//

تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-10a






تثبيت الفؤاد
بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد


جمع تلميذه الشيخ
أحمد بن عبدالكريم الحساوي الشجَّار


الجز ء الأول
{ أَلاَ إِنَّ أولياءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الذينَ ءَآمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }

                               المقدمة
الحمد للَّه على أياديه المتواترة، ونعمه الباطنة والظاهرة، وصلى اللَّه على سيدنا ومولانا محمد ذي المعجزات الباهرة، والأخلاق العظيمة الظاهرة، وعلى آله وصحبه أنصارهم والمهاجِرة .
وبعد: فهذا أنموذج يسير، مغترف من بحر تيار كبير من العلم العزيز الغزير، من كلام الإمام القطب الشهير، العارف باللَّه والدال عليه، حجة الإسلام وبركة المسلمين، غوث البلاد والعباد، أبي الحسنين( )، وإمام العارفين، الشيخ عبداللَّه بن علوي بن محمد الحداد باعلوي رضي اللَّه عنه ونفع به، مما جمعه ودونه فقيره وتلميذه الشيخ أحمد بن عبدالكريم الحساوي الشجار( )، بارك اللَّه له في ذلك، وبلغه ما أمله هنالك، إنه جواد كريم، وقد أحببت أن أنقل كلام سيدنا الحبيب برمته، مع تصرف يسير في تقديم بعض المقالات، أو تأخيرها إلى مقالة أخرى، وإذا كان في شيء من المكرر زيادة لفظة أو فائدة أثبته وحذفت المكرر العري عن الزيادة، وأذكر كلام سيدنا الحبيب نفع اللَّه به برمته إلا شيئاً يسيراً من كلام الحساوي المذكور، مع تلخيصه إذا كان له تعلق بكلام سيدنا الحبيب نفع اللَّه به، كما ستراه إن شاء اللَّه تعالى، قال الحساوي المشار إليه لطف اللَّه به، آمين :
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه وحده، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، قال العبد الفقير إلى كرم اللَّه الغني الكبير أحمد بن عبدالكريم الحساوي الشجار، سامحه اللَّه وعفا عنه :
هذه كلمات كلية نافعة، وحكم جُمَلية جامعة، وجواهر نفيسة غالية، ولآلٍ أنيسة عالية، وهي قريبة العهد من موطنها، طرية غَضة من معدنها، أخرجَتْها من بحر الحكمة الزخار أمواجُه المتلاطمة آناء الليل والنهار، حتى أَلْقَتْها( ) بأمر اللَّه على ساحله، فالتقطها من ظفر بها وكتبها من فاز بها بأنامله، وهي لعزتها قليلة الورود، عزيزة الوجود، سريعة الشرود، وكل كلمة منها توازن الدر عند الأحرار، وإن لم تكن لها قيمة عند الجهال الأغمار، إذ ما كل أحد يعرف قدر اللؤلؤ، لكن أهله، ومن عرف عزيز قيمته غاص له في البحار، حتى استخرجه من تلك القعار، ولكن هذه( ) للآدمي قدرةٌ على التوصل إليها، حتى يبلغها ويشرف عليها، وأما( ) الجواهر النفيسة العزيزة، فلا وصول إليها إلا إذا هبت رياح الأقدار، فحركت بحور قلوب أكابر الأولياء الأحرار، أخرجتها منها فألقتها على ساحل ألسنتهم فاحتفظها( ) من وجدها، وضن عليها من ظفر بها، وذاقها وعرف قيمتها من عرفها، وقد جاء في الخبر: عن عبداللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه: أنه قال: استأذنت رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أن أقيد ما سمعته منه، فأذن لي، فجاء عنه أنه قال: حفظت عن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ألف مثل، وحزروا أحاديثه التي رواها أربعة آلاف حديث( )، وقال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: كان عبداللَّه بن عمرو يكتب ولا أكتب، وكذلك قيد أصحاب المشايخ المتقدمين ما سمعوا من مشايخهم، كأصحاب الشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي اللَّه عنه، قيدوا ما سمعوا منه مما تكلم به على الكرسي وغير ذلك، فقُيد وجُمع في كتاب، سمي "جلاء الخاطر في كلام محيي الدين عبدالقادر"، وكذلك قيد عبداللَّه بن بدر الحبشي ما قيد به( ) كلام الشيخ ابن عربي، مما تكلم به في مجالسه وأوقاته، وما خاطب به غيره، وما فصله من علم أو شرح لكلام مَنْ تَقَدَّمَه أو تحدث به مع أصحابه، أو شئ مما فيه فائدة، فإذا كان الأمر كذلك ،
(1/2)


ففي أولئك قدوة وأسوة حسنة، لمن حذا حذوهم واقتدى بهم، وكانوا له حجة، فإني قد جمعت نبذاً مما قيدته من كلام سيدنا وقدوتنا، ومَنْ عليه بعد اللَّه ورسوله عمدتنا، السيد الشيخ الإمام القدوة للخاص والعام، قطب الأقطاب، ونخبة الأولياء الأحباب، سيدي الحبيب عبداللَّه بن علوي الحداد علوي، رضي اللَّه عنه ونفعنا ببركاته وأسراره في الدنيا والآخرة، مما تكلم به في مجالسه أو شرحه وفصّله في بيان مسألة، أو على حديث أو أي معنى مما سمعناه منه، فإنه لسان حال الوقت، وقطب العصر وإمام الدهر، وقدوة هذا الآن، ومقدم هذا الزمان، كما أجمع على ذلك أهل الظاهر وأهل الباطن، وأهل الشريعة وأهل الحقيقة، وأنه المجدد للدين في وقتنا، وحامل سر الحق فيه، وحامل اللواءين، لواء الشريعة ولواء الحقيقة، المشتمل عليهما مقام القطبية، وأنه لا يحمله عنه بعده من كل الوجوه إلا المهدي، كما قال رضي اللَّه عنه مراراً: عندنا أمانة لا يحملها إلا المهدي، وستقف على تحقيق ذلك في هذا النقل عن كبار المحققين، من أهل الظاهر وأهل الباطن، وأهل النقل وأهل العقل، من المكاشفات المحققة لذلك، والمرائي الصادقة، والعلامات الدالة القاطعة به .
(1/3)


ذكر شيء مما نَوَّهوا به من وَصْفِه
قال السيد الكامل العارف باللَّه محمد بن عبدالرحمن مديحج باعلوي( ) رضي اللَّه عنه، وكان من أكابر العارفين، وأهل الحقيقة واليقين: كلام السيد عبداللَّه الحداد دواء لأهل القلوب المنورة لأنه طَرِيٌّ من عند ربه، وقال أيضاً: نحن ما أُذِنَ لنا في هذا الزمان، والسيد عبداللَّه أذن له، وقال: لا تغتر في هذا الزمان بأحد، ولو رأيته يفعل ما يفعل [ أي من الطاعات والكرامات ]، فإن أهل الزمان إن لم ينتموا إلى السيد عبداللَّه الحداد بالقلب، وإلا ما جاءوا بشيء، لأن اللَّه وهبه أموراً لا تُكيَّف، لا تجلس إلا عنده، فإن الفائدة في مجالسته، وقال أيضاً: إن أهل الزمان لا يتأسفون على السيد عبداللَّه إلا بعد موته خصوصاً العلماء، فإنه حجة عليهم، وقال سيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به: إن فلانا - وذكره - قال: ما في تريم إلا الفقيه المقدم في التربة، والسيد عبداللَّه الحداد في الأحياء، ثم قال سيدنا: نعم ذاك قبرٌ وهذا باب، يعني نفسه الشريفة، ولكن ما يعرفون الباب حتى يصير قبراً، فيعرفون أنه ذلك الباب الذي كانت تنفتح عليهم منه الأمور.
وقال السيد العارف أحمد بن عمر الهندوان نفع اللَّه به: ما بقي اليوم شيخ مرشد إلا السيد عبداللَّه الحداد، قال: وظهر لي أنه مملي الكون، وقال السيد العارف أبوبكر بن سعيد الجفري: ما رأيت للسيد عبداللَّه الحداد مثيلاً، لأنه نَفَسٌ رحماني، وقد اجتمعت بأزيد من أربعين ولياً، ما رأيت أحداً يُسَاميه، وقال أيضاً: مجالسة السيد عبداللَّه علم من غير تعلم، وفي مجالسته الخير كله .
وقال السيد العارف علي بن عمر بن حسين بن الشيخ علي: السيد عبداللَّه ظهر في الكمال، لأن أمر التصوف قد خفي، ما ظهر اليوم إلا ببركته .
(1/4)


وقال السيد العارف باللَّه علي بن عبداللَّه العيدروس: السيد عبداللَّه سلطان آل أبي علوي، وقال عبدالعظيم شراحيل: وممن أثنى عليه - يعني سيدنا الحبيب عبداللَّه نفع اللَّه به - شيخه السيد العارف باللَّه عمر بن عبدالرحمن العطاس نفع اللَّه به، فإنه قال لجماعة ذكروه له: السيد عبداللَّه ثوبٌ طُوِي، نُشِرَ في هذا الزمان، لأنه من أهل القرن السَّابع( )، إنما أخره اللَّه سعادةً لأهل وقته، قال: فلما سمعت ذلك أخبرت به سيدي عبداللَّه، فقال لي: يا عبدالعظيم أنا بحمد اللَّه ما أنا من أهل هذا الزمان، قد جعلني اللَّه بينهم، وأنا وحدي منفرد عنهم بقلبي، كما قال في بعض قصائده نفع اللَّه به وببركاته في الدارين :
وإني مقيم في مواطن غربة ... على كثرة الأُلاَّف في جانبٍ وحدي
قريب بعيد كائن غير كائن ... وحيد فريد في طريقي وفي قصدي
أقول: وقد رأيت بخط خادمه المحب المبارك عمر باحميد( ) يقول: سمعته مرة يقول: ما أنا من أهل هذا الزمان، بل أنا من أهل القرن الثاني، ولولا الأدب مع أهل القرن الأول، لقلت أنا منهم، لأن ما فيهم إلا الصحابة رضي اللَّه عنهم، فانظروا في حالي وحال أهل الزمان، إن كنت أشبههم أو يشبهوني، وقال عبدالعظيم: وقد قال لي يوماً: أُسِّسَ أمري وبني على الأكابر، منهم الشيخ عبدالقادر والفقيه المقدم محمد بن علي علوي، وعبدالرحمن بن محمد السقاف، وعبداللَّه بن أبي بكر العيدروس رضي اللَّه عنهم، فهؤلاء الأربعة هم قوام أمري، فهؤلاء سادة أهل التصوف وأئمتهم، ودخلت عليه يوماً وجلست معه، فتحدث في الفضل، ثم قال: أما أنا بحمد اللَّه قد خرجتُ من نفسي والتجأتُ إلى ربي، ولا يطرقني خاطر في الرزق، ولولا خوف الشهرة لَشَلِّيت من تحت هذه القطيفة( ) ما يكفي أهل تريم .انتهى .
(1/5)


أقول: وقد رأيت بخط سيدي السيد الشريف الجليل الحبيب أحمد بن زين الحبشي( ) رحمه اللَّه ونفع به، وعرضته عليه وأقره: قال الفقيه محمد بن أبي بكر باجبير: كنت خارجاً مع سيدنا الحبيب عبداللَّه الحداد ليلة بعد المغرب من التربة، فقال لي: يا فقيه إن حبيبك - يعني نفسه - قد له ثلاثة أيام منذ دخل مقام القطبية .انتهى .
أقول: بين قول سيدنا هذا وبين وفاته مدة طويلة، أظن نحو ستين سنة، وقل أن يبقى في هذا المقام من بلغه إلا القليل من الزمان، فإن أكثرهم بقاءً فيه من يبقى فيه خمس سنين، وإنما أكثرهم ما يبقى فيه إلا أياماً قريبة، وقد أشهره اللَّه بها( ) عند أهل الظاهر وأهل الباطن، وعند أهل الخصوص وأهل العموم، وقد طار نسبتها إليه في الجهات، وانتشر صيتها له في الآفاق، وبلغ خبرها المشارق والمغارب، وقد قال لي السيد الفاضل المتبحر في العلوم محمد بن أبي القاسم المعروف بأبي الطيب المغربي بمدينة الأحساء قال: أنا من مُوَلَّدِي المدينة المنورة، وأبواي من أهل المغرب، فلما كبرت وبلغت الحلم، سرت إلى المغرب لزيارة أخوال لي - أو قال: أعمام لي - هناك، فرأيت في المغرب رجلاً مشهوراً بالولاية شهرة عظيمة، وتأتي إليه القوافل من أماكن متعددة وجهات بعيدة للزيارة، ويفد الناس إليه بالهدايا، وله سمت عظيم وصيت شهير، فمضيت لزيارته، فحين وقع بصري عليه، ورأيت حاله، اعتقدته كثيراً، وخطر بقلبي أن هذا هو القطب اليوم - أي في هذا الوقت - فبمجرد خطور ذلك في خاطري، التفت إليَّ وقال: ياولدي ما أنا بالقطب اليوم، وإنما القطب اليوم السيد عبداللَّه الحداد باليمن، فمن حينئذ اعتقدت في السيد عبداللَّه كثيراً. انتهى .
(1/6)


وقد وقفت لسيدنا على رؤيا( ) رآها هو دالة على ذلك أيضاً، رآها فيما سبق من الزمان، وأخبر بها بعض خواصه، فكتبها ووقفت عليها في خطه، ونقلتها منه حرفاً بحرف، وصورة ذلك قال: قال سيدي القطب الرباني، السيد الأكبر والغوث الأشهر، عبداللَّه بن علوي الحداد علوي الحسيني نفع اللَّه به، قال: رأيت كأني في مسجد يشبه مسجد قيدون( ) في رواقه النجدي، وكأن فيه خلقاً كثيراً، قال: وفيهم من أصحابه جماعة، من جملتهم السيد حسن بن علوي الجفري( )، قال: وكأن واحداً أتى إليه وقال له: أنت صاحب الوقت، أنت الغوث، قال: قلت: لا ما هو أنا، قال: أنت، حتى أكثر عليه وهو يقول له: لا ما هو أنا، ثم بعدُ خرج هذا الشخص إلى حوش( ) المسجد، وقال بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمداً رسول اللَّه، وأشهد أن سيدنا عبداللَّه بن علوي الحداد القطب، قال: ثم بعدُ أتى إليَّ، وشق على صدري، ولم أحس لذلك ألماً وأخرج قلبي وجعل يغسله، ويخرج منه أشياء لم أرَهَا، وكأنه يريد أن يجعل فيه شيئاً بعد أن يفرغه، قال فذكرت عند ذلك قصة شق قلب المصطفى صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وإيداع العلم والحكمة فيه، قال: والرؤيا جزء من النبوة( )، وهي تسر ولا تغر، كما قال الإمام مالك رضي اللَّه عنه انتهى، قال الراوي: انتهى من لفظه .
(1/7)


أقول: وقد قرأت أنا هذه الرؤيا بهذا اللفظ على سيدنا، وسمعها وتأملها وهو ساكت لم يتكلم بحرف، والسكوت إقرار وتقرير، وأظن أن هذه الرؤيا قريب من ذكره لباجبير ماذكر، وهي تقدمة لذلك المقام العظيم، كما تقدم الوحي للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في الرؤيا قبل وحي الملَك، إشارة إلى قوة متابعته للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم حتى رأى في نفسه شبهاً مما اختص به النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من شق صدره، وإيداع العلم والحكمة فيه . ومن دقيق متابعته وغزير علمه وشدة اقتفائه واقتدائه لجده رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، أني كثيراً ما أسمعه إذا سلم من الركعتين الأولتين من الأربع قبل العصر، يقول: السلام على ملائكة اللَّه والمقربين، وعلى أنبياء اللَّه والمرسلين، وعلينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، فأردت أن أسأله عن أصل ذلك، فما جسرت على سؤاله، فمر علينا في الدرس بعد العصر، في قراءة السيد الجليل عمر بن حامد في سنن أبي داؤد بإسناده إلى سيدنا علي كرم اللَّه وجهه، قال: كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يصلي قبل العصر أربعاً يفصل بينهما( ) بالتسليم على الملائكة والمقربين، وعلى الأنبياء والمرسلين، وعلى عباد اللَّه الصالحين .
وقد رأيت بخط السيد الفاضل عبدالرحمن بن محمد بن عقيل بن زين باعلوي، قال: أخبرني السيد الشريف الفاضل أحمد بن عقيل بن يحيى باعلوي قال: أخبرني رجل ثقة من أهل مكة أنه تخلف عن زيارة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مدة عشر سنين، قال فرأيت النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ليلة في المنام، فقال لي: يا عبداللَّه لِمَ لم تزرنا، أما علمت أن من زار السيد عبداللَّه بن علوي الحداد قُضِيَت له سبعون حاجة، فكيف من زارنا .
(1/8)


ورأيت رؤيا أوائل ما وصلتُ إلى حضرة سيدنا نفع اللَّه به، تشهد لمكاشفة ذلك الولي الذي في بلاد المغرب للسيد أبي الطيب، وهي: أني رأيت كأني وسيدي القطب الشيخ أبوبكر بن عبداللَّه العيدروس صاحب عدن نفع اللَّه به في جمع، وأراه متقشفاً جداً وثيابه خلقان بالية، إنما عليه ملحفة متمزقة من كل جانب، وكأنه في شبه السيد شيخ بن إبراهيم السقاف، من أهل قسم( )، فتعجبت واستنكرت من حالته هذه، وقلت في نفسي لو خلوت به لفاتشته في ذلك، حيث إنا كنا نسمع عنه خلاف هذا، فما لبثت وأنا أشتهي الخلوة به، أن جاء داع دعا أولئك الجماعة، وقال: فلان يدعوكم، فمضوا إليه، فخلوت بالشيخ فأقبلت عليه، فقلت له: يا شيخ أبابكر ما هكذا ما نسمع عنك، أين صولتك، أين كرامتك التي نسمع عنك، وإنك كنت تلبس غلمانك وخدامك الثياب الفاخرة النفيسة، فما بالك هكذا متقشفاً؟، فهكذا صورة ما وقع في الرؤيا، فقال رضي اللَّه عنه: الناس اليوم غير الناس، والزمان غير الزمان، كان ذلك في وقتنا، والوقت لنا، واليوم الوقت لغيرنا، فقلت له: ومن هو الذي له الوقت اليوم، فقال: الآن أريك إياه، فإذا بالداعي الذي دعا أولئك الجماعة قد جاء يدعونا، وقال: فلان يريدكم، وسمى الذي سماه لأولئك الذين دعوا قبلنا فقام الشيخ مسرعاً، فقمت معه مجيبين لداعيه، فمضى بنا إلى باب بيت يشرف على حوش كبير واسع جداً وفيه خلق كثير، وهو ملآن منهم، وفيهم الذين كانوا معنا، وهم مستندون على الجدار وحافون به، دائرين عليه كالحلقة، وفي صدر المجلس رجل، هو الذي دعاهم والناس عن يمينه صافين إلى شماله، وهم متأدبون معه غاية الأدب، مطرقين رءوسهم، لا يتكلمون ولا يلتفتون مغضين أبصارهم حياءً منه، وهو يبدأ بالمصافحة وبالقهوة، ولا يُصافَح في مجلسه أحد غيره، وكل من صافحه قابله بوجهه، ومشى القهقرى إلى قفاه حتى يجلس ثم يبقى مطرقاً برأسه، فلما وقفت مع
(1/9)


الشيخ على باب الحوش، ونظر إليه أطرق برأسه أيضاً حياءً، وقال لي: هذا اليوم هو صاحب الوقت، والوقت اليوم له هو صاحبه، ثم ولجنا جميعاً من الباب داخلين، ثم سرنا معاً حتى وقفنا عليه وصافحه الشيخ، وقبَّل يده ثم مشى القهقرى كغيره، حتى جاء إلى آخر المجلس، فجلس هناك لأنه لما كمل مقامه، وعلا قدره، زاد تواضعه، ثم إني أقبلت على الرجل، وقبضت يده لأصافحه، وقبلت يده رفعت رأسي، ونظرت إلى وجهه وإذا هو سيدي الحبيب عبداللَّه الحداد نفعني اللَّه به، فلما عرفت أنه هو برد خاطري، وعرفت أني آهلي من أهل المكان فأردت الجلوس بالقرب منه، لكني استحييت من الشيخ، حيث جئت معه وجلس هو في آخر المجلس، وأجلس أنا عند صدر المجلس، فجئت إلى جنب الشيخ، وجلست بينه وبين النعال، إلى هنا انتهت هذه الرؤيا المباركة . وأول ما قصصت هذه الرؤيا على سيدي الحسن ابن سيدي الحبيب عبداللَّه، فقال: قصها على حبيبك، فكأنه ذكرها لأبيه، أو مكاشفة منه نفع اللَّه به، فدعاني سيدي عشية بعد الدرس إلى موضعه الذي يجلس فيه بعد الدرس أيام الصيف، وهو شرقي داره بالحاوي( ) مقابل النخل، فقال: كيف رؤياك التي رأيت؟، فقصصتها عليه بهذه العبارة، فلما سمعها تكلم في نفسه سراً بكلام ما فهمته، وسألته ما سبب مشابهة الشيخ أبي بكر لذلك الرجل، فقال: لعله حصل له منه حال أو مدد .
(1/10)


ومن العجيب الذي يدل على عظيم تصرفه وشدة كراهته للشهرة، أني رأيت أيضاً أوان وصولي إلى حضرته: كأني وقفت على حافة نهر عذب الماء، ودخلته وسبحت فيه، فأخبرت بذلك سيدي في طريق السبير( )، وطلبت منه تأويلها، فقال: أتحسن السباحة؟، قلت: نعم، قال: والماء عذب؟، قلت: نعم، ثم سكت ولم يؤوِّلها، فقلت: أَوِّلُوهَا لي، فلم يرد جواباً وسكت، وسكتُّ، فلما جئنا من السبير فتحت الخزانة، وأخذت كتاب "حياة الحيوان" لأنظر فيه كلمة، وليست رؤياي لي على بال، فحين فتحت الكتاب قابلني فيه قوله، التعبير مكتوب بالأحمر، كما هي عادته فتأملت في عبارته في ذلك الموضع، وإذا به يقول: من رأى أنه دخل نهراً عذباً وهو يحسن السباحة، فإنه يخالط رجلاً من الأكابر، فعجبت من ذلك الاتفاق، وبقيت هذه الرؤيا تتكرر لي بعد كل مدة حتى تكررت لي مراراً كثيرة، فكأن سكوت سيدنا رضي اللَّه عنه عن التأويل المذكور، كأنه اطلع قطعاً على ذلك التأويل، وعلى أن القدرة ستسوقني إلى الوقوف على ذلك التأويل، الذي لم يستحسن هو أن يذكره لي، لما رأى فيه له من الإطراء، مع رغبته في وقوفي عليه للحاجة الداعية إليه، فأراد أن أقف عليه من غيره، فاكتفى بوقوفي عليه في ذلك الكتاب من غير أن يذكره هو، وكل هذه واللَّه عجائب آيات، وكرامات باهرات، ومناقب عاليات .
(1/11)


ومما يدل أيضاً على عظيم تصرفه وشدة كراهته للشهرة لنفسه ولمن يحبه ويتصل به، أن الأخ الأكرم عبدالرحمن بن أحمد باكثير( ) الشحري، علمني عزيمة مجربة للحمى، فاستعملتها لأناس كثير وأفادت واشتهر أمرها في حضرموت، حتى إن أناساً من دوعن وغيرها يرسلون إليَّ يطلبون أن أفعلها لهم، وسمع سيدي بها فقال: كيف العزيمة التي تفعلها للحمى، فأخبرته بها، ولم يتكلم لي من جانبها بشيء، لا بأمر ولا بنهي، بل سمعها وسكت، فسلب منفعتها حتى إنها ما أفادت بعد ذلك، ولا نفعت فتركتها مدة حياته نفع اللَّه به، وبعد ذلك صرت أفعلها لبعض الناس في بعض الأوقات، رجاء أن يرد اللَّه خاصيتها لنفع المسلمين، فمراراً تفيد ومراراً لا تفيد، فانظر هذا التصريف العظيم والتربية التامة . انتهى ما أردنا نقله مما يحقق كلمته للفقيه باجبير، التي أسرَّها إليه .
والآن إن شاء اللَّه بعون اللَّه نبتدئ في المقصود، وقد أردت أن أصدّر هذا النقل بخطبة لسيدنا نفع اللَّه به، ليكون كله مقتبسٌ منه، ومأخوذٌ عنه، وكان رضي اللَّه عنه وضع هذه الخطبة، وأراد أن يجعلها على حِكَمه( )، ويجعل الحِكم كتاباً مفرداً، ثم عَنَّ له أن يجعل الحكم مع مجموع المكاتبات والوصايا والديوان، وجعلها رابعة الأربعة، فكان الأربعة مجموعاً، وجعل له خطبة تشتمل على الأربعة الأقسام، وبقيت هذه الخطبة مفردة، ليست على كتاب، فاستحسنت أن أصدر بها هذا النقل، لتكون فاتحته وهي هذه :
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
{ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }( )، الحمد للَّه الحنان المنان، دائم الإحسان والامتنان، الذي تقدست مواهبه عن التخصيص بمكان أو زمان، وعن الحصر في فلان دون فلان، جل عن التقييد ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً فسبحانه كُلَّ يوم هو في شأن .
(1/12)


أحمده حمد من غرق في بِره، فاعترف بالعجز عن القيام بشكره، وعن أن يُقْدِرَهُ حَقَّ قدره بعد الإتيان بحسب الطاقة والإمكان، وصلاتُه وسلامه على خيرته من خلقه والمبعوث بخير الأديان، سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه في كل حين وأوان .
أما بعد: فإني بعون اللَّه قد عزمت بعد أن استخرتُ ربي على تقييد كلمات وأمثال وأبيات، ترد عليّ عند التذكّر والمذاكرة، أرجو الانتفاع بها في الدنيا والآخرة، وقد جردت العزم على هذا الأمر مراراً، فلم تتم العزمة، ولم تنفذ الهمة، والسبب في ذلك بعد سابق القدر احتقار النفس، والاتكال على الحفظ والدرس، ثم إني لما رأيت أني نسيت من ذلك الشيء الكثير، ولم يبق منه إلا القليل اليسير، ورأيت الحاجة في بعض الأحيان تدعوني إلى ما دخل تحت دائرة النسيان، ووقفت على كلام للشيخ ابن عربي حاصله: أن الإنسان ترد عليه الأشياء في نهاية الطلب، ينبغي له أن يعتني بحفظها، لأنه سوف يحتاج إليها فيما بعدُ، وما وَرَدت إلا لذلك، فعند ذلك صممت على تقييد ما يخطر في البال، وإليه أضيف إن شاء اللَّه تعالى ما يكون في الاستقبال مستثنياً بمشيئة اللَّه تعالى النافذة، ومفوضاً إليه، ومتوكلاً عليه، وراغباً فيما لديه، ومعتصماً به: { وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }( )، ثم إني أعلم أخاً وقف على ما هنا، فرأى فيه مقاربة لكلام أحد لفظاً أو معنى، أن ذلك وقع بطريق الموافقة، إذ ليس بخافٍ أن من أثبت كلام أحد، ولم يعزه إليه، أنه سارق أو غاصب، وكلاهما قبيح، وهذا أوان الابتداء، أصلح اللَّه النية، وصَفَّى الطوية .
انتهت الخطبة المباركة الميمونة، وما رأيتها قط في حضرموت، ولكن يَسَّر اللَّه وقوفي عليها في كتاب عند رجل جاء بها من الهند، فنقلتها منه، وقرأتها على سيدي الحبيب نفع اللَّه به وأقرها.
(1/13)


والآن أشرع إن شاء اللَّه في المقصود، مستعيناً باللَّه سبحانه وتعالى :
اعلم أن كلام سيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به مستمد من علمه، وعلمه مستمد من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كما هو وصف القطب، وقد وصفه في بعض قصائده بقوله( ) :
يمتد من بحر العلوم( ) محيطها ... خير الأنام بعاجل وبآجل
واعلم أيضاً: أن كلام مجالس سيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به، على حسب ما يجريه اللَّه تعالى على قلبه، وينطق به لسانه، لا على حسب مادة ينسهب فيها الكلام ويطول، ويرتبط بعضه ببعض، كما هو في أبواب العلوم المعروفة، كالفقه وغيره، ولهذا يكون كل كلام منه على حدة، لا تعلق له بما قبله ولا بما بعده غالباً، ورأيت فيه من الخاصية، أنه لا يَمَلُّ قارئه ولا سامعه، ولو تكرر عليه مراراً كثيرة، وذلك من سر نَفَسه الشريف، فلذلك حسن منا أن نسميه كتاب: تثبيت الفؤاد، بذكر كلام مجالس سيدنا القطب السيد عبداللَّه بن علوي الحداد نفع اللَّه به، وقد استأذنته في نقل ذلك مراراً، فأذن لي في كل مرة وقلت له مرة: إنا نسمع كلامكم ونحرص عليه ونكتبه، ولا ندري هل فهمناه على الوجه الذي أردتم أم لا؟، ولكنا نتحرى لفظكم إن أمكن، وإلا كتبناه بالمعنى على ما فهمناه، وربما حصل زيادة أو نقصان، فقال: اكتبه وعادك تعرفه، حتى إني رأيته رضي اللَّه عنه في المنام ليلة، وهي ليلة الجمعة في 14 ربيع الأول سنة 1127هـ، وهو في جمع يتكلم عليهم، وذلك بمسجده بالسبير، فبينما هو يتكلم عليهم إذ التفت إليَّ وقال: فلان مهيَّم القلب، والقلب المهيم لا يتأهل للواردات الإلهية، ولا يحصل الهيام إلا لقلب فارغ، فأخبرته بذلك يقظة وقلت: أأكتبه في جملة ما أكتب مما أسمعه وأحفظه من كلامكم؟، فقال: أكتبه، ثم إنه رضي اللَّه عنه شرحه، فقال الهيام والغرام من أسماء المحبة، والهيام هي الواردات الإلهية بنفسها، فلا يتأهل، أي لا يحتمل القلب المهيم من الواردات الإلهية أكثر
(1/14)


مما هو فيه، ولا ترد إلا على القلب الفارغ( ) انتهى ما شرحه .
كذلك رأيت أيضاً كأني في حلقة فيها خلق كثير، وسيدنا في وسطهم يتكلم عليهم، إذ التفت إليَّ وجعل يملي عليَّ كلاماً كثيراً، ويقول: احفظ كلامنا هذا، فقلت: يا سيدي ما يمكنني حفظه لكثرته، فقال: هات دواة مع قلم وقرطاس، فأتيته بذلك، فقال :
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه الذي جعل القلوب محل أسرار الغيوب، فانتبهت بعد ما كتبت هذا، فأخبرته بهذه الرؤيا بعد ستة اشهر في طريق السبير، فقال: أكتبها، فقلت له: الكلام الذي ننقله عنكم بلفظه، نحس له أثراً ونرى له رونقاً أكثر مما ننقله بالمعنى، فقال رضي اللَّه عنه: ولو قد غِبْتُ ظهر له حال غير الحال الأول، لأن المخالطة والاجتماع مانع وحجاب عظيم .
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً على الناس كثيراً، ثم قال في آخر كلامه ذلك: إذا تكلمنا في مجلس، فلا يظن أحد أنا قصدناه بالكلام خصوصاً، بل هو عام لكل من سمعه، ثم تمثل بهذا البيت :
وإذا فتىً طرح الكلام بمجلسٍ في مجمع أخذ الكلام اللَّذْ( ) عنا
ثم قال: وإذا تكلمنا في مجلس، فإن عرفه الحاضرون وأخذوا به، كان حجة لهم، وإلا فله من يسمعه غيرهم لا يرونهم، وكلامنا بأمر إلهي .
وقد أخبرني السيد محمد بن شيخ الجفري( ): أنه رأى يوماً حية في جنب سيدنا في مدرس العصر، فأراد بعض الحاضرين أن يأتي بعصا يضربها، فصاح سيدنا بالرجل لا تقتل الحية، واتركها، فبقيت إلى أن فرغوا من الدرس، وقرأ سيدنا الفاتحة، ودعا فلما ختم الدعاء تسبسبت( ) وذهبت .
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً على رجل وهو يسمع، ثم قال له: إنما هذا تأديب لك من اللَّه سبحانه أجراه على لساننا، وقال رضي اللَّه عنه: إن كل كلامنا الذي نتكلم به معكم، إنما نحثكم( ) به على الوسط لا غير .
(1/15)


وقلت له رضي اللَّه عنه: هل تأذنون لنا أن أَتَسَمَّع كلامكم إذا سمعتكم تتكلمون؟، إذ كل ما نسمعه منكم يحصل لنا منه فوائد، فقال رضي اللَّه عنه: أذِنَّا لك تسمع كلامنا ولا نأذن لك تتكلم، فَتَسَمَّع كلام عظة، أو فائدة أو علم، ونحن لا نتكلم إلا لأمرين، إما لأحد حاضر غير مرئي، أو لأجل رجل في نفسه كلام لا يمكنه يتكلم به، وكانوا( ) مستعدين للنقل بآلته، وقد نقل كلامنا أناس كثير نقلوه بالمعنى، فأخطأوا في نقله، فإذا سمعناه منهم، رأيناهم مخطئين، قال رضي اللَّه عنه: وينبغي أن يعرف الناقل الكلامَ ودرجاتِه، وقيودَه، وخصوصه، وعمومه، وكونه فيه استثناء، ويبقى يستمعه من أوله إلى تمامه، فرب قائل تسمعه يذم العلماء، إلا أهل الخشية، والورع، والتقوى، فتستعجل وتقول فلان يذم العلماء، قال: والقيود كمن سمعنا نقول في التوبة - مثلاً - بعد ذكر شروطها، ولزومها: أنها تعسر في هذا الزمان، فيقول قال فلان: التوبة عسرة فلا تمكن، ولا ينقل الكلام من أوله، فلما علمنا بذلك من أهل الزمان، تركنا الخوض معهم والكلام إلا في المجالس العامة، فيما يتعلق بعبارات الكتب، فإن فهموه وإلا فعهدته على أهلها، وقد أقل اللَّه من ضعفاء الفهم، وكذا من أهل النفاق، وإن كانوا أقل منهم .
وقال رضي اللَّه عنه: نحن إذا أمرنا بشيء، أو تكلمنا بكلام قيدناه، فكل كلامنا مقيد، فافهم القيود ولا عليك، لأنا عارفين بأحوال أهل الزمان، وقد عثر عندنا ناس كثير بترك القيود، وأخذوا الكلام غير مقيد، كالإناء بلا غطاء، أو الغطاء بلا إناء، بعضهم تَعَسُّفاً، وبعضهم تعنتاً، وبعضهم ضُعْفَ فهم، حتى لما علم بأمرنا بأخذ القيود بعضُ الناس، قال: لا ينبغي أن نحضر مجلسكم، فقلنا لا يتعطل المجلس بغيبتك، ثم إنه رجع وحضر.
(1/16)


وقال رضي اللَّه عنه: إذا نقل أحد كلام أحد، فليذكر الكلام كله من أوله إلى آخره، فإن الكلام يُذكر بالكلام، ويُعرف معنى بعضه من بعض، ولا يُذكر بعضه ويُترك البعض، فلو سمع رجلا يقول: إن فَعَلَ فلان كذا فلا خير فيه، فيقول: سمعته يقول: ما في فلان خير، فليس الكلام على هذا الوجه، وأحسن التكلم نقل الكلام على وجهه ليعتبر بما اعتبر، وقد تكلمنا أيام كنا بالهجيرة يوماً في التوبة، فقلنا: التائب المصر على الذنب، بأن يقول: استغفر اللَّه بلسانه، وفي قلبه إنه متى تمكَّن منه فَعَلَه، إن هذا لا توبة له، ولكن الاستغفار باللسان لا يخلو من خير، فنقل عنا رجل كان حاضراً، إنا نقول: إن ما للتوبة معنى أصلاً، وأن ما لأحد توبة، فسمعه علي بن عمر بن حسين، فقال له: تَخْزَا( ) ما قال هكذا، وأشياء من الخواطر ما تدخل تحت الاختيار، يعفى عنها، كمن ترك ذنباً، وإنما تركه للَّه لا لشيء آخر، ولكن بقيت له في قلبه لذة فيعذر في مثل هذا، ولا يؤاخذ به، ثم قال: وأصول الأحكام وأصول الدين كلها في القرآن، ولكن لمن يعرف، وهذه الأشياء تُنقل وتُعرف، وبعض منها ما يحسن أن ينقل .
أقول: وقد رأيت بخط من نقل عنه رضي اللَّه عنه أنه قال: إن الجَوابي( ) لم تُبْنَ في الأصل للقذر، فلما حصل فيها القذر عارضاً فلا يكره ذكر اللَّه فيها، فمثل هذا نقل عنه خطأ، فلما سمعه أنكره، وهو الذي أشار إليه بقوله: فإذا سَمِعناه منهم رأيناهم مخطئين، وهو خلاف ما نقلناه عنه من قوله الذي نقول به ونختاره فانقلوه عنا، وقولوا هذا اختيار فلان، والذي نقول به: أنه لا ينبغي ذكر اللَّه في الجوابي، ولا جواب المؤذن فيها لما فيها من القذر، ونكره ذلك فيها، ولكن إذا خرج منها ينبغي أن يأتي بأذكار الوضوء، وجواب المؤذن على وجهه يقضيه بعد ما يخرج من الجابية، وهذا خلاف ما ذكر عنه صاحب ذلك النقل .
(1/17)


وكذلك ذُكِر: إن سيدنا قال: إذا عوقب أحد من أصحابنا بعقوبة في الدنيا والآخرة فهو بسبب من جهتنا، لأنا وإن سامحناهم في التقصير الواقع منهم في حق اللَّه وحقنا، فللطريق غَيرة لأهلها . انتهى .
(وقوله): وإن سامحناهم في التقصير الواقع منهم في حق اللَّه، لعله وَهْمٌ، أو سبق قلم، أو هو من الخطأ الذي أشار إليه، فإنه نفع اللَّه به، من عادته أنه لا يسامح أحداً في التقصير في حق اللَّه قط، بل في حق نفسه، هو شيمته وعادته المسامحة به، وسمعته غير مرة يقول ما معناه: من تهاون بحقنا لا بد أن يعاقب وإن سامحناه وعفونا عنه، وإن اللَّه ليغار لعباده الصالحين وإن سامحوا في حق أنفسهم، قال: وإذا غضبنا على أحد ونحن نحبه لا بد من أن نتكلم عليه ولو كليمة واحدة لئلا يعاقبه اللَّه، لأنا جربنا أن من قَصَّر في حقنا أو أَغْضَبَنا عوقب إلا أن نتكلم عليه فتتعداه العقوبة، أو كما قال .
(1/18)


أقول: وذلك كما وقع للرجل الدمشقي من الطرد والعقوبة، حيث حصل منه التقصير وسوء الأدب في حقه نفع اللَّه به، وقصته: أني رأيت بتريم رجلاً من أهل دمشق الشام، يقول: إنه شريف، واسمه زين العابدين، فأقمت سبع سنين ما أراه يصل إلى الحاوي للزيارة، إنما أراه في الجامع يوم الجمعة، فتعجبت من مقاساته الحال في تريم، مع عدم تردده إلى حضرة سيدي، فمضيت إليه يوماً قاصداً معاتبته ولومه على ذلك، وقلت له: أنت رجل من أهل بلد رفاهية، وسعة معاش، والغريب لا يتكلف المقام هنا إلا لأجل الاجتماع بسيدنا الحبيب، وأنت لا أراك تتردد عليه، ولي منذ سبع سنين ما رأيتك أتيته زائراً، فما معنى مقامك هنا، فقال: ما جئت هنا إلا لأجله، ولا قصدت إلا عنده، ولكني خفت من ضعف العقيدة بسبب المخالطة، فاستحسنت البعد مع العقيدة، ولا القرب مع ضعفها، فقلت له: كلامك حكمة وصواب، ولكن عملك يكذب قولك، فلو كان قولك هذا صدقاً، لكنت تتردد للزيارة، ولو في الأسبوع أو الشهر أو السنة، وأكدت عليه بذلك شفقة عليه، فلم يفعل، ثم بعد سنة أتيته كذلك وقال كما قال أولاً: وبقيت سبع سنين أتردد عليه في كل سنة مرة، وأسأله فلا يجيبني إلا كذلك، ولا دخل في خاطري ما قال، واعتقدت أن الأمر بخلافه، ولم يعطني أحد عنه خبراً، حتى يوماً كثر عليَّ الوسواس من جانبه، وهذا عادتي إذا رابني أمر لم أصبر حتى اطلع على حقيقته، فلما كان الليل زاد عليَّ ذلك الوسواس، فلما كان بعد الراتب، وكانت ليلة الثلاثاء وعادة سيدنا فيها الطلوع إلى البلاد للمبيت، وركب سيدنا وأنا أسايره مع قائد الفرس عكيمان فقط، وبقي يقرأ ورده مشتغلاً به، وأنا مشغول بتلك الخواطر التفت إليَّ، وقال لي مكاشفةً منه رضي اللَّه عنه: يا حاج، قلت: لبيك، قال: إن هذا الرجل الدمشقي ما جاء إلى هنا إلا لأجلنا، ولا قصد إلا عندنا، ولكنه مَرَّ في مجيئه من بلده إلى عمان ،
(1/19)


وجاء إلى قرية على الساحل تُسمى الرمس، وفيها أناس يقال لهم آل ثالث، وكانوا محبين لنا ويكاتبونا، فقصد عندهم لما علم أن لهم بنا صلة، فلما علموا منه أنه قاصد إلى عندنا قاموا به وكسَوه وزودوه، وأعطوه خرجيَّة، وأركبوه في مركب لهم إلى الشحر بلا نول، وكتبوا لنا معه كتاباً يوصونا به، فبعد ما وصل إلينا بأيام كتب لهم كتاباً، وذكر فيه كليمة من جانبنا أزعلتهم، فكتبوا لنا كتاباً، وجعلوا كتابه ذلك في طي كتابهم إلينا، يريدونا نقف على كلمته، فقرئ علينا كتابهم وكتابه، وإذا فيه يقول: إنا قد زرنا السيد فلاناً واجتمعنا به، ولكن ما رأيناه على ما نسمع عنه، فأخذت الكتابين من يد القارئ، وأخذت عليه أن لا يتلفظ بتلك الكلمة لا له ولا لغيره، ثم إنه شل حوائجه وما معه، وانتقل من نفسه إلى البلاد، وهو آخر العهد به، ونحن من عادتنا أنا إذا أردنا أحداً جذبناه إلينا، ولو كان بأبعد محل، ومن لم نرده نفيناه، ولو كان حاضراً عندنا. انتهى .
ثم إن ذلك الرجل ضاق عليه المعاش بتريم، فسار إلى الهند مع جماعة من أهل تريم، فجاء إلى سيدنا عند سفره يستودع، فأوصاه بتقوى اللَّه، وملازمة الطاعة، ونحو ذلك، وما رأيت له منه تلك البشاشة المعتادة لمن استودع منه، فلما كان بعد مدة دون السنة، جاء الذين سافر معهم، فلقيت منهم رجلاً فسألته عنه، فقال: كنا ليلة سائرين في البحر، متوسطين الغبة، فقام من آخر الليل ليتوضأ، فزلت رجله فسقط في البحر، فصاح وفطن به أهل المركب، فأرخوا الشراع، وجعلوا يدنون المركب إلى نحو الصوت، فعجزوا عن القرب منه، ولم يمكنه القرب منهم، وبقوا في علاج من ذلك إلى أن قرب استواء الشمس على الرأس، فانقطع صوته فساروا وتركوه، فنعوذ باللَّه من سوء الظن بالصالحين .
(1/20)


ورأيت بخط ابنه الحبيب علوي مما نقله عن والده أنه قال: إذا تكلمنا لأحد منكم بكلام، فليُعِهْ( ) وليقبله بكليته، فإنْ ما ظهر له معناه اليوم، عاده يظهر له، ولا يعرف قدره إلا عند فقد متكلمه، فيطلب من يقول مثله، فلا يجده، وذلك من تمام الكلام، لأنا مارسنا الأمور وجربناها، ولنا نحو ستين سنة ونحن في مطالعة الكتب إلى الآن، انتهى .
والذي سمعته أنا من سيدنا يقول: من حين سننا أربع عشرة سنة وإلى الآن ونحن في مطالعة الكتب، وما مر عليكم مرةً مَرَّ علينا مراراً، ثم تمثل بهذا البيت :
ومن عجب إهداء تمر لخيبر ... ... وتعليم زيد بعض علم الفرائض
وقيل له: يا سيدنا لا تروا علينا، فإنا ما نخاف إلا من مخالفة أمركم، فقال: لا، ما نحن بصدد ذلك، وإنما نطلب الجزاء من اللَّه، لأن اللَّه سبحانه ما خلق الإنسان طويلاً إلى جهة السماء، وجعل رأسه أعلاه، إلا ليطلب حوائجه من السماء لا من الأرض، ولا عليك إلا أن تعمل ما يرضي ربك، فذلك هو الذي نرضى به .
وقال رضي اللَّه عنه: من أتانا قاصد الانتفاع، فليسمع ما نقول ويفهمه، ويُصَدِّق ويَصْدُق فيه إذا نقله إلى أحد، لكن مع فهم القيد، لقوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( رحم اللَّه امرأً سمع مقالتي فوعاها: فأدَّاها كما سمعها )) ( ) الحديث، وللوارث حكم الموروث، والنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ما وَرَّثَ إلا العلم، وما كان له من ذلك مطلقاً كان لورثته مقيداً، وإذا أخذ الناس من ذلك بسهم، أخذنا منه بسهمين، سهم من جهة العلم، وسهم من جهة النسب، انتهى .
أقول: وما أحسن قول البوصيري صاحب البردة والهمزية، شاهداً في ذلك :
يا وارثاً بالفرض علم نَبِيِّه ... ... شرفاً وبالتعصيب غير مقيد
اليوم أحمدُ من عليّ وارثٌ ... حَظَّيْ عليٍّ من وراثة أحمد
(1/21)


ومراده بعلي أبو الحسن الشاذلي، وبأحمد المذكور أول البيت أبا العباس المرسي، وبأحمد المذكور آخر البيت النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ومعناه أن علياً المذكور ورث من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، من جهة النسب سهمين سهماً بالفرض، وسهماً بالتعصيب، فورثهما منه أبو العباس، كليهما من جهة العلم، وسيدنا نفع اللَّه به ورثهما من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كليهما من جهة النسب، أي سهماً بالفرض، وسهماً بالتعصيب وهما المراد بقوله ( وسهم من جهة النسب ) أي فرضاً وتعصيباً، وسهماً آخر ثالثاً من جهة العلم، وهو المراد بقوله سهم من جهة العلم.
وقال رضي اللَّه عنه: إذا سمعت شيئاً فانقله بحروفه على أصله، خصوصاً ما كان عن أهل الدين، لأنهم طرائق إلى رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم .
(1/22)


وصافحه رضي اللَّه عنه رجل أعمى بعنف، فقال له: أنت ما تفهم الإشارة، أَوَ كُلَّ حينٍ يكون الكلام، ونحن حتى عيالنا مُرَبِّينَهُم على فهم الإشارة وحفظ الكلام، وستر المعنى المطلوب منه، وقد كانوا - أي السلف - إذا تكلم المتقدم بالكلمة، أخذها الطالب بالقبول وفهم الإشارة، فيحصل له مقصوده، واليوم يسمعون منا الكلام ولا يفهمونه، وكلام الإشارة لا نسمح به كل حين، كان الشيخ عبداللَّه العيدروس يقول: كان في تريم أُسُودٌ تَنْهَم فذهبوا وما بقي اليوم إلا هذا الأسد النهام، يعني نفسه، وقد كان في القرن التاسع، فما بالك اليوم في القرن الثاني عشر، وإذا حضر مجَالِسَنا العامَّةُ والصغار، لا نرغب في الكلام، خوفاً من أن يسمعوا كلاماً لم يفهموه فينقلونه على غير المعنى الذي أردناه، ومن كان ولابد ناقلاً شيئاً فلينقل أيضاً سببه الذي حصل من أجله الكلام، وقد قال لنا بعض أصحابنا، إذا تكلمتم في المجلس، فذاك أحب إلينا من قراءة الكتب، فقلنا له: نحن أحب إلينا قراءة الكتب من الكلام، لأن في الكلام زيادة ونقصاً، ولا نسلم فيه من الخطأ غالباً( )، والكتب أصدق، وإن كان فيها شئ فهو على المصنف، وهو المسئول عنه، وأما كلامنا فنحن المسئولون عنه، فالقراءة في الكتب أسلم لنا من الكلام .
أقول: قوله رضي اللَّه عنه: كان الشيخ عبداللَّه الخ، فافهم الإشارة أن سيدنا نفع اللَّه به عنا بذلك نفسه في وقته، وَوَرَّى بإسناد القول إلى الشيخ عبداللَّه نفع اللَّه بهما .
(1/23)


اعتناؤه بمن تعلق به نفع الله به
وقد قال سيدنا رضي اللَّه عنه: إنا لا نترك ولا ندع المتصل بنا ومرة قال: المتمسك بنا، سواء كان دويلاً( ) أو جديداً، والتمسك إنما هو من الطالب، ومرة قال: من مَسَكْناه لا نُسَيّبه( )، وإن هو سيّب( )، أصل أنا نمسكه، ومن لم نمسكه فإنا لا نحب كثرة التحمل، ومرة قال: من تعلق بنا، ووضعنا عليه نظرنا لم نُفْلته، ولم نَدَعْه، وإن بَعُدَ عَنَّا، ولكن ما لم نطرح عليه النظر، فإنا لا نحب كثرة التحمل، وعلى هذا جرت عادة سلفنا من السادة، أن من تعلق بهم لم يتركوه، ويكون مقتدياً بمن تعلق به منهم فيما يقدر والباقي يحمله عنه، وقد قال الشيخ عمر المحضار: نرد موسومتنا ولو بالصين . أقول: وفي ذلك أيضاً تورية منه رضي اللَّه عنه، وإنما عنا بالمقالة هذه نفسه الشريفة، كما ورى بها في قصتنا التي وقعت لنا في البحر، لما حكيتُ له بها قال: قال الشيخ عمر المحضار: نرد موسومتنا ولو بالصين، والقصة المشار إليها: أني في وصولي إليه في شعبان من سنة خمس عشرة ومائة وألف( )، أصابنا في البحر في (غبة قمر) طوفان عظيم، ونحن في سنبوق صغير، كل الذي فيه سبعة أشخاص، وصار الماء يدخل من جوانبه وجعلوا يبكون، فقرأت أبياتاً من قصيدة لسيدنا نفع اللَّه به (نادي المهاجر صفي اللَّه) إلى قوله (بجَدِّكم وبكم تنجاب، سحب البليات والضر) فعند ذلك أخذني النوم فقمت( )، فرأيت كأني واثنين معي نمشي في المعلاة، مقبرة مكة المشرفة، ونحن نستعجل في المشي، يقال لنا: إن هناك السيد عبداللَّه الحداد جالس، وإنه في آخر المجلس يريد القيام، فتعجل المشي لتلحق عليه، فمررنا بقبر سيدتنا خديجة الكبرى رضي اللَّه عنها، فزرت زيارة مطولة، ثم سرت ولحقت سيدي في مجلسه، فقبلت يده وحصل لي سرور عظيم، وبكاء كثير، فانتبهت وإذا أهل السنبوق في ضحك وأنس، وقد ذهب عنهم الطوفان، وإذا أحدهم يقول: يا شيخ ادع اللَّه أن يرزقنا حُلاً يعني
(1/24)


خصاراً، قلت: ما هو إلا من البحر، فصيدوا لكم بمجرار قالوا: ما يمكننا ذلك، وإذا بسمكة كبيرة عليها لون الخضرة، قد ظفرت( ) في المركب فوضعوا عليها ثلاث قواصر حتى ركدت، فبقينا كل يوم نطبخ منها سبعة قدور، إلى أن وصلنا سيحوت( )، ثم إني أخبرت سيدي بهذه الوقائع كلها فتعجب وقال: سبحان اللَّه، وذكر كلمة الشيخ عمر المذكور آنفاً، انتهى ما أردنا ذكره، مما يتعلق بنقل الكلام .
ثم الآن نبتدي بالنقل على ما سنح، أول ذلك مما يتعلق بالنية، لأنها أساس البناء وكل عمل يتبعها :
قال رضي اللَّه عنه: اعمل للَّه على قدر همتك ونيتك، فإن الأجر على قدر الهمة والنية لا على قدر العمل، فإن خزائنه تعالى مملوءة عبادة، فإذا كان المَلَكُ الواحد من الملائكة، من قَبْل خلق الدنيا إلى يوم القيامة في سجدة، وآخَر في ركعة، ونعَّمهم بذكره، كما هو معلوم من أحوالهم، فما قدر عملك فإنما هو بالنية، فإن اللَّه تعالى شكر للضفدع حيث حملت في فيها ماء لتطفئ نار النمرود عن إبراهيم عليه السلام، فقيل لها: أتقدرين على طفئها، قالت: هذا حد قدري، فنهى الشرعُ عن قتلها، والوزغ حيث جعل ينفخ فيها، وقال أريد أن أظهر له الشماتة، ذمَّه اللَّه جداً حتى رغب الشرع في قتله.
وقال رضي اللَّه عنه: رب قليل كَثَّرته النية، ورب كثير قللته النية .
وقال رضي اللَّه عنه: كل عمل يعمله الإنسان للَّه، يعلم من نفسه أنه لم يعمله إلا للَّه فلا عليه بأس من خواطر السوء .
وقال رضي اللَّه عنه: من ادعى إن له نية صالحة، فانظر إلى عمله، فكل عمل يدل على النية فإن صلح عمله دل على صلاح نيته، وإن كان فاسداً دل على فساد نيته، وقال: إذا عملتَ خيراً فانو العود إليه، فإن لم يتفق لك العود فتثاب على نيتك، وكذلك إن لم تكن قد عملته فانوه .
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه لم يُعِن الشخص إذا نوى فعل خير حتى يشرع فيه .
(1/25)


وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه لا ينظر إلاّ إلى هَمِّ الإنسان ونيته، فمن كان همه للَّه، وإن كانت أفعاله على خلاف ذلك، فيوشك أن تتبع( ) الهَمَّ، ومن كان يظلم ويعصي، وهمه المعاصي ويتلفظ بالذكر، فلسانه حجة عليه، فانظر إلى الرجل من الصالحين، كأن قائلاً يقول له من قِبَلِ اللَّه: أعطني قلبك وهمك، واترك جوارحك وظاهر عملك، فلا يمكث أن تتبعه جملته، فمن تعلقت همته باللَّه، وإن كان غير مرضي العمل في جوارحه، فإنها تصلح ولا بد، ومن كان عمله في الظاهر طاعة، وهمه خلاف ذلك تتبعه الجوارح لا محالة، ولهذا قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم))( ).
وقال رضي اللَّه عنه: المخطئ في الطاعة لا يؤاخذ، لأن اللَّه رفع عنه الخطأ، وهو كفاعلها على وجهها، بل يثاب على قصده، والمخطئ في المعصية كالعاصي ويأثم على قصده، لأن المدار على القصد لا على نفس العمل .
وقال رضي اللَّه عنه: ما أُمِرْتَ أن تصلي وثوبك طاهر( )، بل أن تصلي وتعتقد أنه طاهر، وإنك غير متعبد بما هو في نفسه حلال، بل ما هو في اعتقادك حلال .
وقال رضي اللَّه عنه: من لم تَصْفُ له الطاعات، لم تصح له نية في المباحات .
وقال رضي اللَّه عنه: كلامك ثمرتك، فانظر هل هو خبيث أم طيب، فأنت كذلك، وهو جزء منك، فالوعاء الطيب ينضح طيباً، وضده بضده، وكذلك النخلة والشجرة الطيبة تثمر طيباً، والخبيثة تثمر خبيثاً، ( كل إناء ينضح بما فيه ) ،: {وَالبَلَدُ الطِّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّه، وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلا نَكِداً }( ).
(1/26)


وقال رضي اللَّه عنه: الفهم من جانبين، فهم يحصل من العلم، وفهم يحصل من العمل، والعلوم كثيرة، لا يحتاج الإنسان إلى العمل بجميعها، بل ببعضها كالعبادات، وأيضًا لا يحتاج إلى العمل بكل العبادات، والذي يخصه العمل به منها قليل جداً، وما لا يحتاج أن يعمل به كالعادات، فينوي أنه إن عمله أن يحسن فيه، ليحصل له ثواب النية.
ولما شرح السيد الجليل الحبيب أحمد بن زين الحبشي القصيدة العينية، وتأخر إتمامه، فقال سيدنا: لو لم يظهره قبل تمامه، لتيسر عليه وأتمه سريعاً، وفي الحديث: (( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ))( )، فقلت له: هل تخلف إتمام "الفصول العلمية" لهذا السبب، حيث نويتم أن لا تظهروها حتى تتم أربعين، أي فصلاً، فأظهرتوها قبل ذلك، فلم تتم، فقال: ليس تأخر إتمامها من هذا السبب، لأنا وإن نوينا أن لا نظهرها إلا بعد تمام الأربعين، فإنا إنما أظهرناها بنية، وأيضاً كل فصل بمنزلة كتاب، لأنه معنى مستقل غير معنى الفصل الآخر، وأيضاً إنما هي واردات، فمتى ورد شئ أثبتناه، إلا أن هذا الزمان ليس أهله أهلاً للواردات، فبهذا السبب توقفَتْ فيه، فلم يرد منها شئ، ونحن أعلم بأهل جهتنا منك، فإنهم غافلون عن كلامنا، وليس نرى عند أحد منهم شيئاً، ومن كان معه منه شئ، فربما أخذه ولم يفهمه، وسكت ولم يسأل عنه .
(1/27)


ولما عزم رضي اللَّه عنه على إتمام "الفصول العلمية"، وذلك من فصل الاستقامة وتمامه يوم ثامن عشر صفر سنة ثلاثين بعد المائة والألف، قال: أين نسختك من كتاب "الفصول العلمية" نشوفها( )، قلت: البارحة استعاره السيد فلان، وسميته له، فقال: ما يعرفه، خذه منه بلا جفاء، ولا تخبره إنا نريد نتمه، وقل له: لا تطالع فيه، واجعل مطالعتك في الديوان، فإنهم أودعوا فيه أسراراً وفوائد لا تكون في غيره، ونحن هذه الأشياء قامت علينا بتعب واجتهاد كثير، وهؤلاء بغوها ألاّ بلاش( ) من غير اجتهاد ولا تعب، ما يريدونها حتى بطريق العدل والإنصاف، ولو طالعوا كتاباً واحداً من كتبنا وأمعنوا فيه النظر لكفاهم .
وقال رضي اللَّه عنه: خذ من الطاعة قدراً لا تمِلَّ وتضجر منه بعد ذلك، فإن القلب مادام وسخاً لا يستلذ الطاعة، فإياك أن تكثر منها أولاً مادام كذلك، فإذا تنور واستلذ بها، فخذ منها على قدره( ).
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان لا يصلحون للاستعانة على فعل خير، ولا على ترك شر، هذا إجمال الأمور، وتفصيلها يعرفه الإنسان من نفسه بالتجربة .
وقال رضي اللَّه عنه: راحت أعمار الناس بلا شئ، وسيبوا كل شئ، وادعوا كل شيء، وفاتهم كل شئ .
وقال: هذا الزمان أهله كثيري العجائب، قليلي الغرائب، كثيري المثالب، قليلي المناقب .
وقال رضي اللَّه عنه: إنا لما رأينا حال الزمان وتغيره، عقدنا عقداً أن لا نكون تحت أحد، ولا يكون أحد تحتنا، إلا أن نأخذه بسياسة العلم والطريقة، لأن ذلك يسعه أو يخرج المهدي، فيكتفوا به منا إن أدركَنَا، قال: وقد قال بعضهم لرجل جاء يطلب منه الطريق: لا، بعدُ، فإني لم أر قلبي مجتمعاً عليك .
(1/28)


وقال رضي اللَّه عنه: الناس يحسبون أنا ندعو إلى الطريق الخاصة( ) وليس كذلك، لأن من كان عند الضيقة( )، لا نطرب عليه( ) اطلع إلى الغيلة( )، بل ننزل نفتح له الضيقة، ثم نطلعه، وذلك لأنا لم نر من يقوم بالدعوة العامة، ولو رأينا ذلك وعلمنا أن فيه كفاية لكان، إن كان عندنا شئ من الطريق الخاصة فهي مطوية، وإن دعونا أحداً مخصوصاً إلى طريق مخصوص، ونرى بعض الناس يدعون إلى الطريق العامة( )، ونحن وإياهم عليها، ولكن دَعْوتُهُم إلى مجرد العلم، ونحن ندعو إلى الخوف من اللَّه والخشية والعمل الخالص، ونحن مع أهل الزمان كصاحب الحمار الشيبة ينخسه كل ساعة إلى أن يُقَطِّع ظهره من الحك، ولا يسير .
وفي مجلس آخر قال: لا تظنوا أنا على الطريق الخاصة أبداً، لقلة أو عدم من يطلبها بصدق، وإنما نحن على الطريق العامة، طريقة أصحاب اليمين، وما يدريك لأن هذه( ) طريق إليها( )، لأن الطريق الخاصة قيل إنها رفعت، فإن كان قد رفعت فذاك، وإلا فهي مطوية وإن وجدت، ولكنا لو رأينا فقيهين ورعين لهما ديانة وأمانة، وقاما بإرشاد الناس، ويأمران بالمعروف، وينهيان عن المنكر، ربما تكلمنا بشيء من الطريق الخاصة، مع من هو أهل لذلك للتنفس والتروح .
(1/29)


وقال رضي اللَّه عنه يوم الجمعة ثامن عشر رمضان سنة 1128 ثمان وعشرين ومائة وألف: اعمل في هذا الزمان من الخير ما لا يشق عليك، ويمكنك المداومة عليه، فقليل دائم خير من كثير منقطع، واشكر على القليل يعطك اللَّه الكثير، ولا تنظر مثل أحوال بِشْرٍ والفُضيل( ) وأمثالهما، فإن هؤلاء حتى الصحابة رضي اللَّه عنهم لم يعملوا بمثل عملهم، لكن معهم( ) نور النبوة، وقد سئل بعضهم عن ذلك، فقال: كان الصحابة أكثر إيماناً، وكان التابعون أكثر أعمالاً، وأين زمانك اليوم من زمانهم، فإنك في القرن الثاني عشر، ولو بعث اليوم من هؤلاء واحد لتعجب وقال: ما ظننا أن الوقت يمتد قبل قيام الساعة إلى الآن والزمان يتناقص، من ذلك الوقت إلى الآن، ولما رأينا الزمان يتناقص، وأثر النقصان ظاهر على أهله، بنينا أمرنا في الابتداء على ثلاثة أشياء، الأول: أن لا نتحكم لأحد حتى نرى فيه أهلية التحكيم، فلهذا صحبنا كثيراً من مشايخنا من غير أن نتحكم لأحد، بل صحبة مجردة كما هي عادة السلف، صحبة بلا تحكيم كعادة الحسن البصري وغيره، كما يقال صحب فلاناً ولقي فلاناً، والثاني: أن لا نحكِّم إلا من نراه أهلاً، فإذا رأيناه متأهلاً لذلك، وألقى إلينا نفسه منطرحاً حَكَّمناه على مقتضى حاله، والثالث: أن لا نفيد ولا نستفيد إلا من متأهل للإفادة والاستفادة، والناس إذا سمعوا بأحوال الصالحين، يظنون أنهم يطلعون على الغيب( )، فمتى أرادوا كاشفوا الناس بخواطرهم، ويقال: الأنبياء يعلمون الغيب من أكثر الوجوه، والأولياء يعلمونه من بعض الوجوه( )، ولا يعلم الغيب كله إلا اللَّه :{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن ِفي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ}( )، { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}( ).
وقال رضي اللَّه عنه: علوم الغيب تتفرع إلى أمور كثيرة، وعلم الغيب المطلق هو للَّه خاصة .
(1/30)


وقال رضي اللَّه عنه: كلما بَعُدَ ما أخبر به الأولياء من المغيبات، كان ذلك أعظم للكشف.
أقول: وقد رأينا مما أخبر به سيدنا نفع اللَّه به شيئاً ما تبين إلا بعد أربع سنين، وشيئاً بعد تسع سنين، وشيئاً بعد أربعين سنة، وغير ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: أخبرنا رجل عن أبيه، أنه قال: إذا مات فلان [ أي سيدنا ] بقي الناس يضرب جباههم بعضها ببعض، فقلنا: لا، إن شاء اللَّه، وليس هذا الظن باللَّه، بل الظن باللَّه سبحانه أنه إذا راح واحد، خلفه بدل منه، قدم على قدم، إلى خروج المهدي، ونزول عيسى عليه السلام .
أقول: وفي ذلك رائحة من معنى قوله رضي اللَّه عنه: عندنا أمانة لا يحملها إلا المهدي، ومرة قال: أو أربعون من أصحابنا، ومرة قال: أو ستون، ومرة قال: أَخَذْنا من الكتاب والسنة ما لا يحمله إلا المهدي، وهكذا كل من بلغ رتبة الكمال، ومرة قال: عندنا من الشيخ عبداللَّه بن أبي بكر( ) أمانة لا يحملها إلا المهدي، صدر منه هذا الكلام متفرقاً في مجالس متعددة .
وذكر رضي اللَّه عنه في سند سلسلة إلباسه الذي طلبه السيد عبداللَّه بروم (من أهل الشحر): ولنا بحمد اللَّه منه أي العيدروس يد باطنة في واقعة عظيمة، بل وقائع متعددة، ولعل الواقعة هذه هي التي تروى عن السيد العارف علي بن عبداللَّه العيدروس: أن سيدنا الحبيب نفع اللَّه به زار التربة مرةً وَحْدَهُ، فلما أتى إلى ضريح سيدي عبداللَّه العيدروس بن أبي بكر رضي اللَّه عنه، رآه جالساً خارج القبر وداخل التابوت، وأنه صافحه وأعطاه وديعة، وأفهم هذا أنه محمول عنه، لا عن غيره للمهدي تتفرق عنه في المذكورين، حتى تجتمع كلها للمهدي، ولعلها مقام القطبية، والدعوة إلى اللَّه، وتجديد الدين، واللَّه أعلم.( )
(1/31)


وقال رضي اللَّه عنه( ): لا تصلح الخلوة والرياضة في هذا الزمان، لعدم شروطهما فيه، كأكل الحلال وغير ذلك، ولكن من بنى أمره فيه على ملازمة الفرائض، وترك المحرمات، وما استطاع من نوافل، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإعانة ضعيف، وإحسان إلى محتاج أو إقامة بمؤنته، وما شاكل ذلك، وثبت عليه حصل له ما حصل لأولئك برياضاتهم وخلواتهم، وأدرك ما فاته منها.
وسألته: ما السبب في استقواء الشهوات في هذا الزمان أكثر من الزمن السابق، فقال رضي اللَّه عنه: لأن أهل الزمن السابق كانوا أقوى يقيناً وأكثر حلالاً وأقرب عهداً بالنبوة .
وقلت له: أي عمل يعمل في تقوية القلب، كعمل الشهوات في تقوية النفس؟، فقال رضي اللَّه عنه: اليقين الكامل، فإن النفس لا تترك الشهوات إلا لخوف مزعج، أو شوق مقلق .
وقال رضي اللَّه عنه في بعض مكاتباته: إنا نسمح عند المذاكرة والمشافهة، بالشيء من هذا العلم( )، وإن كان دقيقاً ويحتاج إلى طول كلام، ولا نسمح بمثله في الكتب والمكاتبات، لأن المذاكرة إنما يعقلها ويعيها من هو من أهلها، ومن ليس منهم فعارض يعرض له، وشئ يمر به لا يبقى في يده منه شئ، وهذا من التأييد الذي أيد اللَّه به هذه الطائفة، ولا هكذا ما يرسم في الدفاتر، فإنه عرضة للبر والفاجر، فافقه .
(1/32)


وقد أخبرني الأخ الأكرم عوض بن صَبَّاح، وكان له فيما سمعت في خدمة سيدنا نحو سبعين سنة، قال: زرنا في قديم الزمن مع الحبيب التربةَ، فلما فرغنا من الزيارة، وبعد زيارة أهله، جلس على الدكة تحت قبة الشيخ عبداللَّه العيدروس رضي اللَّه عنه التي عند بابها النجدي( )، فتكلم علينا رضي اللَّه عنه بكلام جزل( )، ثم قال: أتظنون أنا مع أهل الزمان في مكان واحد يسمعون كلامنا، هيهات، بل بيننا وبينهم بحر عميق، واسع الطرفين، نحن في طرفه هذا، وهم في الطرف الآخر، ومَثَلُنا معهم كمثل رجل جاء من بلد بعيدة لا تعرف، وفيها من كل شيء من الأشياء النفيسة الغالية القيمة، وجاء معه منها بشيء كثير، وأراد أهل الزمان أن يشتروا منه شيئاً يسيراً جداً، فأخرج لهم من دنيّ القماش، فلم يوصلوا فيه قيمة، فأمسك على بقية ما معه من المليح، حيث لم يعطُوا في الدني قيمة، فاللَّه المستعان .انتهى .
وقال رضي اللَّه عنه: نحن مع أهل الزمان في العبادات والعادات، كالغريب الذي جاء إلى بلد لا يعرفها فرأى أمراً لا يعرفه، فسأل عنه فأُخبر به .
وقال رضي اللَّه عنه: علم الشريعة إذا عمل به يكون للعلم اللدني كالوعاء، فإن من هو من أهله يعمل به على مقتضى الشرع، وإن اطلع به على أمور لم يطالب بها شرعاً، كمن يُدعى إلى طعام وكشف له أنه حرام، فيجيب تبعاً لأمر الشرع، ولا يأكل فيجمع بين ذلك وبين جبر خاطره .
وقد قلت مرة لسيدنا نفع اللَّه به في معرض الكلام: إن في الكشف عن شأن الزاد الحرام لفائدة، ليَسلم من أكله، فقال: فإذا كشف له عنه أيجلس بلا أكل( ).
(1/33)


وقال رضي اللَّه عنه: إذا أحس العبد في قلبه بداعية للطاعة، وبغض للمعاصي، فلا يخلو قلبه من نور، وبه اهتدى( ) إلى ذلك كالسراج في البيت المظلم، إذ لولاه لم يهتد إلى رؤية أدنى شئ عنده، ثم إنه يظهر بعد تمكنه في الباطن على الظاهر، كما حكى: إن حجَّاماً دعا جماعةً من الصالحين على طعام حرام، فلم تمتد إليه أيديهم، فعالجوا أن يأكلوا منه، فلم يستطيعوا فخرجوا، فقال بعضهم لبعض: رأيته دماً عبيطاً، وقال آخر منهم: رأيته ناراً، وهذا أكمل من الأول، إذ رآه على حقيقته وهي النار .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا سمعت من بعض الأولياء شيئاً من الخوارق، فإذا عجز عنها العقل يسعها الإيمان، وابق على تنزيهك لربك، وانسب ذلك إلى القدرة . ودعوى الولاية يقابل بالإنكار، فيتعين على الولي السكوت عن دعوى الولاية، وإنما الذي يتعين أن يُدَّعى النبوةُ، لأنه مطالب بالتبليغ لها، ولا كذلك الولاية فلا يدعيها أحد منهم، إلا في حالة الغلبة .
وقال رضي اللَّه عنه: الولاية من سر النبوة، إلا أن الولاية لا تبقى مع النبوة، فينطوي سر الولاية في سر النبوة، حتى لا يبقى له ظهور إلا في عالم الظهور .
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: درجة الولاية تحت درجة النبوة، وقد يعطى الإنسان من هذا المقام ما يعينه على الإنابة إلى اللَّه، والزهد في الدنيا، وقد يعطى منه ما يرى بسببه الطريق إلى اللَّه، وإن لم ير السالكين عليها، وأحدهم يعطى ما يرى به أقدام السائرين، فيسير على آثارهم، ومنهم من يعطى ما يرى به آثار أقدامهم في الطريق، وكل مرتبة أعلى من مرتبة، فينبغي أن يكون الإنسان على شئ من هذه المراتب، وإن قدر أن يكون على الأعلى فالأعلى، ولا يمكث أعمى لا يدري ذهابه إلى أين، وكلما قَرُبَ من التشبه بهم، وتسَيّر بِسِيَرِهم فَحَسَنٌ، ويرجى أن يلحق بهم، أو كما قال .
(1/34)


وقال رضي اللَّه عنه: كل رتبة من رتب النبوة تحتها رتبة من رتب الولاية، وقد يكون ما مع الإنسان إلا خمس رتب، فيحكمها ويدعو إليها في الظاهر، وقد يتحقق بها في الباطن، فإذا أحكم الرتب كلها وتحقق بها، صار هو القطب، وقد قال بعضهم: أعطيت مقام القطبية، ولكني إسْتَنَبْتُ فيها غيري .
ورأيت بخط السيد العارف أحمد بن زين الحبشي رحمه اللَّه، قال: حضرت عند سيدنا الحبيب عبداللَّه الحداد نفع اللَّه به، فسأله رجل: ما أجزاء الولاية؟، فقال له في الحال - أي من غير تفكر -: أربعون جزءاً، فقال: مكتسبة أو موهوبة؟، فقال: كلها مكتسبة إلا جزءاً واحداً، فإذا وصل إليه اندمجت كلها فيه، وصارت كلها حلقة ملقاة في فلاة .انتهى .
وأنشدتُ يوماً بين يدي سيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به،بأمره لي أن أنشد بقصيدته التي أولها( ):
سقى اللَّه ربعاً حل فيه الذي أهوى ... ومَنْ حبهم والقرب كالمن والسلوى
ثم بعدما فرغت، قُدِّم طعام لمن حضر، فقال سيدنا حينئذٍ: ما يكون الرجل عندهم رجلاً حتى يكون فيه من كل جزءٍ من أجزاء الإنسانية( ) نصيب، وينقص منه جزء من كل جزء من أجزاء النفس( )، ويختلف الناس في ذلك، كل على حسب مرتبته ومنزلته عند اللَّه تعالى، فالأولياء في ذلك مختلفون، حتى ينتهي إلى مرتبة القطب، فهو أكمل في ذلك من غيره، ولا أحد استوفى من ذلك أكثر من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وكلما كمل العبد صارت الغلبة للأعمال الروحانية، وانغمرت فيها أمور النفس، حتى يتوهم فقدها أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: على قدر خصوصية الإنسان، تَلطُف كثافاتُ نفسه، والانتفاع الأعظم في قوة الاعتقاد .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يعرفُ منازعَ العلوم، ويعمل بما علم، إلا ولي أو من هو سائر على سير الأولياء .
(1/35)


وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: إن الإنسان إذا نزل من درجة الإنسانية بأن غلب عليه الهوى والشهوة جداً، بحيث تذهب منه المروءة فيصير حيواناً بحسب ما غلب عليه، لأن كل حيوان تغلب عليه صفة من هذه الصفات، يُعرف بها، ومن غلبت عليه واحدة منها من بني آدم نسب بسببها إلى ذلك الحيوان الموصوف بها، فإذا أراد الوصول إلى اللَّه، يحتاج إلى مجاهدة، حتى يصل إلى درجة الإنسانية أولاً، وهي ما يختص بها الإنسان دون بقية الحيوانات، ثم يجاهد أيضاً حتى يصل إليه [ أي إلى اللَّه تعالى ] .
وقال رضي اللَّه عنه: من ازداد في دينه بكثرة الطاعات وقلة المباحات، وربما كان المباح بفعلهم طاعة وزُهداً في الدنيا، فمن كان كذلك فقد ارتقى من درجة الإيمان العامة إلى الخاصة، ومثله كمثل طير معلق في قفص . وقد خرج منه ولم يبق إلا رجلاه فيه، أو على الدرجة العامة، إذا لم يترك لازماً، ولم يفعل محظوراً، ولكن لم يمعن فيما يحمده الشرع كالأول، ولا فعل محرماً أصالة، فهو متوسط، وهو الغالب من الناس، وإن نزل عن هذه المرتبة، بأن جعل المباح حراماً، وإن لم يقصر في الواجب، كمن ينظر إلى مَحْرم بشهوة ونحو ذلك، فهذا طبعه فاسد، انحط عن الطبيعة العامة، إذ لم يقيد اللَّه ورسولُه إباحة ذلك على عدمها، حيث كان لا يقتضيه الطبع، فمثال هذا يجب عليه أن يرقّي نفسه، إما برياضة، أو عزلة، أو ارتقاب( ) أو نحو ذلك، حتى يرجع إلى الوسط( ) وإن قدر بعد ذلك على الترقي فلا يَتْرُك .
وقال رضي اللَّه عنه: طرق التصوف وإن تعددت فهي طريقة واحدة، وهي مجاهدة النفس، والخروج من كل ما تدعو إليه، وهذا أمر عسر .
(1/36)


وقال رضي اللَّه عنه: إنا لم نحمل الناس على طريقة المقربين، ولم نكلف أن نحملهم عليها كثيراً، إن حملناهم حملناهم على طريقة أصحاب اليمين، لأن الناس كلما لهم ينكصون قليلاً قليلاً، ينكصون أولاً عن مقام الإحسان، ثم عن مقام الإيمان، ثم هم في هذا الزمان، أكثرهم يكاد يخرج عن دائرة الإسلام والعياذ باللَّه، حتى قال بعض الشاطحين، لما قيل له ادع للمسلمين: أخاف ما عاد أحد من المسلمين، وهذا كلام في غاية الخطر، لأن أثرَ ظاهرِ الإسلام ظاهرٌ عليهم، وقد قال الإمام أبوبكر الباقلاني: إن إدخال ألف كافر في الإسلام بشبهة إسلام واحدة، أسلم من تكفير مسلم واحد، بألف شبهة كفر .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا حصلت العناية الإلهية، حصل السلوك كسقي السيل، ودون ذلك كسقي الآبار، وفي الحقيقة كل عمل إنما يحصل بالعناية الإلهية، قال بعضهم: لا بد في كل عمل من الجذب، ولولاه ما أمكن ذلك .
(1/37)


وذكر رضي اللَّه عنه الأعمال واحتياج الإنسان إلى فعل الخير، وذلك يوم السبت خامس عشر شهر رمضان سنة 1124، فقال رضي اللَّه عنه: ( الجَدُّ في الجِدِّ والحرمان في الكسل ) وأن اللَّه تعالى لا يترك المؤمن في الخير من إحدى همتين: إما همة العادة، أو همة الفتوح، فهمة العادة أن يكون يعتاد شيئاً من الخير، فهو يفعله ويهتم به لاعتياده له، والثانية يعرفها من حصلت له وذاقها، وقد جاء في الحديث: (( إن الخير عادة))( )، فقلت: إن همة العادة ناقصة بالنسبة إلى الأخرى، فقال رضي اللَّه عنه: لا، إذا لم تحصل لك تلك فلا تترك نفسك، بل كلفها واحملها على فعل الخير بالتكلف لتعتاده، وقد يحصل للإنسان شيء من همة الفتوح، فإذا باشر مفسداتها فسدت، فقلت: وما مفسداتها؟، فقال: مجالسة الغافلين، وترك الذكر، وفضول الكلام، وأكل الحرام، والكذب، وأمثال هذه، ولها أركان، إن حصلت استقامت وثبتت، وإلا ذهبت وانمحقت، فقلت: وما ذاك؟، فقال: أكل الحلال، ومجالسة الصالحين، والذكر، وترك الخوض فيما لا يعني، أو قال فيما لا ينبغي .
وقال رضي اللَّه عنه: وفي الغالب إن اللَّه سبحانه وتعالى إذا أجرى عبداً على عادة( )، أنه يمشيه عليها لأن عادة اللَّه جارية( ) .
وقرأت عند سيدنا يوماً قصيدته التي أولها( ):
إن كان هذا الذي أكابده يبقى عليَّ فلست أصطبر
فلما وصلت قوله :
ما كادت الفانيات توقفني ... إلا زوته( ) العلوم والفِكَرُ
فقال رضي اللَّه عنه: العلوم الحقيقية لا تفهم وتُعرف بالشرح، بل من وصلها عرفها، كتعليم الصغير الوقاع، فإنه لا يعرفه حتى يكبر، وأصل وضعها مع ذلك خواطر تخطر لهم.
(1/38)


ورأيت بخط الشيخ عبداللَّه بن سعيد العمودي( ) ما لفظه، قال: كنت ذات يوم بمسجد الهجيرة عند سيدي عبداللَّه الحداد، وذلك في صفر من سنة 1095 عشية ذلك اليوم بعد الدرس، وهو جالس على العادة في ممشى البركة إلى المسجد، وأنا في الضاحي، وفي نفسي يحوك أن يدعوني، إذ نادى عليَّ وعنده شريف وخادم، إذ فرقهما كُلاًّ في حاجة، وأقبل عليَّ بالكلام وقال: كم ألسُنُ الدعوة؟، فقلت: اللَّه ورسوله وأنتم أعلم، فقال: ابتداءً - أي من غير تفكر - خمسٌ، وهي: أن تدعو العامة بلسان الشريعة إلى الشريعة، وأن تدعو أهل الشريعة بلسان الطريقة إلى الطريقة، وأن تدعو أهل الطريقة بلسان الحقيقة إلى الحقيقة، وأن تدعو أهل الحقيقة بلسان الحق إلى الحق( )، وأن تدعو أهل الحق( ) بلسان الحق( ) إلى الحق( )، قال: وهذه الأخيرة فتح علينا بها الآن .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا دعوت لأحد فادع له بالبركة والصلاح والهداية، فإذا وُجد الدين فلا معول على الدنيا، ولن تعدم من اللَّه الكفاية، فإن وُجِدَتْ معه فالحال تمام، ولا تنفع الدنيا إذا عدم الدين .
(1/39)


وقال رضي اللَّه عنه: يجب على من أراد الدخول في الطريق الخاصة، طريق أهل اللَّه أن يتفرغ عن الدنيا بقلبه وقالبه أولاً، وإنما يدخر قدر الحاجة بأمر آخر في النهاية آخراً، وإشغال الأوقات كلها بالذكر والطاعة، وحفظها كلها والإقبال على أمور الآخرة بالكلية، كل هذا( ) من الطريق العامة، وهي المهيع الواسع( ) الذي عليه السلف، وهو الذي يسع عامة المسلمين، وأما الخاصة فهي الفراغ عما سوى اللَّه في الظاهر والباطن، والتخلي عن الصفات المذمومة بتفصيلها، والتحلي بالمحمودة بتفصيلها، والعامة هي طريق أصحاب اليمين، والخاصة للمقربين، ولا ينالها قبل إحكام الأولى ولو عاش عمر نوح، ومن لا يحكم صلاته أو زكاته أو غير ذلك كما ينبغي، كيف يصل إلى الخاصة، بل هذا عَادَهُ خَلْف الباب، لم يصل إلى قرب الدخول، ولكن من أحكم العامة في هذا الزمان، بلغ ما بلغه الخاصة المقربون، لانقطاعها فيه، وعدم سالكيها، ومن يرجو المخلوقين ويتعلق بهم، أو يرجو نفعاً منهم، كيف يحصل له الترقي في مقامات اليقين، ومن تعلق بهم فقد ترك اليقين، وتعلق بالوَهْم، وفعلُ اللَّه هو اليقين والحقيقة، وأفعالهم هو الوهم، ولا هكذا ينبغي، بل ينبغي كما هو في قاعدة الفقه، أن يستصحب اليقين، ولو طرأ الوهم والشك لا يترك اليقين لأجله، ولهذا يكون المتعلق بهم( ) خائباً في الغالب مع الذلة وشغل القلب، قال ذلك عشية يوم الاثنين وعشرون في المحرم سنة 1123 .
وقال رضي اللَّه عنه: الإنسان ضعيف، ولأجل ضعفه يتعلق بالتوهمات أكثر من تعلقه باليقينيات .
(1/40)


وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الثاني منها، فقال: دَرَكُ الأولياء أهل الإدراك صحيح من توجههم إلى اللَّه في تحصيل ما ينفع، ودفع ما يضر، وهم العمدة في تحصيل ذلك، لكن يكون هذا إذا كان المطلوبُ لهم أو قال الرعية، مستقيمين لما طلب منهم، مجتنبين لما نهوا عنه، وأما إذا خالفوا فلا يحصّل الأولياء لهم ذلك، كمن يطلب لبناً من ثور، فلا تكون الكرامة إلاّ مع الاستقامة، كيف يطلبون حقاً لأنفسهم، ويضيعون حق ربهم، وقد ذُكِر أن بعض الدول( ) أراد دخول البلد في وقت الشيخ عمر المحضار، فلم يقدر إذ كانوا مستقيمين، وآخر في وقت الشيخ عبداللَّه العيدروس ثلاث مرات يطلب الدخول، فلم يُمَكَّن، ثم في الثالثة تلقاه الشيخ عبداللَّه، وقال له: إنك لا تدخلها الآن، وعادك تدخلها، فلما تغيروا بعد ذلك دخل عليهم فأشغلهم .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل البرزخ من الأولياء في حضرة اللَّه، فمن توجه إليهم( ) توجهوا إليه( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: أحياء الأجسام( ) ما عاد ينفعون، بل أحياء الأرواح، لكونهم قريبين من الحضرة الإلهية .
وقال رضي اللَّه عنه: الصالح الحي فيه خصوصية وبشرية، وربما غلبت إحداهما الأخرى، وخصوصاً في هذا الزمان تغلب البشرية، والميت ما فيه إلا الخصوصية فقط .
(1/41)


وقال له رجل: أريد زيارتكم، فقال: إن شاء اللَّه إن لحقتمونا، وإلا فقبورنا تنوب مَنَابَنَا، فإن الأخيار إذا ماتوا لم تفقد منهم إلا أعيانهم وصُوَرهم، وأما حقائقهم فموجودة، فقيل له: اللَّه يمتع ببقائكم، فقال: وإلى متى يكون ذلك؟، قد دنت الأمور، وإذا رأى الإنسان الضعف، وأمارات الكبر، ظن أنه قرب أمره، ومرادنا عسى أن العيال يكبرون، عسى اللَّه أن يكون منهم نائب عنا، قال تعالى: { وَاجْعَلْ لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي }( )، ولو ناب عنا حتى أربعون رجلاً، وقد أخذنا عن كثيرين من المشايخ، لو عددناهم بلغوا مائة وأربعين .
وقال رضي اللَّه عنه: يقال: في زيارة القبور، نُجْحٌ لِمَا تَعَسَّر من الأمور .
وقال رضي اللَّه عنه: قاعدة: من كان في المرتبة، يعينه أهل زمانه كلهم، ويعينه الأولياء، الظاهر منهم والخامل، ولو بالدعاء، وأهل الدوائر ما يتسببون في أمر المعاش، إنما سببهم الإيمان والتقوى، وقد قيل للشيخ أبي مدين: إن أصحابك يتسببون لمعاشهم، وأنت ما تتسبب، فقال: إني تسببت بسبب خير من سببهم، قال اللَّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ }( ).
وقال رضي اللَّه عنه: إن الإنسان ضعيف، إلا إن أَمَدَّه اللَّه بقوة وَسَلْطة . وكل الأمور ينبغي أن يأخذ بأوساطها، لأن عن يمينك طريقاً وعن يسارك طريقاً( )، فإذا كنت على الوسط، إن ملت ملت إلى أحدهما، وإن خرجت منه( ) خرجت إلى المزلة، إلا إن شككت في الأمر المطلوب، فخذ بما فيه من اليقين، كمن يشك أنه كريم أو بخيل، فليأخذ بالكرم يفعله أو كما قال .
(1/42)


وقال رضي اللَّه عنه: جعل اللَّه في الإنسان قابلية لكل شئ، لكونه يريد أن يجعله محلاً لخطابه، فلو لم يكن قابلاً لكل شئ لم يكن أهلاً لخطابه تعالى، وقد قال سبحانه: { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ }( ) الآية، وقال تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}( ) الآية .
ولما جلس في الضيقة خارجاً لصلاة العصر، يوم الأحد سادس شوال سنة 1126، فأول ما تكلم به رضي اللَّه عنه حين جلس، استأذنه بعض الفقراء أن يعاود( ) بعض السادة، فقال: كيف تروح وأنت صائم؟( )، تريد أن تحكي لهم أنك صائم، قال: ما أحاذره( )، قال لو لم يكن إلا علمهم بكونك صائماً، خل عملك إذا تعبت فيه يكون مستوراً، لعل اللَّه يقبله، وإلا راح التعب بلاش، ثم التفت إليَّ وقال: فلو كان لك عبد قائم لك بالخدمة لكرهت أن يُعلم الناس بأنه يخدمك، وللشيطان على الإنسان مداخل خفية، والرياء يجري فيه مجرى الدم، أما ترى يحيى بن معاذ الواعظ المشهور، وكان من كبار تلامذة أبي يزيد البسطامي، وكان يرقى للوعظ على المنبر، قال لجاريته: إذا جئتُ بغداد إنفتح لي الكلام في الوعظ، وكان يحضره( ) الخلفاء والأمراء وأبناء الدنيا، وإذا كنتُ في غير بغداد لم يكن مثل ذلك، فقالت له: يا سيدي هذا بسبب الرياء، واللَّه سبحانه لا يأخذ العبد حتى تقوم عليه الحجة من عمله، بحيث لو بلغ هو رتبة القضاء، وقيل له: إقض أنت فيمن عمل هذا العمل، لقضى بما جوزي عليه، وإن لم يكن هو عمله، فقال فقير آخر: إني رأيت هذا في نفسي، وتيقنت إنه الرياء لأنه كان في شهر رمضان، إذا طلعت البلاد أحس نشاطاً، ولا يجيني نوم، مع أني ما أحب أن يعرفني أحد، ولو أحرمت بركعتين في الحاوي طرأ عليَّ النوم، حتى إني لا أتمهما إلاّ بشدة، فقال رضي اللَّه عنه: هو الرياء بعينه، واللَّه تعالى خلق جنة وجعل لها درجات، وخلق ناراً وجعل
(1/43)


لها دركات، وقد حكم بأن يُمْلِيَ كل واحدة منهما، ولهذا اختلفت أحوال الناس في الرياء ونحوه، وفي الإخلاص كذلك، فليس إخلاص العامة، كإخلاص الخاصة، ولا إخلاص الخاصة، كإخلاص خاص الخواص، فكل طبقة من الناس لهم رياء، ولهم إخلاص، ويكون إخلاص قوم رياء قوم آخرين، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، وكان بعضهم قد صلى في الصف الأول نحو أربعين سنة، فتخلف يوماً حتى ضاق الصف الأول حتى لم يمكنه الصلاة إلا في الصف الأخير، فرأى في نفسه حياء، حيث خالف عادته فقضى صلاته في تلك المدة كلها.
وسمعت المعلم باغريب( )، يستأذنه في بناء مسجد في نَخْلِهِ قرب مسيلة عِدِم، بعد ما خَرَّب السيل مسجداً كان به، فقال رضي اللَّه عنه له: إن كان نيتك في بنائه خالصة للَّه، ما نردك عن بنائه، وإن كان نيتك ما هي خالصة فلا تبنه، قال: بلى إن نيتي خالصة، قال: انظر لو بنيته وتعبت في بنائه، وصرفت فيه مالاً كثيراً، فلما تم لم ينسب إليك، إنما نسب لغيرك، فقيل مسجد فلان، واشتهر بذلك وأنت ما نسب إليك، ولم تذكر به في شيء، هل ترى نفسك تطيع لذلك؟، ففكر قليلاً، ثم قال: ما أرى نفسي مطيعة لذلك، فقال سيدنا له: اتركه فإن نيتك غير خالصة .
(1/44)


وقال رضي اللَّه عنه لبعض الفقراء وقد استأذنه في صيام الاثنين والخميس، فقال: خذ نفسك بما سهل عليك، فقال: لو لم آخذ نفسي إلا بما سهل علي، ما فعلت شيئاً، فقال: خذ نفسك بما سهل عليك وأحكِمْه، ثم ترق إلى ما هو أعلى منه، وهكذا الأول فالأول، وترق من درجة إلى ما هو أعلى منها، ولو فعلت بعضاً من هذا وبعضاً من هذا لبقي محجوزاً ناقصاً، ولكنك تِمَّ الأول، ثم ارجع إلى الثاني، وهكذا وخذ من العمل ما تطيق ويمكنك المداومة عليه، ولا تكثر حتى تمل، فتفعله مع الملل والتكلف، فإن هذا وصف المنافقين، قال اللَّه تعالى: { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى}( ) فذمهم بالفعل مع الكسل، لا بعدم الفعل، ولا تقصر بحيث لا تعمل شيئاً، فإن اللَّه ما كلف العبد بشيء إلا وجعل له من المعونة أضعافه، ونحن وإن لم نحكم كل المقامات بالعمل( )، فنحكمها بالعلم ونعمل بعمل العامة( )، ونأخذ الناس بأعمال العامة( )، على ما سَهُلَ عليهم وتيسر أولاً، ثم نرقيهم ونأمرهم بما يناسبهم أولاً، ثم إلى أعلى منه، وبهذا السبب تَبِعَنا ناس كثير، أكثر ممن اتبع المشايخ ممن مضى، لأنا نعلم ضعف الناس وعجزهم، ولو كلفنا الناس أن يعملوا بما نعلم، أو قال: بما نريده منهم، لنفروا عنا بمرة( )، انظر إلى عمر بن عبدالعزيز لم يساعده زمانه على الكلام الذي قاله له ابنه عبدالملك، وهو في القرن الأول، أفيساعدنا على ذلك زماننا هذا ونحن في القرن الثاني عشر، ولو قلنا لأهل تريم: افعلوا كذا، ونأمرهم بما أردنا، لما جاءنا منهم واحد، وهذا هو الذي منعنا من الكلام في هذه العلوم( )، لأن الكلام فيها يؤيسهم، وهل تحاول الغزل المبلول إذا اشتبك بما تحاول به الحبال القوية من القوة، لا بل باللطف والسهولة، فخذ من العمل ما خف وسهل عليك، ثم ترق من شيء إلى شيء، فسيروا إلى اللَّه عرجاً ومكاسير .
(1/45)


وسُئل رضي اللَّه عنه عن معنى الترقي الذي يذكرونه؟، وبأي شيء هو؟، وما الذي يُبدأ به؟، فقال نفع اللَّه به: هو الترقي في أحكام الإسلام وحقائق الإيمان واليقين، ويحكمها شيئاً فشيئاً، فيبدأ بإحكام الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يمازحه: لئن تُرِد عشاك من سماء الدنيا، فإن حُجتك إلا على قدْرها، فإن سماء الدنيا حد حقائق الإيمان، وتحتها خزائن النيران، ولا تظنن أن أحداً له مع الحق كلام، إنما هم عبيده يعطيهم حقه، ويثني عليهم .
وقال رضي اللَّه عنه: قد بطنت علومنا الظاهرة لعدم المتلقي لها، ما هو إنه ظهرت علومنا الباطنة، وهنا أقوام يتكلمون في علوم، لا نعدهم في العلماء أصلاً، ولا نعدها في العلم .
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً أنكروا على بعض الصالحين، فقال: أقوام تجردوا من الدنيا وزهدوا فيها، وأقبلوا على اللَّه، وأخلصوا له الدين وانقطعوا عن الدنيا بقلوبهم، حتى ظهرت عليهم أمور غريبة، كيف يسوغ تكفيرهم، وقد قال الإمام أبوبكر الباقلاني: إن إدخال ألف كافر في الإسلام بشبهة إسلام واحدة، أسلم من تكفير مسلم واحد، بألف شبهة كُفر( )، وقد ذكر ابن عربي( ) أنه لما استلم الحجر الأسود في الحج، خرجت من فيه لا إله إلا اللَّه كالسلك، فالتقمها الحجر إشارة إلى أنه هو العهد الذي أخذ عليه لما أداه.
ورأيت بخط الحبيب علوي رحمه اللَّه تعالى ابن سيدنا الحبيب عبداللَّه نفع اللَّه به، قال: تكلم الوالد في المشورة وفي نفعها ومحمود عاقبتها حتى قال: ينبغي للإنسان أن يشاور كبيره حتى في قبره بعد موته .انتهى .
(1/46)


وتكلم سيدنا في مشورة أهل الزمان، فقال: إن مشورتهم اليوم، إنما هي استفتاء فَأَفْتِه بما تراه من حيث العلم، فمن استشارك في حجة الإسلام مثلاً، فانظر له من حيث الاستطاعة وعدمها، وإن أمكنك السكوت ولا تشير على أحد بشيء فهو أحسن، لأن النيات اليوم معلولة، لعل مراده يتخلص من حجة الإسلام، ليصلح لأن يحج بالأجرة، وإن كان ولا بُدَّ فلا تشر إلا على من تَعْلم حاله، بأن يكون من أهل بلدك ولا يخفاك حاله، ولا تبحث عنه فتصير متجسساً، أَوَ يريد الإنسان أن يحمل ذنوب غيره؟، يكفيه أن يحمل ذنوب نفسه، وما مرادهم إذا استشاروا الصالحين إلا أنهم يعرّفونهم الطريق الأَنْسَب في أمور دنياهم فيشيرون بها عليهم لتنمو وتزيد، لا أن يعرِّفوهم الصواب وليتباركوا بمشورتهم ورأيهم، وأنا من عادتي لا أشير على أحد بمسير إلى بلاده، ولا بأمر من الأمور، إلا إن طلب المسير، قلت: ذلك صواب، وأوصيه بتقوى اللَّه تعالى. والإشارات الباطنة غير هذه، لأن تلك أسرار لا يجوز إذاعتها وإطلاع الناس عليها، فمن أراد سفراً مثلاً فاستشارك، وعلمت أنه بعد شهر يموت أو يقع في شيء، أو يقع عليه شيء من الأمور، أفتخبره بذلك وتأمره بالجلوس من أجله؟، لا، ولم يفعله النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ولا الصحابة، وهم المكاشفون بالحقيقة، وأَحْرى بالكشف من غيرهم، وهي أمر خاص( )، لا يشار بها إلا على الخصوص، وأما الإشارات الظاهرة فهي مجرد فتاوي، وهي مذكورة في فتاوى العلماء، وقد استشار رجل بعض الصالحين في سفر، فقال له: إن سافرت هذا الوقت قُتِلْتَ وأُخِذَ مالك، فاستشار الشيخ عبدالقادر [ أي الجيلاني ] أيضاً، فقال له: تروح وتجيء سالماً، فقيل للشيخ عبدالقادر في كلام الأول، فقال: إن كشفه صحيح، وإني سألت اللَّه تعالى أن يحوله في النوم .انتهى بلفظه ومعناه، وهو من جملة ما تكلم به في داره التي في البلاد ضحى يوم الجمعة غرة شعبان سنة 1124، قال: وإذا
(1/47)


استشارنا إنسان في شيء، ورأيناه مائلاً إليه، أشرنا عليه به وزَيَّناه له ما لم يكن مخالفاً للشرع، فإن لم يظهر منه ميل أشرنا بما نراه .
ورأيت بعض الفقراء استشاره في الحج مع والدته، وذلك في أول شهر رمضان من السنة المذكورة( )، وقد علم منه عدم الاستطاعة، فقال له: صلِّ معها صلاة الصبح آخر جمعة من رمضان في جماعة بحيث لا يراها الرجال، واجلس معها( ) اذكر اللَّه حتى تطلع الشمس، ثم ليصلي كل منكما ركعتين، فذلك حجة وعمرة يكفيكما .
وذكر رجلاً من السادة سافر إلى الهند بعد ما أشار عليه بالجلوس فقال نفع اللَّه به: محل المشورة الأشياء الاختيارية، وما عداها فهو فيه مضطر مقهور، بأن تعلق قلبه بأمر وجزم على فعله، فلا ينبغي أن تشير عليه بتركه( )، فإنك إن أشرت عليه خالفك، وإن أجاب فبكُرْهٍ وتكلفٍ .
وقال رضي اللَّه عنه: إن أهل حضرموت عليهم دعوة ولي بلا شك، في مسير الهند، وإلا فأحدهم ما يصدِّق على اللَّه يشوف تريم، أي ثم لم ينشب أن رجع إليها، ثم قال: الخلق مكلوفين على ما خلقوا له، فإن الحق أراد بهم وأراد منهم، فالسعيد من وافق ما أراد به الحق وأراد منه، والشقي من اختلفت به الأمور، ثم قال لي: فاحفظ هذه الحكمة إن كنت حافظاً .
وشكا إليه رجل من القاطنين في الحاوي، من حاله وسوء طبعه، فقال: ما عليك، الطين اليابس إذا سُقِيَ بالماء هو إلا يلين، وإنما الذي لا يلين بالماء الحجر .
(1/48)


وأتاه جماعة من السادة زائرين، فلما أرادوا مصافحته قام آخر غير شريف ليصافحه قبلهم، فقلت له: تأخر عنهم ليصافحوا أولاً، فأبى إلا أن يصافحه قبلهم، وسمع قولي له ومعالجتي معه، فلما أن صافحه قبض يده بيده اليسرى حتى صافحوا، ثم قال له: لِمَ تتقدم عليهم، وقد قدمهم اللَّه عليك وكان ذلك وهو خارج لصلاة الظهر، فلما دخل الضيقة بعد الصلاة، قال لي: إنما نحن قائمين للناس في مقام الرفق، فتعلم منا الرفق واللين، فقد شكا الناس من قوة طبعك، ونحن نعرف طباعكم، يا أهل تلك الجهة( ) أنها قوية، فلا تتغلظ على أحد، قال اللَّه تعالى لنبيه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}( ) الآية، وإذا رأيت أحداً يسيء الأدب، فإن كان معذوراً في ذلك، بأن كان غريباً لم يعرف الحال، أو بدويَّا فنحن نؤدبه، وإن كان غير معذور بأن كان متجريَّا فتكفيه القدرة .
وقال رضي اللَّه عنه لأحد رجلين من الزوار: اجلس إلى الآخر، فقال رجل آخر ممن كان حاضراً مرحباً، فقال له لا تقل ذلك، أكان الكلام إليك؟، ثم قال نفع اللَّه به: إن أهل الزمان طائشة نفوسهم، فإذا طلبت من أحدهم أن يجيء ببدنه أدبر بقلبه، ولو جاء بالبدن عشرين مرة مع إدبار القلب ما نفعه ذلك، ولو جاء بالقلب مرة واحدة انتفع وإن أدبر ببدنه، ونحن ما نطلب من الناس أن يَجُوا بمجرد أبدانهم، إنما يَطْلُب ذلك الملوك، فيجون طوعاً وكرهاً، وإنما نطلب نحن القلوب لا الأبدان، وأنشَدَنا هذين البيتين للإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى( ) :
فقل لأناس يتمنون أن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وقل للذي أُبقيَ من بعد من مضى تهيَّأ لأخرى مثلها فكأن قَدِ
(1/49)


أقول: أنشأهما الإمام الشافعي رحمه اللَّه، لما سمع أشهب من أصحاب الإمام مالك، يدعو عليه وهو ساجد ويقول: اللَّهم أمِت الشافعي، وإلا ذهب علم مالك( )، فذكروا أن الإمام الشافعي بعد ذلك بأيام، نحو سبعة عشر يوماً توفي، واشترى أشهب من تركته عبداً أو جارية، ثم بعد نحو سبعة عشر يوماً مثل تلك المدة، مات أشهب، واشتُري ذلك العبد أو الجارية من تركته، فذلك قوله تهيَّأ لأخرى مثلها .
وقال رضي اللَّه عنه: الطريقة التي تذكر، إنما هي طريقة باطنة، وهي العقائد والأخلاق، وإنما مُثّل لها بالطريق الظاهرة، لتُعقل وتُفهم .
وقال رضي اللَّه عنه: الحقائق إذا تبعتها طرائق سَلَّمْنا لصاحبها وإن كان حقائق بلا طرائق فإنما هي أخت الزندقة، والشريعة علم، والطريقة عمل، والحقيقة ثمرة وكل من الثلاثة قسمان، ولا عليك من فروعها، فإن عملت ظاهراً فثمرتك ظاهرة، وإن عملت باطناً فثمرتك باطنة، ومن أظلم قلبه عمل بالمعاصي وهي ثمرته، وكان الشيخ عبداللَّه العيدروس يمثل للشريعة باللبن، وللطريقة بالزُّبْد، وللحقيقة بالدُّهن، والزبد هو الدُّهن بعينه، ولا فرق بينهما إلا أن يطبخ الزُّبد ويكبس وصار دُهناً، وقال الشيخ عبداللَّه العيدروس رضي اللَّه عنه: حكَّمت( ) ربع أهل الدنيا، قال سيدنا: يعني أُذِن له في تحكيم ربع أهل الدنيا، ولعل هذا لأجل القدر الذي أمهر عليٌّ فاطمةَ رضي اللَّه عنهما، فقد جاء في بعض الأخبار أنه أمهرها ربع أهل الدنيا، قال سيدنا نفع اللَّه به: والذين انتفعوا بنا أكثر من الذين انتفعوا بالشيخ عبداللَّه .
(1/50)


وقلت لسيدنا نفع اللَّه به: ما يطلب الإنسان إلا أن يستيقظ من غفلته، ويتوب إلى ربه، فما السبب الذي يتوصل به لتحصيل ذلك، قال رضي اللَّه عنه: إعمل بما تقدر عليه ويمكنك، واتق اللَّه ولا تتعرض لما يبطله عليك، فإذا عملت واتقيت، يكون عندك شيء لم تعلمه، والاستتار في هذا الزمان أسلم، كما في قصة إبراهيم الأعزب( )، أنه أخذ أحوال أصحابه وقال: هذا أسلم لكم في الدنيا، ولعل ذلك بسبب تذبذبهم، قلت: فما ينفع عمل لا ذوق فيه ولا حضور، أعني إذا سُلبوا الأحوال، قال: ذلك ليس إليك، ويكفيك ما ضربه رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مثلاً لليهود والنصارى مع المسلمين .
وقال رضي اللَّه عنه: ما يصح لأحد عندنا قَدَم في زهد، أو عبادة، أو فقر، أو غير ذلك أصلاً، حتى يرمي بالدُّنيا خلف ظهره بالكلية، صادقاً في ذلك، وأهل هذا الزمان لا يلازم أحدهم أحداً من أهل الصدق والدين إلا لطلب أن تحصل له الدنيا الذي( ) قد حَذَفَ( ) بها، وألقاها خلفه، وقَلَّ أن يصدق أحد منهم في ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: ما يكون شيخ الإنسان إلا من اجتمع قلبه( ) عليه( )، حتى لا يرى أن أحداً أفضل منه، فذاك هو الذي ينتفع به، قال رضي اللَّه عنه: ومن كان منتفعاً في العلم الظاهر والعمل، إذا أذن اللَّه له في الفتوح، ما يكون إلا على يد رجل كامل، كما في قصة السيد يوسف( ) الفاسي، وكان كاملاً في العلم الظاهر والعمل فجاء إلى الشيخ أبي بكر بن سالم فأخذ عنه، وفُتح له على يديه، ولم يجتمع به في هذه المدة إلا نحو مرتين .
(1/51)


وقال رضي اللَّه عنه: لا يزال في كل زمان من آل أبي علوي أولياء، إلا ما بين ظاهر أو خامل، ولا يكون الظهور إلا لواحد منهم، والبقية خاملين، إذ لا حاجة إلى ظهور اثنين أو ثلاثة من بيت واحد وبلد واحد، والستر على حالين، ستر الولي عن نفسه بحيث لا يعرف بأنه ولي، وستر الإنسان عن غيره، بأن يعرف هو بأنه ولي، ويخفي ذلك عن غيره، ولا يطلع الغير منه على ذلك، وذكر سيدنا في بعض مكاتباته أن سر الولي بينه وبين اللَّه تعالى قد لا يطلع عليه الولي نفسه .
انظر ما قال في سبب خمول الصالحين بتريم
وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة الأحد ثامن عشر ربيع الأول سنة 1124 في السادة آل أبي علوي، فقال: إن غالب حالهم الخمول، ولا يظهر منهم إلا واحد يُسلّمون كلهم الأمر إليه، ويُمدونه بالدعاء، وهم في حالة الخمول، فيبقى ذلك الواحد ظاهراً لإتيان الناس إليه، وقصدهم إياه بالخصوص، لكونه ظاهراً يُعرف من بينهم، فقلت: وما السبب في كون الصالحين يخملون في تريم، ويظهرون في غيرها؟، فقال: لكثرتهم فيها، فلو كان في بلدة أربعون مخزناً( ) يباع فيها المسك هل لا تراه فيها رخيصاً؟، أفيكون مثل بلدة لم يكن فيها إلا مخزن مسك واحد؟. وقد كان في وقت الشيخ عمر المحضار في مقامه أربعون من آل باعلوي، منهم عشرون خلفه وعشرون أمامه، وقد كان في وقته سريع الانتقام، كثير الأخذ من المجترئين المتعدين، لكنه قال: ما دعوت على أحد قط، وإنما إذا أغضبني أحد بقي في نفسي إشتحان عليه، لم يزل ذلك حتى يموت، ولم يظهر من أولئك الذين في مقامه شيء من هذا، وسألته عن معنى عشرون خلفه، وعشرون أمامه، فقال: وهل أحد يدري( ) بهذا، إنما هي أسرار، وإن كان شيء يكون عشرون معروفين ظاهرين، وعشرون خاملين، لا يُعرفون بأنهم في تلك المرتبة، وهم يدعون للآخرين ويمدونهم .
ما قال في خمول السادة
(1/52)


وقال رضي اللَّه عنه: الشهرة ليست من عادة سادتنا آل باعلوي، ومن أحبها منهم فإنما هو من كان أظن قال صغيراً، ثم يعودون يكرهونها تربية لهم من اللَّه عز وجل، ومن كمل لا يطلبها ولا يريدها، ومن لا يخاف اللَّه، إذا رأى أحداً على تلك الحالة ينكر عليه، ولا يعلم بما في عاقبة الأمر، ثم قال لرجل كان حاضراً من السادة يباسطه: كيف تقول يا فلان، إن كنت تحب ذلك، لو جاءك أربعون رجلاً مرتين أو ثلاثاً، ضجرت منهم، وشردت عنهم، كما لو جاءك أحد بكعدة( ) قهوة معسَّلة، وقال: قف اشرب فإنك تستحلي ذلك وتفرح، ثم جاءك آخر بخَمْسٍ ضجرت، وخفت من مقطعتهم( ).
وقال رضي اللَّه عنه: لا يفتقر من هو من أهل البيت، إلا إن افتقر من الدين، لأنهم مَدْعُوٌّ لهم منه عليه السلام( )، بعدم الحاجة، زيادة وتأكيداً على ما ضمنه اللَّه من الرزق العام لهم ولغيرهم، وإذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم لأنهم العُمْدَة .
وقال له رجل: إن أهل البيت ما تضرهم الدنيا، لقوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( اللَّهم اجعل رزق آل محمد قوتا ))، يعني قدر القوت فقط، فقال رضي اللَّه عنه: يحتمل أنه أراد عليه الصلاة والسلام، من في وقته منهم خاصة، وأما اليوم فتراك تنظر إلى أناس من الأشراف توسعوا في الدنيا، وتمتعوا بها غاية ما يكون، ومنعوا الزكاة، وأضاعوا حق اللَّه اللازم .
وذكر رضي اللَّه عنه أناساً يدَّعون أنهم في الفضل مثل السادة، فقال: لا تسابق من لا يُسْبَق، وإلا وقعت في ثلاث خصال: لأنك لا تدركهم، فيحصل عليك التعب الشديد، والفضيحة بين الناس، والسقوط من منزلتك التي كنت عليها .
(1/53)


وقال رضي اللَّه عنه: ماعاد في هذا الزمان، ولا أحسن من طريقة آل باعلوي، وقد أقرَّ لهم بذلك أهل اليمن مع بدعتهم، وأهل الحرمين مع شرفهم، وما بقي المفاضلة إلا بينهم( ) بعضهم بعضاً، وهي طريقة نبوية، ولا يستمد بعضهم إلا من بعض، فإن حصل لهم مدد من غيرهم فهو بواسطة أحد منهم . قال رضي اللَّه عنه: وهذا الأمر إنما عمدته الانقياد الكلي، فبه( ) يحصل للإنسان( )، وهو( ) أن ينطرح للشيخ في كل شئ، ولا يعترض عليه في شئ، ويمتثل ما يأمره به، وإن لم يعرف وجه ذلك، وبهذا السبب قيل: إن طريقة الإمامة طريقة مظلمة، لا يُعرف معنى الشيء فيها، ومن حضر المشايخ المسلِّكين، ولا انقياد له سمع من علمهم كما يسمع الناس، وكل يأخذ ما قسم اللَّه له، وقد ذكر الإمام الغزالي، إنه لابد للمريد من شيخ صادق ينطرح تحته في كل شئ، وإن لم يكن فأخٍ صالح يحكي له بذنوبه، أو قال بعيوبه، ولا يداهنه، وهذا لأهل الرياضات الشديدة، وأما من لم يكن كذلك، فلا أحسن له من التسليم، ولا أسلم ولا أحسن من طريقة سادتنا آل باعلوي، كل يتربى بأبيه، أو من ينوب عنه، وهو تربى كذلك، وعلى هذا حتى يبلغوا والأمر قريب كالذي يستخرج الماء من قرب، وفي أمر القوت على ما رُبِيَ عليه، وفي الثياب قده ما يحصل له إلاّ وهو محتاج إليه، والفقر( ) في الوسط .
(1/54)


وقال رضي اللَّه عنه: إذا طلب الإمارة من لا يصلح لها، يدعو عليه أهل الدوائر من الأولياء، وقال البرزنجي( ): ما في آل أبي علوي، إلا أنهم يتركون بلدهم لغيرهم، فإن السادة آل باعلوي، ما أسسوا أمرهم إلا بالفقر المجرد، بقصد منهم، ولاهمة لهم في شئ من الرياسات وحظوظ الدنيا، بل تركوها لغيرهم، حتى لو أن أحداً منهم طلب الإمارة، أخرجه منها الباقون، إن كان في الأحياء كفاية، وإلا نزعه منها الأموات، وإن الحسين بن أبي بكر بن سالم لما قيل لأولاده: أتتركون الولاية لغيركم، أشار بإصبعه من قبره إلى حمار، كان مربوطاً بإزاء قبته، وقال: لو أردنا أن نوليها هذا الحمار لفعلنا .
وقال رضي اللَّه عنه: من رأيت من السادة آل باعلوي، على غير طريقة أهله فإنما منعه الضعف، والضعف قد يكون في الحال والمال والقلب، ومَبْنَى أمر السادة آل باعلوي على الكرم والتقوى، ومثال الدول إذا اثنان كلاهما يريد الولاية، كثورين يتناطحان عند بقرة، يأخذها من غلب منهما فلا تكن أنت خلفهما، ولا أمامهما، ولا بينهما، والسادة بني علوي من قديم الزمن خارجين من بينهما، ولا يدنون منهما، ومن دنا خالف ما عليه سلفه .
وقال رضي اللَّه عنه: مَنْ أَكْثَرَ الظلم وامتحن أهل البيت أزاله اللَّه كما هو مشاهد.
وذكر رضي اللَّه عنه الضعفاء من الناس، فقال: إن اللَّه يغضب إذا ظُلِموا أكثر من الأقوياء، وإن لم تشملهم دائرة الإسلام، وإنهم كالسمك في البحر مايعيش إلا إن غمره الماء.
وتكلم رضي اللَّه عنه كثيراً في أحوال الناس والزمان وقلة الحق وكثرة الباطل، فقال: اشتبهت على الناس الأمور، واختلط عملهم الحق بالباطل، لكن اللَّه يظهر الحق لأهل الحق، ويظهر الباطل لأهل الباطل .
(1/55)


وشكى إليه نفع اللَّه به رجل مالقيه من أمر الدولة، فقال: لو وقع للسلطان كأس( ) أو كأسان من جانبنا أصبح لابِداً في غوضة مسجد، ودخلوا عليكم ينهبونكم من بيوتكم، أحب إليكم، اصبروا حتى يأتي اللَّه بفرج من عنده، ولايستقيم الملك إلا بمال، ولامال إلا برعية، ولا رعية إلا بعدل .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا بقي العود، فالخير يعود، وإن راح فكل شيء إنما هو للفنا، وإنما هي مقدمات، الأول فالأول .
وقال رضي اللَّه عنه: الأمور مبنية كلها على الصدق، وأما من تعوَّد على الكذب فبناؤه على الماء، ومن الناس من يعرّفه اللَّه حاله قبل الموت، فيتوب منه، ومنهم من يعرفه إياه عند الموت، فيندم حيث لا ينفعه الندم .
وقال رضي اللَّه عنه: الخوف طبعه الحرارة، والحرارة تستدعي الحركة، فإذا سكن( ) القلبَ، انطبعت حرارته على البدن وانجر إلى الحركة، والرجاء طبعه البرودة، وهي( ) تستدعي السكون، فإذا سكن( ) القلبَ انطبعت برودته( ) على البدن وأوجب ذلك سكونه فيسكن لذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: وحق اليقين هو علم اليقين، إلا أنه إذا شاهد الشيء حصل له زيادة( ) علم .
ما قال في الإخلاص وعزته
(1/56)


وتكلم رضي اللَّه عنه في الإخلاص، فقال: لا أحد يدّعي الإخلاص، بل يلزم حده ولا يتعدى طوره، ويعتقد في نفسه الرياء، فإنه إن كان كذلك فقد وقف عند حدّه، وعَرَفَ قدرَه، ولم يتعد طَوْرَه، وإن لم يكن كذلك لم يزده ذلك إلا رفعةً وقدراً عند اللَّه تعالى، وأين الإخلاص اليوم، ومما يدلك على أنه عزيز لا يكاد يوجد، قول الإمام الشافعي رحمه اللَّه: وددت أن لو انتفع الناس بهذا العلم، يعني علمه ولا ينسب إليَّ منه حرف، فكم أعجبنا كلامه هذا( ) ولو قلت لمصنف كتاب: امح اسمك منه، أو اكتب عليه اسم آخر، أو لا تكتب عليه رسم أحد، لأن الأجر حاصل لك، فلا حاجة إلى نسبته إليك لأَبى، وهذا يدل على عدم إخلاصه. وكانت رابعة فيما سمعنا عنها يصح ذلك أو لا يصح، إنها كانت ماتستحي إبراهيم بن أدهم، وتستحي غيره كسفيان الثوري وغيره، فقيل لها في ذلك، فقالت: ماذا ترك سفيان للَّه؟ وأما إبراهيم فقد ترك الملك والدنيا للَّه، فلا عاد يطلب أمراً آخر( )، فقل لأقوام إذا تصدق أحدهم بربع أوقية أحب أن يُعلم به جميع الناس، ولما تكلم الإمام الغزالي في إظهار العمل، وذكر شروط ذلك، ثم قال: لا ينبغي ذلك لأمثالنا لأنا لا نطمع في الإخلاص، إذ مثل هذا( ) مع ما كان له من الجاه والحشمة، حتى إنه يحضر درسه من أبناء الأمراء ثلاثمائة عمامة، فضلاً عن غيرهم، حتى خرج من جميع ذلك للَّه( )، حتى قيل: إن خروجه من ذلك عين أصابت المسلمين .
(1/57)


وقال رضي اللَّه عنه مامعناه: إن اللَّه لا يأمر بالإضاعة، والأشياء مربوطة بالحكمة والأسباب والتدريج، ولا يجوز له( ) أن يدّعي أحوال الصالحين وهو بعدُ يوسوس في صلاته، ولو مع الإنسان نخلة شغلته في صلاته، وجميعها( ) شواغل، وإنما التجرد الكلي لأقوام خرجوا من الدنيا بقلوبهم، فكل ماشغلهم منها تركوه، حتى لا يبقى لهم همة إلا نفوسهم، وقد ادَّعى أقوام أنهم مثل هؤلاء، وقالوا: إن الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا، ومع ذلك بخلوا بها واشتغلوا ولم يُخرجوا الزكاة وتخبطوا .
وقال رضي اللَّه عنه: في حديث حسبي اللَّه إلى آخره، حتى قال: صادقاً أو كاذباً، ثم قال: ما كل أحد يقول ذلك( )، إلاّ إن الاكتفاء باللَّه شديد، قَلَّ أن يتصف به باطناً وظاهراً، وإن قال ذلك، وفي حديث: إن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم . أي كما ترى أقواماً يقاتلون الكفار مرادهم الغنائم وأخذ البلدان، فيحصل بهذا دفع عن الإسلام والمسلمين، وآخرين يقاتلون قطاع الطريق، وغير ذلك مما يقوى به الدين، وأكثر مايكون ذلك في الولاة، أفلا يكونوا أولئك من خير الناس( ) .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث قول الرجل، دعوتُ فلم يُستجَب لي( ) إن كان ما دعا به من أمور الآخرة، فمن أين يعلم أنه ما استجيب له، لعله حصل له الاستجابة في أمر يكون في الآخرة . أو من أمور الدنيا، فلعله دعا في شيء لو استجيب له فيه لكان يضره( ).
وقال رضي اللَّه عنه: جزى اللَّه العلماء عن الناس خيراً، جمعوا للناس، وصَحّحوا للناس، ونقحوا للناس، فأين يروحون اليوم إذا احتاجوا إلى مثل هذا مع انعكاس الزمان، وإذا رأيت شغل هؤلاء، عرفت أن أولئك هم المشغولون فيما ينفع، وهؤلاء كالنسوان شغلهم بما لا نفع فيه، ثم ذكر حديث (( لا تُنزِّلوا النساء الغرف، وألهوهن بالمغازل ))( ).
ذكر ما يتعلق بالنساء
(1/58)


وذكر رضي اللَّه عنه النساء وخداعهن، ثم قال: إن بعضهم( ) قال: إذا صاحت المرأة فأدركوا الرجل .
وقال رضي اللَّه عنه: من خاف اللَّه قَيَّد يديه، وإلا انطلقت جميع جوارحه، كقصة برصيصاً( ) وهاروت وماروت، والنفس ما تقدر عليها إلا بمنعها في أول الأمر عن جميع مطالبها، وإلا أوقعتك في بليَّتين وفتنتين، الأولى: بلية وفتنة المحرمات، والثانية: بلية وفتنة المباحات، ثم إذا طلبت منها الرجوع عن ذلك لا تقدر عليه .
وتذاكر رضي اللَّه عنه مع بعض السادة في النساء واستطالتهن على الرجال، فذكر له حديث الذي قال للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: يارسول اللَّه، ماذا خير لنا بعدك، بطن الأرض أو ظهرها؟ الحديث، ثم قال: لا تجعل للمرأة وجوداً، إلاّ إن كان وجودها من تحت وجودك، و لا تجعل الأمر إليها، بحيث لو أردت أن تتصدق بشيء منعتك، فإن مثل هذه قهرمانة، ما هي صاحبة أمانة، وانظر من كل شيء إلى أحسنه، وقيل: لا تُمْدَح المرأة إذا هي صالحة حتى تموت، ومنهن عطايا، ومنهن خطايا، ولا يحصل للإنسان الأجر إلا بالصبر والاستقامة، وأن تقوم عليها في حقوق اللَّه، فلا تفرط في أمور الدين فتتركها تمكث بجنابتها وتترك الصلاة، وكن معها من أول الأمر على حزم، فلا تمنعها اليوم مثلاً من أمر، وغداً تمنع( ) فيه، فقال له ذلك السيد: إنها تحتاج إلى ما لا بد منه، أي من المداراة، فقال: لا بُدَّ لها من شيء من العدل والإحسان .
(1/59)


ثم قال: ومثل هذه الأمور لا يمكن العلماء فيها التفصيل، فلو فَصَّلوها لاحتاجت كل مسألة إلى مجلد وتفصيل كثير، ولكن يفصله الناس بالعقول، وهن مجربات ومعروفات بأنهن يغلبن الأخيار، ويغلبهن الأشرار، ولايسلك الإنسان معهن إلا بأحد أمرين، إمَّا باليسر إن أمكن وإلا فبالرفق، لأنهن إذا أردن أمراً، فمع الأشرار يغلبونهن، حتى يدخلن في أنفسهن ودينهن، ومع الأخيار يأخذونهن باليسر والمسامحة، فإن لم يجيء مع ذلك منهن شيء، دارَوهن وَرَفَقوا بهن، وصبروا عليهن .
ومن رأى حال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مع أزواجه وكثرة شاغلهن، لم يستنكر ما يكره منهن، وإبراهيم الخليل عليه السلام أخرجته زوجته سارة من وطنه الشام إلى الحجاز غريباً مع ولده وسريته قهراً من غير اختيار منه، وهكذا عادة أهل الخير معهن، وقد قال الحكماء: ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: المرأة والعبد والولد، أي ظلم صوري، وثلاثة لا يطاقون: جائع شبع، وشوهاء تزوجت، أظن قال وفقيراً استغنى، ومن تأمَّل فتن بني آدم من وقت آدم فأسفل، رأى كلها أو أكثرها من النساء، أو هن سبب فيها، أو لهن في ذلك شرك .
وقال رضي اللَّه عنه: لاتسأل عن أعمال أهل الزمان، والزمان زمان مسايرة ومداراة وتغافل، فمن فعل ذلك معهم تمت له أموره، فإذا كان الإنسان منهم، لا يحتمل التقصي من والده، فما بالك من غيره، لكن ينبغي أن يبذل الإنسان وسعه في الطاعة وإن قلَّ، كالضفدعة أتت في فمها بماء لإطفاء نار النمرود، وقالت: هذا جهدي، فشكر اللَّه لها ذلك، وإذا رأيت الإنسان ماهمه إلا الدنيا، فانفض يديك منه، وإذا أقبلت الدنيا خذ منها [ أي لآخرتك ] وإذا أدبرَت احترز منها مثل النهار( ) .
(1/60)


وتكلم رضي اللَّه عنه في أهل الزمان وقلة الأمانة فيه، وأكثَرَ، ثم قال: قال الشيخ حسين( ) بافضل: إن أكثر الناس قوالب بلا قلوب، إن لم تقهرهم قهروك وما هم داريين، قال: وحسين هذا أخو أحمد الشهيد( )، كلاهما أولاد الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن بلحاج بافضل( )، صاحب المختصر، ذرية الشهيد في مكة، وذرية حسين في تريم .
ذكر ماقال في مطالعة كتاب التنوير
وقال له رضي اللَّه عنه رجل: إني أطالع في كتاب التنوير( ) فقال: اعرف مقصوده وفائدته وماجُعل لأجله، وهو أن ترضى بما أقامك اللَّه فيه، مع القيام بالأوامر واجتناب النواهي، ومن تجريد بلا تعلق بمخلوق، بل محض توكل على اللَّه، وتَعَلُّق به ظاهراً وباطناً، قلباً وقالباً، أو تسبُّبْ مع عدم الاعتماد عليه، والقيام فيه بجميع الحقوق، فإذا عرفت ذلك فطالع فيه، ولاتكن كلحم على وضم( ) ولكنك اخلط مع مطالعته المطالعة في الأربعين الأصل( )، واجعله الطعام، والتنوير خصار( ) واستخرج الزُّبْد منهما، إن أحسنت المخض، ولا تفهم من التنوير، أن المراد طرح الأمور كلها، بل أن تتقي اللَّه فيما أنت فيه، فقد ضل أقوام بالكتب، فلا يكون الرجال إلا بالرجال، لا بالكتب .
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه يحب السؤال، وإنما تركه من هو من أهل التوكل الكامل، فلا تتشبه بالأكابر، فتطرح الثوب على الجَرَب .
وذكر رضي اللَّه عنه الشباب، فقال: وما ينفع الشباب مع الغفلة، إنما ينفع مع اليقظة، وإلا راح عليه شبابه ضياعاً، وبهذا السبب ضاع على الناس شبابهم، لغفلتهم، والمشيب مع هذا أحسن، لأنه يُرجعهم إلى اللَّه، من غير اختيار [أي لقلة رغبتهم في المأكول، والملبوس، والمنكوح ] .
(1/61)


وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، أي عينيه )) إلى آخره: يختلف الأجر باختلاف الصبر، واختلاف طول المدة بعد ذلك وقصرها، فيزيد الأجر وينقص بحسب ذلك، وإذا كان ذلك في صغره أو كبره، وكان يحتاج إلى التمتع بهما أكثر، فله على قدره، وتتفاوت منازل الصبر في الدرجة الواحدة، كما تختلف في الدرجتين، وكثير من الصحابة والتابعين، والأولياء والصالحين، حصل لهم ذلك في آخر أعمارهم، كعبداللَّه بن عباس، وكعب بن مالك، والشيخ أبي بكر بن عبداللَّه العيدروس، وغيرهم لكثرة المطالعة والكتابة سيما بعد العصر . والسهرُ في الصبا وكثرةُ البكاء تعمش العيون .
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه سبحانه لا يعطي بالاستحقاق، إنما يعطي بالمشيئة، فإن وافق الاستحقاق المشيئة، أكمل له الاستحقاق أو قال: أجزل له العطاء، ثم ذكر: إن رجلاً من الصحابة، قال: اللَّهم أرني الجنة( )، فنهاه النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن قوله ذلك، وقال: قل: اللَّهم أرني الجنة كما أريتها عبادك الصالحين، ومن تأمل أحكام اللَّه تحقق أنه لا يصلح الأمر إلا كذلك، أو إلا على ذلك، كالزكاة مثلاً، قياسُ من لا بصيرة له، أنها تنقص المال، فربما منعها من ماله، فبعد قريب هلك ماله، أو انتقل إلى من لا ينفعه .
ثم ذكر رضي اللَّه عنه الظلم والميل عن سبيل الحق، وعدم امتثالهم لمن يدلهم عليه، فقال ما معناه: ومن يدعوهم إلى ذلك فهو معهم، كرجل أعمى لا يعرف الطريق، يقول له بصير عارف بالطريق: اطرح يدك في يدي، وسر معي، ولا تتكلم فإني أوصلك، ولا تقل: تعال من هنا أو من هنا، ثم إنه لا يسمح أن يجعل يده في يدك، بل يستحلي ما هو عليه من العمى والجهالة، إذ لا يعرف وجه ذلك . ومن رأيته في الماء، ولم يعطك يده، أو أعطاك ولم تقدر عليه، فاتركه، ولا تحمل المحفر( ) بعروة واحدة، فينتثر، بل بعروتيه جميعاً، أو اتركه في الأرض .
(1/62)


ثم قال نفع اللَّه به: طريق الحقيقة طريق الخصوص، ما هي إلا في ظلمة لا يبصرها العامة( ) لأنهم بعدوا من طريقهم، فليس من قوتهم معرفة ما يعرفون، فإن سلموا إليهم أنفسهم بلا اعتراض، وصلوا، وإلا بقوا متحيرين، أو كما قال بمعناه.
وقال رضي اللَّه عنه لي مراراً وكذلك سمعته غير مرة يقول: طريقتنا طريقة الإمامة وهي طريقة مظلمة. وسألته عن معنى كونها مظلمة، فقال نفع اللَّه به: المراد الطريق الخاصَّة، ومعناه أن يقتدي بمن تأهل فيها ويمتثل له، ولا يدبر معه فيها بعقله، وبما يستصوبه، فإن العقل لا مجال له فيها( ) ويسلم له في كل ما أَمَره به، أو نهاه عنه، وإن كان يرى أن ذلك خطأ، وأن الصواب عنده خلافُ ذلك، كما ذُكِر عن بعض مشايخ مصر، واسمه قطب الدين الحنفي، أنه كان يوماً يمشي على الماء، فأخذ بعضَ جماعته يمشي معه على الماء، فقال له الشيخ: قل بسم الشيخ قطب الدين، ولا تقل بسم اللَّه، ففعل وهذا عند ذلك المريد ظلمة، فسار ساعة ثم قال المريد في نفسه لأي شيء ما أقول بسم اللَّه؟، ثم قال ذلك، وهذا عنده نور( ) يعني قوله بسم اللَّه، فغرق فصاح بالشيخ، فالتفت إليه، وقال: ماذا فعلت؟، قال: قلت بسم اللَّه، فقال له الشيخ: ألم أقل لك لا تقل ذلك، لأنك ما تعرف اللَّه [ أي حقيقة ] وإنما أنت تعرفني، وأنا أعرف اللَّه [ أي حقيقة ]، وما مشيت على الماء إلا باسم اللَّه، فانظر ما أبعد القياس من هذا الأمر، فلو كان في المسجد مريد مثلاً في قراءة قرآن، أو في أمر ديني، وهذا عنده [ أي المريد ] نور، فقال له الشيخ: قم اجلس في السوق، أو افعل كذا وكذا من أمر الدنيا، وهذا عنده ظلمة [ أي خطأ ] ولكنه ما علم مقصود الشيخ بذلك، فربما رأى فيه كبراً، أو كان جلوسه في المسجد لرياء، وأراد أن يكسره منه، فإذا كان في السوق وقلبه متعلق بالمسجد، أو بأمر ديني خير من عكس ذلك، وقد كان جماعة من الأكابر
(1/63)


يعملون في السُّوقِ كالسريّ والجُنَيد وغيرهما وله بهم أسوة، فإذا امتثل له كذلك أوصله من الظلمة إلى النور، وأما في الأحكام الظاهرة العامَّة، فكل الناس يعملون عليها ونورها فيها، وقد سبق إلى ذلك النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وقبله في ذلك جميع الأنبياء، وإنما الكلام في الخاصَّة، فقلت له نفع اللَّه به: فعسى الخواطر المخالفة لا تضر في ذلك، أعني يصير بها كحال المنكر المعترض فقال رضي اللَّه عنه: لا، الخواطرُ الغيرُ الاختيارية لا تضر، فقد حصل مثل ذلك لسيدنا عمر يوم الحديبية، وإنما على الإنسان ما فيه اختياره، وما وراءه فأمره إلى اللَّه، ما عليه في ذلك شيء، قلت: فالاختيارية أيضا أعني ما له فيه اختيار وقدرة، من فعل الأوامر واجتناب النواهي لا يمكن الإنسان أن يأتي بها كلها، لأن نفسه تقطعه عنها، فقال نفع اللَّه به: تسير معها كما تسير مع المرأة، فتقدّرها امرأة فتداريها مرة، وتخالفها أخرى، فمرة طاعة ومرة معصية، ومرة بغضب ومرة برضى، وعلى هذا، ولكنك خذ ضابطاً وهو أن تنظر في أعضائك كلها وأفعالك وحركاتك، فإن كان أكثرها خيراً فابشر، فإن العبرة بالأكثر .
وقال رضي اللَّه عنه: وضع القدم على القدم يحصل به خير كثير، ولو لم يكن التابع من أهل الباطن، فإذا وضع قدمه على قدمهم، يحصل له ما يحصل لهم، ألا ترى لو أن شخصاً من أهل الخطوة تطوى له الأرض، وضع آخَرُ قدمَه موضع قدمه في المسير كيف تطوى له الأرض بانطوائها للآخر، وإن لم يكن مثله، فإذا كان هذا في الأقدام الحسية، فما بالك إذا كان في الأقدام المعنوية، أو قال الدينية، ومقام الإسلام يجامع الأفعال الإلهية، ومقام الإيمان يجامع الصفات الربانية، ومقام الإحسان يجامع الصفات الذاتية.
(1/64)


وقال رضي اللَّه عنه: كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم له قوة لا يطيقها البشر، وكذلك كان قوة في الأولياء، لأنهم جاهدوا أنفسهم بالرياضات حتى اطمأنت نفوسهم بقلة الأكل، ولم يعولوا على القوت، وجميع ما تسمعه عن الصالحين ليس من الدنيا إنما هو من الآخرة، من رؤية حور، أو قصور، أو مَلَك، أو مكاشفة، أو حصول شيء من الدنيا، فلم يشغلهم عن اللَّه ونحو ذلك، فكل هذا من الآخرة، قلت له: فلو تكلف الإنسان شيئاً، ما أمكنه أن يحصل له مثل ذلك، فقال نفع اللَّه به: ليعرف قدره ولا يتعدَّ طوره، ولهذا إذا قَبِل منهم وصَدَّقهم، كان مؤمناً، وإذا أحبهم كان معهم، وأين الناس اليوم، وكم بينك في الوقت وبين وقت الشيخ عبدالقادر، إنما أنت في القرن الثاني عشر، فهل سمعت هذا القرن يذكر في شيء من الكلام، أو في كتاب، إنما حدّ ما يذكر الحادي عشر على الندور أيضاً، واليوم قد ضعفت الهمم، وضعف كل شيء عن الحال الأول، حتى الشجر والنبات، قلت: فماذا يفعل الإنسان، قال يُحكِم الإسلام والإيمان، فهذا هو الذي عليه، وإذا أراد اللَّه شيئاً فما هو ببعيد، قلت: فما يريد الإنسان إلا حصول التوحيد والعبودية، قال: ليعرف الإنسان حال نفسه، ويحبهم فيكون معهم، فتشمله المعية، ويكفيك ما قال اللَّه تعالى لموسى عليه السلام: {فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}( ) .
ذكر ما قال في حرمان الرزق
(1/65)


وذكر رضي اللَّه عنه حديث( ): (( إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) فقال نفع اللَّه به: للرزق جهات متعددة، وكذلك الذنوب، فقد يكون الذنب في جهة الرزق، فإذا حصل ذنب في جهة رزق، كأن كان رزقه في البيع والشراء، فأذنب ببخس( ) وتطفيف( ) ونحو ذلك، حُرِمَ ذلك الرزق، بأن ذهبت بركته وتلاشى عليه فيفتقر، وحصلت له آفة أذهبته من يده، كما هو مشاهد في أهل الربا ومانعي الزكاة وغيرهم، ويحرم الرزق المقابل لذنبه خاصة دون غيره، فإن كان له رزق في الحراثة أو غيرها، ولم يذنب في جهته، فلا يحرم الرزق منه بذنبه في جهة البيع والشراء ونحو ذلك، وإن كان ذنبه فيما هو عام لجميع الأرزاق أو أكثرها كالنقد، حُرِم الرزق بذلك المعنى من جميع الجهات التي يأتيه رزقه به منها، لأن عليه مدارها، وإن أحسن في الكل حصلت له البركة والنمو في الجميع، أو أحسن في البعض ففيه دون غيره، ويجبر خلل كل واحد بالإحسان فيه دون الآخر، كما يجبر خلل العبادة بعضها ببعض، كذلك كما تجبر الصلاة بالصلاة، والصوم بالصوم ولا عكس، وإن كان الذنب بأمر خارج عن أسباب الرزق كزنا وترك صلاة وغير ذلك عم الضرر العمر والرزق، فإن توالت عليه أرزاقه مع عصيانه فذلك استدراج له، أو كما قال.
وقال رضي اللَّه عنه في حديث: (( من أسر سريرة ألبسه اللَّه رداءها))، قال: أي حسنة كانت أو سيئة، ويُلبسه ذلك بالجملة لا بالتفصيل، وهو إنه إذا أسر حسناً حصل له القبول عند الناس وأثنوا عليه خيراً، وإن أسر سيئاً لم تقبله قلوبهم، وأثنوا عليه شرًّا، وربما برز منه قليل فاستُدِل به على الباقي من الأمرين، وعُرف به .
(1/66)


وقال رضي اللَّه عنه: في حديث( ): (( الفقر على المؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس ))، قال: ليعرف الإنسان أحكام الفقر والغنى من العلماء باللَّه، فإن الفقر المحمود ما كان مع الصبر والرضى، ولا يَغبط الأغنياء، وأما الذي يتمناها( ) ويده منها خالية، ويضجر ويتبرَّم، فهو أخس من الأغنياء، فليعرف أحكام الفقر والغنى، والدنيا كلها لهو ولعب، فخذ من اللَّهو واللعب ما ينفعك في الآخرة .
أقول: وقد حضرت يوماً مجلس السيد الكامل الفاضل أحمد بن عمر الهندوان رحمه اللَّه تعالى، فقال لي: يا الحساوي ما الفقر الذي استعاذ منه النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم فقلت: كما حفظته من كلام سيدنا، هو المقرون بالتضجر والتبرم والتسخط لقضاء اللَّه تعالى، فقال: ليس هو هذا، فاسأل حبيبك، فقلت: هكذا أحفظه عن قول حبيبي، قال: لا، إسأله عن ذلك، وكان ذلك يوم الخميس، وكنت مرتباً زيارته وحضور مجلسه الخميس والجمعة، فبعد ذلك بثلاثة أيام، وهو يوم الأحد أُمَاشِي سيدنا نفع اللَّه به في طريق السبير، وهو مشغول بقراءة ورده، إذ التفت إليَّ وقال: يا حاج، قلت: لبيك، وما كان يسميني إلا كذلك، قال: ما قط سألك السيد أحمد عن مسألة؟، فقلت: بلى سألني عن كذا، وأجبته عن قولكم بكذا، فقال: أنت ما تعرف السيد، ما سألك ليستفيد منك، إنما سألك ليرى ما عندك من العلم، فإذا سألك بعد هذه فلا تجبه بشيء، وقل: أنا مستفيد، خَلّه( ) يحكي لك بما عنده، والذي هو عندك محفوظ، فأعجب بهذه المكاشفة العظيمة من سيدنا نفع اللَّه به، فلما كان يوم الخميس الآخر، وأتيته على عادتي، فلما استتم المجلس سألني عن المسألة بعينها، فقلت: اللَّه يحفظك أنا مستفيد، فقال: الفقر الذي استعاذ منه النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم هو خوف الفقر، فأخبرت سيدنا في طريق السبير يوم الأحد الآخر، فقال: هكذا .
(1/67)


ومرت في الدرس أحاديث في كتاب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من "الإحياء"، فقال سيدنا نفع اللَّه به: عاد الناس، الدين فيهم ظاهر، والمنكر غير مقبول ولا ظاهر ولا معتَقَد حله، غايته أن يكون في آحاد من الناس، كالذين يفعلون الربا ويستحلونه بمناذرات وإقرارات باطلة، سَوَّلت لهم في ذلك نفوسهم وقادهم إليه حب الدنيا، وأقحمهم فيها أناس أيضاً، وهذا متعلق بالولاة وأمرِهم به على الفقهاء، فلا تُحْوِجْ نفسك إلى مقاربتهم، والميلُ( ) منهم أحسن .
وقال رضي اللَّه عنه: ما أفسد على الناس دينهم إلا العلماء، ولكن بعد فساد دينهم( )، وما أفسد على الناس دنياهم إلا الأمراء، ولكن بعد فساد دنياهم، فبفساد العلماء يفسد الدين، وبفساد الأمراء تفسد الدنيا، لأن قوام الأمر إنما هو بالرؤوس، أهل الدين لأهل الدين، وأهل الدنيا لأهل الدنيا، فإذا تغير الرؤوس تغير المرؤوس، وقد يتعدى ضرر ذلك إلى الأحكام والعقود، لأنها تصير حينئذ أحكام بغاة فتنفذ للضرورة.
وقال رضي اللَّه عنه: إن الناس نزلوا في جميع الأشياء، وإذا أردت تعرف ذلك فَعِدَّ منازل أو منازع العلوم، كيف تراها، يفتون بأمور وإقرارات لا تصح، يتحيَّلون بها، وينبغي للمفتي أن يعرف قرائن الأحوال .
وقال رضي اللَّه عنه في قول بعضهم: علماء السوء قطاع الطريق على عباد اللَّه، أي إذا لم يكن طريق إلى اللَّه إلا من جهتهم، وإن كان علماء عاملون، فيكون هم الطريق إلى اللَّه، دون الآخرين، الذين هم علماء انسدت الطريق منهم .
انظر ما قال في الجهة الحضرمية
(1/68)


وذكر رضي اللَّه عنه: ما عم في الجهة، من الاختلاف بسبب هذه الفئة( ) فقال نفع اللَّه به: ما عاد بقي قاضٍ منصوباً على أمر الشرع ولا فتوى شرعية، إنما هي أحكام البغاة، إذ السلطان مقهور تحتهم، لا يمكنه يتصرف معهم في شيء، يكاد يلحق الناس ضرر في معاملاتهم وأنكحتهم وغير ذلك، فهذه أمور شرعية قد تغيرت، وتنفيذ هذه الأحكام إنما هو للضرورة، وهذه أشياء لا يجوز الرضاء بها والصبر عليها، ولولا إن هذه دار هجرتنا لخرجنا منها، ولا لنا موضع هجرة إلا مرباط( )، لكن ما يمكننا ذلك لأجل المكالف( ) والصغار ونحوهم .
وقال رضي اللَّه عنه: نحفظ عن بعض جداتنا عن أبيها، وكانت حضرت وفاته، وكان من أهل الكشف، قالت: كان يغمى عليه عند موته، فأفاق ذات مرة وقال: عادكم تقولون يا حيَّا دولة الكثيري، ومرة قال عمن قال عنه: يأتي على الناس زمان ما لهم مفر إلا ثمود أو نحو ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه في هذا المعرض: ما في تريم غير الوطن، إن الإبل تهوى العطن .
وقال رضي اللَّه عنه: رأيت أفعال أهل الزمان كلها هواءً( )، وكل ما لا يصحبهم فيه هواء لا يعبأون به، ولا يعدونه شيئاً.
وقال رضي اللَّه عنه: لا يصلح الجلوس للعبادة إلا للمتجرد المرتاض القوي، إذا لم يكن له غداء لم يَتْعب، ويقول: إذا ما وقع يقع العشاء، وإذا لم يقع يقع وقت آخر، وهو متفرغ للذكر والعبادة، لا يشغله هَمُّ الرزق ذلك( )، وأما الضعيف عن هذا فيكون في أغلب أوقاته في العبادة، وفي بعضها في طلب الرزق المعين عليها.
(1/69)


وقال رضي اللَّه عنه في حديث: (( الزهادة في الدنيا تريح القلب والبدن )) إلى آخره، أي يستريح قلبه عن هَمّها ومحبتها والفكر في جمعها وحفظها، وبدنُه عن طلبها والسعي لها، وزهد القلب أفضل من زهد الظاهر، وأما مع الرغبة، فإذا زهد بظاهره وهو راغب يكون فتنة وبلاء على نفسه وعلى غيره فُيغتر به. وأما إذا زهد في الدنيا أولاً ثم أقبلت عليه وكثرت فلم تشغله وفَرَّقَها، فهو الزهد الكامل، وهو زهد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وزهد الصحابة رضي اللَّه عنهم .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل: استقو على الشيطان ولا يغلبنك فإن اللَّه سماه ضعيفاً، وما سمَّاه بذلك إلا ليستقوي عليه المؤمن ويقهره ولا ينجذب له .
وقال رضي اللَّه عنه: صاحب سر الولاية ما يتظاهر بالكرامات، وأما أهل علم الحَرْف ولو كانوا أهل سر يتظاهرون بها بالتصرف بالحرف أو كما قال .
وأوصى نفع اللَّه به رجلاً فقال: اللَّه اللَّه في دينك، احتفظ على دينك، حتى إذا كنت على أي حال تكون محمود الحال .
وقال رضي اللَّه عنه: نحن اليوم في أطراف أيام الدَّجَّال، وفي أيامه ما يكون غذاء الإنسان إلا الذكر، يترفعون في رؤوس الجبال خوفاً من الدَّجَّال، وغذاؤهم الذكر.
انظر ما قال في بلدان حضرموت
وذكر رضي اللَّه عنه بلدان حضرموت فقال: ما عاد شبام بشبام، ولا الغرفة بالغرفة، ولا تريس ومَدُودِه بتريس ومدوده، راحت الأرواح وبقيت الأشباح، كانت كلها حيَّة، ورجعت اليوم كلها ميتة، وما يهمهم اليوم إلا تحسين الثياب، فلما ذهبت الأرواح، رجعوا إلى تحسين الأشباح، فانعطفوا إلى هذا، فرجعوا من تحسين السرائر إلى تحسين الظواهر، أو كما قال .
انظر ما قال في التشبه بالسلف واستدلاله بالحديث المذكور
(1/70)


وقال رضي اللَّه عنه: لا عاد تحرك أهل الزمان، فإن حَرَّكْتهم ظهر من أمورهم الباطنة، أشد من أمورهم الظاهرة التي أنت مُشمئز منها، وأهل الحق إذا فسد الزمان، يتعين عليهم أن يتشبهوا بأسلافهم، واستدل بحديث( ): (( لِيَلِيَنِّي منكم أولو الأحلام والنُّهى ))، وكذلك السلطان والتاجر، ينبغي لكلٍّ أن يتشبه بسلفه، فإذا لم يقدروا على كمال الإقتداء بهم، والفعل بمثل فعلهم، فليقاربوهم في ذلك، لأن كل عامل من محترف أو عابد له إمام يقتدي به، ومن لا له إمام فإمامه الشيطان، فكل من يقتدي بأحد يقال له إمامه، حتى إن المتبوعين من الكفار سُمُّوا أئمة، قال اللَّه تعالى: { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: رأيت جدنا( ) الشيخ أحمد الحبشي صاحب الشعب في النوم، وسألني فقال: ما تقول: مَنِ الرجل الحي؟، فقلت الحي من حيي قلبه، فاستحسن الجواب، ثم إنه أخرج قبعين( ) أحدهما صغير فألبسنيه، وجاء في خاطري إنها خرقة الشيخ عبدالقادر الجيلاني، لأن أهل الجهة كانوا يُلبسونها، ثم أخرج قبعاً آخر كبيراً على المعهود، من أقباع آل باعلوي، فألبسنيه فوق الأول، ثم قال سيدنا: وكم مرائي تقع والعبرة على الخواتيم .
وقال رضي اللَّه عنه: يقال: ليس العاقل من يميز بين الخير والشر، ولكن العاقل من يميز بين خير الخيرين وشر الشرين، فيعرف أي الخيرين أرجح فيتبعه، وأي الشرين أقبح فيتركه .
(1/71)


وتكلم رضي اللَّه عنه يوم الاثنين في 26 شوال سنة 1128 في رؤية الشهر، وأطال في ذلك حتى قال: هذا زمان شُبَه ينبغي الاحتياط فيها، وقد قالوا: لا ينبغي للعالم أن ينظر مع اشتباه الأمور بين الخير والشر، فإن هذا واضح كل يعرفه، ولكن لينظر بين خير الخيرين وشر الشرين، فيأخذ بالخير من الخيرين إذا استبانت، ويترك الشر من الشرين إذا اشتبهت، كمن أراد أن يضربك بعصا أوسكين، فإن كان ولا بد فالعصا أخف الأمرين، وكمن تريد تركِّبه معك وهو عاجز عن المشي، وأنت قادر، فإن نزلت وأركبته فهو الخير من الخيرين( )، ونحن هذا حالنا في هذا الزمان، وهو من قواعد الدين، وهو مأخوذ عن السلف كالإمام مالك بن أنس وأمثاله رضي اللَّه عنهم، ومن لا يعرف ذلك فهو جاهل . وإن ظن مع ذلك في نفسه أنه عالم فجاهل جهلاً مركباً، كمن يظن في نفسه أنه كريم وهو بخيل فهو الجهل المركّب .
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً الخير والشر، فقال: لا بد من المكافأة عليه، إما ممن عاملته به، أو من غيره في الدنيا أو في الآخرة، وقد يقع من وجه يطّلع عليه الناس، وقد يقع من غير ذلك، ويكون ذلك في البر والعقوق والإحسان إلى الجيران والإخوان والأصحاب والإساءة إليهم، كما قيل: ( البِر سَلَف ) والمجازاة على الخير أكثر من الشر، وذلك من فضل اللَّه فإنها تضاعف في الخير دون الشر، إلا أن الشر يعظم جداً بحسب مواضعه، فالسرقة على اليتيم والفقير ليست كما هي على الغني والقوي . واجتماع الإخوان والأصحاب ما يجيئك منهم إلا واحد من عشرة، لأنه لا بد في كل واحد خصلة مليحة، يريد اللَّه أن ينفع الناسَ بعضهم من بعض .
(1/72)


وقال رضي اللَّه عنه: قاعدة: الرجل الصالح إذا كان له وجه وقفا، جاء الصالحون من وجهه، وجاء المتفتنون من قفاه، مثاله إذا كان الرجل الصالح يحب الشَّرح( ) ويجالس المذمومين من الناس، فَعَل ذلك الأنذالُ، وقالوا: إنهم اقتدوا به، وإن بقي على الحالة المعروفة التي عليها الصالحون اقتدوا به .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا رأيت أحداً من الصالحين يتعاطى أموراً منكرة [ أي في ظاهر الشرع ]، فذاك ينبغي أن يُجْتَنَب، ويُعتقد [ أي يُحسن به الظن ]، ولا يُفعل كفعله، إلا من غلبت عليه الحقيقة كما غلبت عليه( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: من سوء أحوال الزَّمان وأهله، أن يقتدي الإنسان بالآخر في مثالبه وأحواله المذمومة، ويترك أن يقتدي به في محاسنه وآدابه، وفي هذا بليتان إحداهما أنه تضرر باقتدائه، والأخرى أنه نبهه على أمر كان غافلاً عنه، أو غير غافل ولكن السكوت عنه أجمل، فلا تقتد إلا بالأحسن، ولا تنقل إلا الأحسن، وهذا الاقتداء على هذا الوجه غالب على أهل هذا الزمان، فترى أحدهم لا يحسن صلاته أو قراءته، أو يُربي، فإذا قيل له في ذلك، قال وَرَىْ( ) فلان، أو يؤخر الصلاة عن وقتها، ويقول العالم الفلاني كذا يفعل، فمثل هذا إنما تضرر ولم ينتفع باقتدائه .
وقال رضي اللَّه عنه: حسن الظن بالمسلمين عموماً، هو الأمر الواجب، إلا من رأيته على باطل صريح، فيكون ذلك سوء ظن، لأنه قادح في الشريعة . وأنت ساير أهل زمانك ما لم يغلبك الجواز، فإذا لم تجز المسايرة فلا تساير، قال سيدنا الشيخ أبوبكر [بن عبداللَّه العيدروس] :
لا تغالب زمانك يغلبك ... ... كن مساير يسايرك الزمان
(1/73)


وقال رضي اللَّه عنه لبعض الفقراء( ): لو تلوت القرآن حق تلاوته، لزهدت في الدنيا بين يديك، والإنسان في حالة التقصير، ويرى أنه على الحال الأكمل، ويعذر نفسه ويستدل لها بأشياء باطلة، والإنسان لا يعذر نفسه، إنما يعذره غيره، لأنه لا يطلع على عيب نفسه، وإنما يطلع على عيب غيره، ألا ترى كيف يستقذر نخامة غيره، ويتحاشى أن تصيب ثوبه، ولا يستقذر ذلك من نفسه، فكذلك العيوب لا يعلمها من نفسه، وإنما يعلم عيوبَه غيرُه، فينبغي أن يجتنب كلَّ ما رآه من عيب في غيره، وهو معنى حديث: (( المؤمن مرآة أخيه )) في تأويل بعضهم .
وقال رضي اللَّه عنه: خذ ما بلغك عن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن نفسه( ) أو عن غيره( )، ولا تتركه لشيء، ومن نقل شيئاً فخذ به عنه، فهو بأمانته، وكلٌّ مطالب بما قال، والأمر واسع .
وذُكِر له رضي اللَّه عنه بعض الأموات، فقال: أرحمُ ما يكون الرب بعبده إذا وقع أو قال وضع في قبره، وإذا رأيت عمل الرجل أيام حياته، إن كان قائماً بفروضه، وبارّاً بأرحامه قَوِيَ جانب الرجاء له، وإن كان بالعكس قَوِيَ جانب الخوف عليه، وقد كانوا( ) إذا خرجوا مع جنازة لا يعرف المصاب منهم، لكونهم كلهم يبكون، وهؤلاء أيضاً لا يعرف المصاب منهم، لكونهم كلهم يضحكون ويلهون، فكم فرق بين من مضى ومن بقي، فالأمر اليوم كالطعم تحت العقبة، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: من أراد من الدنيا حاجته، وما لا بد له منها، لا يقطعه ذلك عن أمور دينه، بل أمور الدين تُيَسِّره وتزيّده، فمن جعل الدنيا حذاء منعته النجاسة والشوك والأذى، ونفعته وهو عزيز، فإن جَعَلها على رأسه قذّرته ووضعت من قدره وهو ذليل، بل لو جلس وهي في رِجْله ينبغي له أن ينزعها، فكيف إن جعلها على رأسه، وقد قال بعضهم: ماذا تريد بأمٍّ أمومتها يتم، وفائدتها غرم .
(1/74)


وقال رضي اللَّه عنه لبعض السادة يوصيه في أهله: احذروا من العلاق( )، فإن الشحنة كما يقال إذا ما لحقت شيئاً كسّرت القبال( )، وقال لآخر: نوصيك بلا إله إلا اللَّه كل وقت، خصوصاً عند الهموم والشواغل، وضيق المعيشة، فإنها توسع الرزق، ومن طبعها الرطوبة، حتى قد يحصل منها النوم، وقال لرجل من المتعلقين بعلم الظاهر: إحْيَ في قلبك، ولا تمت في نفسك، فإن القلب له صفات كالزهد والتواضع، والنفس لها صفات كالرغبة( ) والرياء، وحب الجاه، فإذا اتصف القلب بصفات النفس، اندرج فيها( )، وإذا اتصفت النَّفْس بصفات القلب، اندرجت فيه( )، فاترك عنك الوسواس، فإنه في الظاهر مذموم، فكيف به في الباطن، ألا ترى من يوسوس في صلاته، نويتُ نويتُ، ماذا حَصَّل من ذلك، فوسواس الباطن أشد، والمتعلق بالفقه [ أي فقط] لا يفتح عليه، فطالع في الأربعين الأصل، وخذ بما في كتب الإمام الغزالي، ولا تطلب التدقيق، فإن هذه الأشياء في هذا الزمان إلى الطي أقرب، وقد صارت العامَّة( ) فيه خاصة وانقلبت فيه أمور لو سمعتها قبل أن تراها ما صدّقت بها، فلو قيل: إن فلاناً يفطِّر الناس في شهر رمضان، ويكلفهم ترك الجمعة والجماعة، ما صدّقت، وهو وفلان( ) قد سكرا بخمر الظلم، فما يفيقان إلا في القبر، وفي مثلهما.قال اللَّه تعالى: { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}( ) الآية.
(1/75)


وقال رضي اللَّه عنه لذلك الرجل المتعلق بالعلم الظاهر، عند الإلباس وقد ألبس جماعة وهو حاضر: إنما يكون الإلباس والتلقين، لواحدٍ مرة واحدة، ولكن إذا حصل كذلك، وهناك أحد ممن قد لبس وتلقَّن، أو ممن ليس من أهله كعامي وبدوي، كما فعلنا في هود، فإنا إذا ألبسنا أحداً دخل مع من حضر تبعاً لا مقصوداً، ومن هذا الجانب قد يتكرر، وإلا فلا تكرر، لأن المقصود بذلك واحد وغيرُه تبع له، لأن هذه الأشياء عزيزة عند أهلها، فإنَّ بذلها فيه ابتذالها، ولا يجوز لأحد من المشايخ أن يبتذلها، ولو فعل مُنِع لأنها عزيزة، ألا ترى أن المسك لو كثر هان، ولو أكثرت من شمه هانت رائحته عندك، فكيف بالأمور الإلهية، وقد ذكر الإمام الغزالي أنه لا عزيز على الحقيقة إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وصفاته، وأن شروط العزة ثلاثة: أن يكون عزيز الوجود، وأن تكون الحاجة إليه داعية، وأن يعسر الوصول إليه، وما زال صاحب التلقين والإلباس حيَّاً فيتلقَّن منه، ويلبس، ومن واسطة بإذنه، ويأخذ الناس لهم ولمن أحبوا حتى أولادهم وأهلهم، ألا ترى لو وصل مركب إلى البندر، كيف ترى كلا يأخذ منه، وأهل الطريق عليها، إلا ما بين كونه بجنبك وتراه أولا تراه، أو بعيداً منك، وإذا سقطت في الطريق لا بد ما يحملك المارُّون، وهذا معنى لا يهلك مع اللَّه إلا هالك، وهو ملزم له بذلك، وإن رمى نفسه في غير الطريق، فلا يعلم به أحد وهو الهلاك، أو كما قال، كل ذلك قاله بعد ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع أول، سنة 1126هـ.
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: فرّح الناس، وبشرهم عن سعة رحمة اللَّه، فإنهم يغترفون من بحر لا يُخشى منه الانقطاع، وإن عصوه فإنه لا يعجل عليهم، بل يمتعهم إما إلى مدة آجالهم ويجازيهم في الآخرة، وإما إلى أن تُقبِل عليهم( ) قلوبهم .
(1/76)


وقال له رضي اللَّه عنه رجل: أريد أن أبشر بالرحمة من قولكم، فإنَّ الناس في ضيق، فقال له: إن ربك قد وصف نفسه بالرحمة، فقال تعالى :{وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}( )، فَبَشِّر بالوصف، ولا تبشر بالقول، فقل لهم يسترحموه يرحمْهم، يسترحمونه بأفعالهم( ) وأقوالهم( ) ليرحمهم .
وذكر رضي اللَّه عنه تأخر الرحمة( ) في البلد مع حصولها لغيرها، فقال نفع اللَّه به: عسى إنما تؤخر للوقت، لا لغضب، فما خوفنا إلا من ذلك، ولو أراد أن يعذبهم بذنب واحدٍ( )، لكن رحمته أوسع، وهو يمهلهم لأنه واثق بأخذهم، لا يفوتونه، فمن أراد له منهم خيراً وَفَّقَهُ لتوبة وعمل صالح، ومن أراد به غير ذلك فليس يفوتونه، وعسى أن تحصل توبة وعمل صالح، فيكون مثل قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، أن يسقيهم بمن منعهم بسببه، إذ كان مُصِرّاً على معصية فتاب بينه وبين ربه، وذاك نبي يعمل بالوحي، وبنو إسرائيل فيهم أيضا تخليط، ولكن هذه الأمة لما كانت آخر الأمم، وقريبة من الساعة، ينبغي أن يكون تعلقهم بالآخرة أكثر، فإنهم آخر الأمم، وتلك أمة جاءت من بعدها أمم.
وقال رضي اللَّه عنه: هذه كلمة جامعة واقعة: من تعدَّى حدَّه، رجع إلى ضده، وقال: اسلك ولا تتعمق، فمن سلك ملك، ومن تَقَصَّ هلك .
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه خلق الدنيا وجعل فيها كثيراً من الشهوات، ليأكل المؤمن قدر ضرورته فقط، ويعبده في مقابلة ذلك، ويترك شهواته لدار إقامته في الآخرة، ولا يَتَعَجَّلها هنا .
(1/77)


وقال رضي اللَّه عنه: يوم الخميس ثالث عشرين من ربيع أول بعدما انجر كلامه في ذكر الجنة، ثم قال: لا ينبغي أن تقاس أمور الآخرة على أمور الدنيا، فلو قال قائل: كيف تكون نخلة من لؤلؤ، تثمر ثمراً يؤكل؟، فيقال له: ألا ترى أن نخلة الدنيا خشبة، تأتي بثمر يؤكل، فتلك أحرى بالثمر من هذه، والذي أخرج الثمر من هذه يخرجه من تلك، ولكن الإنسان يصدّق ولا عليه، ولا يبخل على نفسه بالتصديق، ويبتدئ أولاً بترك المحرمات، ثم فعل الواجبات، ثم ما استطاع من النوافل، والطريق في هذا الزمان فعل الواجبات، واجتناب المحرمات، واجتناب ما يقدر على تركه من الشهوات، وإنما قَصُرت أعمار أمة محمد صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وقَلَّ ما يتمتعون به من الدنيا مأكلاً وملبساً ونحو ذلك بالنسبة إلى الأمم السالفة ليستوفوا نصيبهم في الآخرة كاملاً .
انظر ما قال في فضل هذه الأمة
وسأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من ربه لأمته لقصر أعمارهم، فأعطاه ليلة القدر، وسمع واحد من عُبَّاد بعض الأمم بقصر أعمار أمة محمد، فقال: لو أدركتهم لقطعت عمر الواحد منهم في سجدة، فأعطيَ نبينا صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كرامة له ولأمته ليلة القدر، ويقال: من عمل فيها اثنتي عشرة سنة فاق عمله عمل ألف سنة، لأن كل ليلة واحدة خير من ألف شهر( ).
(1/78)


وقال رضي اللَّه عنه: قاعدة: إذا كنت مسموعاً عند الناس في أمر دنياهم، فكن عندهم أيضاً مسموعاً في أمر دينهم، فإن سمعوا لك في الكل، وإلا ففي البعض، وإن سمعوا كلهم أو بعضهم، ولو واحداً أو في وقت دون وقت وهكذا وإلا كنت أحق بالعذاب الوارد في قوله تعالى:{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}( ) الآية، فيحل بك قبلهم . ومن يخالط أهل الدولة، فينبغي أن يفعل ذلك معهم كفارةً لما صدر منه من مخالطتهم، ولو معنا نحن ما نتطهر به ونطهر به مجالسنا منهم فَعَلْنَا( )، ولا ينبغي أن يُحَرَّكُوا، فإنهم كعقارب وحيَّات ساكنة، فيزيد في سكونهم ولا يحركهم، وقد قيل: إن بعض الجبابرة قحطت أرضه جداً، فقال لنبي زمانه: قل لربك: يغيثنا، وتخصب أرضنا، وإلا آذيته، فقال له ذلك النبي: أَلَكَ قدرة على إيذائه وهو مالك السماوات والأرض؟، فقال: نعم، أقتل أولياءه، فأرسل اللَّه عليهم الغيث وخصبت تلك الأرض .
وذكر رضي اللَّه عنه ليلةً أهل بلد تجاوزوا الحد، فسلط اللَّه عليهم من آذاهم وتكلم فيهم بكلام كثير إلى أن قال: يحكى عن امرأة منهم، أنها حملت ابناً لها صغيراً، وفي يده حجارة، فقال لأمه: أتجيبين وإلا ضربتك بهذه الحجارة، فلم تجب فضربها بالحجارة في وجهها، وقال الشاعر:
عاقبة الظلم مهلكة وإن تراخت مدة الأمد
كم لقمة دخلت حشا شَرِه فأخرجت روحه من الجسد
وقال رضي اللَّه عنه: ما معك في هذا الزمان إلا التعريف باللطف، بأن تحكي له وتقول: إن هذا واجب عليك، تثاب عليه في الآخرة، أو هذا حرام عليك، تأثم عليه، ومثل هذا سِرًّا، وإلا رجع عليك هو وغيره، كما لو رأيت مُدّاً فيه نقص، وأنكرت عليهم، وأردتَ منهم أن يجعلوه وافياً على المعتاد، ونحو ذلك فبيّن له الأمر الرائق، في الوقت اللاّئق، ويختلف هذا بطبقات الناس .
(1/79)


وقال رضي اللَّه عنه: من تحركه الرغبات الدنيوية، لم يكن للرغبات الأخروية أهلاً، كمن يسمع أن من واظب على صلاة الضحى تيسر رزقه ففعل لذلك، فلا يقل: أرجو بذلك الجنة، إلا إن كان للتبرك بذكرها، كما روي أن ابن المبارك خرج يوماً على أصحابه، فقال لهم: إني استجريت البارحة على ربي، فسألته الجنة( ).
وذكر سيدنا رضي اللَّه عنه جملة أناس من العلماء العاملين المخلصين، ثم أثنى عليهم كثيراً بثناء حسن، فقال: نعم مثل هؤلاء من المذكورين، لا مثل هؤلاء قشاش المعاش، ولا عاد تفتش، فكان إذا فتشت لحقت جواهر، واليوم إذا فتشت لحقت بعراً .
وقال رضي اللَّه عنه: لا ينبغي أن يتخذ الإنسان شيئاً يعسر عليه فَقْدُه لئلا يشتغل إذا فقده، ولهذا قطع الصالحون جميع التعلقات، خوفاً من التعب عند زوالها، وهذا يريد رياضة شديدة، ولكن مع من لا يبالي بالشيء ولا يتلذذ به، فما بقي إلا أن يتلذذ به، ويصبر عند فراقه.
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي لأهل الزمان أن يجتهدوا أن يكونوا من أصحاب اليمين، بأن تغلب حسناتهم على سيئاتهم، فيكونوا إلى داخل، لا إلى خارج، ويسلموا من الكبائر، ويعتقدوا في أنفسهم أنهم لم يقوموا بشيء، فمن أحكم ذلك، صار من المقربين، وأهل الزمان يطلبون أن يكونوا صالحين مع جمع الدنيا ولا يصح من هذا شيء .
وقال رضي اللَّه عنه: الأمور الغيبية الاعتقادية، كسؤال الملكين، حظُّ القلب منه التصديقُ والتسليم، ولا يُطَّلَع عليه إلا بواسطة النبوة فقط، ولا يُسأل عن كيفية ذلك، وكيف تكون صفته، فلا بلغنا عن أحد من الصحابة، أنه سأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم.
وقال رضي اللَّه عنه: سمعنا فيما بلغنا أن أهل القبور يسمعون صوت الرعد، ويخافون منه جداً يخشون أنه من مقدمات الساعة، فإذا كان هذا صوت رحمته فكيف بصوت عذابه، قال: ولما سمعته ذكرت أحوال منكر ونكير عند سؤالهم .
(1/80)


وقال رضي اللَّه عنه: أمور الآخرة إنما هي على قدر المتكلم بها. قال اللَّه تعالى :{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}( )، أي إنها عند اللَّه تكون قريباً وإن بعدت .
وقال نفع اللَّه به: اللَّه يستوفي مظالم العباد في الدنيا، ثم يردف لهم أيضاً في الآخرة( )، إذا ورد عليه بتوبة .
وقال رضي اللَّه عنه: في حديث( ): (( اهتبلوا( ) العفو عن عثرات ذوي المروّات ))، وفي رواية( ): أقيلوا ذوي العثرات: أي إذا كان إنما يعثر نادراً، وأما إذا كثر منه العثار، فليس من ذوي المروءات، فلا يقال كلَّ حين .
وقال رضي اللَّه عنه: نحن ما ينكر علينا إلا مكابر، فإن كان في أمر باطن( ) فما عاد هذا من الدين، فإن كان في أمر يريد أن ينكر فيه الحق، حاججناه بحجة اللَّه، فيحكي لنا بما عنده.
وقال رضي اللَّه عنه: إني لم يُقسَم لي من المراء والجدال حظ أبداً، لأني ما أحبه وأكرهه بطبعي، فلو أردته سُلِبتُه فنسيتُه في الحال .
وقال أيضاً نفع اللَّه به: نحن بحمد اللَّه قد نزع اللَّه من قلوبنا المحبة لأمور الدنيا بالكلية، وما هو إلا إن كان أحد رمى عليك شيئاً، وأردت جبره، ولكن إذا بدت لشيء حاجة تنكر إنك تريده، وتفعل في أمورها( ) كما يفعل الناس، كما قيل: كماهم( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: نحن الملوك والباقون لنا تبع، فإن تُركنا على ما نحن عليه، بقينا خاملين ومستترين على ما مضى عليه أسلافنا، فإن ألجأونا إلى شئ أعطيناهم ما يعجزهم ويسكتهم، فإن لم يصدِّقوا فليجربوا .
وقال رضي اللَّه عنه: نحن جميع الناس يحبوننا، ولا يبغضنا إلا منافق، لأنا نحبهم، ونحب لهم الخير، ولا نضايقهم في طلب جاه أو دنيا أو شئ من الأشياء، بل نترك لهم جميع ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: إن أهل الزمان لا يحتملون شيئاً( ) لكنا نجعله لهم في الطعام، ولو علموا ما في طعامنا لسارعوا إليه، ولازدحموا عليه .
(1/81)


وذكر رضي اللَّه عنه شيئاً من أمور الدنيا، وأحوال الناس فيها، ثم قال: إن الصحابة ما اغتروا بالدنيا، ولا افتتنوا بها، وأنا فيما أراه من نفسي، لو أن رجلا جاءني بحُمول من ذهب، وقال: خذها لك افعل فيها ما أردت، لا أجدني أفرح بها، ولكن لما حصل الكِبَر والأهل، نأخذ ما تدعو إليه الحاجة، وقد قال أنس بن مالك: لولا أولادي ما داريت الحَجَّاج، لأنه ظالم فخاف عليهم .
وقال رضي اللَّه عنه: نحن مع الناس في فائدة عظيمة بحمد اللَّه بسبب سلامة صدورنا منهم، لأنا لا نعلم أحوالهم، ولا نصدق أهل الزمان فيما ينقل بعضهم عن بعض، ولو تحققنا ما هم عليه من المذموم، أبغضناهم لأجله، وما معك يكفيك، فكيف بالإطلاع على ما عندهم .
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: إذا فعل الإنسان ذنباً، أوما يَعْتَذِر منه بينه وبين اللَّه، فكلما أكثر الاعتذار من اللَّه، كان أحسن، وإن فعل ما يَعتذر منه بينه وبين الناس، فلا ينبغي تكرير الاعتذار، بل مرة واحدة، إذا لم تؤد إلى زيادته .
وذُكِر له رضي اللَّه عنه رجل شرس الطبع دَعَاه رجل يحبه فامتنع، فقال رضي اللَّه عنه: محاسن الأخلاق تحسن بها الأشياء وإن كانت قبيحة، ومساوئ الأخلاق تقبح بها الأشياء وإن كانت حسنة، ومن أردته يجيك لتجبره، وتؤنسه فاعتذَرَ، فاعرف أن له عذراً، ومن العَجيب أن حَسَنَ الخلق يأكل حق الناس وهم يحبونه، وسيئ الخُلُقُ يأكلون حقه ويكرهونه، وسيئ الخلق هو الذي لا تزال تعطيه وترضيه. وتترقاه( ) فلم تبلغ رضاه ولم يزل خاطره متكدراً عليك، وجميع ما قيل في حُسْن الخلق يرجع إلى سعة الصدر والاحتمال، قيل وبذل النَّدا، وهو كل ما ينفع، وكَفّ الأذى وهو كل ما يتضرر به، وفي "الإحياء": من صدر عنه هذا بسهولة لا تكَلُّف فيها، فهو حَسَن الخلق، فإن تكلف فيها فليس بحسن الخلق، فإن صدر عنه ضدها فهو سيئ الخلق .
(1/82)


وقال رضي اللَّه عنه: الأخلاق الأصلية ما فيها تغير، لكن يؤكدها العمل بمقتضاها ويُضْعفها العمل بخلافها، وإذا عُرِفَ الإنسان بطبع يعطونه الناس على مقتضى طبعه، أو قال: على قدر طبعه، وما هي إلا ساعة .
ودخل عليه رضي اللَّه عنه بعض السادة، وكان قد خرج من مرض طال به، فقال سيدنا له: الحق إلاّ لكم علينا من الزيارة لعيادة المريض، ولكن الناس تغيرت أحوالهم، وكل أحد ادّعى بنفسه وأعجب برأيه، إذا جئنا عند أحد لأمر مقصود طالبونا بأمور غير مقصودة، فقال ذلك السيد: لأن النفوس كبرت، فقال سيدنا: نعم، ولهذا صغرت قلوبهم، فلو كبرت القلوب وصغرت النفوس لكان أحسن .
وقال رضي اللَّه عنه: كلما غلبت النفوس ضعفت القلوب والأرواح، وبالعكس، وإن فُعِل خلاف ذلك فبالتكلف .
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً: مَن هو حَسَن الخلق، ومَن هو سيئه، وقد جاء ذكر حسن الخلق في حديث، فقال نفع اللَّه به: لأن سيئ الخلق المُعَبِّسَ بوجهه يسئ إلى الناس وهو لا يحسب أنه يسئ إليهم، وحَسَن الخلق يحسن إلى الناس وهو لا يظن أنه يحسن إليهم .
وقال رضي اللَّه عنه: جاء في وصف المؤمن، أنه هين لين( )، أي حسن الأخلاق في غير معصية .
وقال رضي اللَّه عنه لي يوماً: حَسّن أخلاقك، وعليك بسعة الأخلاق، ففي سعة الأخلاق وَفْرُ( ) الخلاّق .
(1/83)


ولما أشغله رضي اللَّه عنه الزوار بكثرة المصافحة، أردت أن أؤخرهم عنه، فقال نفع اللَّه به: إن هذا منهم حسن ظن، ومِنَّا حُسن خلق، وكل منا مأمور بذلك، إلا أن الإنسان لا يبقى على حد الوسط، بل يجاوزه إلى حد الإفراط أو التفريط لأن في طبيعة ابن آدم الميل عن حد الوسط . وقال بعض الفقراء: سبق مني شئ من القول، توهمت أنه وجد عليّ بسبب ذلك، لأنه قال عند ذلك عاد هنا من هو أولى منك بذلك، قال فقلت له: يا سيدنا إنه جاء عن أحد من الصحابة، إنه ربما قال للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم شيئاً، فغضب عليه السلام حتى عُرِف ذلك في وجهه، حتى قال ذلك القائل: ليتني ما قلت له ذلك، فهل يضر الصحابة أمثال هذه الأشياء، فقال رضي اللَّه عنه: أما الذين قالوا له عليه السلام تَعَنُّتاً، كان عاقبتهم أن صاروا منافقين، وأما من قال مثل هذا من الأعراب، فإنه لم يضرهم، لأن معهم سلامة وقرب عهد بالإسلام، وأما من حصل منه مثل ذلك من أكابر الصحابة، فإن أولئك قوم قد امتلأت قلوبهم إيماناً، فلا يضرهم ذلك شيئاً( ). وأنت ميّز بين طبقات الناس، واختلاف الأحوال، والمجالس والخطاب، وبين من امتلأ قلبه من الإيمان، والإنسان ينبغي أن يقف عند حده فلا يتعداه، قال ذلك الرجل: فقلت وإن لم يعرف الإنسان حده، فقال: فربما مع الإنسان أولاده وأهله وأقرب الناس إليه، فلا يتعدى عليهم من هو دونهم( )، وقال سيدنا لذلك الرجل: عليك بالأخلاق( )، فإن الأخلاق خير [ أي نعمة ] من الخلاّق، ومن حَسُن خلقه يأكل حق الناس ومع ذلك يمدحونه، ومن ساء خلقه يأكلون حقه ومع ذلك يذمونه فانظر الفرق بينهما .
وصافحه رضي اللَّه عنه رجل بشدة حركة، فقال نفع اللَّه به: اتركوا هذه الشراجة، ولو نقدر لفعلنا لكم كما تفعلون مرتين( )، ودَعُونا نتمتع بكم، وتتمتعون بنا، واللَّه أعلم بالصادق من الكاذب .
(1/84)


وقد قال الشيخ عبداللَّه بن أبي بكر العيدروس نفع اللَّه به، شَمّ( ) اليد عندي كقطعها . ولولا الرغبة في طلب الجماعات والجمعات وشريف الأوقات لما خرجنا إليكم، وخذوا العلم من الكتاب والسنة .
وقال رضي اللَّه عنه: بَشَّرَنا جملة من الصالحين سَمَّى بعضهم، وكلهم يوصونا بالصبر، فقلنا: إن هذه قصة عثمان رضي اللَّه عنه، لما بَشَّره عليه الصلاة والسلام بالجنة على بلوى تصيبه، لكن الحمد للَّه مَنَّ اللَّه علينا بالصبر، وجعل مؤنتنا على غيرنا، فلما فعل بنا ذلك، حَصَل لنا سَعَةُ الصدر والقوةُ كالجمل الذي يجعل عليه الحمل الثقيل، ولا يعبأ به .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل أعمى مسن يصبره: لا يكره الإنسان ما يؤجره اللَّه عليه من البلاء، فإنه سبحانه لا يُبْلي إلا ليؤجر، ولو لم يكن في ذلك إلا تكفير السيئات .
وذُكِر له رضي اللَّه عنه رجل إنه ينتمي إليه، ويعظمه الناس لأجله، سيما في الحرمين، فقال نفع اللَّه به: إنه ليس إلينا، ولا نحن إليه، فقد جاء من الهند ولم يمر علينا، واكتفى بالمصافحة بعد الجمعة، وما هذا من الوفاء، وقد كان هذا الكلام في الخاطر منذ مدة أربع سنين، ولم نذكره إلا الآن لما ذكرتوه، وما يُظهره للناس من دعوى الاتصال بنا، نريد نعلمكم بمعاملته لنا، ونحن مثل أهل الزمان نتكدر مما يتكدرون به، ونحنق مما يحنقون، وإنما غلبناهم بالصبر، حتى يظنوا أنا لم نعلم بها، ولم تخطر في بالنا، ونحن عالمون بها، ولكنا صابرون عليها .
(1/85)


ومما عجبت من صبره رضي اللَّه عنه وحسن خلقه، بالنسبة إلى طبعنا أهل الزمان، إن موضعاً من بيته في البلاد، كان خادم( ) له موضّعاً فيه، ويجلس ويرقد فيه من النهار، فما دخله سيدنا منذ كان فيه ذلك الخادم، حتى مات، فدخله نفع اللَّه به يوماً وجلسنا معه، ومعه السيد أحمد بن زين الحبشي، فقال له سيدنا: علمُنا بدخول هذا المحل من ولادة ولدنا علوي، وعلوي حينئذ أبو أولاد، قال: وكنا نقابل في هذا الموضع في الإحياء كل ليلة، ومنذ نزل فيه فلان ما دخلناه، واستعار منه رضي اللَّه عنه بعض الناس الجزء الأول من كتاب "مجمع الأحباب"( )، وكان ضنيناً به، قَلَّ ما يعيره، فلما أبطأ به، سأل عنه مراراً ثم أمر أن يؤتى به من عنده، فأتي به، فجعل يقلبه بيده، وأنا متعجب من شدة اعتنائه به، فقال لي مكاشفة منه: أتحسب أنه لو تغير أنا نعاتب عليه؟، لا، ولكن هذا مِنَّا حزم والحزم( ) سوء الظن، نفعنا اللَّه به ورزقنا التخلق بأخلاقه، وهذا الكتاب "مجمع الأحباب" رآه رضي اللَّه عنه في بلد تعز من اليمن، سنة حج، وكان ثلاثة أجزاء بخط واحد، فلما رآه استحسنه ورغب فيه لكونه يستوفي التراجم كما ينبغي، فتعلق خاطره به نفع اللَّه به، فقال: إن شاء اللَّه إذا رجعنا من الحج نشتريه، فلما رجع وجد أنه قد بيع منه جزء، وبقي اثنان، فاشتراهما وبقي الآخر في نفسه، فقدر اللَّه أن رآه بعض المسافرين من السادة إلى صنعاء فرغب أن يشتريه ويهديه لسيدنا، ففعل فلما وصله رآه ثالث الثلاثة، فحمد اللَّه على ذلك .
(1/86)


ويشبه قصة هذا الكتاب قصة مسبحة أرسلها له بعض المحبين، من آشى( ) عدتها ألف حبة من عود الصندل( ) الأبيض، ونجارتها فوقها في كيسها مع أناس حجاج فطبعوا( ) في البحر، وسار بها الماء، ثم في السنة التي بعدها جاء من تلك الجهة أناس حجاج، فرأوا المسبحة طافية على الماء في البحر وقد اختل منها خمسمائة وبقي خمسمائة، فأخذوها وأرسلوها لسيدنا، ولم يعلموا أنها مرسلة إليه، إنما هو اتفاق، ونجارتها أيضاً معها، وقال رضي اللَّه عنه لا تكلم من سكت عنك، ولا توقظ من غفل منك، فربما ذلك يحركه بإيذائك، كما يحكى إن رجلاً مرَّ على جماعة من اللصوص، ناموا حتى طلعت عليهم الشمس وتبدد على وجوههم التراب، فرحمهم وقال: مساكين راح بهم النوم، فمسح التراب عن وجوههم، وأيقظهم فعَدَوا عليه وأخذوا ثيابه . ثم أنشد حينئذ نفع اللَّه به هذا البيت :
أيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها ويا حاطباً في غير حبلك تحطب
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه يستوفي للصابرين على من ظلمهم، وإن صفحوا وعفوا عنهم في الظاهر، لأن حقوق العباد شديدة، وحقوق اللَّه أسهل منها، ولكن لا يَعرِف حَقَّ اللَّه من حقوق الناس إلا عالمٌ كبير .
وقال رضي اللَّه عنه: صاحب الحقيقة مستغرق فيها، وجميع عمله ومشهوده فيها، وأكمل منه الجامع يضع الحقيقة موضعها باعتبار، ويضع الشريعة موضعها باعتبار آخر.
(1/87)


وقال رضي اللَّه عنه: ومن طبيعة الإنسان الاستعلاء، وطلب ما هو فوق قَدْره والتعدي لحده، فلو زاد أدنى زيادة طاش لُبُّهُ إلى أزيد من ذلك، ولو ارتفع نظره إلى خزانة اللَّه لمات من الهيبة، كما ذكر إن بعض خلفاء بني العباس، خرج متنكراً ودخل على بعض أخدامه فسقاه الخادم نبيذاً، ثم قال له: من أنت؟، فقال: أنا من عسكر الخليفة، فسقاه ثانياً وقد حصل له منه نشوة، فقال له هو: من أنا؟، فقال: زعمت أنك من العسكر، قال: بل أنا مقدم العسكر، فسقاه ثالثة، فقال: من أنا؟، قال: زعمت أنك مقدم العسكر، قال: أنا الوزير، فسقاه أيضا فقال: أتدري من أنا، قال: زعمت أنك الوزير، قال: أنا الخليفة، فقال له الخادم: قم فاخرج عني لئلا تدعي أيضاً النبوة أو الربوبية، ولهذا ادعاها فرعون اللعين حيث رأى من قومه امتثال ما يقول، وهل يدعي خلق السماوات أو الأرض .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ))، أي وُسْع المعرفة، وحَمْلُ الأمانة وسع علم، لا جِرم، والقلب لا يضيق بكثرة المعلومات وإن كثرت، وإنما تضيق أماكن الفراغ بما يكون فيها من الأجرام .
وقال رضي اللَّه عنه: إعترف بالعبودية لربك، فإن لم تعترف بها، فإنها مكتوبة في ناصيتك، ومن قال: هذا حقنا ومالنا، فقد أساء الأدب، إذ لاملك له، وقد قال تعالى :{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}( )، فلم ينسب لهم إلا الاستخلاف في الملك، فمن أين له الملك، وهو مملوك .
وذُكِر له رضي اللَّه عنه الفداء المعتاد في الجهة، فذمَّه وذم المتعاطين له، ثم قال: اعمل( ) للجاهل والعامي باليقين ولكن ارفعه عن الشك، ودعه على ما هو عليه ولا تكلمه.
(1/88)


وقال رضي اللَّه عنه: إذا أعوزك وجود الخير، فلا يعوزْك القرب منه، بحيث تكون إليه أقرب من المنهمكين على الدنيا، يباتون ويصبحون مهتمين بها ويعملون فيها، وخذ من كل شيء بركته، والميسور لا يسقط بالمعسور، وإذا كانت الغايات لاتدرك، فالقليل منها لايترك .
وقال رضي اللَّه عنه في قول اللَّه تعالى :{لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً}( ): أي ماء القناعة والزهد، والزاهد في الدنيا المتجرد عنها، أخف تعباً وأكثر راحة من غيره، إلا إن الضعيف اليقين إذا أرسل اللَّه إليه نعمة على يد أحد من الخلق تعلق قلبه به، ويرى أنه هو المحسن إليه، ولا يمتد نظره إلى المحسن الحقيقي، ولا ينفعك أحد إلا بعد أن يضع اللَّه في قلبه ما وضع، والحركة( ) مع السلامة من منة الناس، ما هي إلاّ بركة إن لم يكن فيها إثم .
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي أن لا يخلي الإنسان يده في هذا الزمان من شيء يعيش به، إذ لا راغب في الخير ولا مبالي بمحتاج، ولعدم الشكر فيه من الغني، والصبر من الفقير، وينبغي أن يحفظ ماله ويحصنه بإخراج الزكاة .
وقال رضي اللَّه عنه في قوله تعالى :{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ}( ) إن تفسيرها في قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}( ) الخ .
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي للإنسان أن يحترز من كل ما تميل نفسه إليه جهده، خوفاً من الوقوع في الحرام من نظر وغيره، وعلامة النظر بلا شهوة أن يكون كنظره إلى شجرة سواء، فإن فرق فهو شهوة، والإنسان في هذا في تعب، قال اللَّه تعالى :{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ في كَبَدٍ}( )، أي مكابدة وجهد شديد، مع الداعية له إلى المخالفة .
(1/89)


وذكر رضي اللَّه عنه الناس وأحوالهم، فقال نفع اللَّه به: الناس فيهم ظلم، منهم المرائي، ومنهم تارك الزكاة، ومنهم المخلِّط وغير ذلك، وسواء لو تولى عليهم عادل أو ظالم، فهم على حالهم( )، فقال له بعض الحاضرين: يا سيدنا عاد الناس لهم بخت( )، حيث كنتم بين أظهرهم ويرونكم، فقال رضي اللَّه عنه: عاد في الزوايا خبايا، ولو لم يكن في الزوايا خبايا، لدكدكت بهم الأرض، لكنهم إذا كثر الظلم والفساد، يخرجون من ظهرانيهم إلى الفيافي والقفار، يسيحون في الأرض، ويستريحون منهم، فقلت: يا سيدنا هل هم في هذا الزمان قد قلوا عما كانوا عليه سابقا؟، فقال: العدد المعلوم المذكور في كلام العلماء وهم أهل الدائرة لا ينقص، وما كان خارجا منه فيه نقص .
وقال رضي اللَّه عنه: قلة العلم مع العمل، يزكو على الكثير بلا عمل، إلا أن العامل قليل، فقد ذكر الشعراوي( ) أنه لم يزل الناس سابقاً ولاحقاً كثيري العلم، قليلي العمل .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا سألت اللَّه شيئاً فاسأله أن يكون في أحسن أوقاته، وقيد السؤال بالعافية واللطف، فقد سمع ابن مسعود رجلا يسأل التوبة، فقال: هذا يسأل التوبة ولعل توبته في قطع يده، فليسأل مع ذلك العافية، وسأل رجل من اللَّه، أن يحصل له كل يوم رغيفان، ولم يسأل العافية فقدر اللَّه أن حبس، وكان قد قام له أحد من الناس كل يوم برغيفين، فتذكر بعد ذلك، فسأل العافية فَفُكَّ من الحبس .
(1/90)


وقال رضي اللَّه عنه: إن الإنسان في أول أمره في حال صغره مجبول على كثرة الحركة ضرورة حتى قال بعضهم: لو أُمْسِك الصبي عن الحركة لتقطعت كبده . فلم يزل في زيادة من عقله، ونقص من حركته، كلما ازداد عقلاً، ازدادت حركته نقصاً، حتى يبلغ اثنتين وعشرين سنة. وهذا بلوغ الأشد، وآخر ما تنتهي إليه زيادة العقل، ثم لم يبق بعد ذلك إلا التجارب، وهي من زيادة العقل، فيَفهم أن ما يضره يضر غيره، وما ينفعه ينفع غيره، وما يكرهه يكرهه غيره، وعلى هذا، ويقال لذلك عقلاً حتى آخر العمر، ثم إذا بلغ الأربعين فقد استوى، بمعنى أنه وقع له من التجارب في نفسه، ما يقيس عليه غيرُه أيضاً، وأكثرُ الأنبياء لم يرسل إلا بعد بلوغ الأشد والاستواء إلا ثلاثة، عيس ويحيى، وأوحي إلى يوسف بعد بلوغ الأشد وهو اثنان وعشرون وقبل الاستواء وهو الأربعون، فلذلك قال تعالى في حق يوسف :{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه}( ) ولم يقل واستوى وقال ذلك [أي الاستواء] في حق موسى عليهما السلام .
وقال رضي اللَّه عنه: الأدب والانتفاع على قدر المتأدب والمؤدَّب به، وإذا كان الوعاء ملآن( ) يطرحون له في أيش، ونحن أصحابنا مؤدبون بتأديب إلهي، بسبب الغربة والانقباض، ولولا أن اللَّه جعل فينا هيبة لابتذلنا الناس، ثم ذكر قصة الذي صحب الإمام مالك عشرين سنة، سبع عشرة منها في الأدب وثلاثاً في العلم، ثم قال: ليتني جعلتها كلها في الأدب . وما كل أحد يعرف الأدب، وكيف يتأدب، فإن الناس فيهم جهال، وفيهم بدو وغير ذلك، أما سمعت الذي شمت العاطس بحضرة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقال له عليه الصلاة والسلام( ): (( عليك وعلى أمك ))( ) والذي قال له عَلّم فلان الاستئذان، وعَلّم آخر كيفية رد السلام، وما كل أحد يعفى عنه سوء الأدب، أو كما قال .
(1/91)


وقال رضي اللَّه عنه: من تأمل أحوال أهل الزمان، لم ير معهم آخرة ولا دنيا، لأن الآخرة إنما هي بالعمل الصالح وفعل الخير، وهم لا يفعلون ذلك، والدنيا التي بأيديهم، إنما هي مجرد وسواس، وشغل في أبدانهم وقلوبهم، ويزيدون( ) بسببها تَلهّفاً وشُحًّا .
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: من كان معه شيء من أسباب الدنيا، كعَقَار وتجارة، وكان قلبه متعلقاً بذلك، فقد وقع في شبكة الشيطان، فهو متمكن منه كما يطلب، فلا يهتم به كثيراً وإنما يهتم( ) كثيراً في اقتناص المتجردين عنها وطلبهم، ليوسوس لهم، ويشغل بواطنهم وجوارحهم بالاهتمام بأمر الرزق والوسوسة فيه، لأن هذا هو مراد الشيطان، وقد حصل له في الأولين وطلبه من الآخرين .
وقال رضي اللَّه عنه: مات العلم في الصدور والسطور في هذا الزمان، لأن أهله لا يطلب واحدُهُم منه ما يلزمه في حقه وفي حق المتعلقين به .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( لو لم تذنبوا لخلق اللَّه قوماً يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم )): يعنى أنك لا تَتَقَصَّد ذلك، ولا تنكر وجوده في الكون، فللَّه فيه حِكَم، ولو لم يكن من الحِكَم في ذلك، إلا ليكون الناس درجات بعضهم فوق بعض، ومن أنكر وجوده، أو تقصد فعله، فهو عاص فاسق، وهو كمن يتقصد شرب السم .
وقال رضي اللَّه عنه: الاعتماد على المقادير بدعة، والاعتماد على الأسباب بدعة بل لا بد منهما( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: الرضى بالقضاء هو أن ترضى بكل ما يجريه اللَّه عليك باطناً وتلتزم جميع أحكامه ظاهراً، والرضى مع تضييعها غرور وفتنة .
وقال رضي اللَّه عنه: لا تخبر الظالم بظلم غيره فيزيد ظلمه، لكن أَخف ما استطعت مع المداراة، ومن لا يرحم نفسه من عذاب اللَّه، حيث وقع في الظلم والمعصية، فلا ترجو منه أن يرحمكم، ولا يدخل ذلك في خاطرك، والإيمان نور الوجود، ومن فُقد منه فهو كله ظلمة .
(1/92)


وقال نفع اللَّه به: من ألجأك إلى الظلم، فهو أظلم منك .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الدنيا والنفوس، يَقْوَون كلما بلغهم ما يفرحون به، وكلما تَغَذَّوا به من الشهوات، وقُوّتهم الحاصلة لهم إنما هي من قوة النفوس وغلبتها عليهم، والصالحون لا تحصل لهم القوة بما ذكر، والقوة الحاصلة لهم إنما هي قوة الأرواح فيهم، لأن قوة النفس قد أذابوها بالرياضات والمجاهدات فلم يبق لها فيهم أثر .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا كانت طاقة الإنسان دون همته، ما نَفَع، يهم بأمر لا يستطيعه .
وطلبه رضي اللَّه عنه السيد زين العابدين بن مصطفى العيدروس( ) إلى مكانه: البَدْع ثامن شعبان سنة 1128، فقال له السيد زين العابدين: عاد رؤيتكم يتمتع بها الإنسان، فقال نفع اللَّه به: لكن القُوَى ضعفت ولا يمكنها تساعد الإنسان على ما يريد، فربما نَهِمّ بالأمر، لا تساعدنا عليه القوى، فالهمة قوية، والقوى ضعيفة، والروح أقوى من الجسم، وإذا قَوي الروح حصل للجسم قوة، وإذا حصل على الروح ما يوجب الانقباض انهدم الجسم .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا وُجدت الهمة، انبسطت في البدن، فيقوى البدن بسبب ذلك، ويقوى الروح أيضاً.
وقال رضي اللَّه عنه: الإيمان الصادق في قلب المؤمن كسراج في ظلمة، يضئ لمن حوله، ويستدل بضوئه، والإيمان في قلب المنافق( ) كالسراج المكفي فوقه سفيح( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: صاحب الجاه الجاهل، سلامته أن يحيل على غيره، ويظهر عدم علمه، ولا يتوسط في شئ، وإلا هلك وأهلك، وذو الجاه العالم، يعرف ما يزن به الأمور، وعنده نور يعلم به ويفرق، وتكون أموره في الاعتدال كلسان الميزان .
(1/93)


وقال رضي اللَّه عنه: اعرف أحوال الصالحين وأفعالهم وأوصافهم واعرض ذلك على نفسك وادعها إليه، فإن أجابتك إليه كله صلحت، أو إلى بعضه فعلى قدر ذلك، فإن لم تجبك إلى شيء منه أبداً فتحقق بالإفلاس، ولا تدّع ما لست من أهله، فلا أقل من الإنصاف والاعتراف، على أن أناساً يطلبون الدنيا ويخزنونها بُخْلاً وشُحًّا، ويتمتعون بشهواتها، وهم يظنون في أنفسهم أنهم إنما يأخذون منها قدر الضرورة أو الحاجة، وأنهم ما يضمُّونها إلا لمواساة المحتاجين ونفع الإخوان، وهم كاذبون فيما زعموه لأنهم لا يفعلون ما ادعوه مع قدرتهم على ذلك ووجود المحتاج .
وقال رضي اللَّه عنه: اسمعُ ما يقال عن الأولين: إن من الناس من هو كثير العقل قليل العلم، ومن هو كثير العلم قليل العقل، والأول أفضل .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا أعرض العبد عن اللَّه وأعرض اللَّه عنه، لا ينفعه شيء حتى يقبل على اللَّه، ويقبل اللَّه عليه، والضلالة إذا رسخت بأن تربّى عليها يعسر إزالتها، كالنخلة الراسخة، فلو أمرت أهل تريم - مثلاً - بترك ما استمرت به عادتهم لما أمكنهم، ولو قلت لهم أن يقلعوا نخلة لازدحموا عليها، فضاق بهم المكان، وعجزوا لذلك .
(1/94)


وقال رضي اللَّه عنه: إنا نتحفظ جهدنا من أهل الزمان، لأنا غرباء معهم، ونحن معهم مثل الذي قيل له، أتشهد بكذا وكذا، قال: نعم، ثم قيل له أتشهد بكذا وكذا، قال: ما أسمع، أقول: لعله رضي اللَّه عنه أراد بذلك قصة أبي مسلم الخولاني( ) رحمه اللَّه، لما قبضه العنسي الكذاب بصنعاء، فقال له: أتشهد أن محمداً رسول اللَّه؟، قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول اللَّه؟، قال: ما أسمع، تَقِيَّةً من شره أن يصرح بتكذيبه، ولعل معنى سيدنا نفع اللَّه به، أنا نرى في زماننا أشياء من الحق، فنقر بها ونشهد بها، لو استُشهدنا، ونرى فيه أشياء من الباطل، ننكرها بيننا وبين اللَّه، وعمل الناس بخلافها، ولو نظهر ذلك لانشقت العصا بيننا وبينهم، فعدم إظهارها لهم أولى، هذا ما فهمته واللَّه أعلم .
وقال رضي اللَّه عنه: ما أحسن في هذا الزمان من الانقباض والصمت، فإذا جلست مع نفر منهم فقم، وأظهر أن لك حاجة دعتك إلى القيام، وحاجتك حاجة صحيحة، وهي الإعراض عنهم للسلامة مما يقعون فيه .
وقال رضي اللَّه عنه لبعض الأعيان من السادة: الحزم ترك مجالسة أهل الزمان، والحذر منهم، وحَدُّك أن مجالسة المغنِّي أحسن وأسلم من مجالستهم، وإذا جالستهم وتكلمت معهم، فأقلل ولا تتكلم إلا فيما لابد منه، حق التنفس، أو الاستذكار، ولا تتعب نفسك معهم، فإنَّ أوعيتهم مخرّقة .
وقال رضي اللَّه عنه: كلام أهل الزمان، كقشاش خُمَّ من الدار ومليء به طبقاً( )، لا ترى ما ينتفع به، وقد كان الأولون لابد في كلامهم من فائدة، ثم إنهم لم ينظروا في الكلام، بل ينظروا في السِّيَر، ويتأملون فيها، وتظهر لهم فيها الكرامات، أظن قال: تحملهم على العمل، وأما هؤلاء فمجالستهم فتنة وإثم وغيبة وفضول وتضييع للوقت، فاعتزالهم أحسن .
(1/95)


وقال رضي اللَّه عنه: إذا تمسك الإنسان وأمكن أن يتبعه أحد من أقارب أو غيرهم على الحق، فليفعل ويثبت، فإن الزمان لا يخلو من أهل الحق، فإذا فُقِد أحد من أهل الحق، لا بد أن يجعل اللَّه خلفاً في غيره، وقد يكون في من لا يخطر في البال، ولا يُظَن به ذلك، ولا يكون في الوهم استحقاقه له. أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي للإنسان في هذا الزمان أن يهتم بأمر نفسه جداً، ولا يُقَصّر في ذلك، ولا يهتم بأمر غيره، ويلزم نفسه ما به نجاتها، ويجنبها ما لا ينبغي، بل يكون كراكب سفينة حصل عليه ما يخشى منه الغرق، فإنه لا يهتم إلا بأمر نفسه، ولا يعرّج على غيره، ومن لا يهتم بأمر نفسه، فلا عقل له، وهو كمن هو في معركة القتال مع عدوه، فطرح سيفه في الأرض وجلس، فلا محالة يوشك أن يسرع إلى قتله، لكنه يراعي مع غيره ما يلزمه شرعاً، قال تعالى :{لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }( )، فَقَيّدها بالهداية، وما قال إذا ضللتم .
وقال رضي اللَّه عنه: من الطاعات ما يقيك النار، ومنها ما يطرق لك إلى الجنة، والورع مما يقيك النار، فاستكثر منه ما استطعت واستقلل الكثير منه، ولا تستكثر القليل، والورع هو التقوى .
وذكر رضي اللَّه عنه الجنة فقال: هي في اعتدالها ونورها وصفائها، كما بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، في وقت شدة الصيف إذا هبت الريح اللطيفة الباردة، التي تسمى العَليا وهي النَّعَاما( )، وهذا الوقت خلي من الظلمة، ومن الحر والبرد، ويوضع نور الشمس والقمر فيها( )، ويلقيان في النار، لأنهما عُبِدا من دون اللَّه، وفيها من النور ما لا يبلغه الوصف، حتى إن نور الرجل الواحد، لو برز في الدنيا لغطى نور الشمس، وأهل الجنة لا ينامون، بسبب النعيم الذي هم فيه، وأهل النار لا ينامون بسبب العذاب الذي هم فيه، فانظر كيف اشتركوا في عدم النوم، واختلفوا في المادة .
(1/96)


وذكر رضي اللَّه عنه في مجلس آخر الجنة والنار، فقال: من فاته نعيم من الدنيا لا بد أن يستوفيه في الجنة( )، ومن فاته عذاب في الدنيا، استوفاه في النار( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: الإنسان في غفلة عظيمة، ويعجب هو أيضاً من كونه غافلاً، والعجب من الغفلة، مع الغفلة، عَجَب في عجب .
وقال رضي اللَّه عنه: إن الناس كلهم مع اللَّه في مقام الشكر، ويظنون أنهم في مقام الصبر، فإن للَّه في كل عرق نعمتين، ومن العروق المتحرك لا يسكن، والساكن لا يتحرك، فلو تحرك الساكن أو سكن المتحرك لتألم لذلك، ففي كل عرق نعمة وجوده، ونعمة سكون الساكن، وحركة المتحرك، وفي كل شعرة نعمتان، إذ أسفلها مجوف، وآخرها مصمت، فلو انعكس ذلك لتألم الشخص، فللَّه الحمد، وعن بعضهم أنه كان عشاؤه قرصاً يابساً، يصب عليه من الماء البارد، ويفته فيأكله، ويحمد اللَّه ويقول :
خبز وماء وظل ... هذا النعيم الأجلُّ
جَحَدتُ نعمة ربي ... إن قلت إني مُقِلُّ
وقال رضي اللَّه عنه: خفاء الصالحين في هذا الزمان، لأن بعض أهل الزمان مالهم معهم مقابلة، فما يريدون بظهورهم، لأنهم ما أرادوهم إلا لهم، والصالحون ما يكونون لأهل الدنيا، بل يكونون للفقراء عليهم، فلو قال صالح عن كشف لبعض أهل الزمان مثلاً: في الموضع الفلاني من بيتك كذا من المال، لكنك هات نصفه، أو فرقه( ) على المحتاجين لأَبَى، وغَلَبه الطمع، ولو أنه قد كان آيساً منه، وليس على باله، وربما ساء ظنه به، وزال اعتقاده، وقال لو كان هذا صالحا ما قال لي هات منه، ثم أنشد هذا البيت :
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم
وقال رضي اللَّه عنه: السادة أهل التمييز إذا سموا شيئاً كهدية ما يغيرونه .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا رأيت مفتخراً فلا تفاخره، ولا تقره على فخره، ولا تلايمه عليه، وإذا علمتم فعلّموا وكونوا أهم بمنافعهم من أنفسكم .
(1/97)


وقال رضي اللَّه عنه: العلم فضيلة، لا تتكمل إلا بالعمل به للَّه .
وقال رضي اللَّه عنه: الإيمان: اليقين، وتزعزعه الأوهام، وكلما كثرت ضعف وكلما قَلَّت قوي .
وقال رضي اللَّه عنه: عند الصوفية، أكثر الفساد إنما هو من السماع والاجتماع، لهذا كانوا يرغبون في الصمت .
وقال رضي اللَّه عنه: المداراة هي بذل الدنيا للدين وللدنيا، والمداهنة بذل الدين للدنيا وللدين، ولا بأس بالأول، ويحرم الثاني، ومِن بَذْل الدنيا في المدارة حسنُ الكلام من غير كذب ولا مجازفة، واللينُ لمن تكلمه، والمدارة هي التي نسميها المراعاة.
وقال رضي اللَّه عنه: قراءة الفاتحة، آخر المجلس: عادة أهل اليمن ورآى بعضهم أن القيامة قامت، وسمع منادياً ينادي قوموا يا أهل الفاتحة، فقام أهل اليمن، وكان رجل من أهل اليمن ذا فقه وصلاح، يعتاد يختم مجلسه بها ،وكانت له زوجة تكرهه، وإخوانها وقراباتها يحبونه ويرغبون فيه لديانته وصلاحه، ويسمع منها من الكلام ما يكرهه، فيخبرهم به، فإذا سألوها: لِمَ تقول له ذلك، تنكر وتقول ما قلته، بل كَذَب عليَّ، فأتى إليها يوماً نساء، وبقيت تتحدث معهن فيه، وتتكلم بما يسوءه، فاتفق أنه كان يسمع كلامهن من حيث لم يشعرن، فبقي يكتب ما يسمع منهن ليعرضه على أهلها، فلما كان في آخر المجلس قالت لهن: تعالين نقرأ الفاتحة على عادة الشيخ، كما يفعله من قراءة الفاتحة على عادته وقراءتها، فكتبها أيضاً في جملة ما كتب، فلما عرض المكتوب، وأخبرهم بما قلن وأنكرت فقال: هو ذا مكتوب، وفتح الورقة فإذا هو لم ير في الورقة مكتوباً سوى الفاتحة فقط، فعجبوا لذلك، فينبغي قراءتها رجاء أن يُمحى جميع ما حصل في المجلس من مذموم الكلام واللغط، ومرة قال: نقرأ الفاتحة في آخر المجلس، لتكفر ما وقع فيه، فإن كان المجلس مجلس خير، فتكفر ما كان من الخواطر السيئة الاختيارية، أو كما قال .
(1/98)


وقال رضي اللَّه عنه: قد قلنا يعني أول العمر نريد أن ننظر، إن كان نحن من المأذون لهم في السياحة والتنقل، لا نستصحب أحداً معنا لئلا يكون بلاء وأذىً على الناس، وإن لم نكن من المأذون لهم في ذلك، فلا بأس إن لحقنا أحدٌ أن نتركه على نيته، في مخالطته لنا.
وقال رضي اللَّه عنه: لو أن أحداً له قدرة على السياحة، مثل الأولين من الصالحين، وخصوصاً السياحة في الحاضرة، فإنها أسهل، لكن السياحة تريد قوة قلب وزهد، وترجع السياحة في القلب، فيسيح في قطع فَلَوات النفس، حتى يصل إلى الحق سبحانه وتعالى .
وقال رضي اللَّه عنه: إن الصحابة رضي اللَّه عنهم، حَدَّث كل منهم على حسب علمه وما بلغه عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ولهذا كثرت الروايات، وذلك لاختلاف أفعاله وأحواله عليه الصلاة والسلام، ولما كثرت الروايات عنه عليه السلام وعن الصحابة المأمونين، وعن التابعين المقتدين، إتّسع العلم، واختلفت الأقوال، ومن لم يَسِر على الجادة والتقوى، لم يكن له إمام إلا منافق أو فاسق، لأن الطريق قد تخفى وقد تظهر .
وقال رضي اللَّه عنه: لا تُحِلْ هذه الأمور على المقادير، بل حِلْها على هذه القلوب المنصرفة والوجوه المدبرة، قال اللَّه تعالى :{وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}( ) الآية.
ذكر ما يتعلق بالرزق
(1/99)


وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: من كان عنده من الدنيا قدر كفايته فقط بلا زيادة فذاك رزقه المقدر له، أو زائدٌ فما فوق( ) ذلك فهو رزق غيره استخلف فيه، وهو عنده أمانة فليراع فيه ما يلزمه وكما ينبغي على مقتضى الشرع، ويتصدق منه ويقدم منه لآخرته، قال اللَّه تعالى :{وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه}( ) وإن باع منه شيئاً قنع بما تيسر له في الحال، دون احتكاره والطمع في غلاه، ومهما خرج منه شئ من يده إلى يد آخر بأي وجه ببيع أو هبة أو صدقة أو غير ذلك، فقد رجع ذلك إلى من هو رزق له، وإن بذَّر في الزائد أو أسرف فيه أو ضيعه على مقتضى هواه وشهوته، فهو متعد في حق غيره، ومسرف فيه مذموم الحال .
وقال رضي اللَّه عنه: سمعنا فيما بلغنا: إن للَّه ملائكة موكلين بخزائن أرزاق العباد، وإن للعبد في كل وقت رزقاً معلوماً، فإذا أطاع العبد ربه وأحسن له المعاملة أمر اللَّه الملائكة الموكلين بخزائن أرزاق العباد أن يعجلوا له من رزقه في الوقت الآتي، مع رزقه في الوقت الحاضر، فيتسع عليه رزقه فيه، وإذا عصى وأساء المعاملة أمر الخَزَنة وقال: ادخروا رزق هذا له في الخزائن، فيؤخر إلى الاستقبال، ويبقى مقتراً عليه رزقه في الحال الحاضر.
ثم قال نفع اللَّه به: لعل المراد أن الرزق شئ مقدر معلوم، على ما قسم للشخص بلا زيادة ولا نقصان، وإنما يقدم ويؤخر بحسب معاملته لربه، ولعل هذا في بعض الناس، وبعضهم وسع عليه على أي حال، وبعضهم بالعكس .
(1/100)


وذكر رضي اللَّه عنه الأرزاق، فقال: الأرزاق مقدرة، ولكن إذا عصوا قال للخزنة: أخروا أرزاقهم في الخزائن، وإذا أحسنوا عجل لهم، أو يجعلها لهم فيها مرة، ثم ترد عليهم في وقت آخر لعصيانهم كما ترى كثيرا من السيول تأتي وتروح ضياعاً لا يحسنون تربيتها( )، هذه هي التي كانت أخرت لهم ثم أردفت لهم، مثل العبد السوء، إذا عصى يجوعه سيده نحو أربعة أيام، ثم يجمع عليه رزق تلك الأيام مع رزقه الحاضر حتى يكثر عليه ويمل الأكل .
وقال رضي اللَّه عنه: سمعنا فيما بلغنا: إن اللَّه تعالى يقول: يا عبدي أطعني ولا تعلمني بما يصلحك، فأنا أعلم بما يصلحك منك، ثم فسره وقال: عليك الذي عليك، وأمسك الحبل بطرفيه، ولا تختار مع ربك، فاختياره لك أحسن من اختيارك لنفسك .
وتكلم رضي اللَّه عنه يوما في أمر الرزق فقال: إن اللَّه لا يعاقب في أمر الرزق بالتقتير إلا المغترين باللَّه كثيراً، ثم ذكر: إن رجلاً قال لموسى عليه السلام: أريد أن أوصيك بوصية تبلغها إلى ربك عند مناجاتك له، قل له: إن فلاناً يقول: لا ترزقني، فإني غير محتاج لرزقك، فلما ناجاه قال: يارب أنت أعلم بما قاله عبدك فلان، فقال سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: قل له: إن خرجت من مملكتي منعتك من رزقي، وما أعجب هذا فأين يخرج من مملكته، والأرض أرضه، والسماوات ملكه .
(1/101)


وقال رضي اللَّه عنه: الرزق المضمون هو الكفاف، وهو ما لا يمكن العبادة وإقامة حقوق اللَّه إلا به، وما فوق ذلك فمقسوم، والشك في المضمون كفر، ولا يجوز فيه قصد تجربة، بأن يقول: أجلس وأنظر إن كان جاءني شئ، فإنه إن كان بقي له حياة، فلا بد وأن يجيئه، وإلا فالميت لا يطعم قوتاً، بل يصرف إلى الحي، ومن جلس في داره مجرباً واشتد به الجوع، يجب عليه تحصيل حاجته بما أمكنه( )، وإن لم يمكنه إلا بالسؤال سأل بقدر الحاجة، وهو فيه معذور، فإن لم يفعل حتى مات جوعاً، مات عاصياً لأنه قتل نفسه، إلا إذا لم يمكنه بحال، وسمعته رضي اللَّه عنه يقول: إن السؤال من الفواحش، كالزنا والسرقة، ما أبيح من الفواحش إلا هو، عند الضرورة .
وقال رضي اللَّه عنه في ذكر الأرزاق: إن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: إذا غضب اللَّه على قوم أَخّر أرزاقهم عن أوقاتها ولا يمنعهم منها ولا ينقصها، فيرسل المطر في غير وقته والحصاد في غير وقته فإنه كذلك وليس هو على أصله بل دون ذلك، وقال بعضهم: لا يمنعهم و لا ينقصها ولا يؤخرها بل يبقيها ويدخرها لهم في الخزائن حتى يرضى، فإذا رضي أرسلها عليهم كلها بالتمام .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الخير ما لهم من يضبط لهم أمورهم، ولو كان لم يطيعوه، لأنهم لا يحبون الدناقة، وأمورهم وأرزاقهم عند اللَّه تحت العرش، يقول اللَّه تعالى: أعطوا فلاناً بقدر ما يخرج، وقد يخرج رزق يوم أو أيام في ساعة، فيبقى محتاجاً في تلك الأيام، وقد تقع لهم زرَّات في بعض الأوقات، وقد تفيض عليهم من وجوه كثيرة، وإذا أراد الإنسان من متاع الدنيا شيئا عن حاجة إليه أو ضرورة فإن اللَّه يعينه وييسره وإن أراده بطراً من غير حاجة فليقدر .
(1/102)


وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة في ذكر الرحمة والتوسعة لبعض الناس دون بعض، وفي وقت دون وقت، فقال: إن اللَّه تعالى لا يسيب عباده، ولكنهم إذا سيبوا طرف( ) الحبل، تركهم مدةً ابتلاءً لهم، ثم يعود عليهم وإن بقوا على ما هم عليه، وكيف يتركهم وهو عالم بعجزهم وفاقتهم { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ }( ) وقد سمعنا أن رجلاً مكث في غيظة شجر ملتف بعضها ببعض، ولا معه ولا دونه فخطر بباله أن اللَّه هل يعلم بحاله في مكانه ذلك، فسمع صوت قائل يقول :{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ } .
وتكلم رضي اللَّه عنه أيضاً يوما في الرزق، فقال: جاء في بعض ما ورد عن اللَّه تعالى، أنه قال: عبدي أطعني، ولا تعلمني بما يصلح لك . ولكن الدعاء مطلوب، لأن فيه إظهار الافتقار من العبد لسيده، وهناك أصناف من المخلوقات، لا يعلمون الغيب، ولا تظهر لهم أحوال الناس إلا بدعائهم، من ملائكة وشياطين، لأن الملائكة يحبون من الناس العبادة والدعاء وإظهارهم افتقارهم إلى ربهم، فيفرحون لهم بذلك، والشياطين يكرهون ذلك منهم، ويثبطونهم عنه، ويفرحون لهم بتركه، فيحصل بظهور الافتقار بالدعاء سرور الملائكة، وإرغام الشياطين، ولا يزال الإنسان مشبوحاً( ) بين هذين الصنفين، الشياطين يجرونه من أسفل بالمعاصي، والملائكة يجرونه من أعلى بالطاعات، فإن غلبت الملائكة جرته من أيدي الشياطين من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، وإن غلبت الشياطين، إجتذبته من أيدي الملائكة من عليين إلى أسفل سافلين، والعياذ باللَّه تعالى أو كما قال .
(1/103)


وقال رضي اللَّه عنه: الأسباب والحِرَف منها ما هو على صاحبه نعمة، ومنها ما هو عليه نقمة، فما يمنعه من أداء حقوق اللَّه والصلوات مثلا في أول أوقاتها وفي الجماعة فهو نقمة، وما كان لأجل الاستمساك، والاستغناء عن الناس، مع أداء حقوق اللَّه، وفعل الأوامر في أوقاتها فهو نعمة، وينبغي أن يعمل بنية نفع نفسه ونفع غيره ومن يأتي بعده، فإن معظم الناس اليوم في بيوت الأولين وفي أموالهم، وقد مَرَّ كسرى أنو شروان على رجل مسن شيبة، وهو يغرس نخلاً، فقال له: لِمَ تغرس وأنت في هذا السن، ولعلك لا تدرك ثمرته ،فقال: غرسوا وأكلنا، ونغرس ويأكلون، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقال له: إن النخيل لا تثمر إلا بعد عشر سنين، وهذا أثمر لي في ساعة واحدة، فأمر له بمثلها، وقال: إنه رجل حكيم، فقال له: إن النخل لا يثمر إلا في السنة مرة واحدة، وهذا أثمر لي في يوم مرتين، فأمر له بأربعة آلاف ثالثة، وقال لخازنه: سر بنا لئلا يتم الخزانة علينا.
وذكر رضي اللَّه عنه الأرزاق والزوايا، ثم قال: كانت الزوايا فيها خبايا من صالحين وعاملين للَّه، فلما ذهبوا ذهبت الأرزاق، والدنيا إنما خلقها اللَّه تعالى إعانة لأهل طاعته، وهي لهم بلاغ، وللكفار متاع، وأهل الزمان يُنَفِّرون النعم عنهم مع إقبالها عليهم بقلة الشكر عليها، وإنما بذل اللَّه الرزق لكافة الناس، لكونهم فيهم أهل الطاعة والفقر والمسكنة، فيكون لغيرهم بسببهم، ولو لم يكن في الدنيا إلا العصاة ما أعطاهم لقمة .
(1/104)


وقال رضي اللَّه عنه: اجعل الدنيا كالحذاء مطروحة لا ترفعها بل تلبسها إذا أردت موضع قذر أو حاجة ولا تضعها على رأسك، فمن وضعها على رأسه أو مسح وجهه بها، فقد أجرم جرما عظيما، ونحن ما أنكرنا على أهل الزمان في أخذ ما لا بد منه وما يغنيهم عن التكفف للناس، وإنما أنكرنا عليهم رفعها وتعظيمها والتهالك عليها، حتى ضيعوا بسببها حقوق اللَّه، كإخراج الصلوات عن أوقاتها أو عن أوائلها، أو عن الجماعة، وكان السلف لا يتركون شيئا من أمور الدنيا يتم في أيديهم، بل إذا تم من جهة، بقي ناقصاً من الجهة الأخرى، لأنها إذا تمت لابد أن تذهب، فتعظم حسرتها، وإذا كان من طلبها ليبر بها، ناقصَ عقل ودين، فكيف يطلبها لنيل الشهوات، والتمتع باللذات، وكان يشير بذلك إلى بعض الحاضرين ثم قال له نحن نعلم ما تقولون في مجالسكم وأسواقكم ،أتظنون أنا لا نعلمه، بل نعلم ما به تجهلون، قال ذلك ضحى يوم الجمعة في 21 جماد الأولى سنة 1124 .
وقال رضي اللَّه عنه: أمور الدنيا كرجلَي المحواك( )، كلما ارتفع واحد منهما هبط الآخر .
(1/105)


وقال رضي اللَّه عنه يوم الاثنين عاشر جماد أول من السنة المذكورة، وقد بلغه فرطُ ظلم السلطان عيسى بن بدر في شبام، وجورُه زائداً على العادة، فتكلم في شأنه كثيرا ثم قال: ما له إلا الكثيب الأحمر، وهو تربة عينات، وكان حينئذ بشبام، ثم سرح منها صبح يوم الثلاثاء منحدراً إلى عينات، وخرج سيدنا ضحوة يوم الثلاثاء المذكور إلى مسجد إبراهيم بن السقاف الذي شرقي الحاوي، وبقي فيه يومه ذلك إلى أن صلينا معه فيه صلاة المغرب ليلة الأربعاء. ومما تكلم به في مجلسه في المسجد المذكور ذلك اليوم، أن قال: إن الناس لا ينظرون من الشخص إلا إلى عمله، لا إلى ذاته، ومن مات وهو محسن تأسفوا عليه، أو غير ذلك فرحوا بموته، ومن مات وهو حسن العمل بعد قليل من العمر، فهذا مدة عمره، ومن مات كذلك وهو سيئه، فنقصان عمره من شؤم عمله، ومن طال عمره منهما فالمحسن زاده اللَّه في عمره ببركة عمله الصالح، والآخر هو عمره المقدر له، ليزداد من الشر، فبعد صلاة المغرب والنافلة بعدها سار سيدنا إلى الحاوي وسرنا معه فالتقانا محمد بِلْفَقْيِهْ الصعدي، الملقب بمحيود، جاء من بَلَدِه شبام، وكان خادماً لسيدنا، ويحفظ ديوانه، فصافحه وشكا إليه حاله وأحوال الناس وما حصل عليهم من الظلم الفظيع، وقال: فلان غُرِّم كذا، وفلان كذا، وأنا أخذ عليَّ خمسين قرشاً وعادتي خمسة ومثل هذا فقال سيدنا له: إذا ظلمكم حاكمكم، فماذا تريد أن أفعل، فقال: أريدكم تقبضون بحلقه فتخنقونه وتقتلونه وتريحونا منه، أو قال: من شره، فتبسم سيدنا وضحك وسكت، فكان من قضاء اللَّه وقدره أن عيسى بن بدر تلك الساعة بعينات في ضيافة له من آل الشيخ أبي بكر بن سالم، يتعشى فنشبت قطعة لحم في حلقه، فلا خرجت ولا دخلت فانقطع نَفَسُه، وخرجت روحه، ومات في الحال، وقُبِر هناك في الكثيب الأحمر، كما ذكر سيدنا قبل موته بيوم، وأظن أن كلامه المذكور في المسجد، فيه
(1/106)


إشارة إليه واللَّه أعلم .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا أكثر الإنسان الظلم ولم يزل يظلم كان كالجريدة الخضراء، كلما لها ينقص ماؤها وخضرتها حتى تيبس، فعند ذلك تسرع النار في إحراقها.
وقال رضي اللَّه عنه: إن انتفع أهل الزمان بشيء فَبِنِيَّاتهم( )، وإلا فجميع أعمالهم مدخولة، فإن لم يقروا بهذا فعليهم البيان، ومثال أهل الزمان كمثل من جاء إلى سلطان، يحمل حطباً( )، فماذا يستحق من السلطان، ما هو إلا أن يشب في حطبه النار، قال بعضهم: النار فيك وبالأعمال تحرقها الخ، ثم قال: من جاء بوعاء يطلب فيه سمناً( ) أعطوه فيه، وأهل الزمان لا أوعية لهم طاهرة يطرح لهم فيها، وكان فيمن مضى، إذا جلس الإنسان إلى أحد من أهل الدين نحو ثلاثة أشهر صار داعياً إلى اللَّه، وهؤلاء لا يمكن ذلك منهم .
وقال رضي اللَّه عنه لما فرغ القارئ يوماً من قراءته، في "الدعوة التامة": ما على الإنسان إلا أن يبين ويوضح لهم، ولا عليه إن لم يحفظوه ويعملوا به، وما هو إلا كحديث أبي هريرة، لما حدث عنه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم حديث( ): (( لا تؤذ جارك، بقتار قِدْرِك ))، ما رأى منهم الإصغاء والإقبال، فقال: مالي أراكم عنها معرضين، واللَّه لأرمين بها بين ظهوركم . والناس اليوم تالفين متلفين خاربين، فينبغي أن يأخذ الإنسان منهم حذره، فإنهم كالأرض المُرْضِية، يحذر أن يطرح عليها متاعه، وإن انتقل إلى الأرض التي لا أَرَضَةَ فيها فهو أصلح وأحسن، وإن بقي فيها فليحزم بمتاعه لا تأكله . وذمُّ الناس على مقتضى الأكثر منهم، وإن كان فيهم بقية خير، كما يقال لقليل المال: إن ما معه مال، أي كثير، وإن كان معه قليل، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يكن لك في الدنيا حسيب إلا نفسك، إن أردت خفة الحساب في الآخرة فحاسبها في الدنيا، والناس ما يبالون بك ولا يدرون ما تقول.
(1/107)


وقال رضي اللَّه عنه: معنى اجعل القرآن ربيع قلبي، كما في الدعاء أي بأن يعمل في القلب من الأنوار والعلوم، كما يعمل الربيع في الأرض .
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي للإنسان في هذا الزمان أن لا يتحمل، فمن الذي سلم من شواغل الزمان كما ينبغي، زمان ردي، زمان هم وغم، وفي هذا المعنى قيل: المشغول لا يشغل .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل من حمقه فاسأله عن مسألة فإن أجابك عنها، ولم يزد عليها، فهو عاقل، وإن أتى بها وذكر كلما في نفسه وتكلم به، فهو أحمق، والفرق بينهما أن العاقل صحيح القصد والعمل، والأحمق صحيح القصد دون العمل، ومرة قال: والمجنون فاسد القصد والعمل، وإن أردت أن تعرف أنه ثقة أَوْ لا، فاسأله واتقَن جوابه، ثم امكث مدة ثم اسأله عما سألته أولاً، فإن تكلم ثانياً مثل كلامه أولاً، فهو ثقة، فإن زاد أو نقص أو لم يكن على ترتيب الأول فليس بثقة .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل هذا الزمان ما يسعهم إلا الجائز، وقليل فيه( ) ونادر من يرتقي رتبة العزيمة، فلا حكم له، ومن أتانا من هذا القليل لا نصدقه حتى نختبره ونتحقق صدقه، فإن من لا فيه دين يردعه ولا عقل يحجزه فلا يبالي بما يخل في دينه ولا مروءته، فليس بإنسان .
وقال رضي اللَّه عنه: من أتانا يطلب الطريق العامة، أخذنا بخاطره وآنسناه، ومن أتانا طالباً للطريق الخاصة، استخدمناه وابتليناه، مجابرة للأول باللائق بجنسه، واختباراً للثاني وكسراً لنفسه، أو كما قال .
(1/108)


وقال رضي اللَّه عنه: ربما نسمع من أفعال أهل البلاد ما لا ينبغي، فإنه لا يسرنا أن نسمع شيئاً مما يتعاطونه، مما يفعل داخل البلاد، إلا كما كذا، ونحن معهم كامرأة طلقها زوجها وأخذ غيرها، ومعها له ولد، فلا بد ما تسأل عنه ويسأل عنها لأجل الولد، ولو كان كل منهما قد أَيِسَ من صاحبه، كذلك بيننا وبينهم من التعلق كما بين المرأة المذكورة وزوجها، من قرابة وصحبة وجوار وغير ذلك، فما نسأل عنهم إلا لذلك لا غير.
وقال رضي اللَّه عنه: نحن مع أهل الزمان على حد قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً لَّسْتَ مِنْهُمْ }( ) لتعرف أحوالهم في دينهم .
وقال رضي اللَّه عنه: من لم يُبَلْ بدينه لم يَبُل اللَّه به، احفظوا هذه القاعدة .
(1/109)


وتكلم رضي اللَّه عنه عشية الاثنين في 21 رجب من سنة 1122 في ذم المعاصي والفضول من الكلام، فقال: هو( ) ما سوى ذكر أو قراءة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو نصيحة { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيب }( ) ولو أن أحداً أراد أن يفعل ما يُستَحْيَى منه، وعنده طفل لخاف أن يعرف ما أراد فعله ويفطن له، وبقي يلتفت يميناً وشمالاً، فكيف بمن لا يستحيي من ملائكة كرام، وهم معه أينما كان، لا يفارقونه، يحصون ما يعمل ويقول، ولا يستحيي من خالقه، فمن لا يعتقد أنه [ أي اللَّه ] ثالث الاثنين، ورابع الثلاثة، فما معك منه إلا خير( )، ولو جلس جماعة في محل بقدر قراءة يس، لاشتغلوا بفضول الكلام، ولا يحترمون القرآن، وسواء المسجد وغيره، ولو أنهم جعلوا للَّه من أوقاتهم بقدر ما جعل عليهم في أموالهم . وقد حكي أن سليمان بن داءود عليهما السلام أرسل بعض الجن، أو قال بعض الشياطين إلى موضع، وأمر آخر بأن يتبعه، ويسمع كل ما يقول ويُعلمه بذلك، فمضى معه ولم يسمعه تكلم بشيء، إلى أن مر بسوق، وفيها كثرة من الناس ملتهين ببيعهم وشرائهم، فوقف ورفع رأسه وقال: سبحان اللَّه، ووضعه وقال: سبحان اللَّه، فأخبر سليمان بذلك، فسأله عن ذلك فقال: تعجبت من هؤلاء الفوقيين [أي الملائكة] وسرعة ما يكتبون، ومن هؤلاء التحتيين وسرعة ما يُملون .
(1/110)


وقال بعض الصالحين: لو أنهم [أي الملائكة] أخذوا من الناس بعض المداد والقرطاس( ) الذي يكتبون به أقوالهم، لأقلوا من الكلام . وكان أبو يزيد إذا دخل الخلا يفرش للملائكة إحرامه عند بابه، ويقول: اجلسوا، ملائكةَ ربي، يعني أنه كان في غاية الحياء من اللَّه أولاً، ثم منهم [أي الملائكة]، فإذا فارقوه في هذه اللحظة، فرش لهم واستراح لعلمه أنهم فارقوه إذ ذاك، فلو أن أحداً تكلم في الخلاء، لكلفهم الدخول عليه فيه، لِكَتْب ما يقول، ولا لهم [أي أهل الزمان] لذة في ذكر ولا صلاة ولا قراءة، ومن كان يشق عليه فعل المعصية، ففعلها مرة، سهلت عليه بعد ذلك، كما يحكى أن بعضهم كان يسير في طين ووحل من جانب الطريق رافعاً ثيابه، يتحفظ عن السقوط وعن البلل والطين لئلا يصل ثيابه، فاتفق أنه سقط فبعد ذلك أرخى ثيابه، وسار مرخياً ثيابه في وسط الطين، وجعل يبكي، فقيل له في ذلك، فقال: كنت خائفاً من السقوط، فسقطت فسهل عليّ، وهكذا المعاصي .
وقال رضي اللَّه عنه: من يرى عند فعل المأمورات والمطلوبات انبساطاً وانشراحاً، وعند فعله خلاف ذلك، يرى اشمئزازاً وحزازةً في قلبه، فهو الذي يَنتفع بالنصيحة والموعظة، ثم تمثل بهذا البيت :
إنما تنجع الموعظة في المرء ... إذا كان له من قلبه واعظ
وقال رضي اللَّه عنه: قد جرت عادة أهل العلم إذا ذَكَر أحدُهم عن أحد كلاماً يحكيه عن نفسه مما يكره لا يحكيه عنه بصيغة لفظه عن نفسه، بأن يكون فيه ضمير المتكلم، بل يذكره بصيغة الإخبار عن غيره، ويأتي فيه بضمير الغائب، كما لو حكى عن أحد الطلاق، فيقول: قال فلان امرأته طالق، ولا يقول: قال امرأتي طالق، وكقال فلان هو يهودي إن فعل كذا ولا يقول قال أنا، وكل ما يجري هذا المجرى .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا لم تعلم ما عَمَلُ الإنسان، فاعرف جزاءه، تعرف به عمله، إذ الجزاء من جنس العمل .
(1/111)


وقال رضي اللَّه عنه: الضلال والهداية من اللَّه تعالى، لكنه يُضل على أيدي الشياطين، ويهدي على أيدي الأنبياء، فإذا كان الإنسان سائراً على السيرة السوية، فعرض له الشيطان، وقال له: تعال من هنا، فإن كان له تمييز به، وأراد تعالى ثباتَه، قال له: لا أتبعك فإني أعرف الطريق وقد مارستُها، ومن أراد إضلاله امتثل ما أمره به الشيطان.
وقال رضي اللَّه عنه: إنه ستكون بعدنا أمور هائلة جداً، فاستمسكوا بخصلتين: الانقباض والتمسك [أي بالدين]، فاعملوا عليهما، واستوصوا بهما، ولعل أن يكون أحد يجهجه( ) على الدين كما يجهجه على الزرع، ورأينا الناس اليوم إنما همتهم الدنيا فقط، وما يريدون من الصالحين إلا من له منهم حال، أن يزيل عنهم بحاله ما يُنْقِص أموالهم، مع عدم إنفاقهم لشيء في سبيل اللَّه، ومن تأمل أحوال الأنبياء ومن تبعهم من العلماء والصالحين في الدنيا، عرف أنه لم يسترح فيها ويطمئن بها إلا أحمق جاهل .
وقال رضي اللَّه عنه: لا تتول إلا إذا كان عليك( )، واحذر أن تتولى إذا كان لك، فتخرج من الدين وتصير تابعاً للَّهوى والحظ، بل اسأل عنه العلماء المتقين، دون المتساهلين.
وقال رضي اللَّه عنه: قد تعلق الإمام الغزالي آخر عمره بعلم الحديث، حتى قال بعضهم: لو طال عمره لأرخص تلك البضاعة، وإنما تعلق به لأن من تمكن في العلم اللدنّي وتبحر فيه، لا يلائمه ويطابعه، إلا العلوم اللدنية كعلوم الحديث، لأنها من عند اللَّه على لسان رسوله، أو كما قال . وسمعت سيدنا يقول: كان أكثر تعلقه( ) من كتب الحديث بجامع الترمذي، حتى روي عنه أنه قال: من عنده جامع الترمذي، فكأنما عنده نبي يتكلم( ).
(1/112)


وطلب منه رضي اللَّه عنه بعض السادة كتاب "موجبات الرحمة في اختلاف الأئمة"( ) ليقابل عليه نسخة عنده منه، فقال له: أما أنت فنعم، وأما المقابل معك، فإن كان فلان أو فلان أو من هو مثله، وإلا فلا، ثم قال نفع اللَّه به: علمان لا نأمن متفقهة الزمان عليهما: علم الحقائق وعلم الخلاف بين الأئمة، وعندنا منهما كتب كثيرة، لكنا ما نظهرها .
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: اطرح نفسك على التراب، فإن كنت تراباً فلا حرج عليك إذا وضعت التراب على التراب، وسَلِمْتَ بذلك من الدعوى، وإن كان معك شئ فلا تظن أن هذا يضعك، بل يزيدك رفعة، وما أظن أحداً في هذا الزمان، يدعي لنفسه شيئاً إلا من عدم العقل، وأما من ادُّعي له، فإنما ذلك من كثرة الكلام، وقد تكون أسباب وأغراض لمن يدعي ذلك لأحد، تحمله على أن يدعيه له، فقد قال رجل لرجل آخر لا نعده في درجة أهل الإيمان، أو قال الكامل، قال له: أنا أعتقد أنك في منزلة الشيخ عبدالقادر الجيلاني، ونحن لا نسلم لمن يدعي بما ادعاه، ولا لمن ادُّعي له بذلك، أو كما قال .
(1/113)


وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان يحبون أن تحصل لهم الكرامات من الصالحين إذا وافقتهم على مقتضى أغراضهم، وهم لا يعرفونها بل يسمعونها في الكتب، فإذا رأوها فليفعلوا إن كان فيهم أهليَّة لذلك، وإذا ذكر لهم: إن فلاناً خَرَج من ماله للَّه، أو تصدق بكذا كذا ألف، نفروا من ذلك، فإنما يحبون منها ما يزيدهم في دنياهم، وأما ما ينقصهم فيها فلا يريدونه، ثم قال: وهذه الأشياء( ) نادر وقوعها جداً، ولا تحصل إلا في أوقات متطاولة لغرض أو فائدة، وفي حال غَيْبة، وقد لا تحصل لأحد منهم مدة عمره، إلا نحو مرة أو مرتين، ولهذا سُمِّيَت خارقة للعادة، إذ لو غلب وقوعها لما قيل لها أمر خارق للعادة، وفي الحقيقة إنما الكرامة خرق عادة النفس، وقطع ميلها عن حب الدنيا وملاحظة الأهوى، ومجانبة الكبر والدعوى، وسائر الأخلاق المذمومة، وتحليتها بالمحمودة، أو كما قال بمعناه .
وقال رضي اللَّه عنه: هذا الزمان هو الذي قال اللَّه فيه :{ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}( ) فعلى الإنسان فيه بخاصة نفسه، يمنعها من كِبْر وحسد وغل وحقد، ولا عليه في ذلك من غيره .
وقال رضي اللَّه عنه: الأوراد لا تؤثر إلا مع الحضور، ولا تنفع إلا مع الدوام.
وقال رضي اللَّه عنه: أخص ما يكون من معاني القرآن، التكلم به على لسان الحق( )، ثم بعد ذلك الخطاب مع الحق وهو ما فيه ضمير الخطاب كإياك نعبد ثم ما كان فيه نيابة عن الحق كآيات الأمر والنهي والوعد والوعيد، وغير ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا جاء في القرآن الخطاب لهذه الأمة، فهو عام فيها، ولا يختص بالفاعل، كقوله تعالى :{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً }( )، أي إنها تصيب الظالم وكل من ينسب إليه ومن يجالسه أو يواكله أو يميل إليه بأي وجه، وإذا جاء الخطاب لغير هذه الأمة، فيكون لمن فعل مثل فعلهم .
(1/114)


وقال رضي اللَّه عنه: القرآن كلام اللَّه، سماه عزيزاً لعزة قدره، لأنه نزل من عزيز على عزيز، ولا يستلذ قراءته إلا أهل البصيرة ومن في قلبه نور، ويستثقل منه الشياطين، فمن يمل من قراءته فذلك في قلبه شياطين، لولاهم ما كان منه ذلك، إلا إن كان مع كثرة القراءة، فإن البشر من طبعه الملل، وقد قال الفضيل: لو كنت عرفت من القرآن أولاً ما عرفته منه الآن، ما نقلت حديثاً، يعني لأن جميع العلوم تتفجر من القرآن، فإذا أعطاه اللَّه الفهم فيه، فلا يحتاج إلى تحصيلها من غيره، وقد أجملها فيه، والعمدة على نور القلب .
وقال رضي اللَّه عنه: من تهاون بطاعة اللَّه الظاهرة، ووقع في معصيته لابد له من الموت، عاجلاً وآجلاً، وأول ما يموت منه قلبه، وهو الموت العاجل .
وقال رضي اللَّه عنه: من يضيق من الجلوس في المسجد والقراءة، قل لي ذلك لأي سبب، ما هو إلا إن في قلوبهم شياطين، يُضَجرونهم من الجلوس فيه، ومن تلاوة القرآن، مع أن التالي مجالسٌ رَبَّه، فلا تصلح قلوبهم حتى تخرج منها الشياطين . والملائكة لا تتبع الشياطين، وهذا صراط اللَّه المستقيم، حيث حكى عنه أنه قال :{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} إلى قوله :{ شَاكِرِينَ }( ) وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، إن لحق إلى القلب مدخلاً دخل إليه، وسببه لُقَم الحرام والشُّبَه، ومن أكل طعاماً حراماً لم يعلم بحرمته فلا لوم عليه من حيث ظاهر الشرع، لكن يحصل منه تأثير في أمر غير ذلك .
(1/115)


وقال رضي اللَّه عنه: قعد الشيطان لكل أحد على طريقه التي يصل بها إلى اللَّه تعالى، لأنه عدو ممارس عارف بالطرق، فجاء لبعضهم في البخل ومحبة الدنيا، ولآخر في الرياء والكبر وغير ذلك، وأهل أخلاق السوء كل منهم هو متصف بها، ويعمل على مقتضاها، وإن لم يعرف تفصيلها، ويعبر عنها كالضعيف( )، الذي يحب أن يكون أحسن من غيره، وإذا فعل أمراً أحبَّ أن يُرَى، فهذه الأشياء ونحوها، هو الرياء والكبر المجبول عليها، وأما أضدادها كالإخلاص، فإنها من ثمرات التوحيد، لا تهتدي العقول إليها، حتى جاءت الأنبياء، وعرّفوا الناس التوحيد وثمراته، وقد يدرك بالعقل الخالق للأكوان، ولكن لم يهتدوا إليه إلا بتعريف الأنبياء فمن نظر السماوات والأرض وغيرهما ولم يعتقد أن لها خالقاً فهو مصاب في عقله، وما أجهل ممن يفعل صنماً بيده ويعبده، وبعضهم يجعله من سكر فإذا جاع أكله .
وقال رضي اللَّه عنه: الهداية بعد الآيات، ما هو ولا بد، ومن تأمل أحواله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، علم أنه قاسى منهم من التعب أمراً عظيماً، ومن مشركي مكة ومنافقي المدينة خصوصاً، وابن أُبيّ في المنافقين كأبي جهل في المشركين، والإنسان محجوج بمجرد عقله، ولو لم يكن كتاب ولا رسول، وإن كان في أمور الآخرة بُعْدٌ على العقول، لكن يلزم بالتكذيب بذلك التكذيب بمن أخبر به، وهو اللَّه ورسوله، وكنا عزمنا على وضع رسالة في الإلهيات والنبويات وأمور الآخرة، ولكن( ) منعنا منه اشتغال الناس وعدم إصغائهم، ولكنا إن شاء اللَّه سنجعله في فصل من الفصول العلمية، أقول: وكلامه هذا في مجلس الدرس، بعد العصر في المصلى، فلما قام ودخل ودخلت معه إلى الضيقة، قال لي نفع اللَّه به: الحذر تعلق قلبك بشيء من ذلك، وإن ورد عليك شئ منه فأعرض عنه، فقلت: عسى اللَّه ببركتكم يحفظني من جميع الأسوى، قال: إن شاء اللَّه .
(1/116)


وسئل رضي اللَّه عنه عن حديث: (( إن للَّه في كل ليلة من شهر رمضان كذا كذا عتيقاً من النار، وفي آخر ليلة منه يعتق كما أعتق في الشهر كله ))، هل هذا يكون شاملاً للأحياء والأموات، وللإنس والجن، فقال: هذا للأحياء من الإنس والجن، وأما الأموات فقد غفر لهم، وليسوا في دار تكليف، وإذا جاء حديث يُنظر أولاً في صحته، فإذا صح نظر فيه العالم وتكلم وفصل فيه ما يحتاج فيه إلى التفصيل، وإذا لم يصح لم يحكم فيه بشيء إلا إذا هو في الوعد، فيبقى العبد على حسن الرجاء في اللَّه تعالى، وأمور الآخرة يؤمن بها كما جاءت بلا تأويل، وأمور العقيدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الإلهيات، والنبويات، وأمور الآخرة، وللعلماء في كل قسم كلام، وأضيقها مجالاً الإلهيات، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: إنما يُستدل على كمال الشخص، بتأديته الفرائض على كمالها لأنها عمود الدين، فمن أقامها بواجباتها وسننها وحضورها من غير وسوسة، دل ذلك على كماله، وحسن عناية ربه به، وإن عكس دل ذلك على عكس ما ذكر .
وقال رضي اللَّه عنه: إن أهل الكرامات من الأولياء، قل أن يُظهروا منها في هذا الوقت شيئاً لفساد الزمان وتعلق أهله بالدنيا، فلو قال ولي لواحد منهم: قم وانظر في المحل الفلاني من بيتك، تجد فيه ألف درهم، خذها واعط الفقراء منها خمسين درهماً، لبَخِلَ ولم يسمح بشيء، وأراد أن يأخذه كله، وقال: لو كان هذا ولياً لما أراد مني شيئاً، فانظر أحوالهم هذه، ما أبعدها من الصلاح والاعتقاد، وما أقربها من الطمع والفساد أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا تعارض الداعيان في الإنسان، فيترجح أحدهما إما بحكم شريعة، أو بحكم طبيعة، أو عادة، إما يرجحه هو بنفسه، أو يرجحه له غيره، وكل ما تحدث به نفسك مما لا فائدة فيه، فاشتغل عنه، بلا إله إلا اللَّه والذكر والاستغفار .
(1/117)


وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: إذا أراد اللَّه من عبد أمراً، أجراه على خاطره، وأرسل عليه داعية إلى فعله، وأنساه الأمر الآخر المقابل له، ليُمضي اللَّه فيه ما أراده منه.
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه لم يجعل أسراره، أو قال ولايته إلا في من يصلح لذلك، فإنه يؤهله له وينظفه، فإذا صلح فعل، فما كان إلى اختيار العبد فعلى التدريج، وما كان إلى اللَّه ففي لحظة، كما إن أحدكم إذا أراد أن يضع شيئاً عزيزاً في مكان فإنه يخم المكان وينزهه ثم يطرحه، وربما قال: وإذا أراد للعبد خفف عليه ما هو باختياره ويسره، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: من اصطنع معروفاً إلى من يخاف من لسانه، نُظر إلى اصطناعه إلى أهل الخير والمستحقين، فإن كان نحو تسعة أعشاره، وإلا فهو رياء وكذب .
وقال رضي اللَّه عنه: العلم مع الرعونة( ) لا ينفع، كوضع المسك على الوسخ، وكان الأولون لهم حاجة إلى رياضة النفس( ).
وقال رضي اللَّه عنه: إنهم بنوا أمورهم على العلم، ولكنهم يعلمون الأصول أولاً، وإذا احتاجوا إلى الفروع النادرة يحصل لهم فيها فتوح من اللَّه تعالى .
وقال رضي اللَّه عنه: وفي قول من قال: من عمل بما يعلم أورثه اللَّه علم ما لم يعلم: هو العلم اللدني .
وقال رضي اللَّه عنه: العالم إذا لم يعمل بعلمه، لا يقال له عندنا عالم، إلا أن يقال عالم فاجر، بأن يوصف بالفجور، والجهل على هذا أسلم له، وتقريبه مع هذا الوصف فيه هدم للدين أكثر .
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي لمن طلب العلم أن يتعلم المسائل التي تقع غالباً، فإن حصلت مسألة لا علم عنده فيها، فيأخذها من الكتب إن أحسن أن يأخذها منها، وإلا سأل عنها العلماء أهل الدين .
وقال رضي اللَّه عنه: قيل لبعضهم أيٌّ أوسع، العلم أو الجهل، فقال: العلم أوسع للمتحري، والجهل أوسع للمتجري .
(1/118)


وقال رضي اللَّه عنه: جامع التقوى فعل الطاعات وترك المعاصي خشية من اللَّه سبحانه ورجاء ثوابه وامتثال أمره .
وقال رضي اللَّه عنه: كان الصالحون، تُستر كراماتهم وقت حياتهم، حتى عن من يطلع عليها قبل موتهم، بحيث لم يفهموا أن ذلك كرامة إلا بعد موتهم، وكذا قد تستر ما داموا في الدنيا، حتى عنهم أهل الكرامات أنفسهم .
أقول: وقد رأينا منه رضي اللَّه عنه كثيراً مما لم يخطر في البال أنه كرامة إلا بعد وفاته، ولو لم يكن من ذلك إلا معرفته بدخول وقت الصلاة سيما وقت الفجر قبل أن يعرفه الناس حتى إنه نفع اللَّه به يركع سنة الفجر ثم ينزل إلى الضيقة ويجلس إلى أن يتبين للجماعة الفجر، ويركعوا، ثم يأتيه الخادم ويؤذنه للصلاة، فهذه عادته كما هي عادة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وربما أشكل على الجماعة الفجر، سيما مع شدة ضوء القمر وتراكم السحاب، فيعلمهم هو بالفجر، وكل أحد يرى ذلك منه ولم يخطر في باله أنه كرامة خارقة للعادة، لكن ظهر ذلك بعد وفاته رضي اللَّه عنه .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان تغلب عليهم العادة، سواء صلحت أو فسدت، لأنهم عدموا من يقتدون به من الأخيار، فبقوا على آرائهم، وهذا الزمان قليل الأخيار، من أخيار الدين وأخيار المروءة .
وقال رضي اللَّه عنه: من لم يزهد في الدنيا كيف يطلب الجنة، فترى الإنسان يحزن على فوات لقمة أو خرقة، وعاده يحدث نفسه بحصول الجنة، فإن مثل هذا لم يكن متأهلاً للجنة .
وقال رضي اللَّه عنه: الحكيم من يدبر الخوف بالحزم، ويدبر الرجاء بالأمل .
وقال رضي اللَّه عنه: لا بد للقطب من أربع خصال، حسن السيرة والسريرة والصورة، هكذا رأيت في الأصل الذي نقلت منه فلا أدري أنسيت الرابعة أو كذا ذكره .
وقال رضي اللَّه عنه: قال سيدنا عليّ عليكم بالنمط الأوسط، يتبعكم العالي، ويلحقكم التالي، ومرة قال: عليك بالوسط من الأمور، يُتبعك ويُلحقك بالأفراد .
(1/119)


وقال رضي اللَّه عنه: المطلوب من عبد ابتلاه اللَّه ببلية، أن يصبر ويظهر التجلد، رجاء الثواب، وأن يعافى من ذلك، فإن ابتلي بسبب جور أو مخالفة أمر فليجتنب ذلك ويواسي( ) بين الأمور، فإن أظهروا المعك( ) والخلاف، زِيْد عليهم وهذا مشاهد مجرب، وأهل هذا الزمان يعكسون الأمر، فالغالب على الأكثرين منهم التورط بهذا السبب، ومثاله بين الناس أن من أراد أن يضرب عبداً له عشرةَ أسواط مثلاً، فرأى منه السكون والتسليم، اكتفى منه بسوط واحد، وربما تركه رحمة له، وإن أظهر المعاندة والتفظظ لم يكتف منه بذلك، بل ليس ينحصر ما يحصل عليه منه، وهذا ضابط مجرب .
وقال رضي اللَّه عنه: خذوا هذه الكلمة حكمة ووصية، إذا اشتبهت عليكم الأمور فاسلكوا الوسط .
وقال رضي اللَّه عنه: الظلم المرتب خير من العدل المسيَّب، فما بالك بعكس الأمر فيهما.
وقال رضي اللَّه عنه: كل أمر متوسط لا يضر، وكثرة الظلم وكثرة العدل لا يستحقه أهل هذا الزمان، لأن فيهم من لا يستحق الظلم، وفيهم من هو جدير به، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: الاحتكار سُحت، وقد وجدنا كثيراً من الناس فعلوا ذلك قاصدين الربح، فأصبحوا فقراء لا يجدون كفاية، إذ لا بركة في اغتنام الناس .

Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-10a"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip