//

الفصول العلمية والأصول الحكمية - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab alhaddad-4






سلسلة كتب الإمام الحداد (4)
***************************
الفصول العلمية والأصول الحكمية
***************************
تأليف:
الإمام شيخ الإسلام قطب الدعوة والإرشاد
عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد
الحسيني الحضرمي الشافعي
رحمه الله تعالى
(1044-1132هـ)

الناشر: دار الحاوي للطباعة والنشرو التوزيع
الطبعة الأولى سنة 1413هـ
الطبعة الثانية سنة 1418هـ



                  بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
سبحانك ! لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
الحمد لله أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، وخير الرازقين، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14) (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الحديد:2) (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد:3) (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة: من الآية255) (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة: من الآية255) أحمده على ما علّم وألهم، وأنطق وفهم، وفتح ومنح (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (فاطر:2) وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد الذي أرسله رحمة للعالمين، وختم به النبيين، وجعله سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/7)

(أما بعد) فهذه فصول علمية قيَّدناها، وأصول حكمية نبَّهنا عليها ممَّا قد يسنح في الخاطر عند المذاكرة والتذكير، والنظر والاعتبار، كثيراً ما تدعو الحاجة إليها، ويقع التعويل عيها، من كل عالم ناسك، ومريد سالك، ولم نرتبها على مثل ترتيب الكتب المؤلفة، في رعاية المناسبة بين فصولها، وجعل بعضها كالمقدمة لبعض، والمتمم لما قبله وذلك لما ذكرناه من كونها تسنح في الخاطر في أوقات المذاكرة والتذكر وذلك يكون في أمور شتى، وفي أحيان قد تباعد بعضها عن بعض. فلذلك ترى هذه الفصول كأن كل فصل منها مستقل بنفسه، ليس له ارتباط ظاهر بما قبله ولا بما بعده، هذا هو الأكثر فيها والمعظم، وإن اتفق خلافه فيكون قليلا منها لأمر اقتضاه.
وقد اشتملت هذه الفصول على أمور كلية. وحكم جملية بحيث لو أراد العالم المتسع في العلوم أ، يجعل كل فصل منها تأليفا مستقلا يجزئ فيه كليه، ويفصل فيه مجمله لأمكنه ذلك وتيسر له، كما يعرف ذلك من وقف عليها من أهل العلم والبصائر، وأرباب القلوب والسرائر، الذين آتاهم الله الحكمة. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(البقرة: من الآية269) وكنا عندما ابتدأنا في تقييد هذه الفصول قصدنا أن لا نظهرها حتى تتم أربعين فصلا. فطال العهد بذلك ولم تبلغ هذا العدد. والتمس منا بعض الإخوان الصادقين. ممن وصل إليه العلم بتقييدها، أن نمكنه منك كتابتها والنظر فيها. فدعانا ذلك إلى إظهارها. رغبة في النفع والانتفاع، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
وعدة فصول ذلك الحين نحو من عشرين فصلا. ويضم إليها ما يفتح الله به مما يكون داخلا في حيزها ومنتظما في سلكها. إن شاء الله تعالى.
وهذا أوان الشروع في المقصود، والله المستعان وعيه البلاغ ولا حول ولا قوة إلا به تبارك وتعالى، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
(1/8)

الفصل الأول
كنه عناية العارفين والمحققين، ومعظم اهتمامهم، ومطمح نظرهم في تصحيح الإيمان واليقين وتقويتهما، وفي إخلاص التوحيد من شوائب الشرك الخفي، ثم في تصحيح الأخلاق المحمودة، كالزهد، والإخلاص وسلامة الصدر للمسلمين، وفي نفي الأخلاق المذمومة، كالحرص والرياء. والكبر، ثم في تصحيح الأعمال الصالحة الظاهرة، وفي الاحتراز من الأعمال السيئة، ثم في تصحيح أمور المعاش والنظر فيها، وحسن التدبير لها على طريق الورع والنصح، والأخذ بالقناعة والتقلل منها.
وهذا الأخير. يفرح العارفون بالكفاية فيه. وأن يقوم به غيرهم لهم. ممن يأخذ بالورع ويجانب الظلم، فاعلم وافهم.
وغاية عناية الغافلين والمخلطين ومعظم اهتمامهم فيما تستقيم به أحوال المعيشة، وتتيسر به الشهوات واللذات البدنية من المطاعم، والملابس، والمناكح، وفي جمع الأموال. وادخارها لذلك، ولما في معناه، ثم إن من تنبه منهم قليلا وامتد نظره نظر في تصحيح الأعمال من الطاعات الظاهرة، ثم في الأخلاق الباطنة، ثم فيما يقوى به الإيمان، على العكس من نظر العارفين والمحققين. فتأمل ذلك واعتبره تجده واضحا والله سبحانه أعلم.
(1/9)

الفصل الثاني
لو اجتمع الناس على التحقق بالحقائق الإيمانية والعقلية لأقبلوا على الآخرة إقبالا صادقا كليا، ولأعرضوا عن الدنيا إعراضا تاما، ولم يدخلوا في شيء من أسبابها إلا عند الضرورة بقدر الضرورة، ولكان ذلك يدعو إلى خراب الدنيا وعدم استقامة شيء من أمورها.
وحيث سبقت المشيئة الإلهية والإرادة الأزلية، بعمارة الدنيا إلى أجل مسمى، وهو الوقت الذي يريد الله سبحانه وتعالى فيه خرابها وإعدامها فلما كان الأمر كذلك اقتضت الحكمة البالغة غفلة أكثر الناس عن حقائق الأمور، وإعراضهم عنها، حتى اقتضاهم ذلك وقادهم إلى عمارة الدنيا، والإقبال عليها، والجمع لحطامها، والإعراض عن الآخرة، والغفلة عنها، وفي الحديث ما ينبه على ما ذكرناه. إذ ورد عنه صلى الله عليه وسلم : ( الدنيا دار من لا دار له. ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له ).
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى : لولا الحمقى لما عمرت الدنيا.
وقال بعض السلف الصالح رحمة الله عليهم خلق ابن آدم أحمق، ولولا ذلك لم يهنه العيش، ثم إن الرحمة الإلهية اختصت بعض العباد بكمال اليقظة والتفطن لحقائق الأمور. وهم المتحققون بالحقائق التي ذكرناها، فكانوا هم المعرضون عن الدنيا جملة، والمقبلين على الله تعالى وعلى الدار الآخرة بمره، وهم أفراد وآحاد يعز وجودهم ويقل في كل زمان ومكان عددهم، فتأمل هذا الأمر حقه فإنه نفيس، وتحته علوم عزيزة، والله سبحانه أعلم.
(1/10)

الفصل الثالث
الأزمنة لم تزل قديما وحديثا فيها الخير والشر، وتشتمل على الأخيار والأشرار، وأهل الصلاح وأهل الفساد، فإذا كان الغالب على الزمان وأهله الصلاح والخير والعمل بالبر والأخذ بالصواب، وكان ذلك هو الأكثر والأظهر، وكان الفساد والباطل والمفسدون والمبطلون مغلوبين، وهم الأقل الأخمل نسب الزمان إلى الصلاح والاستقامة فقيل زمان صالح، وذلك مثل ما كان عليه الزمان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
ومتى كان الغالب على الزمان وأهله الشر والفساد، وكان الخير فيه نادرا والأخيار فيه قليلين ومستورين، نسب الزمان إلى الشر والفتنة، فقيل زمان شر وسوء. وزمان فتنة وبلاء. فظهر بما ذكرناه أن الأزمنة تنسب وتذكر بالغالب والأكثر، وإلا فليس يخلو زمان عن خير وعن شر حسبما تقدم وتقرر، والغالب على زماننا هذا، وعلى الأزمنة القريبة منه الفساد والسوء والشرور والأشرار، والخير والصلاح فيه نادر والأخيار والصالحون قليلون مستورون ومغلوبون ومقهورون. فالله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1/11)

الفصل الرابع
المتكبرون والغافلون مصروفون عن آيات الله وعن فهم أسراره وعن مشاهدة أنواره، قال الله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)(لأعراف: من الآية146) إلى قوله تعالى: (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)(لأعراف: من الآية146) فوصفهم الله تعالى بالكبر ثم بأوصاف مذمومة، وآخرها الغفلة عن آياته التي صرفهم عنها لكبرهم وغفلتهم. فالكبر والغفلة من أمراض القلب التي لا يتهيأ القلب ويتأهل لفهم آيات الله تعالى ما لم يصح منها. ويبرأ من دائهما. وكيف يفهم المتكبر آيات الله وهو ذاهب بنفسه شامخ بأنفه لا يتواضع للحق وأهله، قد طبع الله على قلبه، كما قال عز من قال: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(غافر: من الآية35).
(1/12)

وأما الغافل فلأن غفلته قد أعرضت بقلبه عن فهم آيات ربه، فصار مدبرا موليا عن الله، ولذلك أمر الله نبيه عليه السلام بالإعراض، عمن تولى فقال سبحانه وتعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)(لنجم: من الآية29) وقال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)(الكهف: من الآية28) الآية فاحذر أشد الحذر من الكبر فإنه الداء الذي أصاب إبليس، حتى منعه من الإمتثال لأمر الله تعالى، حين أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فأبى واستكبر فاستحق من أمر الله تعالى بكبره وعصيانه الخزي واللعنة والبعد عن رحمة الله تعالى والشقاوة المؤبدة المخلدة. نسأل الله تعالى العافية من كل بلية.
واحذر جدا من الغفلة عن الله تعالى وعن ذكره وعن الدار الآخرة فإن الغفلة من أعظم أسباب الهلاك وهي جالبة لأنواع الشرور والبليات دنيا وآخرى، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) (يونس:7) (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس:8) . وقال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7) فانظر كيف نفى العلم عنهم. ثم أثبت لهم علما بظاهر من الحياة الدنيا، ثم ختم ذلك بوصفهم بالغفلة عن الآخرة فافهم وتأمل، والله الموفق لا رب غيره.
(1/13)

الفصل الخامس
لا ينبغي للتقي العاقل في هذا الزمان أن أكثر من مراقبة الناس ومداراتهم، وترك بعض الأمور التي يرى فيها صلاحا لقلبه، أو راحة لنفسه وأنسا لخاطره من أجلهم، فقد صارت مراقبة الناس ومحاذرتهم في هذا الزمان تعبا مجردا ليس تحته فائدة، لاشتغال الناس بنفوسهم، واستغراق بواطنهم وظواهرهم بأمور دنياهم، وعدم التمييز بين الأمور فيهم عموما كما يعرف ذلك من تأمله أدنى تأمل. وقد كانت مراقبة الناس ومحاذرتهم مما لا يستحسنه أرباب العزائم والهمم، وما أحسن ما قال بعض الشعراء:
من راقب الناس مات غمَّاً ... وفاز باللَّذة الجسورُ
وقد كان في مراقبتهم بعض فائدة في الأزمنة بالسابقة حيث كان الناس يميزون بين الأمور، وكان فيهم تفرغ للنظر في أحوال غيرهم وقد ذهب ذلك واضمحل، بسبب ما ذكرناه من الاستغراق وفقد التمييز.
والقصد أن العاقل التقي لا ينبغي له أن يعول إلا على طلب مرضاة ربه وما فيه نجاة نفسه وفلاحها في الدار الآخرة، وعلى ما فيه راحة قلبه وأنس نفسه، في غير إثم ولا دناءة، ولا يراقب في ذلك أحدا من الناس البتة، فإن الناس قد شغلوا بأنفسهم، فليشتغل هو بنفسه. وبما يصلحه ويهمه في دنياه وآخرته، فتأمل ذلك راشدا، والله يتولى هداك.
(1/14)

الفصل السادس
رجال العالَم أربعة. وعلى صلاحهم واستقامتهم يدور صلاحه واستقامته.
(الأول) عابد مستقيم زاهد متجرد ذو معرفة بالله تعالى كاملة، وبصيرة في الدين نافذة.
(والثاني) عالم بالشرع، راسخ القدم في العلم بالكتاب والسنة يعمل بعلمه ويعلم الناس وينصحهم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر لا يداهن في الدين، ولا يخشى في الله لومة لائم.
(والثالث) سلطان عادل منصف حسن السيرة صالح السريرة مستقيم السياسة.
(والرابع) غني صالح، له مال طيب واسع ينفقه في وجوه الخيرات ويواسي منه الضعفاء والمساكين ويسد منه حاجات المحتاجين لم يمسك المال ولم يجمعه إلا لذلك، ولما في معناه من الخيرات والمكرمات.
(1/15)

وبإزاء كل واحد من هؤلاء الأربعة رجل يشبهه في ظاهر الحال دون معناه وحقيقته.
فبإزاء العابد المستقيم الصوفي المخلط الملبس.
وبإزاء العالم العامل العالم الفاجر المداهن.
وبإزاء السلطان العادل السلطان الجائر الذي لا يسير بالحق، ولا يحسن الرعاية والسياسة.
وبإزاء الغني الصالح الغني الظالم الذي يجمع المال من غير حله. ويمسكه عن حقه وينفقه في غير وجهه.
وهؤلاء الأربعة الأخيرون، هم السبب في فساد العالم واضطرابه وتشوش أحوال الناس وخروجهم عن شاكلة الصواب، والأمر كله لله، وبيده ملكوت كل شيء. فسبحان الواحد القهار، الملك الوهاب مسبب الأسباب لما يشاء كيف يشاء، لا إله إلا هو إليه المصير.
(1/16)

الفصل السابع
اعلم أن الله تعالى وله الحمد، خلق الدنيا وجعلها بلاغا للمؤمن يتزود منها لآخرته، ويعمل فيها بطاعة ربه، ومتاعا للفاجر ينال فيها لذته ويقضي منها شهوته، في غفلة عن ربه، ونسيان لآخرته، ثم إن الله تعالى ملأ الدنيا بأصناف ما يحتاج إليه الخلق، وأنواع ما يتمتعون به وخلق الله فيها من ذلك مقدار ما يحتاجون إليه وزائدا على ما يحتاجون إليه أضعافا مضاعفة. ثم أذن للعباد أن يأخذوا من الدنيا بمقدار الحاجة ليستعينوا به على سلوك سبيل الآخرة، وحذرهم من الزيادة على قدر حاجتهم وزهدهم فيه ورغبهم عنه، فانقسم الناس في ذلك إلى أقسام.
(1/17)

(فمنهم) من اقتصر منها على أخذ ما دون الحاجة حزما واحتياطا، ومهما دخل في أيديهم شيء زائد على ذلك من غير قصد ولا تسبب أخرجوه في الحال إلى مستحقيه وطالبيه، ومن هذا القسم أنبياء الله ورسله عليهم أفضل الصلاة والسلام، وكمل ورثتهم من الصديقين، والعلماء الراسخين وعباد الله الصالحين، ومن هذا القسم أيضا الزهاد الفارون عن الدنيا جملة واحدة، والمذكورون قبلهم أكمل منهم وأفضل، لأنهم لم يفروا من الدنيا ولم يرغبوا فيها، بل أخرجوا ما يدخل في أيديهم منها على وفق ما يحب الله تعالى ويأمر به فهذا حكم القسم الأول، وهم الأكمل والأفضل.
(والقسم الثاني) أخذوا من الدنيا مقدار الحاجة لحسن نظر من غير تأويل ولا ترخص.
(والقسم الثالث) أخذوا من الدنيا فوق ما يحتاجون إليه، ثم انقسم هذا القسم إلى أقسام كثيرة، فمنهم قوم أخذوا منها فوق حاجتهم، ليتصدقوا به وينفقوه في وجوه الخيرات، على تراخي الأوقات، فمنهم من تمت له نيته واستقام عمله في ذلك ومنهم من وقع في التخليط والخطر، ومنهم من أخذ زائدا على مقدار الحاجة ليتنعم به على وجه مباح في الشرع، وهو مع ذلك يعترف لأهل الفضل من الزاهدين بفضلهم، ويعمل أنه في حالته تلك نازل عن رفيع درجاتهم، وشريف مقاماتهم، وهذا صنف الرحمة مرجوة له.
(1/18)

ومن هؤلاء (أعني : الآخذين فوق مقدار الحاجة للتنعم والتلذذ وقصد الرفاهية) أقوام تبسطوا في ذلك وتوسعوا فيه مع الغفلة والتخليط، واغتروا بالله تعالى، وربما فضل بعضهم حاله ذلك على أحوال الزاهدين جهلا بالله وجراءة عليه. ومنهم من يدعي أنه في توسعه وتنعمه مقتصر على قدر الحاجة، بل على قدر الضرورة، ومنهم من يزعم أنه يأخذ الدنيا ويمسكها ويجمعها للتصدق والمواساة والإنفاق في وجوه الخيرات، وهو في غاية البعد عن ذلك، يشهد عليه فعله وعمله على خلاف ما يزعمه ويدعيه، ويشهد عليه ربه بذلك، وملائكته الحافظون، وعباد الله المؤمنون، الناظرون إلى سيرته وسوء عمله وقبيح اختياره لنفسه، ودعواه مع ذلك واغتراره بربه. نسأل الله تعالى العافية من الغرور، والزور، وجميع البليات والمخزيات، ونسأله أن يسبل علينا ستره الجميل وعلى المسلمين.
(1/19)

الفصل الثامن
وأما من طلب الدنيا ليصيب منها مقدار حاجته أو فوق مقدار حاجته فلم يتيسر له ذلك لأنه لم يقسم له من الدنيا إلا دون مقدار حاجته، فذلك هو الفقير وهو غير معدود في الزاهدين ولكنه إن أخذ في طلبه للدنيا بالورع والتقوى ثم صبر ورضي بما قسم له منها. فهو الفقير الصابر، وفقره هو الفقر المحمود وقد وردت في فضله آيات وأخبار كثيرة. من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( الفقراء الصبر جلساء الله تعالى يوم القيامة ).
فأما من أضاع التقوى والورع في طلبه للدنيا وقصر فيما يجب عليه من حق الله تعالى، ثم لم يصبر ولم يرض بما قسم الله له، بل جزع وتبرم وتسخط، وصار يغبط أهل الدنيا على تمتعهم بها وتلذذهم فيها، فهذا هو الفقير المذموم. ولعل فقره هذا هو المعني بقوله عليه الصلاة والسلام: ( كاد الفقر أن يكون كفرا ) ولعل هذا هو الفقر الذي كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه.
وعلى هذا الفقير يتنزل ما وقع على الفقر من الذم: وهو موجود أعني ذم الفقر في كلام بعض العلماء. وهو قليل ونادر، وعلى هذا الفقر المذموم ينزل لا محالة. والله ورسوله أعلم.
(1/20)

الفصل التاسع
الدنيا لا راحة فيها لمؤمن عاقل البتة، وإن وجدت فيها راحة له فلا بد أن تكون مصحوبة بغفلة منه عن ربه وعن معاده. وأما الأحمق فقد يستريح في الدنيا، وسبب وجود الراحة له فيها كونه أحمق لا يهتدي إلى مواطن الآفات وما يصحب راحات الدنيا من المكدرات والمشوشات الحاليات أو المتوقعات، حيث قالوا لا راحة في الدنيا وأن الإنسان يطلب في الدنيا ما لم يخلق فيها وهو الراحة. ومرادهم بذلك الراحة الكاملة الصافية من كل وجه لأهل البصائر والعقول. وذلك كذلك فأما الأحمق ومن لا عقل له فقد يستريح. ولذلك قيل استراح من لا عقل له. وقد أشار المتنبي إلى ما يقرب من هذا المعنى فقال:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل
ولمن يغالط في الحقائق نفسه
عما مضى منها وما يتوقع
ويسومها طلب المحال فتطمع
وقال أيضا:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
انتهى والله تعالى أعلم.
(1/21)

الفصل العاشر
اعلم أن كل شيء يحسن مع التقوى والإحسان من الأحوال المختلفة المتعاقبة على الإنسان مثل الفقر والغنى، والصحة والمرض والعز والذل، والخمول والشهوة، ونحو ذلك.
وكل شيء يقبح ويذم مع الفجور والإساءة من هذه الأحوال.
وبيان ذلك: أن الإنسان متى كان تقيا محسنا، فإن أصابه مع ذلك فقر كان حاله مع الله تعالى الرضا والقناعة والصبر والورع والاستغناء عن الناس، إلى غير ذلك من الأحوال الشريفة، وكان حظه من الله تعالى الرضا. والقرب والإمداد بالصبر والمعونة، إلى غير ذلك من الألطاف الإلهية، وكان حاله فيما بينه وبين الناس الستر والتجمل وانطلاق الألسن بالثناء عليه في فقره بأن الله تعالى سلك به مسالك الأخيار الأبرار من أوليائه وأصفيائه.
وهذا الفقر نفسه لو أصاب بعض الفجار المسيئين لكان حاله الجزع والسخط، والطمع في الناس والتعلق بما في أيديهم.
وكان حظه من الله تعالى السخط والمقت وعدم الإمداد بالصبر والمعونة، وكان حاله عند الناس الإزراء عليه بالفاقة والقلة، وكانت ألسنتهم عليه منطلقة بالذم في أنه لا يحسن الاختيار لنفسه ولا يسعى في عفافها وكفايتها، وأن الله تعالى عاقبه بالفقر لقلة دينه وخيره.
ومهما كان الإنسان تقيا محسنا فأغناه الله تعالى مع ذلك ووسع عليه، كان حاله مع الله تعالى الشكر وتعظيم النعمة، والاستعانة بها على الطاعة، وبذل المال في وجوه الخير، واصطناع المعروف للقريب والبعيد.
وكان حظه من الله تعالى الرضا والمحبة والإمداد بالمزيد من اليسر والسعة، وكانت ألسنة الناس منطلقة بالثناء عليه بفعل الخير واصطناع المعروف وبالدعاء له بزيادة اليسر والسعة، إلى غير ذلك.
وإذا كان الإنسان من أهل الفجور والإساءة وكان مع ذلك ذا مال وسعة في الدنيا، كان حاله الجمع والمنع والشح، والبخل وقلة الورع وشدة الحرص. إلى غير ذلك من القبائح.
وكان حظه من الله تعالى السخط والمقت؛ وكانت ألسنة الناس منطلقة في ذمه بقلة الخير والمعروف وترك الوفاء والإنصاف وعدم البر والإحسان، إلى غير ذلك.
ومهما كان حال الإنسان من أهل التقوى والإحسان الصحة والسلامة كان شأنه ووصفه الشكر لله، والجد في مرضاة الله تعالى وصرف صحته وقوته في طاعة الله تعالى.
وكان حظه من الله تعالى الرضا والكرامة، وكانت ألسنة الناس منطلقة بالثناء عليه بالأعمال الصالحة، والجد والتشمير في الطاعة.
ومهام كان حاله المرض وعدم الصحة كان حاله الرضا والصبر والتسليم لمراد الله تعالى، والاكتفاء به، وترك الضجر، والتبرم، والشكوى إلى الخلق.
(1/22)

وكان حظه من الله تعالى الرضا، والعناية، والإعانة، والإمداد باللطف والسكينة، إلى غير ذلك، وكانت الألسنة منطلقة بالثناء عليه في أن الله تعالى إنما ساق إليه هذا المرض ليكون له كفارة وطهارة وزيادة في الحسنات والدرجات.
ومهما كان الإنسان من أهل الفجور والإساءة، فإن كان صحيحا معافى كان شأنه البطر، والطغيان، وقلة النشاط في الطاعة، وصرف قوته ونشاطه في المخالفات والمعصية.
وكان حظه من الله تعالى السخط والبعد، وكانت ألسنة الناس منطلقة بذمه على طغيانه، وتعديه وسعيه في مساخط الله تعالى.
ومهما مرض أو أصابته آفة أو بلية كان حاله السخط، والجزع والضجر، والتبرم بقضاء الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات المذمومة.
وكان حظه من الله تعالى المقت، والطرد، وكانت ألسنة الناس منطلقة بذمه بأن الله تعالى عاقبه بالمرض والآفات لعصيانه، وظلمه، وكثرة ذنوبه وسيئاته.
وعلى مثل ذلك فانظر واعتبر في العز، والذل، والخمول، والشهرة والشدة، والرخاء، إلى غير ذلك من الأحوال والأمور المتعاقبة على الناس. تعلم وتعرف أن التقوى والإحسان هو الذي يزينها، و به تحسن وتستقيم، وأن الفجور والإساءة هو الذي يقبح هذه الأحوال ويشينها، ويعرض صاحبها للذم من الناس، وللسخط والمقت من الله تعالى.
وتأمل هذا الفصل جدا فإن تحته علوما دقيقة، وفيه حل أمور مشكلة. ولو تتبعنا الكلام فيه لطال، وفي التنبيه بالقليل كفاية للبيب النبيه عن الإكثار والإطالة والله بكل شيء عليم.
(1/23)

الفصل الحادي عشر
الإحسان في أعمال أهم من الأعمال عند المحققين من العارفين أرباب البصائر واليقين. وذلك أن إقامة صورة الأعمال من صلاة، وصيام، وتلاوة، وذكر الله تعالى من غير إحسان لها وإتقان، وإحكام لمعانيها الباطنة، وما يجب لله تعالى فيها من تعظيم، وخشوع، وحضور معه تعالى، وتأدب بين يديه بما يليق ويناسب تلك الحضرة المقدسة وذلك الجناب الرفيع تعب وعناء محض لا طائل تحته، وإليه يشير قوله عليه الصلاة والسلام: ( كم من قائم ليس له من قيامه إلا السهو والتعب. وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ) الحديث وقال علي رضي الله عنه : لا خير في تلاوة لا تدبر فيها.
وربما يرجع المباشر لصور الأعمال من غير إحسان لها مع التعب فيها بشيء من الإثم كما يقع ذلك لبعض المرائين ومن لا يحسن قراءته في صلاته وركوعه وسجوده ولا يقيمهما على الوجه الواجب عليه فيكون قد باشر عبادة باطلة يتعب فيها ويأثم بسببها فإذا عملت فأحسن، وأعط كل وظيفة من عملك ما يجب لله تعالى فيها وما يستحب من الأحكام الظاهرة والمعاني الباطنة، من الحضور مع الله تعالى والإخلاص له وحسن الأدب بين يديه تعالى فيكون العمل القليل الذي تحسنه أفضل عند الله وأزكى من العمل الكثير الذي لا تحسنه ولا تقيمه لله تعالى كما يجب وكما ينبغي، فاعلم ذلك واعمل عليه، والله يتولى هداك.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ) الحديث. فانظر وتفهم قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء ). تعرف أن الأمر بالإحسان عام في كل شيء وهو عين الأشياء حتى إنها إذا انفكت عنه صارت سيئة قبيحة، أو غير حسنة ولا مليحة.
(1/24)

الفصل الثاني عشر
وكما ينبغي لك ويتأكد عليك أن تحسن في جميع ما تفعله لله من الصالحات والقربات والخيرات، كذلك ينبغي لك أن تحسن في ترك ما تتركه لله من الأعمال السيئات، والمحرمات، والشبهات، والشهوات.
ومعنى الإحسان في تركها: أن تتركها إخلاصا لله سبحانه وتعالى وتعظيما له، وحياء منه، وخشية ورهبة وخوفا منه. لا حياء من الخلق ولا ياء لهم، ولا خشية منهم، وكذلك إذا تركتها ظاهرا تمنع نفسك باطنا من التحدث بها والميل إليها، واشتهاء الوقوع فيها حسبما تستطيع من ذلك.
ومن الإحسان في الترك أن تعدل عن مظان ذلك من المواطن التي تحشى وقوعك فيها، وعن مخالطة من يجرك إليها أو يميل بك إلى القرب منها من قرناء السوء، فاعلم ذلك وبالله سبحانه التوفيق.
(1/25)

الفصل الثالث عشر
العلوم كثيرة جدا. وليست كلها نافعة ولا مهمة في حق كل أحد بل بعضها نافع ومهم في حق البعض دون البعض. وقد يكون في وقت دون وقت، وفي حال دون حال. وبعضها ضار لا نفع فيه، وفضول لا مهم منه، وقد ذكر طرفا من ذلك الإمام حجة الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب ( العلم من الإحياء ). فإذا كان الأمر كذلك فينبغي للعاقل النجيب أن يشتغل من العلوم بالمهم النافع، بل بالأهم الأنفع في حق نفسه بالخصوص، ثم في حق غيره إن تأهل لذلك وفرغ له، وذلك لأن العمر قصير، والوقت عزيز، والموت قريب، والسفر بعيد، والوقوف بين يدي الله تعالى للحساب على النقير والفتيل خطر صعب.
وليعتبر ذلك الإحسان في أحوال المعاش، فإنه لا يشتغل منها إلا بما هو الأهم الأنفع متى كان عاقلا، ولا يكاد يشتغل بما يهم غيره من ذلك، فإذا كان هذا فعل الإنسان في الأمور المعاشية الدنيوية، فما الظن به في الأمور الدينية الأخروية.
على أن الإنسان لو قدم الاشتغال بأمور غيره في أمور المعاش ربما حمد على ذلك واستحسن منه، بخلاف الأمور الدينية، فإن الأمر فيها على العكس من ذلك.
(1/26)

الفصل الرابع عشر
وإذا أردت أن تعرف النافع المهم في حقك من العلوم والأعمال والأنفع الأهم، فاستحضر في نفسك أنك تموت غدا وأنك تصير إلى الله تعالى، وتقف بين يديه. فيسألك عن كل شيء من علومك وأعمالك، وجميع شؤونك وأحوالك، ثم تصير إلى الجنة أو النار، فالمهم النافع من ذلك ما تجده عند ذلك الاستحضار هو أولى بك، والأهم عندك والأجدر الأحق أن تشتغل به وتلازمه، وما تجده عند ذلك الاستحضار غير نافع ولا مهم فينبغي لك أن تدعه ولا تشتغل به، و تأخذ فيه، وكذلك من أحوال المعاش، إذا استحضرت مثل ذلك الاستحضار، فالذي تجده منها مهما، وكالذي لا بد لك منه فينبغي لك أن تعرج عليه. وما تجدك كالمستغني عنه منها وغير المحتاج إليه فينبغي لك أن لا تعرج عليه، ولا تأخذ فيه. فتأمل هذه النكتة جدا وأحسن النظر فيها فإنها عظيمة النفع، كبيرة الموقع، عند من له بصيرة واهتمام لمعاده. ورجوعه إلى الله تعالى، ونجاته وفوزه في الدار الآخرة التي هي خير وأبقى والتوفيق بيد الله والفضل له سبحانه يؤتيه من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم.
(1/27)

الفصل الخامس عشر
أجمع العلوم وأنفعها وأصحها وأوضحها ما كان هو الأقرب والأشبه بالعلوم المشروحة في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يكثر ذكرها وتكرارها فيهما، وذلك مثل العلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله والعلم بأمر الله تعالى، وذكر ما يقرب إليه من الأوصاف، والأعمال، والعلم بنهيه تعالى، وذكر ما يبعد عنه من الأوصاف، والأعمال، والعلم بالمعاد، والرجوع إلى الله تعالى، وما فيه من الأحوال والأهوال، ووصف الجنة التي هي دار الأشقياء. وهذه العلوم هي أصول العلوم كلها ومقصودها ولبابها، وكثرة النظر فيها تثمر مزيد الإيمان واليقين بالله، وبرسوله، وباليوم الآخر، وتحث على لزوم الطاعة والعبادة لله تعالى، وترك ما يسخطه سبحانه وتعالى، والاستعداد للموت، وحسن التزود للمعاد، ومحبة لقاء الله تعالى، وعلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وما يشبه ذلك من الأخلاق الشريفة، والأعمال الصالحة التي هي شأن أنبياء الله وأوليائه.
ثم إنك إذا نظرت إلى ما ألفه أئمة الدين، من الكتب النافعة، لم تر شيئا منها أجمع لهذه العلوم المذكورة من كتب الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله، مثل الإحياء، والأربعين الأصل ومنهاج العابدين وبداية الهداية وهذا يعرفه من تأمله وأحسن النظر فيه من أهل الحق والإنصاف، وأرباب البصائر في الدين، وما ينكره إلا غب جاهل، أو رسمي متجاهل، قد غش نفسه، وغفل عن معاده، فالله تعالى بفضله يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1/28)

الفصل السادس عشر
وقد ينظر بعض الطالبين للحق، والسالكين لطريق الله تعالى إلى كثرة العلوم والأعمال، وكثرة الطرق إلى الله تعالى، فلا يدري بأيها يأخذ ولا في أيها يسلك، وربما يقف عند ذلك ويتحير فعلى من وقع له مثل هذا أو شبهه أن ينظر، فإن كان تحت نظر شيخ عالم عارف محقق وجب عليه اتباعه ولزمه أن يأخذ ويعتمد ما يشير عليه به ويعينه له من علم أو عمل، أو حال، أو طريق في دين أو معاش، وذلك يكفيه ويغنيه، وإن كان ليس في نظر شيخ أصلا، أو في نظر شيخ ليس على مثل ما وصفناه، فليعلم أولا أن من العلوم والأعمال ما هو مفروض على الأعيان، لا بد منه لكل أحد، وذلك كعلم الإيمان الذي يحصن به الإنسان معتقده، ومن علوم الإسلام كالطهارة، والصلاة، والصيام، وما في معنى ذلك. فهذا لا بد للإنسان من علمه وعمله كائنا ما كان، فإذا فرغ من ذلك فليأخذ من العلوم والأعمال والطرائق والأحوال بما يراه أنسب لحاله، وأجمع لقلبه، وأقرب له إلى رضى ربه، ولا يخفى عليه ذلك مهما كان صادقا في قصده ورغبته وطلبه لله تعالى ولطريقه.
وعند ذلك يختلف السالكون والطالبون للحق في ذلك اختلافا كثيرا، فبعضهم يصلح له ويحسن به هذا الأمر وآخر يصلح له أمر آخر وهذا يصلح له هذا العلم، وآخر يصلح علم آخر، وكذلك في الأعمال، وكم من طالب تصلح له العزلة ويستقيم فيها حاله، وآخر لا تصلح له إلا الخلطة، وطالب لا يصلح له إلا التجرد عن الأسباب، وآخر لا يصلح له إلا التلبس بها، وكذلك في السفر والإقامة، وغير ذلك من الأحوال والأمور المتغايرة.
(1/29)

وإذا أخذ السالك فيما يراه أصلح له وأنسب وأقرب له إلى رضى ربه ونيل القرب منه، فلا ينبغي له أن ينكر ويعادي ما يخالف الحالة التي هو عليها، والطريق التي هو سالك لها، من الأحوال والطرائق المرضية في الشرع، المشهود بصحتها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكونها ليست حاله ولا طريقة، فإن الله سبحانه وتعالى له الحمد جعل لكل علم عالما وعاملا ولكل طريق سالكا، ولك مقام وحال أقواما يقومون به ويأخذون فيه، لا يصلح لهم إلا ذلك، ولا يرضى منهم سبحانه إلا به، وفي ذلك سر بل أسرار وحكم يطول النظر فيها، ويتعسر الوقوف عليها، إلا على أرباب البصائر والسرائر، من الناظرين بنور الله تعالى، الراسخين في العلم، المكاشفين بالأمور الغيبية من حضرة الله تعالى.
وأيضا فعلى السالك أن ينظر، فإن كان بحيث إذا نظر في العلم والعمل والطريق والحال الذي ليس هو سبيله يجد في ذلك تفريقا لقلبه أو تشويشا لأمر سلوكه، فليمسك عن النظر في ذلك، ولا يعرج عليه أصلا، وإن كان لا يجد تفريقا ولا تشويشا فلا بأس أن ينظر في ذلك.
وليعلم أن مثال العلوم والأعمال والطرائق في كثرتها وكونها صالحة للناس كلهم في الجملة، وأن كل أحد منهم يصلح له شيء منها، ويضر به شيء آخر أو لا يصلح له مثال المائدة تقدم عليها الأطعمة الكثيرة ليختار كل من الحاضرين لها المدعوين إليها ما يناسبه ويعجبه ويصلح لمزاجه، ويدع ما سواه فإنه يصلح لغيره كن الحاضرين ويوافقه، ومثال الأسواق تجمع فيها البضائع الكثيرة، والسلع المختلفة، فإذا دخل الإنسان إليها طلب الحاجة التي تصلح له وتناسبه، وترك ما سوى ذلك لغيره، وليس له أن ينكر ولا أن يستثقل كثرة البضائع والأشياء الموجودة في تلك السوق، لكونه هو غير محتاج إليها ولا راغب فيها فإنه ما هو الناس كلهم حتى لا يريد ولا يرغب أحد فيما لا يريده هو ولا يرغب فيه.
(1/30)

فإذا عرفت مقصود التمثيل بالمائدة وبالسوق، وربما فيهما من كثرة الأطعمة والأمتعة، وأن ذلك يكون لكافة الحاضرين بهما يأخذ كل أحد منهم ما يرغب فيه مما يوافقه ويصلح له فاعلم أن الناس ينقسمون في ذلك إلى أربعة أقسام:
(الأول) هو الذي إذا رأى كثرة الأطعمة والأمتعة، أخذ ما يصلح له من غير أن يستثقل ولا أن يرغب فيما عدا ذلك، وهذا هو العاقل النجيب المتسع في النظر.
(الثاني) هو الذي يأخذ ما يصلح له ويكره ما عداه، ويظن أن أحدا لا يرغب فيه، وهذا فيه غباوة وقصور نظر.
(الثالث) هو الذي يرغب في جميع ما يراه مما يصلح له ويوافق وما لا يصلح ولا يوافق، فتراه قد يرغب فيما لا يصلح له ولا يحسن به، وربما رغب في هذا وقتا وفي غيره وقتا آخر، وهذا فيه غباوة وفضول من غير بصيرة.
(الرابع) هو الذي إذا رأى كثرة الأطعمة والأمتعة توقف وتحير فلم يدر في أيها يرغب، ولا أيها يأخذ، فتراه متحيرا مدهوشا.
وهذه الأحوال المطابقة لهذا التقسيم، قد تقع بعينها لبعض الناظرين في العلوم والأعمال والطرائق والأحوال المتغايرة، فترى أحدهم يرغب في كل شيء وآخر يتحير فلا يدري بأي شيء يأخذ وآخر يتمسك بشيء يرى فيه صلاحية له ثم يمقت ما عداه وينافره ويعاديه، وكل ذلك من القصور وضعف البصيرة وضيق النظر.
فتنبه أيها الطالب لفهم ما ذكرناه فإنه مهم وعليه مدار كبير، وقد وقع لسيدي الشيخ (أبي الحسن الشاذلي) رحمه الله في بدايته وتردد كثير، بين أن يأخذ في العلوم، أو يتجرد للعبادات والسياحات حتى طال عليه ذلك، إلى أن قصد بعض الشيوخ، فأخرجه من ذلك التردد، والقصة في ذلك مشهورة.
(1/31)

وكذلك حصل مثل ذلك أو قريب منه للشيخ الجليل (عبد الله به أسعد اليافعي) رحمه الله تعالى قال فبينما أنا في ذلك، أعني التردد بين الأخذ في العلم، أو التجرد للعبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، تناولت كتابا أنظر فيه فإذا فيه ورقة ليست منه، ولم أرها فيه من قبل، مع كثرة نظري في الكتاب، وفي الورقة مكتوب هذه الأبيات:
كن عن همومك معرضا ... وكل الأمور إلى القضا
إلى آخرها، فتعلم بذلك أن ما ذكرناه يقع كثيرا لأهل البدايات وأهل السلوك في أوائل سلوكهم، وقد دخلت أنا على السيد العارف (عبد الرحمن بن شيخ عيديد باعلوي) فذكر لي أنه وصله كتاب من السيد الصوفي (عبد الله بن محمد علوي) المجاور بالمدينة الشريفة، وذكر له في ذلك الكتاب بأنه شغلته مطالعة الكتب وشتتت عليه، أو لفظ هذا معناه، ثم قال السيد عبد الرحمن ما تقول، بأي شيء أكتب إليه؟ فقلت له أنت أعرف، فقال أرى أن أكتب له أن يترك مطالعة الكتب والإكثار منها فوقع لي أن الذي شكاه السيد عبد الله بن محمد مما يقع له عند مطالعة الكتب هو ما يرى فيها من الطرائق الكثيرة، والأحوال المتغايرة، مما قد يحصل عنده بعض ما ذكرناه من التحير والتردد، وقد اجتمعنا بهذا السيد أعني عبد الله المذكور عندما وصلنا إلى المدينة الشريفة لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتمعنا به مرارا وجالسناه وانتفعنا بمجالسته وهو سيد فاضل من أهل الانقباض والخمول، نفع الله به وبسلفه وسائر عباد الله الصالحين.
(1/32)

الفصل السابع عشر
واعلم أنه يقع كثيرا في كلام أهل التصوف نفع الله بهم، أنه ينبغي للعبد أن يرضى بما أقامه الله تعالى فيه من الأشياء، ولا يطلب الخروج من ذلك بحكم ميل الطبع واتباع هوى النفس، وذلك لأن اختيار الله تعالى لعبده أحسن وأتم من اختيار العبد لنفسه، وتدبيره سبحانه للعبد أجمل وأكمل من تدبيره لنفسه، لأنه سبحانه أعلم وأحكم، وألطف وأرحم، ولكن قد يلتبس الأمر على بعض المغترين من الجاهلين والغافلين، فيظنون أن إقامة الله لهم فيما هم فيه هو أمر مطلق غير مقيد، وأمر عام غير مخصص، حتى إنا قد نسمع على ألسنة بعضهم من الكلمات الشنيعة، والاحتجاجات الداحضة ما لا أصل له ولا حجة فيه، ولا بينة به، فمن الولاة الظلمة الغشمة من يحتج بإقامة الله تعالى له فيما هو عليه من الظلم للعباد والفساد في البلاد، ومن الأغنياء وأبناء الدنيا المتخبطين المخلطين في أخذ الأموال من غير حلها، ووضعها في غير حقها، من يحتج بمثل ذلك من إقامة الله سبحانه وتعالى له فيما هو فيه، وذلك بهتان عظيم وضلال مبين، وبيانه أن إقامة الله للعبد لا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه من الأمور والأحوال، هذا هو الشرط الأول (والثاني) أن يكون فيما هو فيه عاملا بطاعة الله تعالى، وسالكا سبيل مرضاة الله تعالى (والثالث) أن يكون طالبا وراغبا في الترقي إلى ما هو فوق حاله ومقامه من الأحوال والمقامات المرضية ما وجد إلى ذلك سبيلا وطريقا، لا يمنعه من ذلك إلا العجز عنه، وعدم التمكن منه، ليس مجرد الكسل والتسويف، والميل إلى راحات النفوس، وشهوات الطباع.
فتأمل هذه الجملة وأمعن النظر فيها، فإنها مهمة جدا والسلام.
(1/33)

الفصل الثامن عشر
ينبغي للمؤمن الحريص على طلب مرضاة الله تعالى ونيل القرب منه، والكرامة عنده، والمجاورة له في داره سبحانه، أن لا يسمع بشيء من الفضائل الدينية والخيرات الأخروية إلا ويشمر غاية التشمير في نيلها، والعمل بها لا يمنعه من ذلك إلا عدم التمكن والاستطاعة.
ثم إن من الفضائل والخيرات ما يتمكن من العمل به كل أحد، كالنوافل من الصلاة، والصيام وتلاوة القرآن، والذكر لله تعالى، ونحو ذلك، ومنها ما لا يستطيعه ولا يتمكن منه إلا الآحاد، ومن الفضائل ما يتمكن منه بعض المؤمنين، ولكن يمنعه من العمل به قيامه بفضيلة أو عمل من أعمال الخير هو أولى به وأوجب في حقه، ولا يمكنه الجمع بين ذلك وبين فضيلة أخرى.
فمهما سمعت بفضيلة من الفضائل، أو عمل من أعمال الخير لا تستطيع العمل به، أو تستطيعه ولكن لا تتمكن منه إلا بترك ما أنت قائم به وملابس له من خير آخر هو أولى بك وأصلح في حقك فينبغي لك أن تنوي ذلك الخير الذي لا يمكنك العمل به ولا تستطيعه، أو تستطيعه وتقدر عليه ولكن لا يكون ذلك إلا بترك ما أنت فيه مما هو أولى بك وأصلح في حقك، وتعزم على فعل ذلك الفضل والعمل الصالح متى تمكنت منه وفرغت له، لتكون بنيتك الصالحة في جملة العاملين به والمقيمين له (ونية المؤمن خير من عمله) وقد يبلغ بها ما لا يبلغ بالعمل.
ومثال ذلك أن تسمع بفضائل الجهاد وأنت لا تستطيعه ولا تتمكن منه أو بفضائل الصدقات وإطعام الطعام وأنت لا تقدر عليها لفقرك وقلة ذات يدك، أو بفضائل العدل وإقامة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنت لا تستطيع ذلك، إذ لا ولاية لك ولا قدرة تتمكن بها من ذلك، فتنوي أنك لو كنت تستطيع لفعلت من هذه الخيرات ما يساعدك عليه الإمكان، وأن تبذل في ذلك الاستطاعة وغاية الجهد.
(1/34)

وينبغي لك أيضا أن تساعد أرباب هذه الفضائل والوظائف الدينية بما تقدر عليه، ولو بالدعاء لهم، والمحبة لما هم عليه من القيام بهذه الأمور الدينية لله تعالى، وأن تدعوهم وتحثهم وترغبهم في حسن القيام بما هم عليه من تلك الوظائف والأعمال الصالحة فربما يكون لك بذلك من الأجر والثواب مثل ما يكون لهم فيها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه على ذلك لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا) الحديث.
ثم ما يمكنك الجمع بينه من الخيرات فتجمعه، وما لم يمكن الجمع بينها فتختار ما هو الأفضل والأكمل منها على حسب ما تستطيعه من ذلك ويمكنك منه، وما لم يمكنك منه فتكون لك في العمل به نية صالحة صادقة متى قدرت عليه على وفق ما تقدم.
(1/35)

ثم إن من الخيرات ما لا يخطر فيه ابتداء ولا انتهاء، كتحصيل العلم النافع والإكثار من نوافل العبادات من الصلاة والصيام ونحو ذلك فأمثال هذه الخيرات ينبغي لك أن تسعى لها وتشمر في قصدها وطلبها بكل وجه يمكنك وتستطيعه، ومن الخيرات ما فيه خطر ويخاف على المتعرض له من الوقوع في شيء من الشرور والمحذورات، وذلك كالولايات، واتخاذ الأموال ونحو ذلك، فأمثال هذه الأشياء ينبغي للعاقل الحكيم أن لا يتعرض لها ولا يسعى لطلبها، مخافة أن يناله منها شيئا يكون فيه هلاكه كما وقع ذلك لكثيرين تعرضوا لهذه الأشياء، فذهب فيها دينهم ودنياهم، ووقعوا فيما يسخط ربهم عليهم، فيكفيك في الخيرات التي ينالها من وفقه الله تعالى من أرباب الولايات والأموال النية الصالحة بينك وبين الله تعالى، إنك إن نلت شيئا منها وأقمت فيه أن تقوم به لله تعالى، وتعمل فيه بمرضاة الله سبحانه، وما يقربك إليه، فيكفيك ذلك ويكون لك عند الله تعالى بنيتك الصالحة مثل ثواب القائمين بها لله مع السلامة من أخطارها وبلياتها؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام في الإمارة لبعض أصحابه (لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) وأمر ثعلبة الذي سأل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له أن يرزقه مالا ليتصدق منه ويفعل الخير مشهور، وفيه أنزل الله عز وجل (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ) الآيات.
(1/36)

وكل شيء فيه خطر فلا ينبغي أن تسعى له وتتعرض واقنع بالسلامة فإنها إحدى الغنيمتين، ومن ذلك أن تسمع بما ورد في ثواب البلاء والأمراض للصابرين فتشتهي ذلك وتتمناه لما فيه من الفضل، فلعلك تبتلى فلا تصبر، وقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سؤال العافية وحث عليه كثيرا، ويكفيك في ذلك النية والعزم الصادق على أنه إن ابتلاك الله تعالى صبرت واحتسبت مع سؤال العافية والاستعانة بها على طاعة الله تعالى، وابتغاء مرضاته سبحانه.
فقد عرفت مما تقدم أنه ينبغي لك أن تعمل بكل ما تستطيعه من الفضائل والخيرات، وتجمع بين ما أمكنك الجمع بينه منها، وتختار الأفضل الأكمل حيث لا يمكن الجمع، ولا تتعرض لما فيه خطر وإن كان فيه خير ما إلا إن ابتليت به أو أكرهت عليه، ولا تقدم على ما هو الأولى بك والأصلح لك في دينك شيئا وإن كل أفضل مما أنت فيه على حسب ما شرحناه في هذه الفصول المتقدمة، فإن الكلام فيها مرتبط بعضه ببعض، ومبين بعضه لبعض، فتأمله وأحسن النظر فيه، أمدنا الله وإياك بدوام التوفيق، وهدانا جميعا إلى سواء السبيل وأقوم طريق في لطف وعافية.
(1/37)

الفصل التاسع عشر
أكثر الناس راحة في الدنيا وأعظمهم لذة فيها وأحرصهم على ذلك أشدهم تعبا ونصبا وخطرا، وأكثرهم هما وغما وحزنا، وذلك مثل الملوك والأغنياء، وأقلهم راحة ولذة فيها وأضعفهم حرصا عليها أقلهم تعبا ونصبا وخطرا وهما وغما، وذلك مثل الفقراء والمساكين.
وسبب ذلك أن لذات الدنيا وراحاتها وشهواتها مكدرة منغصة مشوشة في الأصل، وأن المزحمين عليها والمنازعين فيها والحاسدين عليها كثير، فبسبب ذلك يعظم التعب والخطر والغم في تحصيلها، وفي التمتع بها، وفي الحفظ والتنمية لها فتتضاعف مع ذلك المتاعب والأخطار والهموم والغموم كلما كثرت الدنيا والشهوات، وكثر الطلب لها والحرص عليها، ويقل التعب والخطر والهم والغم كلما ضعف الطلب لها وقل الحرص عليها، فترى الملوك والأغنياء من أتعب الناس وأكثرهم هموما وغموما وأعظمهم خطرا، حتى إن الواحد منهم ليغرر بروحه ويخاطر بمهجته في نيل أغراضه وشهوات نفسه، وفي حفظها وفي تنميتها، وذلك مشاهد لا خفاء به على عاقل.
والفقراء والمساكين أقل الناس هما وغما لقلة ما يطلبون من لذات الدنيا وشهواتها، وضعف رغبتهم في نيلها، إما اختيارا وهو حال الزاهدين، وإما اضطرارا وهو حال الضعفاء، الذين لا يحدثون أنفسهم بنيل الأمور الكبيرة من أمور الدنيا حتى يطلبوه ويحرصوا عليه، فقل لذلك تعبهم وهمهم.
واعلم أن من يطلب من أمور الدنيا كفاية يومه أقل تعبا وهما ممن يطلب كفاية أسبوعه، ومن يطلب كفاية أسبوعه أقل هما في ذلك ممن يطلب كفاية الشهر، والذي يطلب كفاية الشهر أقل هما في ذلك ممن يطلب كفاية العام، والذي يطلب لنفسه أقل تعبا وغما ممن يطلب لنفسه ولغيره، وكلما كثرت المطالب كثرت المتاعب وكثرت الهموم والغموم، وكان ما يحصل الإنسان من لذات الدنيا وراحاتها يكون في كفه ميزان، والتعب والخطر والغم الذي يلاقيه ويقاسيه في كفه أخرى، سواء بسواء، وربما يزيد أحد الأمرين قليلا أو ينقص قليلا، ويختلف الناس في ذلك اختلافا غير بعيد.
(1/38)

هذا ما يناله الفريقان في هذه الحياة الدنيا ويقاسونه في أيام حياتهم، وأما في الآخرة فما يتعرض له الطالبون للذات الدنيا وشهواتها والمتمتعون بها من الحساب، والعقاب، والشدائد، والأهوال، وما يرجوه ويؤمله الفقراء والمساكين المحرومون من لذات الدنيا وشهواتها الصابرون على ذلك من النعيم، والكرامة، والفوز، والراحة معروف مشهور فيما وردت به الأخبار، وشهدت به الآثار التي يطول ذكرها ويتعذر حصرها، فإن أردت الراحة في الدنيا فهو في ترك الراحة فيها، وقد قيل لبعض الحكماء: الآخرة لمن؟ فقال لمن طلبها: فقيل له: والدنيا لمن؟ فقال: لمن تركها.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله لبعض الفقراء وقد رآه مغموما، لا تهتم ولا تغتم، فإن الملوك لو علموا بما نحن فيه من الراحة لقاتلونا عليه بالسيف، وكان سبب خروجه رحمه الله تعالى مما كان فيه من أمر الدنيا والملك الفاني، أنه أشرف من قصره يوما في وسط النهار، فرأى فقيرا قد مال إلى ظل قصره وأخرج رغيفا له فأكله ثم شرب من الماء ونام في ظل القصر، فأعجبه حاله وغبطه على راحته، فوكل به من يأتيه به إذا استيقظ، فلما أتاه به قال له إبراهيم أكلت الرغيف وأنت جائع فشبعت، قال نعم، قال ونمت فاسترحت، قال نعم، فقال إبراهيم لنفسه، إذا كانت النفس تقنع من الدنيا بمثل هذا، فمالي وللدنيا، فلما جن عليه الليل خرج من قصره وما كان فيه سائحا منقطعا إلى الله تعالى فكان من أمره ما كان.
فعلمت بما تقرر أن راحات الدنيا ولذاتها وشهواتها تعب وخطر وهموم وغموم وأحزان، كلما كثرت كانت هذه الأشياء أكثر، وكان الإنسان بها أجدر، وكلما قلت اللذات والراحات والشهوات كان التعب والخطر والهم الغم أقل، وكان الإنسان أروح، مع ما في ذلك من تبعات الآخرة لأهل الشهوات، ومن كراماتها للتاركين شهوات الدنيا المعرضين عنها اختيارا أو اضطرارا، وذلك بين واضح لمن تأمله وكان لنفسه ناصحا.
(1/39)

الفصل العشرون
قد ينظر بعض من ضعفت بصيرته إلى هذا العالم فيرى ما فيه من الأشياء المتضادة المختلفة مثل النور والظلمة، والخير والشر، والصلاح والفساد، والنفع والضر، إلى غير ذلك، فربما يهجس في نففسه ويتصور في وهمه أنه لو كان العالم نورا وخيرا وصلاحا ونفعا فقط لكان ولى وأصلح، وربما يصدر منه الاعتراض على الله عز وجل في إيجاده أضداد هذه الأشياء، ويظن ويحسب أنه لا معنى لوجودها ولا حكمة في خلقها، وذلك ممن يتوهمه جهل وقصور وغفلة، لأن الله سبحانه وله الحمد أحكم الحاكمين، وله العلم المطلق المحيط بجميع الأشياء من جميع جهاتها، وهو أقدر القادرين، وأرحم الراحمين، وقد ورد في بعض الآثار عن الله تعالى أنه قال: إني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخير والشر وخلقت لكل واحد منهما أهلا، فطوبى لمن خلقته للخير أجريت الخير على يديه، وويل لمن خلقته للشر وأجريت الشر على يديه، وويل ثم ويل لمن قال: لم، وكيف، انتهى الأثر بمعناه.
فالذي يقول: لم، وكيف، ولو، عندما يرى الأشياء التي لا يعرف وجهها ولا يطلع على معنى الحكمة فيها، هو المعترض على الله تعالى المنازع له في تدبيره سبحانه.
واعلم أن وجود هذا العالم على ما هو عليه من وجود الأشياء الكثيرة فيه المتغايرة أو المتضادة هو الوجود الأكمل الأحسن الذي لا أحكم منه ولا أصلح، بالنسبة إلى ما أريد العالم به وبما خلق لأجله، فاعلم ذلك.
وبيانه أن العالم متردد في وجوده بين أربعة أحوال:
(الأول) أن يكون على وجوده هذا الذي هو موجود عليه من وجود التضاد فيه.
(والثاني) أن يوجد خيرا صرفا ونفعا ومحضا.
(والثالث) أن يوجد شرا محضا وضررا فقط.
(1/40)

(والرابع) أن لا يوجد العالم أصلا، وليس لهذه الأحوال الأربعة خامس يتصور في العقل (أما العدم) فما هو بشيء، ولا حقيقة له في نفسه، فلا معنى له أصلا (وأما الخير المحض) فلو وجد العالم عليه لتعطلت وبطلت أشياء كثيرة من الحكم والمصالح، وكان العالم واقعا على نصف الوجود، فلا يتم ولا يحصل المقصود بوجوده الذي أريد به وخلق له، (وأما الشر والضرر المحض) فلو وجد عليه العالم لكان بحيث لا يكون فيه نفع ولا صلاح.
فعلمت بما تقرر أن الحال الذي وجد عليه العالم هو الأصلح والأكمل والأولى والأحرى، وإلى قريب مما ذكرناه يرجع معنى المسألة التي ذكرها الإمام حجة الإسلام، في كتاب التوحيد من الإحياء إلى أن قال في تقريرها، (فليس في الإمكان أبدع مما كان) فإن قوله ذلك صحيح مسلم لا اعتراض عليه فيه، نعم، لما بالغ رحمه الله تعالى في تقرير المسألة، والمجال فيها ضيق، ضاقت العبارة عن إيراد المعنى المقصود بها، فقام الإشكال وحصل الغموض، وقصد الإمام في ذلك صحيح، والمعنى الذي أراده معنى شريف دقيق، وهكذا القول في المسائل الدقيقة، إذا أراد العالم العارف إيصال فهمها إلى من ليس من أهلها، ازدادت غموضا وإشكالا، وتهدف العالم بسبب ذلك لاعتراض من ليس من أهل ذلك العلم، ولا له قدم راسخة فيه.
ثم اعلم أن في وجود هذا العالم على ما هو عليه دلالات كثيرة على أسماء الله تعالى وصفاته، لا تتم إلا بوجود العالم على ما هو عليه.
وفيه أيضا دلالات على الأمور الأخروية، هي لا تتم أيضا إلا بوجود العالم على ما هو عليه وفيه أيضا دلالات على العالم نفسه، لا تتم إلا بوجوده على ما هو عليه، وذلك أن النور لا يعرف كما ينبغي إلا بضده وهو الظلمة، والخير لا يعرف إلا بضده وهو الشر، وكذلك القول في الصلاح والفساد، والنفع والضر، والصحة والسقم، إلى غير ذلك من الأشياء المتضادة المتغايرة، فاعرف ما شرحناه في هذا الفصل فإنه من النكت الشريفة، والحقائق اللطيفة، التي تحتاج في بيانها وشرحها إلى كلام كثير وشرح طويل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
(1/41)

الفصل الحادي والعشرون
أكرم الناس وأرفعهم وأعزهم وأفضلهم في الدنيا والآخرة أهل العلم والمعرفة بالله، وأهل الطاعة والتقوى لله تعالى، وذلك ظاهر لا خفاء به ولا نزاع فيه لوضوحه ومعرفة الخاص والعام به، ولكن لما كانت ملازمة الطاعة لله والتقوى له سبحانه شاقة على النفس ومخالفة لهواها، ومشوشة عليها شهواتها التي فيها حظها وقضاء أوطارها الفانية أعرض أكثر الناس عن ملازمة الطاعة والتقوى من العز، والشرف، والكرامة والرفعة في الدنيا والآخرة، ومالوا إلى الشهوات واللذات، بل إلى المحرمات والمخالفات، لما فيها م ملائمة النفس، وحصول شهواتها، وإن كانوا يعرفون ويعلمون ما فيها من الذل، والمهانة، والضعة، إيثارا لموافقة الطبع، ورغبة في نيل الحظ العاجل الخسيس.
واعلم أن مثال أهل المعرفة والطاعة لله في عباد الله تعالى، مثال الخاصة من عبيد الملك، الذين هم أمناؤه على أسراره وخزائنه، والواقفون بين يديه في حضرته لمناجاته وخصوص خدمته، وتنفيذ أموره الصادرة من الحضرة الخاصة، فمن يكون أعز وأكرم من هؤلاء العبيد، الذين هم بهذه المنزلة من الملك؟ ولله المثل الأعلى.
(1/42)

وأما أهل الشهوات والغفلات والمخالفات، فمثالهم من عباد الله تعالى، مثال بعض عبيد الملك الذين يجعل إليهم سياسة الدواب، وكناسة الأقذار، وأشباه ذلك من الأعمال الخسيسة المستقذرة.
فانظر فرق ما بين الفريقين، واختر لنفسك الكون في خير الطائفتين، واعلم أنه لو لم يعد الله تعالى أهل المعرفة به والطاعة له والتقوى بما وعدهم من الكرامة في الدار الآخرة، لكان ما أعطاهم في الدنيا من الشرف، والرفعة، والعز، والجلالة عنده تعالى، وعند عباده كافيا لهم ونهاية في جزائهم ومثوبتهم، كيف وقد وعدهم سبحانه في جنته ودار كرامته بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكذلك لو لم يتوعد الله سبحانه وتعالى المكبين على الشهوات والواقعين في المخالفات، بما توعدهم به في الدار الآخرة من الحساب، والحجاب والعقاب، وأليم العذاب، لكان ما يقاسونه في الدنيا من الذلة، والهوان، والضعة، كافيا لهم، وغاية في جزائهم وعقابهم فتأمل ـ رحمك الله تعالى ـ هذا الفصل، وأحسن النظر فيه والله الموفق.
(1/43)

الفصل الثاني والعشرون
إذا أحب أهل الدنيا من الغافلين والمخلطين أهل الآخرة من العلماء العاملين والأولياء والصالحين وعظموهم وغبطوهم على ما هم عليه من العمل بطاعة الله تعالى، والإقبال على الله عز وجل، كان ذلك منهم خيرا وطاعة ودليل سعادة وفلاح، وربما جرهم ذلك وجذبهم إلى التشبه بأهل الخير، والدخول في طرائقهم، والعمل بأعمالهم الصالحة والاتصاف بصفاتهم المحمودة، وقد وقع مثل ذلك كثيرا.

ومن ذلك أو قريب منه ما بلغنا أن جماعة من أهل الغفلة والتخليط اجتمعوا في موضع، وبعثوا شخصا منهم بعشرين درهما ليأخذ لهم بها من الفواكه والطيب ونحوها ما يصلحون به مجلسهم فلما ذهب إلى السوق ليشتري لهم ذلك، وجد الناس مجتمعين على بطيخة كل منهم يريد أن يشتريها لأن بشر بن الحارث رحمه الله ونفع به مسها بيده فاشتراها ذلك الشخص بالذي معه من الدراهم، وذهب بها إلى أصحابه بعد أن أبطأ عليهم، فلما جاء إليهم وليس معه إلا تلك البطيخة، قالوا له قد أبطأت ثم لم تجئ إلا بهذه البطيخة، فقال لهم إن في هذه البطيخة عجبا، قالوا وما ذاك، قال لهم مسها بشر بن الحارث بيده فنافست عليها حتى أخذتها بالدراهم، فقالوا له وما يكون بشر هذا؟ فقال لهم هو عبد أطاع الله فأكرمه، فرجع بعضهم إلى بعض، وقالوا إذا كان صاحب الطاعة تنتهي به الكرامة عند الله تعالى إلى مثل هذا في الدنيا، فكيف في الآخرة، فتابوا بأجمعهم، وتركوا ما كانوا عليه من اللهو والباطل انتهت الحكاية بمعناها.
ومثل ذلك كثير وقوعه لأهل الغفلة والإعراض، مع أهل التقوى والإقبال، مهما عظموهم وأحبوهم.
(1/44)

وأما أهل الآخرة والإقبال على الله تعالى فمهما أحبوا أهل الدنيا من الغافلين والمخلطين، ومالوا إليهم، واستحسنوا أحوالهم، وغبطوهم على ما هم فيه وعليه من التمتع بشهوات الدنيا والتقلب في لذاتها دل ذلك منهم على ضعف البصائر، وسقوط الهمة وقلة الصدق أو عدمه في الإقبال على الله تعالى وعلى الدار الآخرة، وذلك لأن الدنيا حقيرة، حقير من يرغب فيها ويحرص عليها، ويتعلق قلبه بشهواتها، ولذاتها، ويكثر همه بجمعها وتنميتها، فإذا صار أهل الآخرة بحيث يغبطون ويعظمون من يكون هذا حاله وهذا وصفه، فربما صاروا أنزل منهم رتبة، وأقل منهم خيرية، وأخس منهم همة، بل ينبغي لأهل الدين والآخرة أن يرفعوا هممهم، وينزهوا أنفسهم عن الركون إلى الدنيا وأهلها، وأن يستقبحوا ويستقذروا جميع شهوات الدنيا، ولذاتها الفانية فإنها بالحقيقة أقذار، وأدناس وأوساخ.
وقد شبهت الدنيا بالجيفة المنتنة وبالمزبلة المستقذرة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف الصالح وفي الحديث (الدنيا جيفة قذرة) وشبهها عليه الصلاة والسلام بما يخرج من بطن ابن آدم من النتن، في حديث الضحاك، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى لو قيل لي خذ الدنيا حلالا من غير أن تحاسب عليها، لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثيابه.
وذكر اليافعي رحمه الله تعالى في بعض كتبه، أن وزيرا من الوزراء خرج في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون من هذا؟ من هذا؟ يستعظمون ما هو فيه، فقالت امرأة على جنب الطريق، إلى كم تقولون من هذا؟ من هذا؟ هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه الله تعالى بما ترون، فسمع الوزير مقالتها، فرجع إلى الملك واستعفى من الوزارة، وخرج تائبا إلى مكة المشرفة، فلم يزل كذلك إلى أن مات.
(1/45)

فليس ينبغي لأهل الدين والآخرة إذا رأوا أهل الدنيا المشغوفين بجمعها، المشغولين بشهواتها إلا أن يرحموهم، ويدعو لهم بالخلاص والسلامة مما وقعوا فيه من الإعراض عن الله تعالى، والإشتغال عن آخرتهم التي هي مصيرهم ومعادهم، وأما أن أهل الآخرة يحبون أن يكونوا مثلهم ويغبطونهم على ما هم فيه، فمعاذ الله أن يصدر ذلك إلا ممن لا بصيرة له ولا صدق مع الله تعالى، ولا زهادة صحيحة، ولا رغبة في الدار الآخرة التي هي خير وأبقى، ومن فعل ذلك فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وأبقى ولم يعرف قدر نعمة الله تعالى عليه فيما اختار له من الإقبال عليه وعلى الدار الآخرة الباقية، وصرف عنه من بلية الإعراض والغفلة عنه عز وجل، ومن الإقبال على الدنيا الحقيرة الفانية التي لا قدر لها ولا قيمة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء) والأخبار في هذا المعنى كثيرة شهيرة والتوفيق بيد الله، والأمر كله لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله سبحانه وتعالى.
(1/46)

الفصل الثالث والعشرون
اعلم أن الاقتصاد والأخذ بالوسط في جميع الأمور هو المطلوب والذي ينبغي، وقد ورد (خير الأمور أوساطها) وورد أيضا (الاقتصاد والتؤدة والسمت الحسن جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة)، وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، عليكم بالنمط الأوسط، فإنه يرجع إليهم الغالي، ويلحقهم التالي انتهى.
فالتقصير عن الوسط والاقتصاد عجز وتفريط، ومجاورته والزيادة عليه غلو وإفراط، وكل ذلك مذموم ومستقبح عقلاً وشرعاً، وعبادة وعادة.
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى الاقتصاد والتوسط في الإنفاق الذي هو من أحسن الأفعال والأخلاق بقوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الاسراء:29) وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) ، والحال المحمود على مثل ذلك في الأخلاق المحمودة والأفعال الصالحة، ثم إن ذكر ذلك على سبيل التفصيل يدعو إلى الإكثار والتطويل، فنشير منه إلى شيء قليل.
فمن ذلك السخاء والإنفاق/ وقد سمعت ما قال الله تعالى فيه فالإفراط منه والغلو فيه تبذير وإسراف، والله لا يحب المسرفين، والتقصير عنه والتفريط شح وبخل والبخيل بعيد من الله تعالى ومن الناس.
ومن الأخلاق الحسنة والأفعال المشكورة الشجاعة، والإفراط فيها تهور والقاء بالنفس إلى التهلكة، والتقصير عنها جبن وذل.
ومنها التواضع وهو محمود جدا، والإفراط فيه ضعة ومهانة، والتقصير عنه تكبر ورعونة.
ومنها الحياء، والإفراط فيه أنوثة وضعف والتقصير عنه فظاظة وهتك.
ومنها البشر والبشاشة، والإفراط في ذلك سخف وخلاعة، والتقصير عنه جفاء ووحشة، فقس على ما ذكرناه ما لم نذكره مما في معناه، وكذلك القول في العادات من المنام، وتناول الطعام، والمنطق واللباس ونحوها، ينبغي الأخذ فيها ومنها بالقصد والوسط، فإن ذلك طرفي قصد الأمور ذميم كما يقال.
(1/47)

واعلم أنه قد يخفى حد الاقتصاد في الأمور ويعسر الوقوف على الوسط منها إلا على أرباب البصائر في الدين، الراسخين في العلم واليقين، فمن أشكل عليه شيء من ذلك فعليه بالرجوع إليهم، فإن أعوزه وجودهم كما هو الغالب في هذا الزمان فعليه بالتوقف والتثبت حتى يتبين له الصواب، ومن أحسن الطرق في ذلك عند وقوع الالتباس أن يأخذ في الأمور المستحسنة في الجملة مثل التواضع والسخاء والحياء إلى طرف الزيادة، ويميل في الأمور العادية مثل الأكل والنوم والنطق إلى طرف القلة والاقتصار، هذا عند الالتباس، وإلا فالمحمود هو التوسط، ومن طبع النفس ميلها في الأمور العادية إلى طرف الإفراط والاستكثار، وفي الأمور الدينية إلى طرف التقصير والتفريط، فيكون الأخذ بما يخالف هواها في الطرفين من السداد والصواب إن شاء الله تعالى.
وقد أشار حجة الإسلام رحمه الله تعالى في بعض كلامه إلى شيء مما ذكرناه، وبيان ذلك أنه إذا أشكل عليه مثلا في حال البذل للمال أنه مقتر أو مبذر، فليمل قليلا إلى طرف التبذير، فإنه أحسن من التقتير والنفس متهمة بدعوى التقتير لغلبة حب المال على النفوس وميلها إلى الإمساك، وإذا أشكل عليه في حال التواضع أنه مائل إلى طرف الإفراط منه أو إلى طرف التفريط مال إلى طرف الإفراط قليلا لما ذكرناه في خلق السخاء والبذل، وأما في العادات فإذا أشكل عليه مثلا في قدر ما يتناوله من الطعام، أو يتعاطاه من المنام، أنه مفرط مستكثر، أو مقلل مقتصر، فليمل إلى طرف التقلل والاقتصاد، فإن النفس متهمة في ذلك ولها فيه حظ، ولأن التقلل من ذلك والاقتصاد محمود على الإطلاق، ما لم ينته صاحبه إلى ما يضر بعقله أو بجسمه، فاعلم هذه الجملة فإنها مهمة.
(1/48)

ثم اعلم رحمك الله أنه يذكر عن جماعات من أهل الصلاح والتصوف أمور قد تفهم ترك الاقتصاد ومجاوزة حد الوسط، وذلك في العبادات بالإكثار منها وفي العادات بالمجانبة لها إلى حد تكاد تضعف عنه قوة البشر، وذلك منهم (رحمة الله عليهم) في البدايات محمول على قصد رياضة النفس وتمرينها، وتهذيب أخلاقها، وتلطيف كثافتها، وذلك لا يتم كما ينبغي إلى على وجه يشبه الإفراط والمجاوزة للحد، كحال الدابة الجموح الحرون لا يمكن تذليلها وإسلاسها حتى تستقيم على ما يراد منها من الركوب العمل، بأن يقلل لها من العلف، وتكلف من العمل فوق ما تطيق، إلى أن تنقاد ويذهب جماحها، فعند ذلك ترد إلى الوسط فهذا وجه ما نقل عنهم من ذلك في البدايات، وهو وجه صحيح موافق للحكمة وحسن السياسة.
(1/49)

وأما ما نقل من ذلك عن بعض أهل النهايات منهم فهو محمول على غلبة الأحوال واستيلاء الأنوار والمكاشفة بالأسرار، حتى يخرج العبد عن المقتضيات البشرية، ويصير إلى حالة تشبه حال الملائكة الكرام من أكثر الوجوه، ويكون ذلك في بعض الأوقات من غير استمرار مطلقا، وذلك مسلم لصاحبه، وهو معذور فيه، ومعدود في باب الكرامات الخارقة للعادات، فمن ذلك ما حكي عن الشيخ (سهل بن عبد الله) رحمه الله تعالى أنه كان لا يأكل إلا في كل خمسة عشر يوما فإذا دخل شهر رمضان طوى الشهر كله، وعن أبي عبيد السري رحمه الله، أنه كان إذا دخل شهر رمضان يدخل في بيته ويأمر زوجته أن تسد عليه الباب، وتترك كوة صغيرة ترمي إليه منها برغيف كل ليلة، فإذا خرج الشهر فتحت عليه الباب فتجد ثلاثين رغيفا في زاوية البيت، وعن بعضهم أنه كان لا يأكل في السنة إلا أكلة واحدة، وعن سيدنا القطب المقدم (محمد بن علي باعلوي) رحمه الله ونفع به، أنه مكث في آخر عمره نحو أربعة أشهر لم يأكل فيها طعاما ولم يشرب شرابا، فلما كان آخر يوم في حياته أكرهوه على شيء من الطعام، فلما أحس به فتح عينيه وقال ضجرتم مني أو نحو هذا، ثم توفي إلى رضوان الله تعالى، وحكاياتهم في ذلك كثيرة، عن أهل البدايات منهم وعن أهل النهايات، والوجه فيها ما ذكرناه في الحالين، وفيها وجوه أخرى، كلها سائغة لأهلها نفع الله بهم.
(1/50)

الفصل الرابع والعشرون
اعلم أن الرفق في جميع الأمور مطلوب ومحبوب ومرغب فيه شرعا وعقلا، ويأتي به ومعه من المطالب والخيرات ما لا يتأتى مثله ولا قريب منه مع العنف والخرق، والرفق صفة الحكماء الرحماء من عباد الله الذين اصطفى، قال الله تعالى في وصف نبيه سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: من الآية159)الآية، وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199) وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا وزانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، ومعنى الرفق محاولة الأمور والأخذ فيها باللطف واليسر والوقار والتؤدة، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه).
ويحتاج إلى الرفق بالخصوص حاجة كبيرة أرباب المراتب من الناس من أهل الولايات والمناصب الدينية والدنيوية، وبه يتألفون الناس ويحسنون السياسة لهم ويتم لهم به ما هم بسبيله من اجتماع الكلمة عليهم، وكثرة الأتباع لهم، وتوفر الأخذ عنهم، ومن لم يأخذ بالرفق من الرؤساء المتبوعين وأخذ بضده من العنف والشدة فقلما يتم له أمر وتجتمع له كلمة، وإن وقع ذلك قليلا لبعض من يكون كذلك فيكون بالظاهر دون الباطن مع الكراهية والاشمئزاز والاستثقال.
(1/51)

فظهر أن الرفق هو الخير الصرف، وأنه لا ينبغي للإنسان العاقل أن يحاول شيئا من الأمور إلا به، سيما ما يتعلق منها بالناس، من خالص كأهله وأولاده وخدمه، ومن عام كغيرهم، ولا ينبغي له أن يعدل عنه وهو يمكنه أن يحصل مطلوبه ومقصوده معه ولو على تراخ.
وأما إذا خاف من فوات المطلوب أو تشوشه مع الرفق واللطف كما قد يقع نادرا مع بعض الخلق للؤم ونذالة تكون في فطرهم وطبائعهم بحيث يضر بهم الأخذ معهم بالرفق والمعاشرة لهم باللطف، فينبغي الأخذ معهم بالعنف والشدة ظاهرا على قصد إصلاحهم وتقويمهم، قال بعض العارفين بعض الناس قوالب بلا عقول إن لم تقهرهم قهروك، وإلى قريب من هذا يشير قول المتنبي رحمه الله تعالى:
إذا كنت أكرمت الكريم ملكته
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
ولكن إنما يكون ذلك في نادر من الأحوال، مع شواذ من الناس، قل فيهم الخير، وضعفت منهم العقول، وغلبت عليهم الجهالة والحماقة، مع شراسة في طبائعهم وسبعية في نفوسهم، فلا ينبغي الأخذ بغير الرفق واللطف إلا مع من هذا وصفه، على قصد استصلاحه والاستنكاف لشره وفساده، وعلى ذلك ينزل ما أخذ به بعض الأكابر من ترك الرفق في بعض الأحوال مع بعض الناس.
(1/52)

والرفق هو الأصل والغالب والذي ينبغي أن يعول عليه إلا عند خشية الاستضرار به واسترسال المفسد في فساده وتعذبه، ولم يتمكن رده عن ذلك إلا بشيء من الشدة والعنف والغلظة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالرفق ويأخذ به في أكثر أحواله وعمومها كما يعرف ذلك من نظر في سيرته واطلع على حديثه وأخباره في تعليمه للجاهل، ومعاشرته للقريب والبعيد، فمن ذلك حديث الأعرابي الذي بال في المسجد وهو مشهور، وحديث الآخر الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم شيئا فسخط منه وقال ما لا ينبغي، فهم به وقال جميلاً، وحديث الشاب الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ائذن لي في الزنا فقال له عليه السلام: ( أتحبه لابنتك؟ فقال: لا، فقال له كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم) الحديث، وفي آخره أنه عليه الصلاة والسلام مسح على صدر الشاب ودعا له فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا، والأخبار عنه صلوات الله عليه في مثل ذلك كثيرة وكذلك عن الأئمة عنه صلوات والعلماء والصالحين من السلف المهتدين والخلف المقتدين، فعليك بالرفق رحمك الله في جميع الأمور، فإنه مبارك، وله عواقب حسنة جميلة، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35) .
(1/53)

الفصل الخامس والعشرون
لا ينبغي لأحد ممن يعول عليه أن يعظم ولا أن يثني على الجاهل وإن كان ممن له نسب شريف وسلف صالح، فإن تعظيمه والثناء عليه في الظاهر قد يفتنه في دينه، ويغره بالله ويزهده في العمل الصالح ويلهيه عن التزود لآخرته، ويكون الذي يعظمه ويثني عليه سببا في فتنته وغروره وكالساعي في هلاكه، فيستوجب بذلك السخط من الله ورسوله ومن السلف الصالحين الذي ينسب إليهم ويتشرف بهم ذلك الجاهل، وكيف يغتر أحد بنسب مجرد عن التقوم، أو يعتمد عليه بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا الحديث الصحيح وفيه يا بني عبد المطلب، يا فلان من قرابته عليه السلام يعم ثم يخص فمضرة المدح وفتنته على الجاهل عظيمة، وقد أثنى رجل على آخر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال (ويلك قطعت عنق أخيك لو سمعها ما أفلح) الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام: (لأن يمشي أحدكم إلى أخيه بسكين مرهف خير له من أن يثني عليه في وجهه).
(1/54)

وإنما يضر المدح والثناء الجاهل المغرور الذي لا بصيرة له في الدين ولا معرفة له ولا يقين، وأما العالم البصير العارف بربه وبنفسه فليس يضره ذلك، فقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجال من أصحابه وأثنى عليهم عنده فلم يزدهم ذلك إلا معرفة وبصرة بدين الله، وجدا وتشميرا في طاعته وعبادته، وفي الحديث (إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه)، ولكن أهل البصائر وأهل النصيحة لأنفسهم قليل، وخصوصا في هذا الزمان، وأهل الجهل والغرور كثير فليحذر المؤمن المتقي لربه والشفيق على دينه من كل ما يضر به نفسه، أو يضر به غيره من إخوانه المسلمين، نعم، وقد يجري على ألسنة بعض الناس إذا قيل له فعل فلان من أهل البيت النبوي كذا كذا من المخالفات والتخليطات، فيقول هؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله شفيع لهم، ولعل الذنوب لا تضرهم، وهذا قول شنيع، يضر القائل به نفسه، ويضر به غيره من الجاهلين، وكيف يقول أحد ذلك وفي كتاب الله العزيز ما يدل على أن أهل البيت يضاعف لهم الثواب على الحسنات، والعقاب على السيئات، وذلك قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ )(الأحزاب: من الآية30) والآية التي بعدها، ونساؤه من أهل بيته صلى الله عليه وسلم.
(1/55)

ومن قال أو ظن أن ترك الطاعات وفعل المعاصي لا يضر أحدا لشرف نسبه أو صلاح آبائه فقد افترى على الله الكذب، وخالف إجماع المسلمين، ولكن لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شرف، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم بهم مزيد عناية وقد أكثر على أمته من الوصية بهم والحث على حبهم ومودتهم، وبذلك أمر الله تعالى في كتابه في قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(الشورى: من الآية23) فعلى كافة المسلمين أن يعتقدوا حبهم ومودتهم، وأن يوقروهم ويعظموهم من غير غلو ولا إسراف.
ثم إن من كان السادة أهل البيت على مثل أو قريب من سير سلفهم الصالح وطريقتهم المرضية فهو إمام يهتدى بأنواره ويقتدى بآثاره كآبائه المهتدين، فإن منهم الأئمة المتقدمين، مثل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب والحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل جعفر الطيار، وسيد الشهداء حمزة ومثل حبر الأمة عبد الله بن العباس، وأبيه الإمام العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الإمام زين العابدين علي بن الحسين، والإمام الباقر وولده الإمام جعفر الصادق عليهم السلام وأمثالهم من سلف هذا البيت المطهر وخلفهم.
وأما من كان من أهل هذا البيت ليس على مثل طرائق أسلافهم الطاهرين، وقد دخل عليهم شيء من التخليط لغلبة الجهل، فينبغي أيضا أن يعظموا ويحترموا لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدع المتأهل للنصيحة نصحهم وحثهم على الأخذ بما كان عليه سلفهم الصالح، من العلم، والعمل الصالح، والأخلاق الحسنة، والسير المرضية، ويخبرهم أنهم أولى بذلك وأحق به من سائر الناس، وأن مجرد النسب لا ينفع ولا يرفع مع إضاعة التقوى، والإقبال على الدنيا، وترك الطاعات والتدنس بدنس المخالفات، وقد تفطن لذلك جماعة من الشعراء فضلا عن الأئمة والعلماء،
(1/56)

حتى قال بعضهم:
لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه
فقد رفع الإسلام سلمان فارس
فلا تترك التقوى اتكالا على النسب
وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب
وقال المتنبي:
إذا لم تكن نفس الشريف كأصله
فماذا الذي تغني رفاع المناصب
وقال آخر:
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
والكلام في أولاد الصالحين مثل الكلام في أهل البيت النبوي بمعنى أن من كان على مثل حال سلفه فهو صالح مثلهم، يعظم ويتبرك به، ومن كان على الجهل والغفلة فينبغي أن ينصح ويرشد إلى الصواب، ويحترم شيئا من الاحترام لأجل سلفه الصالحين، وكيف لا، وقد قال الله تعالى ما قال في شأن الغلامين والجدار (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً)(الكهف: من الآية82) وقد بلغنا أنه الأب السابع لهما من جهة الأم، فحفظا به في أمر الدنيا فضلا عن الآخرة، فاعلم وافهم، وضع كل شيء في موضعه، وآت كل ذي حق حقه، واستعن بالله تسعد وترشد والأمر كله لله.
(1/57)

الفصل السادس والعشرون
إذا أراد الإنسان أن يعرف نفسه من حيث دينه أهو في ترق وارتفاع، أم هو في نزول وانحطاط؟ فلينظر في أحواله وأعماله التي قد كان عملها في شهر قد مضى، أو عام قد انقضى فإن كان يجدها أحسن في نفسه وأفضل من الأحوال والأعمال التي هو عليها في أوقاته الحاضرة، وساعته الراهنة، فليعلم أنه في نزول وهبوط، وإن كان يرى أحواله وأعماله التي في وقته الحاضر خيرا وأحسن من أحواله وأعماله السابقة، فليعلم أنه في ترق وصعود، وقد ورد في الخبر أو الأثر (من كان يومه مثل أمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون) أي بعيد عن الرحمة الخاصة ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان.
(1/58)

وبيان ما قلناه على معنى من التفصيل، أنك إذا تفكرت في أيام قد مضت عليك أنك كنت ترى في نفسك زهدا في الدنيا، ورغبة في الآخرة وتورعا عن الشبهات، ومسارعة في الخيرات، ومبادرة إلى الطاعات، وتباعدا عن السيئات ثم لم تجد مثل ذلك ولا أكثر منه في ساعتك الحاضرة عرفت بذلك أنك في انحطاط ونزول من حيث دينك وإقبالك على ربك، وسعيك لآخرتك، فتشفق وتخاف وتأخذ في الجد والاجتهاد.
وإن ظهر لك المزيد في الإقبال والرغبة ازددت لله تعالى شكرا ولمنته وفضله عليك شهودا وذكرا، ولم تعجب بنفسك، ولم تنظر إلى حولك وقوتك فإن الأمر كما قال الله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(النور: من الآية21).
(1/59)

الفصل السابع والعشرون
كل من سوى بين آخرته ودنياه في الاهتمام والحرص الباطن والسعي والطلب الظاهر فهو على غاية من الحماقة، ونهاية من الغباوة، فكيف بمن يكون اهتمامه بأخراه وسعيه لها، بل كيف يكون حال من لا يكون له اهتمام بآخرته وحرص عليها البتة، ونعوذ بالله من ذلك، ونسأله العافية من جميع البليات والمهالك لنا ولأحبابنا والمسلمين.
وإنما صار الذي سوى بين الآخرة والدنيا في الحرص والسعي الظاهر على مثال ما ذكرنا من الحماقة والغباوة لتسويته بين ما هو خير وأبقى، وأصفى وأوسع، وبين ما هو دني، زائل، كدر، منغص ضيق، فصار مثله مثل من سوى بين الجوهرة والبعرة، وبين القطعة من الذهب الخالص والخزفة، بل أبعد وأغرب، ولو لم يكن في الآخرة إلا البقاء والسلامة من جميع الآفات لكانت أحق بالرجحان والإيثار، كما قال بعض السلف الصالح رحمهم الله لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نؤثر خزفا يبقى على ذهب يفنى، فكيف والأمر على العكس من ذلك؟ انتهى.

فتبين واتضح أن الذي يؤثر الدنيا على الآخرة شاك مرتاب، والذي يسوي بينهما غبي أحمق، والذي يؤثر الآخرة على الدنيا هو المؤمن الكيس الحازم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والهدى هدى الله يهدي به من يشاء وهو الحكيم العليم.
(1/60)

الفصل الثامن والعشرون
أمراض القلوب أضر وأخطر ، وأبشع وأشنع من أمراض الأجسام من جهات كثيرة ووجوه متعددة ، وأشد ذلك ضررا وأعظمه خطرا أن مرض القلب يضر العبد في دينه الذي هو رأس مال سعادته في الدنيا والآخرة ، ويضره في آخرته التي هي دار البقاء والدوام والخلود أبد الآباد ، وأما مرض الجسم فليس يضر الإنسان إلا في دنياه الزائلة المنقضية على القرب ، وفي البدن الذي هو معرض للآفات والفناء في أسرع الأوقات ، وهو أعني مرض الجسم مع ذلك ينفع الإنسان في دينه وفي آخرته نفعا كثيرا ، لما رتب الله عليه من الثواب العظيم ، ومن الفوائد والمنافع الكثيرة العاجلة والآجلة على وفق ما ورد في الآيات والأخبار من ثواب الأمراض والمصائب النازلة بالأجسام .
ثم إن أ/راض القلوب لما كانت لا تدرك بالحس ولا يجد الإنسان لها ألما محسوسا خفيت وتعسر العلم بها والوقوف عليها ، وقل الاهتمام لها ، وضعفت العناية بطلب مداواتها وعلاجها ، وهي كما قال الإمام الغزالي رضي الله عنه كبرص على وجه من لا مرآة له ، وإذا أخبره غيره به ربما لم يصدقه .
(1/61)

وأيضا فالآلام والعقوبات التي ورد الوعيد بها على أمراض القلوب في الدار الآخرة أمر يستبعده الغافلون ويرونه شيئا متراخيا ، وربما تشككوا فيه والعياذ بالله ، أو طمعوا ي السلامة منه والخلاص بخواطر تخطر لهم من خواطر الرجاء الكاذب ، من الاغترار بالله ،ومن أماني المغفرة والنجاة من غير سعي لذلك فمن هذه الحيثيات وأشباهها خفيت أمراض القلوب وتمكنت ، وتهاون الغافلون بها . ولطبت مداواتها ، حتى ربما قد يعلم أحدهم بالمرض في قلبه أو الأمراض فلا يهمه ذلك ، ولا يلقي له بالا ، ولو علم بمرض في جسمه أو أعلمه به غيره لعظم اهتمامه به واشتد خوفه منه وحرص واجتهد في مداواته ومعالجته وسعي في ذلك بكل ما يمكنه ويقدر عليه ، وسبب ذلك ما ذكرناه من أن مرض القلب لا يدرك بالحس ،ولا يشعر له بألم في الحال وأن العقوبات الموعود بها عليه غائبة وواقعة بعد الموت وفي الدار الآخرة ، والغافل يستبعد الموت ويستبعد ما بعده ، ولو أنه عقل واستيقن لعلم أن الموت أقرب غائب ينتظر ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، وكما قال أيضا صلوات الله عليه وسلامه : الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله . والنار كذلك .
وأمراض القلوب كثيرة ، ومن أخطرها وأضرها الشك في الدين والعياذ بالله ومنها ضعف الإيمان بالله ورسوله والدار الآخرة ، ومنها مراءاة الخلق بطاعة الله ، والكبر على عباد الله ، والشح والبخل والحسد والحقد والغش للمسلمين ، ومحبة الدنيا ، والحرص عليها ، وطول الأمل ونسيان الموت ، والغفلة عن الدار الآخرة ، وترك العمل لها . إلى غير ذلك من أمراض القلوب وعللها .
(1/62)

ولما كانت القلوب في حكم الاحتجاب عن الحس وليس لأمراضها ألم يدرك بالآلات الظاهرة ، تعين على العاقل الذي يهمه أمر دينه وسلامة آخرته أن يسعى في تعرفها ويحرص على طلب الوقوف عليها ، حتى يأخذ في علاجها ومداواتها ، من قبل أن يفاجئه الموت ، ويصير إلى ربه ، فيلقاه بقلب غير سليم ، فيخسر ويهلك مع الهالكين .
وتعرف أمراض القلوب ويستدل عليها بالعلامات والأمارات الظاهرة ، التي تخبر عنه وتعرف بوجودها ، وهي كثيرة ، ومن أظهرها التكاسل عن الطاعات ، والتثاقل عن عل الخيرات والحرص على شهوات الدنيا وشدة الميل إلى لذاتها ، والرغبة في عمارتها وطول البقاء فيها ، وأشباه ذلك من أحوال أهل الغفلة وأوصاف المعرضين علن الله تعالى ، فإذا ظهر له من أمثال هذه العلامات ما يعرف به مرض القلب وجب عليه أن يسعى في مداواته ومعالجته .
وأبلغ الطرق في ذلك وأقربها إلى حصول القصد من ذلك ، أن يطلب له شيخا عالما عارفا من أهل القلوب والسرائر ، فإن لم يجده فأخا صالحا ناصحا يستعين برأيه وإشارته في تعرف أمراض قلبه ومداواتها ، فإن لم يظفر به كما هو الغالب من أحوال أهل الزمان من قلة المعاونين على الحق والخير ، فعليك بكتب أئمة هذا الشأن التي ألفوها في وصف أمراض القلوب وتعريف الطرق إلى مداواتها . وأجمع الكتب المؤلفة في ذلك وأنفعها كتاب (إحياء علوم الدين ) سيما ربع المهلكات منه ، فإنه مؤلف بالقصد في معرفة أمراض القلوب والطرق إلى معالجتها ، وعلاماتها الدالة على وجودها ، وقوتها وضعفها إلى غير ذلك ، ولكن ليست الكتب تنزل في حصول المقصود منزلة الشيخ العارف والأخ الصالح ، ولكنها حيلة من فقدهما وتعذرا عليه والله تعالى يعين الطالب على قدر همته وصدقه وحسن رغبته وهو سبحانه الولي المعين .
(1/63)

الفصل التاسع والعشرون
من لم يستطع أو لم ينشط لفعل الخير كله فلا ينبغي له أن يتركه كله ، بل يفعل منه ما يستطيع وما يتيسر عليه ، فإن الخير يدعو بعضه إلى بعض ، والصغير منه يجر إلى الكبير ، والقليل منه يدعو إلى الكثير والخير عادة كما ورد ، كذلك من عجز عن ترك الشر كله ، فينبغي له أن يترك ما يتيسر عليه تركه منه ، وخير وشر أخف وأيسر من شر محض ، والحسنات يذهبن السيئات وفي الحديث : أتبع السيئة الحسنة تمحها . وفي الحديث الآخر : إذا عملت سيئة فاعمل بعدها حسنة تكفرها السر بالسر والعلانية بالعلانية . أو كما ورد .
وإذا ابتلي العبد بالشر والمعصية فلا ينبغي له أن يدبر عن الله وعن فعل الخير والطاعة بالكلية فلا يبقى بينه وبين ربه طريق إلى المصالحة والرجوع إليه ، وليعتبر بقصة اللص الذي كان يقطع الطريق ، ويسفك الدماء وينهب أموال المسلمين ، فرآه بعض الصالحين يفعل تلك المحرمات ، وهو مع ذلك صائم ، فقال له يا هذا تفعل ما تفعل وتصوم ؟ فقال: نعم أدع للصلح موضعا ولا أقطع الطرق كلها بيني وبين ربي ، قال فرأيته بعد مدة وهو يطوف بالكعبة وقد تاب ، فقال حين رأيته : إن ذلك الصوم أوقع الصلح بيني وبين ربي ، هذا معنى الحكاية .
فتبين بما ذكرناه أن الذي ينبغي للعبد أن يكون عل الخير المحض ، والطاعة الصرف فإن لم يتيسر له ذلك وعوقته عنه نفسه وشهواتها ، وأوقعته في شيء من الشرور والمعاصي فليتعلق ويستمسك من الخيرات والطاعات بما أمكنه وتيسر عليه ، والله هو الولي الحميد.
(1/64)

الفصل الثلاثون
للصحبة والمخالطة والمجالسة أثر كبير في الصلاح والنفع ، وكذلك في الفساد والضرر . عند مصاحبة ومخالطة ومجالسة الصالحين والأخيار ، أو الفاسقين والأشرار ، ولكن قد لا يظهر ذلك مرة واحدة ، بل بالتدريج وطول زمان الصحبة والخلطة في الخير مع أهله أوفي الشر مع أهله ، وقد قال عليه الصلاة والسلام ( المرء مع جليسه ) و(المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل ) وقال عليه السلام : ( مثل الجليس الصالح كبائع المسك ، إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه رائحة طيبة ، ومثل الجليس السوء مثل نافخ الكير ، إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة ) .
ومن أراد أن يعرف من خليطه وجليسه الزيادة في إيمانه ودينه وعمله ، أو النقص في لك ، فلينظر قبل المخالطة والمجالسة فيما عنده من معاني الإيمان والدين ، وفيما هو عليه من الأخلاق الحسنة ، والنيات المحمودة والعزائم القوية على العمل بالطاعات والحسنات ، ثم يخالط ويجالس ثم ينظر بعد ذك فيما تقدم ذكره ، فإن رآها قد ازدادت قوة وتأكدا ، وقد ازداد هو فيها رغبة وعليها حرصا فيعلم أن تلك المخالطة وتلك المجالسة قد نفعته في دينه وفي قلبه ، وأنه إن داود عليها وواظب أفضت به إلى نفع كبير ، وخير كثير إن شاء الله ، وإن نظر بعد المخالطة إلى ما عنده من تلك المعاني
(1/65)

الدينية فرأى فيها ضعفا وركة ، فليعلم أن تلك المخالطة قد ضرته في دينه وفي قلبه ضررا ظاهرا ، وإنه إن داوم عليها أفضت به إلى إضرار كبير وشر كثير والعياذ بالله .
وكذلك ينظر فيما لديه وفي نفسه من معاني الشر قبل المخالطة ثم بعدها .
وبهذا الميزان الذي ذكرناه فليزن أحواله في ضده مع مخالطيه ومجالسيه ، ثم ليعلم أن الحكم من ذلك للأقوى والأغلب في الخير والشر .
والمعنى أن الخير متى كان أقوى وأغلب كان المرجو للمخالط من أهل الشر الانجرار إلى الخير وأهله ، ومتى كان الشر هو الأقوى والأغلب كان المخوف على أهل الخير الانجرار إلى الشر وأهله ، وهذه معان دقيقة يعرفها أهلها من ذوي البصائر والتجارب ، في أمثال هذه المسالك . والتفصيل فيها يحتاج إلى تطويل ، وقد قال صلوات الله عليه وسلامه : ( الجليس الصالح خير من الوحدة والوحدة خير من جليس السوء ) . وقد أوتي صلوات الله وسلامه عليه جوامع الكلم ما لم يؤته غيره من الأولين والآخرين .
(1/66)

الفصل الحادي والثلاثون
خبر المؤمن التقي خير وأطيب من خبره وذكره ، وإن كان خبره وذكره حسنا طيبا . وكلما ازددت به معرفة وله خلطة ومعاشرة ازددت له محبة وتعظيما ، لما تعرفه وتراه في مخالطته ومعاشرته من إقباله على الله ، وتعظيمه لأمر الله ، ومسارعته في مرضاة الله ، ومواظبته على طاعة الله ، ومجانبته ومباعدته لمعاصي الله وشدة تحفظه واحترازه عن مساخط الله .
وخبر المنافق الفاجر شر من خبره وأخبث من ذكره . وإن كان خبره وذكره شرا وخبيثا أيضا ، وكلما ازددت به معرفة وله مخالطة ازددت له بغضا ومقتا ، لما تطلع عليه وتراه منه من التهاون بأمر الله ، والمسارعة في مساخط الله ، والتثاقل عن طاعة الله ، وقلة المحافظة على فرائض الله .
فتعرف بما ذكرناه أن خبر المؤمن خبر من خبره وأطيب وأن المنافق على الضد من ذلك.
وكذلك ينبغي أن تعتبر على قريب من هذا المعنى أصحاب المراتب الدينية ، من العلماء والصالحين ، وأصحابا لمراتب الدنيوية ، من الملوك والسلاطين ، فإن كان بحيث يكون الأقرب منهم والمتصل بهم على خير وصلاح ، دل ذلك على خيرهم وصلاحهم واستقامة أمورهم . وإن كان الأبعد من المتصلين بهم على خلاف ذل : ، ويكون سببه من جهة أصحاب المراتب إما ضعف عن القيام بحقوق ما تعرضوا له من حقوق تلك المراتب ، أو غفلة عن ذلك وتشاغل بغير ما هو الأولى بهم والأوجب عليهم .
(1/67)

وكلما كان الأبعد منهم أقل خيرية واستقامة والأقرب أكثر صلاحا وخيرية ، دل ذلك على خيرية أصحاب المراتب واستقامتهم ، ولكن مع ضعف عن القيام بما حملوه ، أو غفلة عن حسن النظر والتفقد لما ولوه ، وقد يكون سبب ذلك اتساع الدوائر ، وانتشار الرعايا ، وإلى نحو ذلك يشير قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر أيام خلافته : اللهم إنه قد كبرت سني ، وضعفت قوتي ، وانتشرت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع ، أو كما قال ، وقال أيضا لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضياعا لخشيت أن أسأل عنها .
فتبين بما ذكرناه أن المراتب الكبيرة ، والدوائر الواسعة ، لا يصلح ولا يتأهل للقيام بها من فيه ضعف عن القيام بذلك ، وعن حسن النظر والتفقد لما هنالك ، ولعل ذلك وما في معناه هو الذي حمل بعض الأكابر في الدين على البعد عنها ، والفرار منها ، إيثارا لجانب السلامة التي هي إحدى الغنيمتين ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها ) أي لا تطيق القيام بها ، والله سبحانه أعلم .
(1/68)

الفصل الثاني والثلاثون
صحبة أهل الدين وأهل الخير من العلماء ، وعباد الله الصالحين مخالطتهم ومجالستهم محبوبة ومرغب فيها ، وفيها منافع وفوائد عاجلة وآجلة ، وردت بها وفيها الأخبار والآثار الكثيرة ، ولكن الناس في طلب ذلك والحرص عليه ، والرغبة فيه على نيات ومقاصد ومطالب شتى ، أعلاهم وأولاهم في ذلك من يصحبهم ويخالطهم ليعلم من علومهم ، ويتأدب بآدابهم ، ويشاهد من أخلاقهم الحسنة ، وصفاتهم المحمودة ، وأعمالهم الصالحة وأقوالهم الطيبة ، ما يقتدي بهم فيه ، ويطالب نفسه ، بالاتصاف والتخلف به والعمل به ، وليس له هم ولا قصد إلا ذلك ، ولا سعي إلا له ، ولا حرص إلا عليه .
(1/69)

ومنهم من يصحبهم ويخالططهم محبة لهم ، ولما هم عليه من إيثار دين الله ، وإقامة أمره ، والإشتغال بطاعته ، والعمل بما يقرب منه ويزلف لديه ، من العلوم النافعة ، والأخلاق الحسنة ، والأعمال الصالحة ، فهو يحبهم لذلك ، ويرغب في مخالطتهم ، ويتشبه بهم ، ويطالب نفسه في أن تعمل وتتخلق بما يساعده عليه الفراغ ويتيسر له من ذلك ، وما لم يتيسر له منه فهو يتأسف على فوته ، ويود أن لو وفق له وتمكن منه ، وفي مثله يقال : (المرء مع من أحب) ، (ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .
ومنهم من يصحبهم ويخالطهم لتناله بركتهم ، وصالح دعواتهم ، من غير أ ن تكون له نية ولا عزيمة في الاقتداء بهم والتشبه بسيرهم ، فذلك لا يخلو من بركة وخير ، وهو داخل تحت عموم ما ورد في الحديث القدسي : ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) حتى إن الذي يجالسهم ليتحصن بيمن مجالستهم وبركتها من الظالمين والمعتدين ، من شياطين الإنس والجن ، لا يخيب ولا يحرم من بركتهم ، وإنما يحرم ويخيب من تكون نيته في صحبتهم والاختلاط بهم أن يعرف بذلك بين الناس ، فيتوصل به إلى شيء من الأمور المحظورة المحرمة في الشرع على توهم منه وظن فاسد أن الناس إذا عرفوه بخلطة أهل الخير والصلاح وصحبتهم لا يظنون به ولا يتوهمون فيه أن يرتكب المحارم ، ويقتحم المحظورات ، فلا يستبعد مثل ذلك ، فإنه قد يكون من بعض المخذولين المسخوط عليهم. وقد ذكر حجة الإسلام رحمه الله في أقسام الرياء في المراءى لأجله ، أن بعضهم يرائي بإظهار الطاعات ليعرف بذلك ، فيتمكن به من أفعال الفجور ، فإذا كان مثل ذلك قد يكون ، ففي خلطة الصالحين يكون مثله ، والشيطان عدو مبين ، وله أنواع كثيرة من التلبيس والتزوير ، التي هذا من جملتها ، وله منها أشياء أخطر من هذا وأنكر ، وأشر منه وأضر ، نسأل الله العافية والتحفظ ، فإنه خير الحافظين .
(1/70)

الفصل الثالث والثلاثون
طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ، وفي أكله ولبسه والاقتصار منه على قدر الضرورة والحاجة فوائد جليلة ، ونتائج جميله ، ومنافع كثيرة ، وثمرات عزيزة خطيرة ، وهو أصل كبير في تزكية القلب وتطهيره ، وتلطيفه وتنويره وتحليته وتزيينه بالعقائد الشريفة المستقيمة ، والصفات المنجيات والأخلاق الحسنة ، والجوارح بالأعمال الصالحة والطاعات الخالصة ، والأقوال السديدة .
ثم إن الحلال على درجات (أعلاها) وأطيبها الحلال المطلق الباقي على الإباحة الأصلية من جميع وجوهه ، وذلك كالماء الفرات وكالحشيش النابت في الموات ، وصيد البر والبحر المأكول الذي يمكن الإنسان تناوله والإجتزاء به ، فإذا أخذه الإنسان وتناوله على الوجه السائغ شرعا مع الاحتياط في ذلك ، وعلى نية التقوي والاستعانة به على طاعة الله وعبادته وإقامة أمره ، ومقتصرا منه على قدر الضرورة ، والحاجة كان بذلك آخذا للحلال المطلق .
وقد كان السلف الصالح رحمهم الله من أصر على أكل الحشيش حتى أخضر جسده ، وكان سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما إذا لم يجدا الحلال الذي هذا وصفه يسفان الرمل ، وكان يقوم لهما بالتغذية مقام الطعام ، ومن الحشائش الموجدة في بعض الجبال والأودية ما يمكن الإنسان التناول له والاقتصار عليه ، والله يعين العبد على قدر نيته وقصده .
(الدرجة الثانية) من درجات الحلال ما يكون حلالا مطلقا صافيا من إحدى جهتيه دون الجهة الأخرى ، ومثاله من يأخذ الحشيش والحطيب من الأودية مع الاحتياط في أخذ ذلك ، ثم يحمله إلى الأماكن التي يباع فيها فيبيعه ويشتري بثمنه ما يحتاجه من طعام وغيره، ويراعي أسباب الورع في جميع ذلك ، مع الاقتصار في طعامه ولباسه على ما لابد منه ، وقد درج على مثل ذلك جماعة من السلف الصالح .
(1/71)

(الدرجة الثالثة ) من درجات الحلال الذي لا يكون من جهتيه جميعا من ذلك الحلال المطلق ، ولكن يحصله صاحبه بالاكتساب بصناعة ، أو حرفة ، كالوراقة ، والخياطة ، والتجارة ، ونحو ذلك ، ويتعاطى أسباب التجارة ، من البيع والشراء ، ونحوهما ، وهو في جميع ذلك يأخذ بالتقوى ، والورع ،والتحري ، والاحتياط ، على نية صالحة في الاستعانة بما يحصله من ذلك على طاعة الله ، وإقامة أمره ، وعلى الاقتصار على ما لا غنى له عنه في طعامه ، ولباسه ، وسائر حاجاته ، وعلى نية التصدق والبذل بما زاد عنده من ذلك في وجوه الخير ، وسبل المعروف والبر لوجه الله تعالى .
(الدرجة الرابعة ) من الحلال أحوال المخلطين الذين لا يحترزون في معاملاتهم أخذا وتركا من الشبهات ولا يتحرون فيها . والغالب عليهم التساهل ، وقلة الأخذ بالتقوى فيما يأخذون ويتركون ، حتى تكثر الشبهة في أموالهم ، والتخليطات فيما بأيديهم ، وفيهم يقال : من لم يبال من أين يأخذ الأموال ، لم يبال الله به من أي باب يدخله من أبواب النار .
فهذه الأربع الدرجات هي درجات الحلال ، وتقابلها أربع من الدرجات هي درجات الحرام والمحظورات والشبهات والمشكلات .
(1/72)

(الأولى منها ) الحرام المطلق الذي لا يحل بوجه إلا عند الاضطرار ، وذلك مثل الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، والخمر (والدرجة الثانية ) ما هو حلال في نفسه ، كالحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، ولكنه مملوك لغيرك ، فإنه لا يزال محرما عليك ، إلى أن يصل إليك بوجه سائغ في الشرع ، من الشراء ، والهبة ، والإرث . ونحو ذلك . (والدرجة الثالثة ) الشبهات التي أصلها الحرام ، وإنما تصير حلالا بأمر مشكوك فيه ، لا يأخذ به أهل الحق والتقوى ، ولا يعولون عليه ، وإنما يقع فيه ويسارع إلى الأخذ له من قل علمه وتقواه ، وغلبت عليه نفسه وهواه ، ومن هذه الدرجة أيضا الشبهات التي أصلها الحلال ، ثم وقع الشك في تحريمها لمقتض اقتضاه ، أو شك عرض فيه ، وفي الحديث الصحيح (من وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) .وفيها أيضا حديث عقبة المشهور في المرأة التي كان تزوجها ، فجاءته امرأة سوداء فزعمت أنها أرضعته ، وأرضعت المرأة التي تزوج بها ، وأمثلة هذا القسم كثيرة . وقد أطال التفصيل في أقسامها حجة الإسلام رحمه الله ، في كتاب الحلال والحرام من الإحياء.
وأما المشكلات فأكثرها أو الكثير منها ما هو حلال في ظاهر العلم ، ولكن يكون في أخذه تساهل وقلة مبالاة مع من يعامله ويأخذ من يده ، وإسراف وتبذير وتوسع وتنعم ، فعند ذلك يضيق الحلال ، وتغلب المجازفة على الإنسان فيما يأخذه ، وفي معاملته وما يتقلب فيه من أنواع الشهوات ، وأصناف التنعمات . وقد قالوا : الحلال لا يحتمل السرف . وفي الحديث (لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ) ومن كلام بعض الصحابة رضي الله عنهم ، كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام ، وفي حديث الحسن ابن علي رضي الله عنهما ما يشير إلى ذلك (دع ما يريبك إلى ما يريبك) والله أعلم .
(1/73)

الفصل الرابع والثلاثون
من أضر الأشياء على الإنسان في حال صلاته ، وتلاوته للقرآن ، وذكره لله تعالى ، وساوس الصدر ، وكثرة الخواطر ، وحديث النفس بالماضيات والمستقبلات ، وإذا استغرق القلب بها وأمعن فيها أفسدت عليه حقيقة هذه العبادات ومعناها ، وما هو المراد منها ، وربما تفسد عليه صورة العبادة والظاهرة منها ، فيصير حاله كحال من لم يقم بها أصلا ، أو أسوأ حالا منه ، كما يعرف ذلك من يهتم له ويجربه ممن يهمه أمر دينه ، والقيام بحق ربه ، والسعي لأخوته .
ثم إن كانت تلك الخواطر وأحاديث النفس بطاعات لا تعلق لها بما هو فيه فذلك من خداع الشيطان وتلبيسه على الإنسان ، وترويجه الشر في معرض الخير ، وإن كانت بأمور من المباحات كان ذلك أنزل وأسفل ، وإن كانت بأمور أخرى من المعاصي والسيئات كان ذلك أسوأ وأقبح ،وربما يصد العبد بسببها عن حضرة الله تعالى ويكون من الممقوتين والمبعدين .
فليحذر العبد من ذلك كل الحذر ، ولا يخل نفسه وأحاديثها ووساوسها التي لا خير فيها ، وهو بين يدي الله تعالى يذكره ويناجيه ويصلي لوجهه ، ويتلو كتابه العزيز ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ) ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) .
(1/74)

الفصل الخامس والثلاثون
الاستقامة على الصراط المستقيم والسبيل القويم الموصل إلى الله تعالى من غير اعوجاج بحال ، ولا زيغ أمر متعذر ومتعسر جدا إلا على الأنبياء المعصومين ، والأكابر الصديقين ، من الأولياء المحفوظين ، قال الله تعالى لرسوله الأمين ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ) إلى قوله : ( واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) وقال تعالى : ( فاستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ) إلى قوله : ( وإليه المصير ) ، وقال تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ) إلى قوله : ( نزلا من غفور رحيم ) وقال تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استقيموا ولن تحصوا ، ولكن سددوا وقاربوا ، واعلموا أنه لن ينجو أحد بعمله ، فقالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " .
وقال سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قلت يا رسول الله : قل لي قولا في الإسلام لا أسأل عنه أحدا غيرك ، فقال : قل آمنت بالله ثم استقم . وقال عمر رضي الله عنه : استقيموا ولا تروغوا روغان الثعالب .
(1/75)

والاستقامة هي الخصلة الجامعة للعلوم النافعة ، والأخلاق الحسنة ، والأعمال الصالحة ، مع الثبات والاستواء ، من غير تزلزل ولا اضطراب ، ولا زيغ ولا التواء وقد قال بعض السلف : الكرامة الجامعة هي الاستقامة ، وقد رأى بعض الصالحين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، إنك قلت حين قيل لك قد شبت يا رسول الله : شيبتني هود وأخواتها ، فما الذي شيبك منها ، فقال عليه السلام قوله تعالى : ( فاستقم كما أمرت ) انتهى وفي الأحاديث الواردة شيبتني هود وأخواتها ، إنه هلاك الأمم ، قوله تعالى فيهم (ألا بعدا لعاد ) ( ألا بعدا لثمود ) ( ألا بعد لمدين ) وهذا لا ينافي ما ذكره الرائي في تلك الرؤيا ، بل كل ذلك في محله ، وله محمل صحيح ، وما جاءت به الروايات أعلى وأتم ، مما وقع في الرؤيا وإن كانت صالحة من صالح والله أعلم .
(1/76)

الفصل السادس والثلاثون
قال الله عز من قائل كريم : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، الم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ) إلى قوله : ( وأولئك هم المفلحون ) وقال تعالى : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) وقال تعالى : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور " الحديث.
(1/77)

ولما نزل قوله تعالى : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) سألوه صلوات الله عليه وسلامه عن ذلك الشرح ، فقال : إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح ، فقالوا : هل لذلك من علامة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله " فمن تأمل هذه الآيات الكريمات ، وهذه الأحاديث الصحيحة وما في معناها من آيات الكتاب العزيز والأحاديث النبوية وما جاء عن صالحي السلف رحمهم الله من أكابر الصحابة ، وصالحي التابعين ، والتباعين لهم بإحسان . وكان موقنا بالله ورسوله واليوم الآخر وما فيه من الوعد والوعيد والعذاب الأليم للكافرين والفاسقين ، ومن النعيم المقيم في جنات النعيم للمؤمنين من المتقين والمحسنين ، زهد في حطام هذه الدار . وفي شهواتها الفانية المكدرة ، المنغصة التي لا تصفو . ولا تدوم . وعظمت رغبته في الدار الباقية ، التي يدوم نعيمها ويتخلد ، ويصفو عن جميع الأكدار والمشوشات ، وشمر عن ساق الجد ، وجد واجتهد ، واستغرق جميع أوقاته ، وساعاته ، وأنفاسه وجميع حالاته وحركاته وسكناته ، فيما يعود عليه بالنفع في الدار الآخرة وينجو به من سخط الله وعذابه ، ولم يدخل في شيء من أمور الدنيا إلا فيما لابد له منه في الاستعانة على التفرغ للعلوم النافعة ، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة من البلاغ والوصول إلى ما هو بسبيله . فأما ما كان من الشهوات واللذات والتمتعات التي هي من شأن الغافلين والمعرضين الذين هم أشباه الأنعام والبهائم الذين قال فيهم تعالى : (أولئك كالأنعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون ) فيترك مشاركتهم فيها ومزاحمتهم عليها . ويكون كما قال الإمام الشافعي رحمه الله :
ومن يجهل الدنيا فإني عرفتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها عشت سلما لأهلها وإن تجتذبها جاذبتك كلابها
(1/78)

وقال آخر :
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
وقال آخر:
تنح عن الدنيا ولا تخطبنها فلا تخطبن قتالة من تناكح
فليس يفي مرجوها بمخوفها ومكروهها إذا ما تأملت راجح
إلى آخرها . والقصد أن العاقل اللبيب ، والحازم الأريب هو الذي يجعل أعظم اشتغاله ، وجل أوقاته في عمارة آخرته ، والتزود لمعاده ، ولا يصرف منها شيئا إلا فيما لابد له من الإعانة على ذلك ، مع الاحتياط والقرب من القلة ، ويكتفي باليسير من كل شيء من أمتعة الدنيا ، ويستمتع ويصغي إلى قول نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ( ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثلها كراكب سار في يوم صائف ، فقال تحت شجرة ثم راح عنها وتركها ) وقال عليه الصلاة والسلام : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء ) وقال عليه الصلاة والسلام : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " والله الموفق وهو الولي والمعين .
(1/79)

الفصل السابع والثلاثون
قال الإمام الشافعي رحمه الله : الدنيا ساعة فاجعلها طاعة . وقال البستي في قصيدته المشهورة :
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران
وقال الإمام إسماعيل المقري في قصيدته التي ينصح فيها ولده وأولها :
إلى كم تماد في غرور وغفلة وكم كهذا نوم إلى غير يقظة
أتنفق هذا في هوى هذه التي أبى الله أن تسوى جناح بعوضة
ولو نلت منها مال قارون لم تنل سوى لقمة في فيك منها وخرقة
إلى آخر ما أوصى به رحمه الله فتبين مما ذكرناه في الفصل السابق ، وفي هذا الفصل أن الذي ينبغي للعاقل الموقن الكيس أن لا يشتغل إلا بآخرته وبالعمل لها ، وبما يعين عليها مما لابد له منه في معاشه ، على الوجه الذي ذكرناه في الفصل السابق ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ) ( ما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) .
(1/80)

الفصل الثامن والثلاثون
قال حجة الإسلام رحمه الله في آداب الاستعداد لسائر الصلوات في البداية ولا ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة ، فتشتغل في كل وت منها بما اتفق وكيف اتفق ، بل ينبغي أن تحاسب نفسك ، وترتب أورادك ووظائفك في ليلك ونهارك وتعين لكل وقت شغلا لا تتعداه ولا تؤثر فيه سواه . فبذلك تظهر بركة الأوقات ، فأما من ترك نفسه سدى مهملا إهمال البهائم ، لا يدري بماذا يشتغل في كل وقت ، فينقضي أكثر أوقاته ضائعة ، وأوقاتك عمرك وعمرك رأس مالك ، وعليه أصل تجارتك ، و به وصولك إلى نعيم الأبد في جوار الله تعالى ، فكل نفس من أنفاسك جوهرة لا قيمة لها ، إذ لا بدل له ، وإذا فات فلا عود له ، فلا تكن كالحمقى المغرورين الذين يفرحون في كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعمارهم ، فأي خير في مال يزيد وعمر ينقص فلا تفرح إلا بزيادة علم أو عمل صالح ، فإنهما رفيقاك ، يصحبانك في قبرك حيث يتخلف عنك أهلك ومالك وولدك وأصدقاؤك .انتهى.
ثم قال رحمه الله في هذه الآداب واعلم أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة فلا يكن نومك بالليل والنهار أ:ثر من ثمان ساعات ، فيكفيك إن عشت ستين سنة مثلا أن تضيع منها عشرين سنة وهو الثلث . إلى أن قال رحمه الله فإن فعلت ذلك يعني ذكر الموت ، والاستعداد له ، و الصبر على طاعة الله تعالى فرحت عند الموت فرحا لا آخر له . وإن سوفت تساهلت جاءك الموت في وقت لا تحتسبه . وتحسرت تحسرا لا آخر له وعند الصباح يحمد القوم السرى . وعند الموت يأتيك الخبر اليقين ، ولتعلمن نبأه بعد حين . انتهى ما ذكره من هذه الآداب في بداية الهداية . وهي نهاية .
(1/81)

ويكفي العاقل الناسك المستيقظ العلم بما في هذا الكتاب المختصر عن غيره من الكتب المطولة في هذا الفن . وقد قال بعض علماء الشاذلية يكفي الصوفي المبتدي ما أودعه الإمام الغزالي رحمه الله ونفع به في (البداية) والمتوسط ما أودعه في (منهاج العابدين) ، والمنتهي ما أودعه وجمعه في (إحياء علوم الدين) انتهى ما قاله بمعناه .
والأمر على مثل ما ذكر لمن أخذ بالإنصاف ، وقصد التحلي بمحاسن الأخلاق والأوصاف والله الموفق لا رب غيره ، ولله در من يقول :
تزود للذي لابد منه فميعاد العباد إلى المعاد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
وقول صاحب القصيدة المشهورة التي أولها :
أراك وقد أضاء لك النهار عن النهج القويم لك أزورار
إلى أن قال :
سأنصح مرة وأشير أخرى أفاد النصح فيك أو الشوار
إذا ما اخترت عن أخراك دنيا لزخرفها فبئس الإختيار
إذا التبست المقاصد والمساعي فمن أشرارنا ومن الخيار
لعين بنا غصون مورقات من الآمال ليس لها ثمارُ
وهذه القصيدة قصيدة مباركة وهي لبعض أهل اليمن . وكانت تعجب سيدنا الشيخ القطب عمر المحضار بن عبد الرحمن ، وكذلك الشيخ القدوة فضل بن عبد الله التريمي الشحري رحمهما الله تعالى ونفع بهما وسائر عباد الله الصالحين .
(1/82)

الفصل التاسع والثلاثون
روي أن معاوية قال لضرار بن ضمرة : يا ضرار صف لي عليا . فقال له : أعقبني يا أمير المؤمنين فقال : لا أعفيك . قال : فأما إذا لم تعفني ، فكان رضي الله عنه بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، ويعجبه من الطعام ما خشن ، ومن اللباس ما قصر ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل وظلمته ووحشته ، وأشهد لد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، قائما في محرابه ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، قابضا على لحيته وهو يقول : يا دنيا غري غيري ، إلي تشوفت ، أم إلي تعرضت ، قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعمرك قصير ، وقدرك حقير ، وخطرك عظيم ، آه من قلة الزاد ، وبعد الطريق ، ووحشة السفر ، فبكى معاوية وجعل كمه على وجهه يستبق دمعه ما يملكه ثم قال رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك والذي ظهر بالقرائن من حال معاوية أنه اسف وندم على خروجه على علي ومقاتلته له وكذلك ندم غيره على الخروج ، مثل عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم ، وندم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على ترك القتل مع علي عليه السلام ولكن كان أ/ر الله قدرا مقدورا رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين .
وما أحسن ما قاله صاحب البردة فيها في الحث على التزود للآخرة .
أستغفر الله من قول بلا عمل لقد نسبت به نسلا لذي عقم
أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به ولا استقمت فما قولي لك استقم
ولا تزودت قبل الموت نافلة ولم أصل سوى فرض ولم أصم
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى أن اشتكت قدماه الضر من ورم
وشد من سغب أحشاءه وطوى تحت الحجارة كشحا مترف الأدم
وراودته الجبال الشم من ذهب عن نفسه فأراها أيما شمم
وأكدت زهده فيها ضرورته إن الضرورة لا تعدو على العصم
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخلق الدنيا من العدم
(محمد) سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم
(1/83)

وقال أيضا في قصيدته اللامية :
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسئول
في كل يوم ترجى أن تتوب غدا وعقد عزمك بالتسويف محلول
وقال الخليل بن احمد رحمه الله :
وما هي إلا ليلة بعد ليلة ويوم إلى يوم وشهر إلى شهر
مراحل يدنين الجديد إلى البلا ويدلين أشلاء الكرام إلى القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره ويسلبن ما يحوي الشحيح من الوفر
وقال غيره :
أراك يزيدك الإثراء حرصا على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما إليها قلت حسبي قد رضيت
وقال صاحب لامية العجم في آخرها :
يا واردا سؤر عيش كله كدر أنفقت صفوك في أيامك الأول
فيم اقتحامك لج البحر تركبه وأنت تكفيك منه مصة الوشل
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا يحتاج فيه إلى الأنصار والخول
(1/84)

الفصل الأربعون
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا تنفس يشم منه رائحة الكبد المشوي ، فقيل إن ذلك من شدة خوفه من الله تعالى ، وقيل من كمده وحزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، وقيل إنه من أثر سموم الحية التي لدغته ليلة الغار حين ألقم قدمه الجحر شفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل إنه من أكل طعام مسموم أكل منه هو ورجل من العرب ، أظنه يسمى الحارث وكان عنده شيء من الطب فأحس بما في الطعام من السم فقال لأبي بكر الطعام مسموم ، وإلى سنة أموت أنا وإياك من سمه . فذكر أنهما ماتا في يوم واحد . ولما مرض قيل له ألا ندعو لك طبيبا ، فقال قد نظر إلي الطبيب فقال : إني أفعل ما أشاء . وقيل إنه قال : الطبيب أمرضني يريد الرب تعالى ، ولما ثقل واستخلف عمر أوصى برد ما أصابه من بيت المال إلى عمر ، وكان شيئا قليلا فقال عمر : لقد أتعب من يأتي بعده .
وأما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فكان يأكل الشعير في خلافته ويرقع ثوبه ، وسيرته في ذلك معروفة . وكان يقرأ الآية من كتاب الله في صلاته من الليل فيغلب عليه الخوف فيسقط على وجهه ، فيمرض ولا يخرج من البيت ويعاد .
(1/85)

وأ/ا عثمان رضي الله عنه فكان يقدم للناس طعام الإمارة ، ويدخل البيت فيأكل الخبز ، ويستأدم بالزيت ، ولما تسوؤ البغاة عليه الدار ودخلوا عليه وذبحوه ، كان يقول : اللهم اجمع أمة محمد ، وكان المصحف في حجره فوقع شيء من دمه على قوله تعالى : ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) فقال بعض الصحابة عبد الله بن سلام أو يغره ، ول لم يدع بأن الله تعالى يجمع الأمة لم تجتمع الأمة بعده .
وأما علي رضي الله تعالى عنه فقد تقدم بعض ما وصفه به صاحبه ضرار حين سأله معاوية ، وكان يأكل الشعير في خلافته ويقصر كم قميصه إلى الرسغ أو إلى أطراف الأصابع ، وعوتب في خشونة العيش واللباس ، فقال ليقتدي بي المسلم ، ولا يزري على الفقير فقره أو كما قال رضي الله عنه .
وهكذا كانت سير السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم من التقلل في الدنيا والاقتصار منها على البلغة وما لابد منه من جميع متاعها وشهواتها . كما ذكر عنهم في سيرهم ، مثل عمار ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وأبي ذر ، وحذيفة ، وخباب ابن الأرت ، وعتبان بن مالك .
وكذلك عن أئمة التابعين : مثل الإمام علي بن الحسين زين العابدين ، وابنه الباقر ، وابنه جعفر ، وسعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، وأويس القرني ، وهرم بن حيان ، والحسن البصري ، وأبي حازم المدني ، وعطاء بن السائب .
(1/86)

وكذلك أتباع التابعين مثل الأئمة الأربعة ، والفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم ، وإبراهيم التيمي ، ومالك بن دينار ، إلى غير ذلك من أقرانهم وأشباههم من صالحي الأمة ، وخصوصا من أهل القرون الثلاثة الذين قال فيهم صلوات الله عليه وسلامه : خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم . قالها مرتين أو ثلاثا الحديث . وقال صلى الله عليه وسلم : في كل قرن من أمتي سابقون . والأمر كذلك ، ولكنهم يقلون ويستترون في الأزمنة ولا يفقدون كيف وقد قال عليه الصلاة والسلام : لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها ، وقد ذكرنا نبذة من أحوال هؤلاء السلف في خاتمة الكتاب ، المسمى (الدعوة التامة) وأشرنا إليهم في القصيدة العينية ، التي أولها :
يا سائلي عن غبرتي ومدامعي وتنهد ترتج منه أضالعي
وقد شرح هذه القصيدة السيد العالم العلامة الصوفي من خوص أصحابنا الشريف أحمد بن زين الحبشي علوي أمتع الله بن شرحا مبسطا ، وذكر فيه شيئا من مناقب المذكورين في القصيدة المشار إليها ، وحيث كان هذا الكتاب قصدنا فيه الاختصار فما طولنا بشرح شيء من مناقبهم ، نعم وهي مذكورة مبسوطة في مثل تاب سير السلف ، وكتاب مجمع الأحباب ، وتاب الإمام أبي طالب قوت القلوب ، وكتاب الإحياء لحجة الإسلام وغيرها من السير والتواريخ ، فليطالعها من أراد ذلك وقصد معرفة ما كان عليه السلف الصالحون من الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين لهم بإحسان ممن آثر الآخرة على الدنيا ، وقنع من الدنيا باليسير ، ولم يغتر بزخارفها ، ولم يقصد التمتع بشهواتها ، مع القدرة على ذلك والتمكن منه من الحلال .
ولله در القائل :
إن لله عبادا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا لفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
وقول أبي العتاهية :
ألا يا طالب الدنيا دع الدنيا لشانيكا
فما تصنع بالدنيا وظل الليل يكفيكا
وقول بشر بن الحارث :
أقسم بالله لرضح النوى وشرب ماء القلب المالحة
أجمل بالإنسان من حرصه ومن سؤال الأوجه الكالحة
فاستغن بالله تكن ذا غنى مغتبطا بالصفقة الرابحة
اليأس عز والتقى سودد وشهوة النفس لها فاضحة
من كانت الدنيا به برة فإنها يوما له ذابحة
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
* * *
(1/87)

خاتمة الكتاب
وتشتمل على آيات من كتاب الله عز وجل ، وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار من كلمات السلف الصالحين ، الهادين إلى سبيل الله ، نفع الله بهم .
* * *
قال الله عز وجل : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) ويروى أن هذه الآية هي آخر آية نزلت من القرآن ولم يعش بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نحو عشرة أيام وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) ، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) وقال تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) وقال تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وقال تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا اكبر إلا في كتاب مبين ) وقال تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) وقال تعالى : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) وقال تعالى : ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ) وقال تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) وقال تعالى : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ) وقال تعالى : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) وقال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأن الله لمع المحسنين ) وقال تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحلمها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) وقال تعالى : (
(1/88)

وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) وقال تعالى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ) .
(1/89)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له ، وقال عليه الصلاة والسلام : " بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من خاف أدلج ومن أدلج بل المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة " وقال عليه الصلاة والسلام : " رأس الحكمة خشية الله " وقال عليه الصلاة والسلام : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " وقال عليه الصلاة والسلام : " دع ما يريبك إلا ما لا يريبك " وقال عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ، إذا لم تستح فاصنع ما شئت " وقال عليه الصلاة والسلام : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، حد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " وقال عليه الصلاة والسلام : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " وقال عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " وقال عليه الصلاة والسلام : " ما رأيت كالجنة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها " وقال عليه الصلاة والسلام : " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " وقال عليه الصلاة والسلام : " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " وفي حديث آخر : " كلوا
(1/90)

في أنصاف البطون ، وعودوا الأجساد ما تعتاد فإن ذلك جزء من النبوة " أو قال من أجزءا لنبوة ، وقال عليه الصلاة والسلام : " ثلاث منجيات وثلاث مهلكات : فأما الثلاثة المنجيات فخشية الله في الغيب والشهادة ، والقصد في الغني والفقر ، وكلمة العدل في الرضى والغضب ، وأما الثلاث المهلكات فشح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه " وقال عليه الصلاة والسلام : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله تعالى اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخفا الله ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " وقال عليه الصلاة والسلام : " كأن الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب ، وكأن من نشيع من الموتى سفر عن قريب إلينا راجعون ، نبوءهم أجداثهم ، ونأ:ل تراثهم ، كأنا مخلدون بعدهم ، قد نسينا كل موعظة ، وأمنا كل جائحة ، وقال عليه الصلاة والسلام " تركت فيكم واعظين ، ناطق وصامت ، فأما الناطق فكتاب الله ، وأما الصامت فالموت " وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفنه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه " وقال عليه الصلاة والسلام : " إذا حدث في الناس تسعة أشياء : كان معها تسعة أشياء ، إذا كثر الزنى كثر موت الفجاءة ، وإذا منعوا الزكاة منعهم الله القطر ، وإذا طففوا المكيال أخذوا بالسنين ، وإذا جروا في الحكم عمهم الظلم والعدوان وإذا نقضوا العهد سلط الله عليهم عدوهم ، وإذا تركوا الأمر بالمعروف اضطربت عليهم الأمور ، وإذا تركوا النهي عن المنكر ملكهم أشرارهم وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال بأيدي الأشرار ، وإذا ارتكبوا المحارم طرقتهم الآفات " .
(1/91)

وقال علي كرم الله وجهه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، وقال هب أن الله قد تجاوز عن المسيئين ، أليس قد فاتهم ثواب المحسنين ، وقال رضي الله عنه : طوبى للزاهدين في الدنيا ، الراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا وترابها فراشا ، وماءها طيبا والدعاء والقرآن شعارا ودثارا ، فرفضوا الدنيا على منهاج عيسى عليه السلام .
وقال زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما : إن الله خبأ ثلاثا في ثلاث : خبأ رضاه في طاعته فلا تحتقروا من طاعته شيئا فلعل رضاه فيه ، وخبأ سخطه في معصيته فلا تحتقروا من معصيته شيئا فلعل سخطه فيه . وخبأ ولايته في خلقه فلا تحتقروا من عباده أحدا فلعله ولي لله ، وقال رضي الله عنه : سلاح اللئام قبيح الكلام .
وقال ابن محمد الباقر رضي الله عنه : كان لي صاحب ، وكان في عيني عظيما ، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه .
وقال ابنه جعفر الصادق : لقد عزت السلامة حتى خفي مطلبها ، فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول ، فإن لم تكن في الخمول فيوشك أن تكون في التخلي وليس كالخمول ، فإن لم تكن في التخلي فيوشك أن تكون في الصمت وليس كالتخلي ، فإن لم تكن في الصمت فيوشك أن تكون في كلام السلف الصالحين ، والسعيد من وجد في نفسه خلوة .
(1/92)

وقال الحسن البصري رحمه : فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فيها فرحا ، وقال إياكم وأماني المغفرة من غير سعي لها فإنها قد لعبت بأقوام حتى خرجوا من الدنيا مفاليس ، وقال إياك وهذه الأماني فإنها أودية النوكي يعني الحمقى ، وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يؤتي بالحلة بالألف درهم فيقول ما أ حسنها لولا خشونة فيها فلما استخلف كان يؤتى بالحلة بالعشرة الدراهم أو نحوها فيقول ما أحسنها لولا نعومة فيها ، وكان رضي الله عنه هو الذي نهى عن لعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرمه الله وجهه على المناب ، وأمر بأن يقرأ عوضا من ذلك ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) الآية . أو قوله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الآية . أو كلتا الآيتين ، وما أحسن قول الشريف الرضي في عمر بن عبد العزيز قال :
يا ابن عبد العزيز لو بكت العين فتى نم أمية لبكيتك
أنت نزهتنا عن السب والقذف فلو أمكن الجزاء جزيتك
دير سمعان لا أغبك غاد خير ميت من آل مروان ميتك
وقال أبو حازم المدني رحمه الله : ما مضى من الدنيا فحلم ، وما بقي منها فأماني ، وقال م تمد يدك إلى شيء من الدنيا إلا وتجد فاجرا قد سبقك إليه .
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى : إذا خرج من بيته يشده بحبل ، ويقول : لولا الكلاب لتركته مفتوحا ، وذلك لفراغه عن أمتعة الدنيا ، وجاءت امرأة فأخذت مصحفه وملحفته ، فجعل يتبعها ، وينادي ، يا هذه ألك ولد يقرأ ؟ ألك زوج يقرأ ؟ فقالت لا ، فقال ردي المصحف وخذي الملحفة .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل لأجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما ، وكان يقول ل كانت الدنيا ذهبا يفنى ، والآخرة خزفا يبقى ، لكان ينبغي لنا أن نؤثر خزفا يبقى على ذهب يفنى ، فكيف والآخرة ذهب يبقى والدنيا خزف يفنى .
(1/93)

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى : مررت بحجر مكتوب عليه أقلني تعتبر ، فقلبته فإذا عليه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل ، فكيفي تطلب علم ما لم تعلم ؟ وقيل له إن اللحم قد غلا ، فقال أرخصوه بالترك ، وقال أطب مطعمك وما عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار .
وقال رجل لداود الطائي رحمه الله : أوصني ، فقال له صم عن الدنيا ، واجعل فطرك الآخرة ، وفر من الناس فرارك من الأسد .
وقال معروف الكرخي رحمه الله تعالى : مررت بابن السماك وهو يعظ الناس ، فسمعته يقول من أٌبل على الله أقبل الله عليه ، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه ، ومن كان مرة بمرة كان الله كذلك ، فأخبرت مولاي علي بن موسى الرضا ، فقال يكفيك بما سمعت موعظة ، فتركت كل شيء يعني من أشغال الدنيا إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا رضي الله عنه .
وقال السري السقطي رحمه الله تعالى : من عرف الله تعالى عاش ومن أ؛ب الدنيا طاش ، والعاقل على نفسه فتاش ، والأحمق يغدو ويروح في لاش ، وقال الجنيد بن محمد رحمه الله تعالى : ما أخذنا التصوف عن القيل والقال ، ولكن عن الجوع والسهر وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات ، وسمعوه وقد حضره الموت وقد ختم القرآن وافتتحه من أوله ، فقيل له في مثل هذا الحال قال نعم ومن أولى بذلك مني وهو ذا نطوي صحيفتي .
وقال بشر الحافي :
مكرم الدنيا مهان مستدل في القيامة
والذي هانت عليه فله ثم الكرامه
ودخل عليه داخل في برد شديد وقد تجرد عن ثيابه فقال له في ذلك فقال ذكرت ما الفقراء عليه من مقاساة البرد ، ولم يكن عندي ما أواسيهم به فواسيتهم بنفسي .
وقال الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى : من زين باطنه بالمراقبة والإخلاص ، زين الله ظاهر بالمجاهدة واتباع السنة .
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى : تركت الدنيا لكثرة غنائها ، وسرعة فنائها ، وقلة غنائها ، وخسة شركائها .
(1/94)

وقال سهل التستري رحمه الله تعالى : لا معين إلا الله ، ولا دليل إلا رسول الله ، ولا زاد إلا التقوى ، ولا عمل إلا الصبر .
وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى : ( من ظن أنه بجهده يصل فهو متعن ، ومن ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمن .
وقال أبو الحسن الشعراني رحمه الله تعالى : رأيت منصور بن عمار رحمه الله تعالى في المنام ، فقلت ما فعل الله بك . فقال أوقفني بين يديه ، وقال أنت منصور بن عمار ؟ فقلت بلى يا رب ، فقال أنت الذي كنت تزهد الناس في الدنيا وترغب أنت فيها ، قلت قد كان ذلك ولكني ما اتخذت مجلسا إلا وبدأت فيه بالثناء عليك ، وثنيت بالصلاة على نبيك محمد صلى الله عليه وسم ، وثلثت بالنصيحة لعبادك ، فقال عزو وجل صدق ، ضعوا له كرسيا يمجدني في سمائي بين ملائكتي كما كان يمجدني في أرضي بين عبادي .
وروي أنه مر بمجلس منصور بن عمار رحمه الله غلام مملوك لبعض التجار ، فسمعه يقول : من أعطى هذا الفقير أربعة دراهم ، بعثه سيده ليأخذ له بها حاجة ، فدفعها إلى الفقير ، فدعا له ورجع إلى سيده بلا شيء فسأله عن الدعوات التي دعا بها ، فقال : أن يخلصني الله تعالى من الرق ، فأعتقه قال والثانية ، فقال : أن يخلف الله الدراهم ، فقال لك أربعة آلاف درهم ، قال والثالثة : قال : أن يتوب الله علي وعليك ، فقال إني تبت إلى الله . قال والرابعة : قال : أن يغفر الله لي و لك ، وللمذكر وللقوم فقال الرجل أما هذه فليست إلي ، فلما نام الرجل رأى في منامه الحق عز وجل ، فقال أتراك تفعل ما إليك ولا أفعل ما إلي ، قد غفرت لك وللغلام وللمذكر وللقوم ، فسبحانه تعالى ما أجوده وأكرمه وأعظمه وأرحمه ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير .
(1/95)

وليكن هذا آخر ما يسره الله تعالى من إملاء هذا الكتاب . والله الهادي إلى الحق والصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وتنزيله سيدنا ومولانا محمد الذي أرسله رحمة للعالمين وختم به النبيين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى أصحابه الهادين المهتدين ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله وما أنا من المشركين )
وكان الفراغ من إملائه بكرة يوم الخميس ثاني عشر شهر صفر الخير ، أحد شهور سنة 1130 ثلاثين ومائة وألف من الهجرة النبوية ، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام .
وكان الكلام في هذه الفصول قد وقع الوقوف عنه من مدة من غير سبب ظاهر أكثر من أن نلحق بها ما يناسبها ويوافقها من الكلام الذي ذكرناه في أولها ، فلم طال ذلك ، ونقلها الناس ، ولم يتفق تمامها ، هممنا بإتمامها على بركة الله ، وذلك من أول فصل الاستقامة ، وليست هذه الفصول المتأخرة مطابقة من كل وجه لما سلف من الفصول ، ولكنها كثيرة الفوائد ، حسنة المصادر والموارد ، لمن نأمل ذلك وكان من أهل العدل والإنصاف وكل ذلك من فضل الله ومن بركات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبركات السلف الصالح الذين ننتسب إليهم ونحب السلوك لطريقهم والتأسي بهم ، رزقنا الله ذلك ووالدينا وأولادنا وأحبابنا وأصحابنا وجميع المسلمين ، وختم لنا ولهم بالحسنى والإحسان في لطف وعافية وحف وسلامة من جميع الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، غفرانك ربنا وإليك المصير .
(1/96)

Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "الفصول العلمية والأصول الحكمية - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab alhaddad-4"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip