معادن .. الخ ...
قوله: نصلي خلف كل بر وفاجر ...
تأويل تبجح الأكابر ...
ما قال في الإحسان ...
ذكر حجه نفع الله به ...
ما قال في السماع ونحوه ...
ما قال في تأني الحاكم ...
ما قال في القضاء والقدر ...
ما قال في ذم الدنيا ...
انظر ما قال في الرياء ...
انظر ما قال في سبب نزول المحن ...
انظر ما قال من الإشارة إلى سيل نجم الحوت قبيل مجيئه ...
وما قاله عنه بعد مجيئه رضي الله عنه ...
انظر ما قال فيما يدفع المحن ...
انظر ماقال في العلم وفي أهل العلم أو تفسير حديث ...
قف على شدة تواضعه لربه ...
انظر معنى الشكر ...
قف على ما قال في نظمه ...

* * *

تثبيت الفؤاد
بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد


جمع تلميذه الشيخ
أحمد بن عبدالكريم الحساوي الشجَّار

الجزء الثاني

                           الجزء الثاني
ودخل عليه رضي الله عنه السيد زين العابدين بن مصطفى العيدروس، وذلك يوم الثلاثاء سابع المحرم سنة 1131هـ فمما خاطبه به، بعد أن ذكر العلماءَ وتصانيفهم، فقال: نقلوا مسائل مقررة، وإنما زادوا مسائل قريبة، تَرْغيباً للناس في العلم، فَسَهّلوا لما رأوا الناس مالوا عن هذه الشاكلة، وراحوا إلى معاني بعيدة، كمن رأى مقبلاً ففتح له الدار، ثم قال له السيد زين العابدين: على رأيكم عسى غدوة بالأربعاء نسبّر( نبدأ) في المطالعة امتثالاً لأمركم، فقال: إن شاء الله، لأن مرادنا أن تكونوا على عادة سلفكم وأجدادكم، من اعتياد القراءة والتَّصدي لها، ولا تنقطع من بَيْتكم هذه العادة بالكلية، وشغل الوقت بما هو الأحسن .
أقول: وقدكان سيدنا أمرني أن أطالع مع السيد زين المذكور، في البخاري والإحياء ضحى يوم السبت ويوم الأربعاء في بيته فطالعنا مدة، فلما حصل على سيدنا مرضه الذي في هذه السنة المذكورة تركنا المطالعة، ثم لما خفَّ عنه استأذنه السيد زين في العود إليها، والابتداء من يوم الأربعاء المذكور، واستمرت بنا المطالعة إلى قرب وفاته رضي الله عنه .

Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد- Kitab Alhaddad10c"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip