//

الدعوة التامة و التذكرة العامة - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-3





سلسلة كتب الإمام الحداد (2)
***************************
الدَّعوة التَّامَّة و التَّذكِرَة العامَّة
***************************
تأليف:
الإمام شيخ الإسلام قطب الدعوة والإرشاد
عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد
الحسيني الحضرمي الشافعي
رحمه الله تعالى
(1044-1132هـ)

الناشر: دار الحاوي للطباعة والنشرو التوزيع
الطبعة الرابعة سنة 1421هـ





بسم الله الرحمن الرحيم

 { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، الملك القدوس السلام، المؤمن المهيمن العلام. الذي منَّ علينا بأن هدانا إلى الإيمان والإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس والأنام، وبيَّن لنا في كتابه العزيز المبين، على لسان رسوله الصادق الأمين، شرائعَ الدِّين من الحدود والأحكام، ومناهج الحلال والحرام، وميَّز لنا بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلالة، والطاعات والآثام؛ فوضحت بذلك المحجة للسالكين المهتدين، وقامت به الحجة على التاركين المعتدين.
وله سبحانه وتعالى النعمة السابغة، والحجة البالغة على جميع العالمين من كل خاص وعام. خلق الخلق لما يشاء،
(1/9)

واستعملهم فيما يشاء رحمة وفضلاً، وحكمة وعدلاً، ونوَّعهم في ذلك وفي غيره من أحوالهم وأفعالهم وسيرهم، وصوَّرهم على أنواع، وقسمهم فيه على أقسام؛ ليدل بذلك على عظيم قدرته الباهرة، وعلمه المحيط، ومشيئته القاهرة، وشؤونه الباطنة والظاهرة. وليس في شيء من ذلك بجائر على عبيده ولا بظلام. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. خلق الجنة وخلق لها أهلا؛ فهم بعمل أهل الجنة يعملون. وخلق النار وخلق لها أهلا؛ فهم بعمل أهل النار يعملون. وهم في جميع ذلك لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة، ولا نشوراً. وليسوا بذلك في حال تقصيرهم عن القيام بحقه، والإمتثال لأمره، والوفاء بعهده، ولا في ارتكاب نهيه، والعمل بمعصيته يعذرون؛ مهما كانوا مختارين وغير مستكرهين ولا مقهورين ولا مجبورين. وقد هلك المتنطعون والمتعمقون، والمترخصون المحتجون على ربهم، الذين قال فيهم عز من قائل: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } (1)
__________
(1) - يكذبون.
(1/10)

فله سبحانه الحول و الطول(1)، والفضل والإحسان، والمن والإنعام. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، الذي أرسله رحمة للعالمين، وختم به النبيين، وجعله سيد المرسلين، وأكرم السابقين والاحقين، وأول الشافعين والمشفعين، وعلى أهل بيته الطاهرين الكرام، وعلى أصحابه الأئمة الأعلام، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والقيام، والحشر إلى الله والحساب والوزن، والعبور على الجسر الذي تثبت عليه أقدام وتزل عنه أقدام { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } والسخط والإنتقام، { وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ }. اللهم إن بك العياذ واللياذ، والإستعانة والإعتصام. نعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن شر كل شيطان مارد، وجبار معاند، وباغ وحاسد، ومن شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها،
__________
(1) - الحول (بسكون الواو): القدرة. والطول (بفتح الطاء): الغنى والسعة.
(1/11)

وأنت الرحيم الغفور، تجير ولا يجار عليك، ولا منجا منك إلا إليك. اللهم اهدنا بهداك، واجعلنا ممن يسارع في رضاك، ولا تولنا وليا سواك، ولا تجعلنا ممن خالف أمرك وعصاك. وحسبنا الله ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }، { وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً }، { نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
، { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }، الذي تفرد بالقدم، وتوحد بالبقاء والدوام.
أما بعد _ فهذا مؤلف مبارك إن شاء الله، ومجموع جمعناه بعون الله، ذكرنا فيه نبذا وأطرافا من النصائح والوصايا، والآداب العلمية والعملية، التي يتعين أو يتأكد الأخذ بها والإتصاف بحقائقها ومعانيها، وقصدنا بذلك النصيحة والوصية والتأديب لأنفسنا ولإخواننا في الدين من المؤمنين والمسلمين. وفقنا الله وإياهم لمرضاته، وجعلنا وإياهم ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، ويشكره ويذكره ذكرا كثيرا، ويسبحه بكرة وأصيلا. والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، والمرء حيث قصده لا حيث جسمه،
(1/12)

و{ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا }، { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }، { وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )(1) الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام: ( من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى )،(2)
وقال عليه الصلاة والسلام: ( أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرُش(3)، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خَلاقَ لهم )(4)
اللهم اجعل ما علمتنا حجة لنا، ومحجة إلى رضاك وجنتك،
__________
(1) - رواه مسلم وابن ماجه واللفظ له، عن أبي هريرة.
(2) - رواه أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت. والمراد: أنه لا ينوي إلا الغنيمة.
(3) - أي الذين يموتون على فرشهم، وهم على نية الجهاد في سبيل الله. أويموتون في طاعون، أو بغرق أو حرق، أو داء بطن.
(4) - رواه الطبراني في الكبير عن عمرو بن النعمان بدون قوله: (بأقوام لا خلاق لهم ). وفي رواية له عن ابن عمرو: (إن الله ليؤيد الإسلام برجال ماهم من أهله ).
وقوله: (لا خلاق لهم ): أي لا نصيب لهم في الخير.
(1/13)

ولا تجعله حجة علينا، ولا سبيلا إلى سخطك ولا إلى النار التي هي دار عقوبتك. اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا. والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من أحوال أهل النار. وقد سَمَّينا هذا التأليف:
..... الدعوة التامة والتذكرة النافعة.....
ورتَّبناه على مقدمة، وذكر ثمانية أصناف، وخاتمة.
فأما المقدمة:
فنذكر فيها شرح الدعوة إلى الله وإلى دينه وسبيله.
وأما الأصناف:
... فالصنف الأول - العلماء.
... والصنف الثاني - أهل الزهد والعبادة.
... والصنف الثالث - أهل الملك والسلطنة ونحوهم.
... والصنف الرابع - أهل التجارات والصناعات ونحوهم.
... والصنف الخامس - أهل الفقر والضعف والمسكنة.
(1/14)

... والصنف السادس- الأتباع من الأولاد والنساء والمماليك.
... والصنف السابع - أهل الطاعة وأهل المعصية من العامة.
... والصنف الثامن - من لم يستجب لدعوة الله ورسوله ولم يؤمن بالله واليوم الآخر.
وأما الخاتمة:
فتكاد تنعطف على نصيحة هؤلاء الأصناف الثمانية على وجه وجيز، وعلى نصائح ومواعظ ورقائق، وبتمامها يتم الكتاب، والله هو الهادي إلى الحق والصواب، ومنه نسأل العون والتأييد، ونستمد التوفيق والتسديد؛ هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب.
وهذا أوان الشروع في المقصود، وبالله الإستعانة وعليه البلاغ، لا إله غيره ولا رب سواه، ولا معبود ولا مقصود إلا إياه، وله الفضل والإحسان والنعمة والإمتنان، أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
* * *
(1/15)

(1/16)

المقدمة
*****
… ونذكر فيها الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه وسبيله، والأمر بذلك وفضله والحث عليه. وفيها التنبيه على مسائل مهمة، وفوائد جمة.
* * *
… قال الله العلي العظيم، القوي المتين في كتابه العزيز المبين، لرسوله الصادق الأمين: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }، وقال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }، وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }، وقال تعالى: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
(1/17)

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
فالدعاء إلى الله وإلى سبيله ودينه وطاعته، وصف الأنبياء والمرسلين ودأبهم وبه وله بعثهم الله وأمرهم وأوصاهم، وعليه حثهم وحرضهم، وعلى ذلك اتبعهم واقتدى بهم ورثتهم من العلماء العاملين والأولياء والصالحين من عباد الله المؤمنين؛ فلم يزالوا على كل حال وفي كل زمان وحين يدعون الناس إلى سبيل الله وطاعته، بأقوالهم وأفعالهم، على غاية من التشمير والجد في ذلك؛ ابتغاء لمرضاة الله، وشفقة على عباد الله، ورغبة في ثواب الله، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )(1) وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( الدال على الخير كفاعله )(2).
__________
(1) - رواه ابن ماجه عن أبي هريرة.
(2) - رواه البزاز عن ابن مسعود، والطبراني عنه، وعن سهل بن سعد.
(1/18)

وما ورد من الآيات والأخبار والآثار في الأمر بالدعاء إلى الله وإلى سبيله وفي فضل ذلك كثيرة شهيرة.
وكل ما ورد في فضل نشر العلم وتعلمه، وفي فضل الوعظ والتذكير، بل وفي فضل الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل ومندرج في فضل الدعاء إلى الله تعالى وإلى سبيله؛ فإن جميع ذلك من أنواعه وأقسامه.
ومن قصَّر عن الدعاء إلى الله وإلى دينه من المتأهلين له مع التمكن منه، فإنه داخل تحت عموم الوعيد الوارد في حق من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى وفي ذلك وعيد شديد، وعذاب وبيل، وذم من الله بليغ؛ قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ } إلى قوله تعالى: { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ }.
وقد أخذ الله المواثيق والعهود على الذين آتاهم كتابه وعلمه وحكمته في أن يدعوا عباده إلى ذلك، ويبينوه لهم؛ كما قال تعالى: { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }.
(1/19)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار )(1). والسؤال بلسان المقال ظاهر جلي، ولا يبعد أن يكون السؤال بلسان الحال مثله أو قريباً منه، وقد قيل: ( لسان الحال أفصح من لسان المقال).
فإذا رأى ونظر العالم بدين الله، المذكر بأيام الله، الداعي إلى سبيل الله إلى الجاهلين بالعلم، الغافلين عن الآخرة، المقبلين على الدنيا، لم يسعه إلا أن يبين لهم ما يجب عليهم من حق الله، ويلزمهم من طاعته وإقامة أمره، واجتناب معصيته وركوب نهيه.
فأما العلماء المقصِّرون، الذين قد غلب عليهم التفريط والتخليط فليس يهمهم ذلك، وربما لم يخطر لهم على بال؛ لأنهم قد شاركوا الجهال في الإضاعة والإهمال، وسيئ الأعمال والأقوال. فليسوا يتميزون عليهم إلا بصورة العلم ورسومه، التي على ألسنتهم وظواهرهم فليس أولئك من
__________
(1) - رواه أحمد عن أبي هريرة.
(1/20)

أئمة الهدى، ولا من دعاة الخير، ولا أدلاء الطريق إلى الله الملك العظيم. بل قد يكون من يكون هو السبب في جراءة العامة وتجاسرهم، واسترسالهم فيما لا خير فيه من الأقوال والأفعال التي تسخط الله ورسوله. وذلك أن العامة إذا رأوا المنسوبين إلى العلم والدين، يتهاونون ويتساهلون في إقامة أمر الله وفرائضه، ولا يسارعون في طاعته بما حملهم ذلك على الإهمال والإضاعة لأمور الدين؛ بل ربما جرأهم ذلك على الوقوع في المهلكات والجرائم الموبقات؛ فصار العلماء الكائنون بهذه المثابة من دعاة الشر وأئمة الضلالة، من حيث يعلمون أو من حيث لا يعلمون. فنعوذ بالله من الإنعكاس والإنتكاس، ونسأله العافية من كل محذور وباس لنا ولأحبابنا وللمسلمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
ثم إنه ليس يسع أهل الحق والدين من العلماء الراسخين، الناصحين لله ورسوله وللمسلمين، بعد ما قد رأوا وشاهدوا بالعيان من إعراض العامة عن العلم والهدى، وعن إقامة الأمور الإلهية، والفرائض الدينية، وركوب المحرمات الشرعية والرضا بالجهل بدلاً من العلم، والضلالة عوضاً عن الهدى،
(1/21)

والباطل خلفاً عن الحق؛ مع الإكباب على الشهوات، والسعي في نيل الحظوظ الفانيات، وإيثار الدنيا على الآخرة، والرضا بما يذهب ويفنى بدلا عما يدوم ويبقى أن يسكتوا عن أمرهم ونصيحتهم، وإقامة أمر الله فيهم، ودعوتهم إلى الهدى والخير، ونهيهم عن الشر والمنكر. وأن يبذلوا في ذلك وسعهم واستطاعتهم، ويستفرغوا في ذلك جهدهم وطاقتهم؛ فإن ذلك واجب عليهم إما على الأعيان، وإما على الكفاية؛ ليس لهم في ذلك عذر، ولا في تركه سعة، وقد علمهم الله علمه، واستحفظهم دينه، وأورثهم كتابه وسنة رسوله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يُوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما وَرَّثوا العلم )(1) الحديث.
وفي حديث آخر: ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )(2).
__________
(1) - روى عن أنس كما في الجامع الصغير: (العلماء ورثة الأنبياء). روى أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا ما رواه المصنف، وصححه ابن حبان والحاكم، وحسنه بعضهم، وضعفه آخرون لاضطراب سنده؛ لكن له شواهد وله طرق يعرف بها أن له أصلا؛ كما قاله الحافظ ابن حجر - اه-. عجلوني.
(2) - جزم بأنه حديث الفخر الرازي وابن قدامة والأسنوي والبازري وآخرون. ولكن قال السيوطي في الدرر وابن حجر: لا أصل له - اه-. عجلوني.
(1/22)

وكان يبعث في بني إسرائيل النبي بعد النبي مجددين لشريعة موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام وداعين لهم إلى إقامتها ومحرضين على العمل بها، ومخوفين لهم من إضاعة أمر الله وركوب نهيه، وذلك بوحي من الله يوحيه إليهم، كما يعرف ذلك من نظر في أخبارهم وقصصهم، إلى أن بعث الله عيسى بن مريم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام بشريعة ناسخة لشريعة موسى عليه السلام فكفر به بنو إسرائيل وكذبوه، وبهتوا أمه عليها السلام)(1).ثم وقعت الفترة بعد عيسى عليه السلام، إلى أن بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم بالقرآن والشريعة الجامعة الناسخة لما تقدمها من الشرائع، فكفرت به اليهود والنصارى، وكذبوه إلا من شاء الله منهم.
ولما جعل الله محمدا صلوات الله وسلامه عليه خاتم النبيين والمرسلين، فقال عز من قائل: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } فختم به النبوة والرسالة، __________
(1) - كذبوا عليها بأقوال باطلة.
(1/23)

وجعله كمالها وتمامها. كما قد جعل به ابتدائها وافتتاحها جعل به انتهائها وختامها، فليس بعده نبي ولا رسول جعل بفضله وجميل طوله وامتنانه من علماء أمته الذين هم من ورثته وخلفاؤه وحملة شريعته، والأهم في دينه، من يشبه أنبياء بني إسرائيل من بعض الوجوه أو من أكثرها وإن كانت النبوة لا سبيل إليها، ولا مطمع فيها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال والسبيل إليها مسدود وأيضا فالاكتساب والاجتهاد لا يوصل إليها، ولا تنال به ولا في الوقت الممكن وقوعها فيه، وذلك من قبل بعث محمد صلوات الله عليه، وقد ختم النبوة والرسالة به.
فحيث كان الأمر على حسب ما قد لمت وسمعت، جعل الله في هذه الأمة المحمدية الدعاة إلى الهدى، والمجددين لما اندرس من أعلام الدين، وانطمس من معالم اليقين، ووقع التقصير فيه والغفلة عنه من إقامة الأوامر الإلهية والنواهي الشرعية.
وإلى ذلك يشير ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها على رأس كل مائة سنة).
قال العلماء رحمة الله عليهم: فكان على رأس المائة الأولى الخليفة الصالح (عمر بن عبد العزيز الأموي القرشي)
(1/24)

- رحمه الله - (1).
وعلى رأس المائة الثانية الإمام (محمد بن إدريس الشافعي المطلبي) رحمه الله(2).
وعلى رأس المائة الثالثة الإمام (ابن سريج الشافعي)(3) أو الشيخ (أبو الحسن الأشعري)(4).
وعلى رأس المائة الرابعة القاضي (أبوبكر الباقلاني المالكي )(5) أو الشيخ (أبو حامد الأسفرايني الشافعي)(6).
وعلى رأس المائة الخامسة الإمام حجة الإسلام (أبو حامد الغزالي)(7).
ووقع الخلاف في المجدد على رأس المائة السادسة، والسابعة، والثامنة، و التاسعة، والعاشرة التي بتمامها يتم الألف من حين هجرته صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) - المتوفى سنة 101ه-.
(2) - المتوفى سنة 204ه-.
(3) - وهو الملقب بالباز الأشهب المتوفى سنة 306ه-. ببغداد.
(4) - المتوفى سنة 324ه-.
(5) - المتوفى سنة 403ه-.
(6) - المتوفى سنة 406ه-.
(7) - المتوفى سنة 505ه-.
(1/25)

وبها وقع ابتداء التاريخ في خلافة أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) بإشارة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وكذا وقع اختلاف في المجدد على رأس المائة الثالثة والمائة الرابعة، كما أشرنا إلى بعض ذلك. وذكر الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في كلام له على معنى هذا الخبر الوارد فيمن يجدد لهذه الأمة دينها على رأس كل مائة سنة، أنه محتمل أن يكون المجددون على رأس كل مائة سنة جماعة من العلماء الأئمة، يحصل بمجموعهم التجديد للدين. وهذا الذي ذكره محتمل من حيث اللفظ والمعنى. وحيث لم يذكر السلف الصالح فيمن قد عينوه وعرفوه لتجديد القرون الأول سوى واحد على احتمال فيه أو مع اختلاف؛ فصار ما ذكره الحافظ السيوطي مما يتوقف فيه وقد طال العهد بالوقوف على ما ذكره. والذي يظهر ويقع في الخاطر أن هذا حاصله، والله هو العليم الخبير.
ويكون هذا التجديد من خواص هذه الأمة المحمدية، لكون نبيهالا نبي بعده ولا رسول (صلوات الله وسلامه عليه وعلى جمع الأنبياء والمرسلين) وقد بلغنا أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي بموته
(1/26)

، شكت الأرض إلى ربها أنه لا يمشي عليها بعده نبي؛ فجعل في هذه الأمة الأوتاد والأبدال، وأمثالهم من أولياء الله وأهل معرفته الذين هم ورثة الأنبياء وخلفاؤهم، حتى إنه قد ورد: أن منهم من قلبه على مثل قلب إبراهيم الخليل عليه السلام وغيره من أنبياء الله وملائكته عليهم السلام، على وفق ما ورد في الأخبار والآثار الواردة في هذا الباب.
وفي الحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وفيه (ليجدن ابن مريم قوما من أمتي هم مثل حوارييه) الخبر.
وفي كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. اللهم لا تخلو الأرض من قائم لك بحجة، إما ظاهر مشهور، أو خامل مقهور، إلى آخر ما روي عنه.
فدل ما ذكرناه وما لم نذكره مما في معناه على أنه: لا يزال في هذه الأمة من يدعوا إلى الله وإلى سبيله، وإقامة دينه وحفظ أمره في كل زمان ومكان. وإن فسد الزمان وغلب الباطل، وتظاهر أهل البغي والعدوان،
(1/27)

فإن الدينَ مؤيَّدٌ بتأييد الله، وظاهرٌ بإظهار الله، كما قال عز من قائل: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }.
ثم إنه لا عذر للجاهل في ترك طلب ما فرض الله عليه من العلم؛ كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، ولا عذر لعالم في ترك تعليم ما علمه الله من العلم المفروض تعلمه، إما على العين وإما على الكفاية.
والعلم الذي في ذكره ونشره النفع للخاص والعام: هو العلم الذي يدعو من الدنيا إلى الآخرة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى اليقظة. ويكون ذكر ذلك وإيراده مقرون بالوعظ والتذكير، والتخويف والتحذير، وبيان الوعد والوعيد، وما أعد الله من أنواع المثوبات لأهل الطاعات والإحسان، ومن أنواع العقوبات لأهل الإساءة والعصيان، على نحو ما شرحه الله وبينه في آيات القرآن، وعلى لسان رسوله المبعوث بالهدى و البيان؛ فبمثل ذلك ترق القلوب وتخشع، وتنقاد النفوس وتخضع؛ قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }،
(1/28)

وفي حديث حنظلة رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نكون عندك فتُذَكِّرَنا بالجنة والنار، حتى كأنا نراها رأي عين ما يُنَبِّه على ذلك.
فترى كتاب الله وسنة رسوله مشحونين بذكر الترغيب والترهيب، والتبشير والتحذير في خلال الآيات والأحاديث التي فيها، وشرح الأحكام وبيانها.
وكانت مجالس العلماء العاملين والأئمة المهتدين معمورة بذلك، وكان منهم جماعة يقعدون على الكراسي ويجتمع عليهم الجم الغفير من المسلمين، فيعظونهم ويذكرونهم بأيام الله وبآلائه، ويحثونهم على إقامة أوامره واجتناب نواهيه. وكان الناس ينتفعون بذلك، وتظهر عليهم الآثار المحمودة من الخوف والبكاء، والمسارعة إلى التوبة والرجوع إلى الله، و ذلك معروف ومشهور من سيرهم سلفا وخلفا؛ مثل: الجنيد بن محمد (1) سيد الطائفة في زمنه، وأبي جمرة البغدادي، ويحيى بن معاذ الرازي (2) -من المتقدمين -.
__________
(1) - المتوفى ببغداد سنة 297ه-.
(2) - المتوفى بنيسابور سنة 258ه-.
(1/29)

ومثل: الإمام الغزالي، والشيخ محيي الدين عبد القادر الجيلاني (1)، والشيخ السهروردي(2) صاحب العوارف (من المتأخرين) وأمثال هؤلاء من أئمة الدين ودعاة الخير وأدلاء الطريق، إلى ضعف هذا الأمر، وقلت الدعوة إلى الله؛ فغلبت الغفلة على العامة، واستولى عليهم الإعراض عن الآخرة، والإقبال على الدنيا وزخارفها؛ لقلة المذكرين، والدعاة إلى الله على البصيرة واليقين، حتى صارت مجالس المنسوبين إلى العلم والدين في مثل مجالس الغافلين المعرضين المشغولين بحديث الدنيا وذكر أحوال أهلها؛ فلذلك عم البلاء، واستطال الداء، وخرست ألسن المذكرين بالله، وغلب الجهل والغفلة على عامة الناس، حتى توهم من ليس له علم بأحوال من مضى من أهل الحق والهدى: أن الشأن على مثل ذلك كان، وهيهات هيهات لِلَّهِ ولا مرد لما قد ذهب وفات لِلَّهِ ذهب العلم بذهاب أهله وذهاب الطالبين له والراغبين فيه، وفي الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض أهله؛ __________
(1) - المتوفى ببغداد سنة 561ه-.
(2) - المتوفى سنة 632ه-. ببغداد. ويكنى أبا حفص.
(1/30)

حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا، إذا سئلوا أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (1).
فانظر كيف صار نطق هؤلاء الجهال المترسمين أضر على الناس من سكوتهم! تعرف به فرقا بين علماء الدين الذين هم ورثة الأنبياء وأئمة الهدى، وبين الجهال المتشبهين بهم والمترسمين برسومهم في رأي العين وظواهر الأحوال هؤلاء ينفعون الناس بعلمهم، ويهدون الناس بهديهم، ويبينون للناس سبيل ربهم وما فيه فوزهم ونجاتهم في معادهم ومماشهم. والآخرون يضلون الناس بفتواهم، ويلبسون عليهم أمرهم.
وسيأتي فيما بعد مزيد شرح في أحوال الجهال المترسمين المتشبهين بالعلماء في ظواهر أحوالهم مع إفلاسهم عن حقائق العلم والتقوى، وإخفاقهم من بضائع الدين والهدى من طوائف المغرورين الذين غرتهم الحياة الدنيا، وغلي عليهم اتباع الهوى المشار إليه بقوله عز من قائل: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }
__________
(1) - رواه أصحاب السنن عن ابن عمر.
(1/31)

وقد ظهرت البدع والمحدثات، وفشت المنكرات، واستولت الغفلة والإعراض عن الله وعن الدار الآخرة على الخاص والعام؛ فلم يبق عذر لأهل الحق والدين من أهل العلم واليقين في السكوت عن بيان الحق والهدى، والدعاء إلى الله وإلى سبيله بالأقوال والأفعال، والسعي بكل مستطاع وممكن في إماتة البدع والمحدثات وإزالة المنكرات؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ظهرت الفتن (أو قال البدع) وسُبَّ أصحابي فلْيُظْهِرِ العالمُ علمَهُ؛ فمن لم يفعلْ ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) (1).
وقد تعرض لبعض أهل العلم أوهام فتمنعه وتصدُّه عن الدعوة إلى الحق والنشر للعلم.
منها: أن يقول إني غير عامل بعلمي، فكيف أعلمه وأدعو إليه للهِ، وقد ورد من الوعيد في ذلك ما لا يزيد عليه؛ فيقال له: التعليم للعلم من جملة العمل به، والذي يُعَلِّمُ ولا يعمل بعلمه خير بكثير من الذي لا يَعمَل ولا يُعَلِّم، وإذا لم تقدر على الخير كلِّه فلا تعجز عن القيام ببعضه،
__________
(1) - الصرف التوبة والعدل الفدية وقيل غير ذلك.
(1/32)

وعليك أن تعلم، وعليك أن تجتهد وتعزم على العمل بما تعلم. ولا شك أن الوعيد الوارد في حق من يعلم الناس ولا يعمل بما يعلم هو ألزم وأجدر بالذي لا يعلم ولا يعلم؛ لأن الأول فرض الله عليه فريضتين فقام بأحدهما وقصر عن الأخرى، والثاني ترك الفريضتين جميعا فهو بالوعيد أولى وبالعقوبة أحرى.
ومنها: أن يقول في نفسه: إن الدعاء إلى الله والإرشاد لعباد الله تعالى مرتبة رفيعة، ومنزلة شريفة، هي من شأن أئمة الهدى والدين ووظيفتهم، وأنا لست كذلك ولا من أهله للهِ فيحمله استصغاره لنفسه، واحتقاره لها، وتواضعه وانخفاضه على السكوت عن الدعاء إلى الله والقيام بوظيفة الإرشاد، ويتوهَّم أن ذلك من التواضع المحمود ومعرفة الإنسان بقدر نفسه ووقوفه عند حدِّه للهِ وهذا من التوهمات الفاسدة لِلَّهِ لأن الحق لا يمنع عن الحق، والخير لا يصرف عن الخير؛ فعليه أن يجتهد ويشمر في الدعاء إلى الهدى، والدلالة على الخير مع التواضع والخضوع، والاستشعار للخشية والخشوع، والاعتراف بالتقصير واحتقار النفس؛ وذلك هو الكمال، والجمع لأوصاف الرجال الذين لا تصدُّهم وساوس الشيطان
(1/33)

ولا تصرفهم تخيلاته وتلبيساته، وترويجه للشرِّ في معرض الخير.
ومنها - أعني تلك الأوهام-: أن يُشْغِلَ العالمُ نفسَه وأوقاتِه بمواصلة الأوراد، وتتابع الوظائف من العبادات: من تلاوة وذكر ونحو ذلك. ويرى أن ذلك أفضل له وأولى من الدعاء إلى الله وسبيله، ونشر العلم النافع في الدين.
والحق أن الدعوة إلى الله، والنشر للعلم النافع مع الإخلاص لله فيه، أفضل من العبادات اللازمة من نوافل الصلوات والأذكار؛ لما في العلم من تعدي النفع واحتياج الخاص والعام والصغير والكبير إليه، وفي الحديث (فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي) (1).
وفي حديث آخر: (فضل العلم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)(2).
ومع ذلك فلا ينبغي للعالم الداعي إلى الله أن يهجر الأوراد ويقصر عن وظائف العبادات؛ بل ينبغي له أن يجعل لها أوقاتاً تخصُّها، __________
(1) - رواه الترمذي عن أبي إمامة.
(2) - رواه أبو نعيم في الحلية عن معاذ.
(1/34)

ويحسن التفرغ للعبادات فيها خصوصا بالليل وأوقات النهار التي لا ينشط فيها لنشر العلم، أو لا يحضر فيها الطالبون المستفيدون، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: اطلبوا هذا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا هذه العبادة، طلبا لا يضر بالعلم. وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقسم الليل أثلاثاً: ثلثاً للصلاة، وثلثاً لدراسة العلم، وثلثاً للنوم، وقد ذكر حجة الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب ترتيب الأوراد في الإحياء كيفية في ترتيب أوقات للعالم وتوزيعا تخصه؛ فليتمسك العالم بما ذكره هنالك، وليعمل عليه. والله يتولى هداه.
وهذه التوَّهمات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره قد يقع لبعض العلماء العاملين الموصوفين بتقوى الله وخشيته.
وأما التوهمات والحسبانات التي تقع للعلماء المترسمين، الذين لم يتحققوا بتقوى الله وخشيته، لم يحرصوا على العمل بعلمهم فأمور كثيرة، كلها ترجع إلى أحوال أهل الغفلة والتخليط، فتصدهم عن الدعوة إلى سبيل الله، وعن نشر العلم ابتغاء وجه الله؛ مثل الإشتغال بأحوال دنياهم
(1/35)

وأمور معاشهم، ومداهنة أهل الباطل من وجوه أهل الدنيا ومراعاتهم، ومثل التسويف وتزْجِيَة الأوقات من حين إلى حين(1)، ومثل الإبقاء منهم على ستر أحوالهم وتقصيرهم فيتوهمون أنهم إذا دعوا إلى الله وإلى الدار الآخرة وهم على خلاف ذلك تبين للناس نقصهم وسوء أفعالهم وقبيح سيرهم؛ فيسقطون بسبب ذلك من أعين الناس، وتنحط منازلهم عندهم، فلا يبقى لهم جاه ولا مقدار عند الخلق، وهم أحرص شيء على إقامة جاههم ومنزلتهم في قلوب الناس؛ لشدة رغبتهم في الرياسة التي هي من أقوى لذات الدنيا وأغلب الشهوات على النفوس المتبعة للهوى.
ومن العلماء المترسمين من تكون العلوم التي هو مشتغل بها محصل لها ليست هي من علوم الدعوة إلى الله وإلى سبيله، والتذكير به وبأيامه وآلائه، وبوعده ووعيده وصاحبها يعد نفسه عالما، ويعده كذلك من هو في مثل حاله من الجهال، وذلك مثل الذي يكون علمه في دقائق علم الكلام والتقعر فيه، ومجرد الفروع النادرة الوقوع من الفقه، والفتاوى الكائنة
__________
(1) - تزجية الأوقات: دفعها من وقت إلى آخر وإضاعتها.
(1/36)

بهذه المثابة، ومثل الذي يكون علمه بمجرد علوم الآلات اللغوية والأدوات الأدبية. فهذه العلوم وأمثالها ليست هي من علوم الدعوة إلى الله وإلى طريقه، ولا المخوفة بلقائه ووعده ووعيده، ولا المحذرة من إضاعة أمره وركوب نهيه، وإن كانت تعد من العلوم في الجملة؛ ولكنها ليست من العلوم النافعة للخاص والعام، ولا التي تدعو إليها حاجة الناس في دينهم وأمر آخرتهم، وقد قيل: العلوم كثيرة وما كلها بنافعة، والعلوم بمنزلة الأطعمة والأدوية يكون بعضها نافعا ومهما في حق كل أحد، وبعضها للبعض دون البعض، وبعضها مضرا للبعض أو للكل، وفي ذلك تفصيل يطول ذكره.
فكل من يكون علمه مجرد هذه العلوم التي ليست بنافعة ومهمة في الدين، كان إطلاق اسم العالم عليه صورة لا حقيقة لها وربما كان علمه ذلك سببا لوقوعه في سخط ربه، وهلاك نفسه، وذهاب آخرته. فينبغي أن يضيف العالم بها إليها العلم بالعلوم الدينية الأخروية، التي تقارنها المخافة والخشية لله، ويكثر فيها ذكر الوعد والوعيد، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، ونحو ذلك.
(1/37)

فهذه هي العلوم التي قال فيها سفيان الثوري(1) رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله. وكما قال الإمام حجة الإسلام رحمه الله في معنى ذلك.
وكما أنه قد تعرض للعالم التقي وللعالم المخلط أوهام وظنون، فتثبطه وتعوقه عن الدعوة إلى الله والدلالة على الخير، والنشر للعلم، فقد يقع للجاهل أوهام فتصده وتصرفه عن طلب العلم والتبصر في الدين؛ مثل أن يتوهم أنه إن طلب العلم وعرفه توجهت عليه حقوق لله ولعباده، ولزمه القيام بأوامر الله فيه، واجتناب نواه ومعاص، فهو يحسب بجهله أنه إن لم يعرف العلم ويطلبه سلم من تلك المطالبات وخلص.وهذا ظن فاسد وعذر بارد، حتى أنك ترى بعض الجهال قد يمتننع عن حضور مجالس أهل الحق والدعوة إلى الله، ويعدل عنها مخافة أن يسمع مايلزمه العمل به من طاعة الله، والإجتناب لما حرم الله من معصيته، أومن الزهد في الدنيا وشهواتها التي قد استولت عليه وأخذت بمخنقه أومن الوعد والوعيد بثواب الله وعقابه، ويحسب أنه ينجو من ذلك
__________
(1) - سيد أهل زمانه في علوم الدين، وأمير المؤمنين في الحديث. ولد ونشأ بالكوفة، وتوفي بالبصرة سنة 161ه-.
(1/38)

ويسلم من المطالبة بما هناك بسبب جهله وعدوله عن الحق وأهله، وهيهات هيهات لله فإن الله لا يعذره بجهله، ولا يزيده بذلك إلا بُعداً وعذاباً، و خزياً ونكالاً.
وقد شغل الجاهل عن طلب الحق ومعرفة الدين طلب الدنيا، واستغراق الأوقات في الإشتغال بها، والإغترار بزخارفها، والجمع لحطامها، حتى لايبقى له وقت، ولا يصفو له زمن لطلب الحق والدين. فيكون حظه الدنيا، والشغل بجمعها ومنعها، والتمتع بشهواتها ولذاتها، فلا يكون له في الدنيا والآخرة من خلاق ولا نصيب، وهو يتوهم لعظم جهله وفرط غفلته أن طلب الدنيا أهم في حقه وأوجب عليه وأولى به من طلب معرفة الدين، والتبصر فيه، والعلم بأوامر الله ونواهيه.
وفي أمثال هؤلاء يقول الله تعالى: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }، وقال تعالى: { وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}.
والحق أن الإشتغال بطلب معرفة الدين، والتبصر في العلم والقيام بحق الله علماً وعملاً هو الأصل والأساس والرأس والذي عليه التعويل،
(1/39)

وأمور الدنيا كلها إنما هي تابعة أعني المهم منها، وأما ما ليس بمهم فمنهي عنه ومزهد فيه. فانظر كيف يعكس الجاهل الغافل الأمور بجهله، ويرد الرأس ذنبا والذنب رأس، والتابع متبوع، والمزهود فيه والمرغوب عنه مرغوبا فيه تعرف بذلك شؤم الجهل ومضرته، وكونه بلاء وخزيا على أهله في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قيل:
ما يبلغ الأعداء من جاهل... ما يبلغ الجاهل من نفسه
وقيل أيضا:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله... فأجسادهم قبل القبور قبورُ
وقد غلب الجهل، واستولى على أهل هذا الزمان السيئ حاله، وذهب بهم كل مذهب؛ حتى صار الكثير منهم أو الأكثر لا يعلم ولا يدري بالحق والدين ما هو ولا بالآخرة والمصير إلى الله كيف هو. فصارت تلك بلية عظيمة عم ضررها الجاهل والعالم، والعام والخاص.
فأما تضرُّر الجاهل بها فليس بخفي؛ لأنه قد أضاع بسببها ما فرض الله عليه من معرفة دينه وتعلم أحكامه.
(1/40)

وأما تضرر العالم بها فلتقصيره في الدعاء إلى سبيل الله، وتعليمه الناس ما يجهلونه من أحكام دينه مع تمكنه من ذلك. فإذا صار الجهال بحيث لا يعلمون وجوب طلب ما فرض الله عليهم طلبه من علم الدين، وجب على العلماء تعريفهم بذلك، وحرم عليهم السكوت عنه، ولم يعذرهم الله في ترك ابتداء الجهال بالتعريف، والتعليم للجاهل الذي يكون هذا وصفه، وللعلماء في ذلك شغل شاغل عن كثير من مهماتهم.
* * *
واعلم أن في الإسلام فترات والناس اليوم في بعضها؛ إذ قد صار كثير ممن تشتمل عليه دائرة الإسلام لا يعلمون ما فرض الله عليهم من طاعته، وما حرم عليهم من معصيته، ولا يعلمون بوجوب طلب علم ذلك عليهم ثم العمل به، فمتى ينتهضون لذلك، ويأخذون في طلبه وهم لا يعلمون بوجوب ذلك عليهم ؟ فتعينت المطالبة على أهل العلم والدعوة إلى الله في حقهم، بأن يعرفوهم بوجوب ذلك عليهم، ويحثوهم على طلبه ابتداء منهم؛ فإن من لا يعرف ولا يعلم لا يمكن منه الطلب والتعرف.
(1/41)

وهذه الفترات التي تكون في الإسلام، وتقع بين الدعاة إلى الله وإلى دينه تشبه الفترات التي تكون بين الرسل من بعض الوجوه. وقد أشار إلى ذلك الشيخ العارف عبد الوهاب بن أحمد الشعراني(1) رحمه الله في أول كتابه المسمى: (تنبيه المغترين) أواخر القرن العاشر.وهي غير الغربة التي تكون للدين في آخر الزمان، واقتراب الساعة التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يحيون ما أمات الناس في سنتي) الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: (دخل الناس في هذا الدين أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا كما دخلوا).
فمن أهل هذا الزمان من لا يعرف الحق والدين، ولا يعرف أن معرفة ذلك واجبة عليه.
ومنهم من يعرف وجوب ذلك ولكنه لا يطلب معرفته تساهلا وتغافلا. أو تشاغلا بأمور الدنيا واستغراقا في جمعها والتمتع بشهواتها.
__________
(1) هو الإمام العارف بالله أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني؛ نسبة إلى قرية ساقية أبي شعرة من قرى المنوفية بالوجه البحري بمصر؛ وهي التي نشأ بها. وتوفي بمصر سنة 983ه-.
(1/42)

ومنهم من عرف ذلك وطلب معرفته، ولكنه لم يعمل بما عرفه وعلمه.
ومنهم من عرفه وعمل به، ولكنه لم يخلص لله في ذلك؛ بل علم وعمل لأغراض دنياوية وحظوظ فانية.
وكل هذه الأصناف ضالّون مفتونون؛ غير أن بعضهم أضل من بعض وأشد فتنة؛ وما أحسن ما قال بعض الأئمة من السلف الصالح رحمهم الله: الناس كلهم موتى إلا العلماء، والعلماء كلهم موتى إلا العاملون، والعاملون كلهم موتى إلا المخلصون، والمخلصون كلهم موتى إلا الوجلون، والوجلون على خطر عظيم. انتهى بمعناه.
فقد علمت بما تقدم ذكره من إعراض العامة عن معرفة الدين والطلب للحق، ورضاهم بالجهل والعمى بدلا عن العلم والهدى، أنه قد تضاعفت المؤونة، وعظمت المطالبة على أهل الدعوة إلى الله والبصيرة بدينه، والمعرفة بعلمه حيث تعين عليهم كمال القيام، والحرص على إرشاد الخاص والعام، وبدايتهم بذلك، وإشاعته فيهم، ونشره بين أظهرهم؛ ليعرف ذلك من لم يعرفه ويعلمه، فتتضح محجة الله للسالكين، وتقوم حجة الله على الهالكين.
(1/43)

وعلى الدعاة إلى الله والعلماء بدينه أن يكونوا على نهاية وغاية من الرحمة والشفقة على المسلمين، ومن الحرص والرغبة في إرشادهم وهدايتهم، ودعائهم إلى ما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وأن يكونوا على نهاية من الصبر والاحتمال، وسعة الصدر ولين الجانب، وخفض الجناح وحسن التأليف؛ قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }، وقال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } الآية. وإن احتاجوا إلى شيء من الشدة والغلظة مع من لا يصلحه إلا ذلك، فيكون ذلك في الظاهر دون الباطن، وعلى وجه لا يقتضي ولا يفضي إلى تنفير وفرقة.
وإن دخل عليهم (أعني أهل الحق والدعاة إلى الله) شيء من الأذى من الجاهلين بسبب ذلك، كان عليهم أن يصبروا ويعرضوا ويقولوا خيرا؛ قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }، وقال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً }.
فقد قاست الأنبياء والمرسلون من أتباعهم من أئمة الحق والهدى،
(1/44)

من طوائف الجاهلين والمعرضين من الأذى أمرا عظيما، فصبروا واحتسبوا، ولم يزدهم ذلك إلا حرصا على إرشادهم وهدايتهم إلى سبيل الله تعالى، ونصيحتهم في دين الله، وحثهم وتحريضهم على إقامة أمر الله واجتناب نهيه.
هذا الذي درج عليه أنبياء الله ورسله والأئمة من أممهم، والدعاة إلى دينهم من هذه الأمة المحمدية وغيرها من الأمم السالفة.
وأما إذا لم يقابل الداعي إلى الله وإلى دينه بالرد الصريح وبالإيذاء، ولكنه لم يسمع منه ولم يقبل دعاؤه، أو قبل منه وأجيب، ولكن لم يظهر على المستجيبين آثار الإستجابة من الأخذ بالحق والعمل به، فليس له مع ذلك عذر في ترك الدعاء إلى الله وإلى سبيله، ولو أن يستجيب له في الزمن الطويل العدد القليل.
ومثل هذا الحال الذي وصفناه، يكون حال الداعي الناصح في أكثر الجهات الإسلامية في هذه الأزمنة(1)، أنه لا يؤذى ولا يردُّ عليه الردُّ الصريح؛ بل يُقبَلُ الحقُّ منه أو لا يُقبل،
(1/45)

ويعمل بما يدعو إليه أو لا يعمل. وربما يجيء زمان بعد هذه الأزمنة، وأيام بعد هذه الأيام، يشتد فيها التكبر، ويعظم فيها الأذى على من يدعو إلى الحق وينصح في الدين. فليغتنم الداعي إلى الله وإلى الهدى في هذه الأيام الدعاء إلى الله فيها وإلى دينه والحال ما وصفناه، من قبل أن يأتي زمان آخر، وناس آخرون يرد فيه الحق على أهله ردا صريحا، ويؤذون على ذلك أذى قبيحا؛ بل ربما يبادؤون بالأذى من قبل أن يدعوا إلى الحق والهدى، وذلك عند اقتراب الساعة وظهور أشراطها وأماراتها العامة. كما يعرف ذلك من نظر في الأخبار والآثار.
ومن نعم الله على الداعين إلى الله وإلى دينه في هذا الزمان أنهم إذا دعوا ونصحوا باللسان العام، لم يُرَدَّ عليهم ولم يُؤذَوا. وأيضا إذا خصُّوا، اللهم إلا أن يكون ذلك من بعض الجبارين والمتكبرين من أمراء الجور وولاة السوء. فليتق الدعاة إلى الله التخصيص والتعيين ليسلموا من سوء ردهم وفتنتهم وأذيتهم؛ فإنهم ربما ضعفوا عن احتمال ذلك، وضاقت صدورهم وضجروا وتبرموا، وجعلوا ما يلقونه من هؤلاء المفتونين حجة لهم في السكوت عن النصيحة،
__________
(1) - توفي المؤلف عام 1132ه-.
(1/46)

ورخصة في الإمساك عن الدعاء إلى الحق والدين. وليتأسوا بسيد النبيين وإمام الناصحين (محمد صلى الله عليه وسلم) فإنه كان إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لا يصرح بذكره؛ ولكن يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا) كما في الأحاديث. وذلك تألفا منه ورفقا، وتلطفا وسترا. وقد قال في وصفه عليه الصلاة والسلام ربه عز من قائل كريم: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }، { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } صلوات الله وسلامه عليه، وزاده شرفا وكرامة لديه، ورزقنا كمال الإتباع له وحسن التأسي؛ كما قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }.
فقد تبين واتضح بما ذكرناه: أنه لا عذر ولا رخصة للعلماء بالدين في ترك الدعوة إلى الله، وبذل النصيحة للمسلمين، وتعريفهم بما يجب من طاعة الله واجتناب معاصيه، وأنه لا عذر ولا حجة لأهل الجهل في ترك القبول منهم، والإستجابة لهم، والأخذ عنهم، بل عليهم أن يطلبوا ذلك
(1/47)

ويحرصوا عليه، ويقدِّموه على كل شغل ومهم من مهمات معاشهم؛ فإن قصروا في طلب ذلك والسعي له، لم يسع العلماء بالدين، والدعاة إلى سبيل الله رب العالمين:أن يسكتوا كما سكتوا، أو يتركوا كما تركوا، فيكونوا سواء في الإضاعة والإهمال، والتهاون بحق الله الكبير المتعال.
قال حجة الإسلام رحمه الله تعالى: (في آخر الكتاب الثالث من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإحياء): اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان، فليس خاليا في هذا الزمان عن منكر؛ من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم، وحملهم على المعروف. فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد؛ فكيف في القُرى والبوادي ؟. ومنهم الأعراب والأكراد، والتركمانية وسائر أصناف الخلق.
وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلاد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية. وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية: أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد، أو من العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، ويستصحب مع نفسه زادا يأكله ولا يأكل من أطعمتهم؛
(1/48)

فإن أكثرها تكون شبهة مغصوبة، فإن قام به واحد سقط الحرج عن الآخرين، وإلا عم الحرج الكافة أجمعين. أما العالم فلتقصيره في ترك الخروج. وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم. وكل عامي عرف شروط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريكه في الإثم.
ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالما بالشرع، وإنما يجب التبليغ على أهل العلم وكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها.
ولعمري؟ إن الإثم على الفقهاء أشد، لأن قدرتهم فيه أظهر، وهو ببضاعتهم أليق، لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش، فهم قد تقلدوا أمرا لا بد منه في صلاح الخلق. وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء، وليس للإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد، لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة، بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي.
وكذلك كل من تيقن أن في السوق منكرا يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت بل يلزمه الخروج.
(1/49)

فإن كان لا يقدر على تغيير البعض وهو يحترز عن مشاهدته ويقدر على البعض، لزمه الخروج، لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا تضره مشاهدة ما لا يقدر عليه،وإنما يمتنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح.
فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات , ثم يعلم ذلك أهل بيته, ثم يتعدى عند الفراغ منهم إلى جيرانه , ثم إلى أهل محلته , ثم إلى أهل بلده , ثم إلى أهل السواد المكتنف لبلده , ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم , وهكذا إلى أقصى العالم , فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد, وإلا حرج به كل قادر عليه قريبا كان أو بعيدا , ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه، وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فرضه، وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تزجية الأوقات، أي إضاعتها في التفريعات النادرة، والتعميق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات، ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه والسلام انتهى ما ذكره رحمه الله تعالى.
وليكن ذلك آخر الكلام في المقدمة المباركة، ونشرع الآن مستعينين بالله ومعتمدين عليه في ذكر الأصناف الثمانية:
(1/50)

****************
الصنف الأول
دعوة العلماء بالدين
****************
(1/51)

(1/52)

الصنف الأول
العلماء بالدين والقول في نصيحة العلماء
وتذكيرهم وتخويفهم وتحذيرهم
* * *
اعلم أن العلماء هم الرؤوس من الناس والوجوه فيهم، ومثلهم منهم مثل الملح من الطعام، يصلح الطعام بصلاحه، ويفسد بفساده، ولذلك قيل:
يامعشر القراء ياملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
فالقراء هم العلماء، وقد كان يطلق هذا الاسم عليهم في الأزمنة السالفة، فإن حملة القرآن كانوا هم العلماء بدين الله وبأمره وأحكامه حيث كانوا إذا قرأوا القرآن تفقهوا فيه، وعلموا آمره وناهيه، وواعظه وزاجره، وما ينبغي الوقوف عنده منه، ولذلك عز من جمع القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى أنه قبض صلوات الله وسلامه عليه عن ألوف كثيرة من الصحابة. لم يجمع القرآن منهم إلا نفر قليل،
(1/53)

قيل: أربعة، وقيل: سبعة على خلاف في ذلك. وكان من يحفظ سورة (البقرة) وسورة (آل عمران) يعد من علمائهم وفقهائهم، وفي الحديث (من استظهر القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه)، ومعنى استظهر القرآن: أي حفظه عن ظهر قلب، وهو الحفظ بالغيب. فالقرآن تنزيل عظيم من رب عظيم، على رسول كريم قد جمع الله فيه علم الأولين والآخرين، وأخبار السابقين واللاحقين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فيه نبأ من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن التمس الهدى من غيره أضله الله) الحديث.
فقد آل الأمر إلى أقوام يقرأ القرآن أحدهم من فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما هو، ولا فيم أنزل، ولا لأي شيء أنزل، ثم إنه لا يهمه أنه لا يعلم ولا يدري حتى تنبعث منه داعية لأن يطلب علم ذلك ومعرفته؛ وذلك من فرط غفلته، وشدة انصراف قلبه عن فهم كتاب ربه استغراقا بالدنيا، ورغبة في شهواتها، واغترارا بزخارفها؛ فمن أضل ممن هذا الوصف وصفه ؟ وهذا الشأن شأنه؟ { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }.
(1/54)

فقد علمت أن القرآن العظيم أصل العلوم ومعدنها لِلَّهِ ومجمعها وموطنها؛ قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }، وقال تعالى:: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }.
فإذا رأيت الرجل يقرأ القرآن ولا يرتله، ولا يتدبره ولا يفهم فيه، ورأيته يحضر عند تلاوته وهو يلهو ويلغو، فلا تشكن في أنه غافل محجوب، مصروف عن آيات الله، قد حل به من الله مقت وسخط، وقد اٌقفل الله على قلبه؛ قال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ولا يغرنك أنه يقرأ القرآن وقد ورد: (أن أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) وما ينفعه ذلك، وقد أصبح القرآن حجة الله عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك)، وفي الحديث الآخر: (من جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة، ومن ساقه خلف ظهره قاده إلى النار).
فتبين أن من أخذ بالقرآن إيمانا وعلما وعملا فاز وسعد في الدنيا والآخرة، ومن ضيعه وتعدى حدوده خاب وخسر، وضل عن سواء السبيل،
(1/55)

وصار ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها، وممن كذب بآيات الله وصدف عنها(1) قال الله تعالى: { سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ }. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع به آخرين).
فاجتهد أيها القارئ أن تكون ممن يرفعه الله بالقرآن، بأن تقرأه كما أنزل وأن تتلوه حق تلاوته، فترتله وتتدبر معانيه، وتقف عند كل آية منه وتنظر فيها: هل أنت بها عالم، وهل أنت بها عامل ؟ فإن كانت من آيات الأمر نظرت: هل أنت لذلك الأمر ممتثل ؟ وإن كانت من آيات النهي نظرت: هل أنت لذلك النهي مجتنب؟ وكذلك في بقية الآيات. وإن مرت بك آية فوجدت أنك لا تعلم علمها سألت عنها من يعلمه؛ فبذلك تصير من التالين لكتاب الله كما يحب ويرضى إن شاء الله تعالى.
ولا تكن ممن يقرأ ولا يدري، ويهذُّ القرآنَ هذَّ الشعر، وينثره نثر الدَّقَل(2)؛ فيصبح من النادمين، ويكون في الآخرة من الخاسرين.
__________
(1) - صدف: أعرض.
(2) - الهذ- بالذال المعجمة-: سرعة القراءة. والدقل - محركا-: أردأ التمر.
(1/56)

وإذا كنت ممن حفظ القرآن وتلاه، ثم لم تعد ولم تذكر في علماء الدين: فلست تحفظه ولست تتلوه حقيقة، وإنما ذلك مجاز لِلَّهِ أو صورة تقوم به عليك الحجة فقط لِلَّهِ فإن القراء هم العلماء مهما كانوا، يقرأون القرآن كما أمروا ويتلونه كما وصفوا؛ حسبما تقدم من البيان. والله الهادي إلى الصواب.
وقد طال الكلام وامتد في شأن حملة القرآن ,وأنهم كانوا هم العلماء فيما قد مضى من الأعمار والأزمان حيث كانوا يحملونه مع العلم به والعمل بما فيه , إلى أن صاروا بحيث لا يعدون من أهل العلم ولا يوصفون به لِلَّهِ فانظر رحمك الله تفاوت ما بين من مضى ومن بقي.
ثم اعلم أنه قد غلب على أهل العلم الغرور والفتن , واستولى عليهم الإعراض والغفلة , وتركوا العمل بالعلم , وصار العلم على ألسنتهم دون قلوبهم , وفي أقوالهم دون أفعالهم , فصار العلم بذلك حجة الله عليهم , كما قال عليه الصلاة والسلام: (العلم علمان: علم في القلب فذلك هو العلم النافع. وعلم على اللسان وذلك حجة الله على ابن آدم ). وفي دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللَّهمَّ إني أسألك علما نافعاً )
(1/57)

, واستعاذ صلوات الله عليه وسلامه من علم لا ينفع , وقلب لا يخشع.
فتبين بذلك انقسام العلم إلى نافع وغير نافع , وانقسام أهل العلم إلى منتفع به وغير منتفع؛ حتى إن العلم قد يكون من العلوم النافعة ولا ينتفع به صاحبه إذا كان يعمل على خلاف علمه، فيكون حاله كحال الإناء الخبيث إذا جعل فيه الطعام الطيب خبثه. وقد قال بعض العلماء رحمه الله: زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة في أصل شجرة الحنظل؛ كلما ازدادت ريا ازدادت مرارة. وأراد بشجرة الحنظل شجرة الحدج؛ وعلى هذا فيكون كلما قل ريه بالماء قلت مرارته؛ فيكون العالم السوء كلما قل علمه قلت فتنته وفساده ومضرته، ولا تستبعد هذا، فإن مثل بني آدم في طباعهم واختلافها، مثل والأشجار والأراضي في اختلاف طبائعها وجواهرها، فإن من الأشجار والأرضين ما يحسن وينمو ويطيب بوصول الماء إليه وريه منه. ومنها ما يكون على الضد من ذلك، مثل الأشجار المرة وذوات الشوك؛ ومثل الأراضي السبخة والقيعان المعطلة التي يزيدها الماء مرارة وشوكا، وملوحة وفساداً.
(1/58)

ومن عجائب ما ذكر: أن مطر الربيع يقع بالمواضع التي يكون فيها الدر واللؤلؤ فتفغر له الأصداف أفواهها وتنطبق عليه؛ فيصير فيها بإذن الله تعالى درا ولؤلؤا. وتفغر له الأفاعي أفواهها فيكون فيها سما نافعا ؟ وهو مطر واحد في حين واحد؛ فيختلف إلى هذه الغاية باختلاف مواضعه، والمحال القابلة له.
فلا تستبعد بعد هذا مصير العلم في الرجل السوء ضارا أو غير نافع. والعلم إنما هو عرض يقوم بغيره، وآلة صالحة للصلاح والنفع إذا وقع عند أهل الصلاح والإنتفاع، وبضد ذلك إذا وقع عند أهل الفساد والإضرار.
ثم إن العلم الذي يكون عند العالم السوء ليس هو العلم الحقيقي الديني , بل هو صورته وقالبه , وهو على لسانه و ظاهره ليس في قلبه ولا في باطنه شيء منه. قال الإمام مالك رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب، وفي كلام ابن مسعود رضي الله عنه مثله، وقال: إنما العلم خشية. وفي بعض الآثار: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل: أي يرتحل معناه وحقيقته،
(1/59)

ونوره وبركته. ويبقى رسمه وصورته، تقوم به الحجة على صاحبه.
وللإمام الشافعي رحمه الله نظما:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور... ونور الله لا يهدى لعاصي
يشير بذلك إلى حقيقة العلم وروحه، على مثل ما قررناه وبيناه.
وقال عمر رضي الله عنه: أخوف ما أخاف عليكم أو قال على هذه الأمة فاجر عليم اللسان.
وقال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك، هذا ينفر الناس بتهتكه، وهذا يغر الناس بتنسكه. انتهى.
* * *
فقد تبين واتضح: أن العالم التقي المصلح خير كله، ونفع وصلاح لنفسه وللمسلمين، وأنه العالم الذي لا يتقي الله ولا يخشاه شر كله، وبلاء وفتنة على نفسه وعلى المسلمين.
وقد ضربوا للعلماء السوء أمثالاً، وقد تُروى عن عيسى ابن مريم عليه السلام:
(1/60)

(أحدهما): أن مثلهم مثل قناة الحش، ظاهرها جص وباطنها نتن.
(والثاني): أم مثلهم مثل القبور، ظاهرها معمور وباطنها عظام الموتى.
(وثالثها): مثل البيت المظلم وعلى ظهره المصباح، الضياء على ظاهره والظلمة على باطنه. وأشد من هذا كله وأشنع: ما ضرب الله المجيد في كتابه العزيز للعلماء السوء من الأمثال، حيث شبههم بأخس الدواب: الحمير والكلاب؛ حيث يقول عز من قائل: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً }، وقال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا } إلى قوله تعالى: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث }.
ولا شك أن الدواب والبهائم أحسن حالاً ممن نبذ كتاب الله وضيَّع أمره، واستهان بحقه؛ فإن البهائم والدواب تموت ثم تصير إلى التراب، وهو يصير إلى النار والعذاب والبوار، وقد قال عليه الصلاة و السلام: ( أشدُّ الناس
(1/61)

عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)(1) وقال عليه الصلاة والسلام: (من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا) (2) وقال عليه الصلاة والسلام: (يؤمر العالم إلى النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرحا) الحديث. والأقتاب: هي الأمعاء.
* * *
ثم إن العلوم فنون وأنواع كثيرة، والعلماء أصناف كثيرة وعلى مراتب ومنازل متفاوتة.
فأما العلوم الدينية الشرعية فيجب وجوبا متأكدا أن لا يريد العالم بها والمتعلم لها بتعليمها وتعلمها إلا وجه الله والدار الآخرة، ويجب ويتأكد العمل بها ونشرها، والدعاء إليها لوجه الله والدار الآخرة. وقد وعد الله على القيام بذلك رضاه وثوابه العظيم،
__________
(1) رواه الطبراني في الصغير وابن عدي في الكامل، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة.
(2) في الجامع الصغير: رواه الديلمي في مسند الفردوس عن علي، ولكن بلفظ (من ازداد علماً ولم يزدد في الدنيا زهداً لم يزدد من الله إلا بعداً).
(1/62)

وتوعد على ترك ذلك والتقصير فيه، بسخطه وعذابه الأليم.
ومن العلوم ما ليس بديني ولا شرعي بحكم الأصالة، كعلوم اللغة والحساب والطب، فيجوز أن تعلم هذه العلوم وتتعلم لقصد الأمور الدنياوية المباحة، ولو قصد العالم بها والمتعلم لها أمر الدين وذلك فيما يصلح التوسل به إلى الدين، ويتوصل به إليه ويستعان عليه كان له في ذلك ثواب عظيم، وأجر من حيث أن للوسائل حكم المقاصد.
وأما العلماء فأفضلهم وأرفعهم عند الله منزلة من يتعلم العلم ويعمل به، ويعلمه ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، من غير أن يكون له قصد في ذلك، ولا غرض آخر من أغراض الدنيا البتة، أولئك هم المفلحون الفائزون برضوان الله وجواره في دار كرامته، والسائرون على سبيل أنبيائه ورسله، والوارثون لهم الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) عليهم السلام.
ومن أهل العلم من تكون نيته في تعلمه العلم وتعليمه مقصورة على الدنيا ونيل الجاه والمال، والمنزلة عند الناس، وأشباه ذلك من الحظوظ الفانية، ولكنه يستشعر في نفسه سوء حاله،
(1/63)

وخسة قصده ونيته، وشؤم تقصيره؛ فذلك على خطر وعاقبته مخوفة، ومع ذلك فالتوبة مرجوة له،والانتباه من غفلته وسوء نيته.
ومن أهل العلم من يكون نيته وقصده بعلمه المنافسة والمباهاة، والمجادلة والمماراة، والتمكن من حظوظ الدنيا ونيل الولايات فيها، وحصول المنزلة عند أهلها، ونحو ذلك من حظوظ الدنيا الخسيسة، وهو مع ذلك يضمر في نفسه ويستشعر فيها أنه على حالة مرضية، ونية محمودة، ومنزلة عند الله رفيعة لترسمه برسوم العلماء في الزي والمنطق وظواهر الأحوال. فهذا العالم بأشر المنازل، وأوضع المراتب، ويكاد يدخل في عموم قوله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }.
قال حجة الإسلام رحمه الله فيمن هذا وصفه: فهذا من الهالكين، ومن الحمقى المغرورين؛ إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنه أنه من المحسنين، وهو ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال) قيل: فما هو يا رسول الله؟. قال: (العلماء السوء) انتهى.
(1/64)

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من طلب علما مما يبتغي به وجه الله لا يطلبه إلا لينال به عرضا من الدنيا لم يجد عرفا من الجنة يوم القيامة) وعرف الجنة: ريحها؛ وهو كما في الحديث:(يوجد من مسيرة خمسمائة عام).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من طلب العلم ليجادل به العلماء ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار).
وذكر في بعض الأخبار: أن رجلا صحب موسى عليه السلام، ولازمه حتى أخذ عنه العلم، ثم جعل يقول: حدثنا موسى كليم الله، حدثنا موسى صفي الله؛ حتى أثرى، وكثر ماله، ثم فقده موسى، فجعل يسأل عنه فلا يسمع له بخبر، إلى أن جاءه رجل وفي يده خنزير، وفي عنقه حبل أسود؛ فسأله موسى عنه هل رآه؟ فقال له: نعم! هو هذا الخنزير. فسأل موسى عليه السلام ربه أن يعيده إلى صورته ليسأله عما أصابه فأوحى الله إليه: لو سألتني بما سألني به آدم فمن بعده لم أعده إلى صورته، ولكن أخبرك عن هلم صنعت به هذا؟ إنه كان يطلب الدنيا بالدين.
وأغلظ من هذا ما روي عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- موقوفاً
(1/65)

ومرفوعاً في رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع)، وفي الكلام تنميق وزيادة، ولا يؤمن على صاحبه الخطأ، وفي الصمت سلامة وعلم. انتهى الأثر والخبر المذكور إلى آخره.
وفيه تشديد عظيم حذفناه اختصارا، ذكر فيه طبقات النار، وأن في كل طبقة منها صنفا من العلماء السوء، وصفهم بأوصاف قبيحة منكرة، ذكرها في كتاب العلم من الإحياء.
فالأصل الذي ينبغي لطالب العلم أن يعول عليه: هو إصلاح النية في أول طلبه، وهو أن يريد به محبة الله والدار الآخرة؛ فإن النية هي الأساس الذي يبنى عليه، فإذا صلح واستقام صلح البناء واستقام؛ فليعتن طالب العلم بذلك أشد الإعتناء، وليحرص عليه أتم الحرص، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) الحديث.
وقد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله في أول بداية الهداية تنبيهاً جامعاً، نبَّه به طالب العلم على ما هو الفاسد من النيَّات والصحيح منها، وما ينبغي ومالا ينبغي منها، وذلك قوله: أما بعد فاعلم أيها الحريص على اقتباس العلم، المظهر من نفسه صدق الرغبة فيه،
(1/66)

وفرط التعطش إليه، أنك إن كنت تقصد بطلب العلم... إلى قوله: وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت.
ثم إن العالم الفاضل المحمود حاله الرفيعة درجته عند ربه، المرفوعة منزلته الفائز في آخرته، و العالم العامل بعلمه، الذي ينشر العلم ويدعو إليه، ويعلمه لعباد الله ابتغاء وجه الله ومرضاته، ورغبة فيما عنده من ثواب الآخرة.
ثم يليه العالم الذي يعمل بعلمه لله، ولكنه لم يتصد لتعليم عباد الله؛ فأن كان الحامل له على ترك التعليم البخل بالعلم، والرغبة في كتمانه عن أهله، فهو بذلك آثم ومذموم عند الله ورسوله. وإن كان الحامل له على ذلك شغله بنفسه، واستغراقه بوظائف دينه، والعمل لآخرته، وقد استغنى الناس عن تعليمه؛ لقيام غيره من العلماء بتعليم العلم ونشره للناس، فلا باس بما فعل، فقد أخذ بمثل ذلك جماعة من السلف الصالح، والخلف المبارك، سيما في علوم الأحكام والفتاوى ونحوها. وسيأتي زيادة بيان لهذا الأمر في ذكر أوصاف المتجردين لعبادة الله، والمتفرغين لها من علماء الدين وعباد الله الصالحين. إن شاء الله.
(1/67)

ثم يلي هذا العالم من العلماء: العالم الذي لا يجد ولا يشمر في العمل بما يعلم، ولكنه يعلم الناس وينشر العلم لهم، ويكون الحامل له على ترك العمل بالعلم مع التعليم إما الكسل والتسويف، وإما أنه يستثقل العمل لمعنى آخر من معاني تسويلات النفس، ويستخف التعليم لما فيه من الشهرة والذكر بين الناس والمنزلة عندهم، وقد شبهوا هذا العالم بالإبرة التي تكسو الناس وهي عارية، وبالشمعة التي تضئ للناس وهي تحترق في نفسها، وبالمسن الذي يستحد غيره وهو لا يقطع؛ وصاحب هذا الحال داخل في عموم قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }، وقوله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }، وقوله عليه الصلاة والسلام: (يؤمر بالعالم إلى النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرحا، فيطيف به أهل النار فيقولون ما بالك؟ فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه، وأنهى عن الشر وآتيه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تعلموا ما شئتم، فو الله لا يقبل ذلك منكم حتى تعملوا به).
ويلي هذا العالم من يعلم ثم إنه لا يعمل بعلمه ولا يعلِّمه الناس؛
(1/68)

إما كسلاً واستثقالاً، وإما شغلاً واستغراقاً بأمور الدنيا وحظوظها، وقد مثَّلوا هذا العالم بالصخرة التي تقع في فم النهر، فلا هي تشرب الماء، ولا هي تترك الماء يخرج فيشرب منه الناس وينتفعون به. وجميع ما ورد من الوعيد في حقِّ من لا يعمل بعلمه يتناول هذا العالم، ثم يزيد عليه الوعيد الوارد في حق من لا يعلم العلم لعباد الله ويكتمه، مثل قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } الآية.
* * *
وأسوأ حالا من هذا العالم هو العالم الذي لا يعمل بعلمه ولا يعلمه الناس،
ثم يدعو مع ذلك إلى الشر والضلالة، وترويج الشر في معرض الخير، وتصوير الباطل بصورة الحق، إما على نية المداهنة والمحاباة للظالمين والجاهلين؛ لينال بذلك الجاه والمنزلة عندهم، ويصيب من أموالهم وما في أيديهم من متاع الدنيا، وإما عنادا لله ورسوله، وبغيا في الأمراض وفسادا، أولئك من خلفاء الشياطين، ونواب الدجال الكذاب اللعين، وهم أسوأ العلماء حالا وأخسرهم مآلا، وعليهم أوزارهم وأوزار من أضلوه من عباد
الله ودعوه إلى الضلالة؛
(1/69)

كما قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيء).
وقد يموت هذا العالم السوء، وتبقى بعده ذنوبه وزلاته وضلالته؛ فيعذب بها في قبره. وتلحقه آثامها بعد موته؛ لبقاء العاملين بها، المتبعين له عليها الأزمنة المتطاولة؛ فطوبى من إذا مات ماتت معه ذنوبه، كما قال بعض العلماء المحققين.
ومثل العالم السوء لو انتبه من غفلته، وأراد التوبة إلى ربه من زلته، فربما تتعسر وتتعذر التوبة عليه؛ كما بلغنا: أن بعض علماء بني إسرائيل الذين كانوا يدعون إلى الضلال، ندم على صنيعه وقصد التوبة من ضلالته؛ فجاء إلى نبي زمانه فأخبره ليشفع فيه إلى ربه ليقبله؛ فأوحى الله إلى ذلك النبي أن قال لو كانت ذنوبه فيما بيني وبينه لغفرتها له، فكيف بعبادي الذين قد أضلهم وأدخلهم النار؟ أي باتباعه على ضلالته.
وبلغنا: أن الله تعالى أوحى إلى داؤد عليه السلام ( ياداؤد، لا تسأل عني عالما قد أسكرته الدنيا فيصدك عن سبيلي، أولئك قطاع الطريق على عبادي).
(1/70)

وذكر أن النواويص (1) شكت إلى الله من نتن جيف الكفار فقيل لها: إن بطون علماء السوء أشدُّ مما أنتم فيه.
وقال بعض السلف الصالح رحمهم الله: ينظر أحدكم إلى الشرطي فيستعيذ بالله من مثل حاله، وعلماء السوء أشر منه حالا، أو كما قال.
وفي كلام لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه يذكر فيه علماء السوء، قال آخره: أولئك الجبارون أعداء الرحمن، وإنما صاروا بهذه المثابة من الشر لأنهم عكسوا الأمر فانعكسوا وانتكسوا؛ حيث كان أحدهم يمكنه أن يكون داعيا وهاديا إلى سبيل الرحمن، وصار ضالا مضلا، يدعو ويهدي إلى سبيل الشيطان.
وقد سمعت ما قال الله العزيز الديَّان في شأن بلعام بن باعوراء حيث يقول سبحانه: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } إلى قوله: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
__________
(1) - النوص: الناخر وهو ما ينخر في الجيف.
(1/71)

فكذلك يكون حال العالم الطالب بعلمه الدنيا, المتبع الهوى, المضل للناس بما يزين لهم من الضلالة وإلاغواء.
ومن شأن علماء الدين أن يكونوا هم المفزع والمرجع لعموم المسلمين عندما تشتبه عليهم الأمور, وتشكل عليهم الأشياء؛ فإذا رجعوا إليهم وجدوا عندهم إزاحة الشبهات, وإيضاح الأمور المشكلات, بما آتاهم الله من الآيات والبينات,وأودع لديهم من العلم بالسنن الواضحات.
فقد صار الكثير من المترسمين بالعلم من أهل هذا الزمان بلاء وفتنة, ومضرة وضلالة, إذا رجعت إليهم العامة أضلوهم وفتنوهم, وفتحوا لهم أبواب الحيل والمخادعات التي يتوصلون بها إلى أبطال الحقوق, وأكل أموال الناس بالباطل؛ فالله المستعان, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لِلَّهِ وقد أحدث مثل ذلك علماء بني إسرائيل فيما حكى الله عنهم من أخبارهم؛ فضرب الله بقلوب بعضهم على بعض, وجعلهم نكالا وموعظة لمن بعدهم.
وقد وردت الأحاديث بأن أهل الضلالة من هذه الأمة يتبعونهم عن ضلالتهم؛ حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم من ورائهم).
(1/72)

قالوا: يارسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمَن ؟) وفي رواية (حتى لو كان منهم من أتى أمه لكان منكم من يفعله) الحديث. وقد ظهرت أمثال هذه الحيل والمخادعات في بني إسرائيل, مثل ما وقع لأهل القرية الذين استحلُّوا الاصطياد يوم السبت بتلك الحيلة, ومثل قصة صاحب العصا الذي جعل فيها الجوهرة التي كانت مودعة عنده؛ فلم تغن عنهم تلك المخادعات من الله شيئاً, وحلَّ بهم مقت الله وسخطه.
فإذا كان العالم يكون بحيث إنه هو الذي يرخص للعامي,
(1/73)

ويوسع له فيما لا رخصة له فيه من الله ولا سعة, فأي شيء يكون حاله عند الله! وأي شيء تكون منزلته؟ وليتوقع من الله عقابا وسخطا يحل به.
فالذي ينبغي للعالم إن كان من علماء الدين الذي ينفع الله بهم المسلمين, إ ذا رجع العامة إليه وسألوه بلسان مقالهم أو لسان حالهم. أن يدلهم على ما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدار الآخرة, ويشرح لهم سبيل الورع, ويفتح لهم أبواب الاحتياط في الدين, ويحذرهم من أكل أموال الناس بالباطل, والوقوع فيما حرم الله عليهم مع مجانبة الشبهات والأشياء المشكلات, فإنه بذلك ومثله, يعد من علماء الدين, وهداة المسلمين.
فأما أن يوسع لهم ما ضيقه الله عليهم, ويصور لهم الباطل بصورة الحق, ويحسن لهم الوقوع في الشبهات؛ فليس ذلك من شأن العلماء بدين الله, الذين يخشون الله ويتقونه, وينصحون لأنفسهم. ولإخوانهم من المسلمين. بل هو من شأن الشياطين, والأئمة المضلين, الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. وفي حديث حذيفة رضي الله عنه لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا كنا في جاهلية فأتانا الله بهذا الخير،
(1/74)

فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ فذكر الحديث بطوله إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: (نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها) وفي بعض الأخبار: (إن الناس تنزل بهم نازلة فيفزعون إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخوا قردة وخنازير) قال بعض المحققين: المراد مسخ صورهم الباطنة، وقد مسخت من زمان. انتهى.
فمن يكون علمه بلاء عليه وعلى المسلمين، وفتنة وضلالة فليس بعالم، بل هو شيطان مارد، وفاجر معاند لله ورسوله، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }.
* * *
واعلم أن العامة محتاجون إلى من يصلحهم ويرشدهم، ويعظهم ويخوفهم بالله، ويذكرهم بوعده ووعيده؛ لأن في الغالب عليهم الغفلة عن الله وعن الدار الآخرة، والميل إلى الدنيا ومتاعها ولذاتها وحظوظها العاجلة. فإذا صار الذي يسمى عالما بألسنة الجاهلين يفتنهم ويضلهم، ويوسع لهم الأمور التي ضيقها الله عليهم من أمور الدين؛ بحيث يلقنهم الدعاوي الباطلة،
(1/75)

والشهادات الزور، وجيل الربا والنذور، التي يعرف هو وإياهم أنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى وثوابه بوجه. ويقول لمن جاءه ليكتب له وصية غير جائزة لوارث مثلا: إن الوصية لوارث غير جائزة، اجعلها بصيغة نذر أو إقرار. ولمن يريد أن يعطي ماله بعض ورثته ويحرم الباقين منهم: اجعله بطريق الإقرار والنذر؛ حتى يصح ذلك في ظاهر الحكم. وأشباه ذلك من الأمور المستبشعة, والحيل والمخادعات الفاسدة! فما هذا العالم المترسم, الموصوف بهذه الأحوال إلا من أئمة الضلال والمِحال (1) ودعاة النار والبوار, الذين جعلهم الله عاراً وخزياً, وبلاءً وفتنة على أنفسهم , وعلى من أخذ بزخارفهم واتبعهم على ضلالتهم: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }. { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ }.
وكان العلماء المتقون إذا تكلموا مع عامة المسلمين, واستفتوهم العامة في شيء لم يحدِّثوهم بالرخص,
__________
(1) - المحل: المكر والكيد.
(1/76)

ولم يخبروهم باختلاف العلماء فيما يوهم الترخص. وكانوا يخبرونهم بما يقتضي الإحتياط في الدين, والبعد عن الأمور المشتبهة, ويقولون: العامة نضيق عليهم وهم يوسعون لأنفسهم؛ لما هو الغالب عليهم من الغفلة والإنقياد للشهوات والحظوظ الدنياوية. فإن وسعت عليهم وحدثتهم بالرخص, خرجوا منها إلى المحرمات, لأن أكثرهم في مثل أحوال البهائم؛ وفي الحديث: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وقد بلغنا أن بعض ملوك المغرب جامع في نهار شهر رمضان, فجمع العلماء الذين عنده ليسألهم عن حكم ذلك, فلما اجتمعوا عنده وسألهم, قال له واحد منهم وكان المقدم فيهم بالعلم والفضل: عليك أن تصوم شهرين متتابعين. فلما خرجوا من عنده قالوا لذلك العالم: كيف تفتيه بأن عليه شهرين متتابعين، وأنت تعلم أن مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى: التخيير في كفارة المجامع في نهار رمضان: بين إعتاق الرقبة، والصوم، والإطعام، وكانوا مالكية؟ فقال لهم: لو أخبرته بالإعتاق والإطعام لهان عليه ذلك، وجامع في كل يوم من رمضان، والصوم يشتد عليه مشقته فيكون أقرب إلى زجره وردعه.
(1/77)

وكان الإمام أحمد بن موسى بن عجيل رحمه الله تعالى لا يقرأ كتاب الإيلاء والظهار واللعان في حضرة العامة. وكان يأمر القارئ إذا انتهى إليها بحضرتهم أن يتجاوزها، ويقريه إياها خالياً لئلا يسمعوها فيسارعوا فيها فيقعوا في الحرج والعنت.
هكذا كانت سيرة علماء الدين في كمال شفقتهم، وحسن سياستهم لعامة المسلمين. قال ابن عباس رضي الله عنهما لبعض من أراد أن يسأله عن شيء استحى من ذكره: إنما العالم بمنزلة الوالد، فما تفضي به إلى والدك فافض به إلي. وقد سبقه إلى ذلك إمام المتقين، وسيد الناصحين صلوات الله وسلامه عليه؛ حيث قال: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد).
وقد كان صلوات الله وسلامه عليه إذا جاء من يسأله أرشده إلى ما فيه تقوى الله، والنجاة من عذابه، والتعظيم لحرماته. والإحتياط في دينه.
فمن ذلك حديث الأنصاري الذي أراد أن يعطي بعض أولاده غلاما؛ فلما سأله عليه الصلاة والسلام: (هل أعطيت سائر أولادك مثله؟ فقال لا؛ فأمره برد الغلام).
(1/78)

وفي رواية (أنه سأل منه عليه الصلاة والسلام أن يشهد على ذلك؛ فقال: هذا جور وأنا لا أشهد على الجور) الحديث.
ومن ذلك حين رأى صلى الله عليه وسلم التمر الذي جيء به من خيبر فرآه جيدا (فسأل أكل تمر خيبر هكذا) فقالوا: لا، ولكنا نأخذ الصاع من هذا بصاعين من الردئ، فقال عليه الصلاة والسلام: (هذا من الربا، ولكن بيعوا الصاعين من الردئ بدرهم، واشتروا بالدرهم صاعا من الجيد) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فأرشدهم إلى ما يصح وما يحل، ونهاهم عما لا يصح ولا يحل.
ولما سأله عتبة بن الحرث رضي الله عنه عن امرأة تزوج بها؛ فجاءته امرأة سوداء فأخبرته: أنها قد أرضعته وأرضعت المرأة التي تزوجها، وقال: يا رسول الله إنما هي سوداء! فقال له عليه الصلاة والسلام: (دعها ?أي المرأة التي تزوجها?، فلا خير لك فيها) الحديث.
* * *
وهكذا كان شأن علماء الدين الناصحين لله ورسوله وللمسلمين، إنما يدلونهم على ما فيه النجاة والفوز، من البعد عن الشبهات والأمور المشكلات، وما يوهم التساهل في الدين،
(1/79)

والترخص المذموم الذي لا يأخذ به إلا كل متهاون متساهل في دينه، متعرض للوقوع فيما يسخط ربه، ويضره في آخرته.
ولم يزل علماء الآخرة من أهل اليقين والخشية والزهد في الدنيا، يحذرون الناس من علماء الشر المفتونين الراغبين في الدنيا، ويبينون لهم أمرهم وأحوالهم، ويصفونهم لهم بأوصافهم المعرفة المميزة بينهم وبين علماء الآخرة، الدعاة إلى الله وإلى دينه.
وقد ذكر الإمام حجة الإسلام رحمه الله في كتاب العلم من الإحياء ما فيه الغنية والكفاية، وقد سبق إلى نحو من ذلك الإمام الحارث بن أسد المحاسبي(1) رحمه الله في كتبه، والإمام أو طالب المكي (2) رحمه الله في كتاب قوت القلوب، وغير هؤلاء كثير من السلف والخلف الصالح،
__________
(1) - أبو عبد الله. من علماء مشايخ القوم بعلوم الظاهر وعلوم المعاملات والأصول. وهو أستاذ أكثر البغداديين. بصري الأصل. مات ببغداد سنة 243ه-.
(2) - هو محمد بن علي بن عطية الحارثي، الفقيه الزاهد الواعظ، المتوفى ببغداد سنة 386ه-. وهو من أهل الجبل بين واسط وبغداد.
(1/80)

من الذين كانوا يحذرون علماء السوء ويخوفونهم بالله، ويحذرون الناس منهم ومن فتنتهم، ويفرقون للناس بينهم وبين علماء الآخرة بالعلامات والدلالات. وقد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله في كتاب العلم بابا ذكر فيه علامات علماء الآخرة، وعد من ذلك اثنتي عشرة علامة. فلينظر فيه من أراده، ورغب في الوقوف عليه، رحمة الله عليه ورضوانه، وعلى جميع علماء الدين الناصحين للمسلمين.
قال رحمه الله: (بعد ما عدَّ علامات علماء الآخرة المميزة بينهم وبين علماء الدنيا): فهذه اثنتا عشرة علامة من علامات علماء الآخرة، تجمع كل واحدة منها جملا من أخلاق علماء السلف. فكن أحد رجلين: إما متصفا بهذه الصفات، أو معترفا بالتقصير مع الإقرار به، وإياك أن تكون الثالث فتلبس على نفسك بأن تلقب آلة الدنيا بالدين، وسيرة البطالين بسيرة العلماء الراشدين الراسخين في الدين؛ فتلتحق بجهلك وإنكارك بزمرة الهالكين الآيسين، نعوذ بالله من خدع الشيطان، فيها هلك الجمهور. فنسأل الله أن يجعلنا ممن لا تغره الحياة الدنيا، ولا يغره بالله الغرور (انتهى).
(1/81)

واعلم أن للعلم وأهله، والمعلِّمين له والمتعلِّمين، الذين يريدون بذلك وجه الله تعالى والدار الآخرة فضلا عظيما، وشأنا جسيما، وثوابا كريما. وقد ورد في ذلك من الآيات والأخبار والآثار ما يطول ذكره، ويتعذر حصره؛ قال تعالى: { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }. وقال تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }، وقال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيرا لم يفقهه في الدين، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه. ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد).
وقال عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع.
(1/82)

وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر (ليلة البدر) على سائر الكواكب) الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام: (أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد). أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل. وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل.
وأوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام: (يا إبراهيم، إني عليم أحب كل عليم).
وقال علي كرم الله وجهه لكميل بن زياد: يا كميل، العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم حاكم والمال محكوم عليه. والمال تنقصه الصدقة والعلم يزكو على الإنفاق.
وقال لقمان: الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: يوزن مداد العلماء بدم الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء.
(1/83)

وقال أبو الأسود رحمه الله: ليس شيء أعز من العلم. الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه أن تهلك رواته. فو الذي نفسي بيده، ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم. وإن أحدا لم يولد عالما، وإنما العلم بالتعلم.
وقد ذكرنا هذه النبذة اليسيرة من فضل العلم وأهله، تبركا وتنبيها.
وفضل العلم مجموع مخصوص بفضل الله ورحمته للعلماء الذين تعلموا وعملوا، وعلموا العلم ابتغاء وجه الله ومرضاته والدار الآخرة. فأما علماء السوء المفتونون فليس لهم فضل؛ بل قد ورد في ذمهم وتوبيخهم ما يطول ويهول، كما ذكرنا شيئا من ذلك فيما تقدم. نسأل الله العافية من كل شر وفتنة، وبلاء ومحنة في الدنيا والآخرة، لنا ولأحبابنا وللمسلمين، ونسأل الله علما نافعا، وعملا متفبلا، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وأن يختم لنا بالحسنى والإحسان في لطف وعافية، إنه أرحم الراحمين.
* * *
(1/84)

****************
الصنف الثاني
دعوة العباد والزهاد
*****************
(1/85)

(1/86)

الصنف الثاني
العبَّاد والزهَّاد، وأهل الجدِّ والاجتهاد، والمتبتِّلون إلى الله، والمتفرِّغون لطاعته وعبادته، وخدمته وحسن معاملته والقول في نصيحتهم وتذكيرهم وتنبيههم وتحذيرهم
* * *
اعلم أن هذا الصنف من الناس هم صفوة الله من عباده، وموضع نظره من خلقه، ومعادن أنواره وخزائن أسراره، وكثيرا ما يوجد منهم ويعرف فيهم أولياء الله وأصفياؤه من الأوتاد والأبدال، والنقباء والنجباء من الرجال، وفيهم ومنهم تتعرف وتؤخذ حقائق الإخلاص والصدق، والتوكل والزهد، وأشباهها من مقامات اليقين، وأسرار معاملات الدين. أولئك هم الصوفية الأصفياء، الأبرياء الأتقياء، أهل الحق والحقيقة، العالمون السالكون، الذائقون لأسرار الطريقة، وأرباب الولاية والرعاية، الذين بيُمْنِ بركاتهم ومستجاب دعواتهم تُستَدْفع البليات، وتُسْتَكفى الأذيَّات،
(1/87)

ويرحم الحاضر والباد، ويغاث العباد والبلاد، نفعنا الله بهم، وأعاد من سرهم وبركاتهم علينا وعلى أحبابنا والمسلمين.
ثم اعلم أنه قد يفتدي بهؤلاء ويتأسى بأسوتهم، ويقصد سلوك طرائقهم من شاء الله من المبتدئين والطالبين، فيحتاجون إلى التعريف والتنبيه، والتعليم والتذكير، فنحن نذكر من ذلك ما يسره الله، كما أنا قد أسلفنا في شرح أحوال الصنف الأول الذين هم العلماء بالدين ما يسر الله ذكره، فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا ولهم في ذلك، وفي جميع ما أعطانا وأعطاهم من فضله وإحسانه، وأن يوفقنا وإياهم لشكر نعمه الموجب للمزيد من كرمه؛ فإنه الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * *
اعلم رحمك الله أن من أراد سلوك طريق الله، وعزم على التفرغ لعبادته والإنقطاع إليه سبحانه وتعالى، وعلى التجرد عن كل ما يشغل عن التفرغ لهذا الشأن من أي شأن كان يتعين عليه ويتأكد جدا أن ينظر: فإن كان قد حصل من علوم الإيمان وعلوم الإسلام ما لا بد منه، أخذ في العبادة
(1/88)

بالتفرغ عن كل ما يشغله عنها، وجد في قطع العلائق وصرف العوائق، وأقبل بظاهره وباطنه على الله وعلى الدار الآخرة، وإن كان لم يحصل ما لا بد له منه من هذه العلوم، وجب عليه أن يحصل القدر الذي يتعين عليه علمه؛ فإن ذلك فرض عليه مقدم على الأخذ في العبادة وعلى سلوك طريق التأله والزهادة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وفي الخبر أو الأثر (من عبد الله بجهل كان ما يضره } أي من عبادته { أكثر مما ينفعه). فعلى الراغب في سلوك طريق الله أن يتعلم من العلوم الإيمانية والعلوم الإسلامية ما يصحح به معتقده في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته، ومن الإيمان بالرسل وباليوم الآخر، ومن علوم الإسلام العلم بالطهارة والصلاة والصوم، والزكاة والحج.
وبالجملة، فلا يدخل في شيء من العبادات، ولا يتلبس بشيء من العادات كالأنكحة والمبايعات حتى يعلم حكم الله تعالى فيه، وإلا وقع في الحرج من حيث يدري ومن حيث لا يدري من غير أن يعذر بذلك.
ويكفيه في معرفة علوم الإيمان: أن يعرف ويعلم بعض عقائد الأئمة المجمع على علمهم، وأمانتهم وصلاحهم،
(1/89)

مثل الإمام حجة الإسلام، وعقيدته التي أوردها في أول كتاب قواعد العقائد من كتب إحياء علوم الدين كفاية في ذلك ونهاية. وقد ذكرنا في أوائل كتاب (إتحاف السائل) وفي خاتمة كتاب (النصائح الدينية) عقائد مختصرة جامعة، فيها الكفاية للسالك الناسك.
وأما علوم الإسلام المترجم عنها بعلوم الأحكام فيكفي السالك أن يعلم منها ما أورده حجة الإسلام رحمه الله في (بداية الهداية) غير أنه لم يذكر فيها من علوم الزكاة وعلوم الحج ما تدعو إليه الحاجة. وقد أحال مريد ذلك على كتاب (إحياء علوم الدين)، وفيما ذكره الفقيه العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن الحاج أبي فضل(1) رحمه الله في كتاب (المختصر اللطيف) ما يكفي الناسك، فإن احتاج إلى مزيد عليه فلينظر في مختصره الكبير الذي شرحه الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي(2) رحمه الله.
__________
(1) ولد بتريم بحضرموت سنة 850ه- وتوفي بالشحر سنة 918ه- وهو فقيه شافعي، انتهت إليه رياسة الفقه في عصره.
(2) هو الإمام أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري الشافعي. ولد بمصر في إحدى قراها سنة 909ه- وتوفي بمكة سنة 974ه-.
(1/90)

وإن ساعدت الأقدار، وامتدت الأيام، وضعنا كتابا يشتمل على ما يحتاجه أهل النسك والعبادة وعامة المسلمين من علوم الإيمان، وعلوم الإسلام، وعلوم الإحسان. ونجعله كالشرح لحديث جبريل عليه السلام، الذي سأل به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه العلوم.
وأما التبحر والاتساع في العلوم فليس ذلك بواجب على الأعيان، بل هو خاص بالمتفرغين المتأهلين له من أئمة الدين وأعلام الملة، الذين أقامهم الحق وأهلهم لنفع عباده وإرشادهم، وبيان أحكام أحوال معاشهم ومعادهم.
وقد يجمع الله لبعض الخواص من المؤمنين بين العلوم الباطنة والظاهرة، ويؤهله لنفع الخاصة والعامة، وعلم الشريعة وسلوك الطريق وشهود الحقيقة. وكان على هذا القدم وعلى مثل هذا الوصف جماعة من السلف الصالح مثل سيدنا الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي أمير المؤمنين، وولده الإمام أبي جعفر محمد الباقر، وولده الإمام جعفر الصادق بن محمد، ومثل الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز الأموي، ومثل أبي سعيد الحسن بن يسار
(1/91)

البصري(1) وجماعة يكثر عددهم، ومن بعدهم مثل الشيخ الحارث بن أسد المحاسبي، والشيخ الجنيد بن محمد (2)، ومن بعدهم مثل الشيخ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري(3) صاحب الرسالة، ومثل الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ومثل الشيخ محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح الشريف الحسني الجيلاني، ومثل الشيخ أبي حفص عمر بن محمد السهروردي صاحب (العوارف)(4)، وعمه الشيخ أبي النجيب السهروردي(5) إلى غير هؤلاء من الأئمة الأعلام. ومن السادات آل أبي علوي الأشراف الحسينيين جماعة كثيرة كانوا على هذا الوصف، وعلى هذا القدم من الجمع بين العلم الظاهر والعلم الباطن،
__________
(1) الإمام التابعي المتوفى سنة 110ه-.
(2) أبي القاسم. أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه بالعراق. وهو إمام القوم وسيد الطائفة. توفي ببغداد سنة 297ه-.
(3) المتوفى سنة 465ه- بنيسابور. وهو شيخ خراسان في عصره.
(4) المتوفى سنة 632ه- ببغداد، وهو قرشي تيمي بكري؛ وفقيه شافعي، مفسر صوفي واعظ.
(5) عبد القادر الملقب بضياء الدين. ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه انعقد على فضله إجماع العلماء، وتخرج بصحبته جماعة من الأكابر. سكن بغداد إلى أن مات بها سنة 563 ه- بمدرسته على شاطئ دجلة.
(1/92)

والشريعة والطريقة والحقيقة، مثل شيخ الشيوخ الفقيه المقدم محمد بن علي الشريف الحسيني التريمي(1)
، ومثل الشيخ المعظم السقاف عبد الرحمن بن محمد(2) وولده الشيخ القدوة عمر المحضار(3) وولد ولده الشيخ القطب عبد الله بن الشيخ أبي بكر العيدروس(4)، وأخيه الشيخ الجامع علي بن أبي بكر(5).
ومن أهل البيت السادة آل أبي علوي جماعة يطول تعدادهم كانوا على ذلك الوصف، يعرف ذلك من نظر في سيرهم وطالع في أخبارهم ومناقبهم. نفعنا الله بهم وبسائر الصالحين, وأفاض علينا من بركاتهم, وحفظنا بأسرارهم من الشر والأشرار والفتن والمفتونين؛ إنه جواد كريم, قريب مجيب.
__________
(1) - ولد بتريم بحضرموت وتوفي بها سنة 653ه- ويلقب بالأستاذ الأعظم، والفقيه المقدم.
(2) - هو الإمام عبد الرحمن بن محمد مولى الدويله بن علي بن علوي المتوفى بتريم سنة 819ه-.
(3) - ولد بتريم وحفظ القرآن بها وتلقى العلوم الدينية وكان كثير الكرامات توفي سنة 833ه- وهو ساجد في صلاته.
(4) - ولد بتريم وحفظ القرآن بها وتلقى العلوم الدينية وهو إمام أهل وقته والمقدم على أهل زمانه. توفي سنة 865ه- وعمره 54 سنة.
(5) - ولد بتريم وحفظ القرآن بها وتلقى العلوم الدينية واشتهر بكثرة العبادة والصلاح مثل آبائه العلويين. توفي سنة 895ه-.
(1/93)

ومن رجال هذه الطريقة من كان شأنه الاقتصار من العلم على ما لا بد منه, والأخذ في العبادة والتبتل إلى الله والانقطاع إليه, والتفرغ عن كل ما يشغله عنه سبحانه وعن طاعته, والانقباض عن الناس والفرار منهم؛ مثل أويس القرني, ومالك بن دينار(1)، وعبد الواحد بن زيد(2)، وعتبة الغلام(3)، والربيع بن خيثم(4)، وثابت البناني(5)،
__________
(1) هو أبو يحيى الزاهد. كان يكتب المصاحف بالأجرة، ويتقوت بأجرته، مات سنة 127ه- وقيل سنة 123. وفي الطبقات سنة 131ه-.
(2) أدرك الحسن البصري المتوفى سنة 110ه- واستمر يصلي الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة.
(3) هو عتبة بن أبان. وسمي بالغلام لأنه كان في العبادة كأنه غلام رهبان؛ لا لصغر سنه. كان يأوي إلى المقابر والصحاري ويخرج إلى السواحل فيقيم فيها؛ فإذا كان يوم الجمعة دخل البصرة فيشهد الجمعة؛ ثم يأتي إخوانه فيسلم عليهم. مات رضي الله عنه شهيداً في قتال الروم. (طبقات ص 40 ج 1).
(4) ابن عائذ الكوفي، مات رضي الله عنه سنة 67ه- أيام معاوية.
(5) هو ثابت بن أسد البناني. قيل لما مات كان الناس يسمعون من قبره تلاوة القرآن.
(1/94)

وحبيب العجمي(1)، وإبراهيم بن أدهم(2)، والفضيل بن عياض(3)، ووهيب بن الورد(4)، وداود الطائي(5)، ومعروف الكرخي(6)، وبشر الحافي(7)، وسري السقطي(8)، وسهل
__________
(1) هو أبو محمد حبيب بن محمد العجمي البصري. كان عابدا فاضلا، ورعا تقيا. مجاب الدعوة. (تهذيب).
(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور، من أهل بلخ. كان من أبناء الملوك والمياسير، وخرج للصيد فهتف به هاتف أيقظه من غفلته! فترك طريقته في التزين بالدنيا، ورجع إلى طريقة أهل الزهد والورع، وخرج إلى مكة فصحب سفيان الثوري وأضرابه، ودخل الشام فكان يعمل فيه ويأكل من عمل يده، ومات بالشام. سنة 161ه-.
(3) التميمي اليربوعي. خراساني من ناحية (مرو). مات بالحرم الشريف سنة 187.
(4) وهيب بن الورد بن أبي الورد القرشي. اسمه عبد الوهاب، و(وهيب) لقب. كان من العباد المتجردين لترك الدنيا (تهذيب).
(5) هو أبو سليمان داود بن نصير الكوفي، كان كبير الشأن في باب الزهد والورع. توفي سنة 160ه- وقيل 165 (تهذيب).
(6) يلقب بالزاهد. وهو من جملة المشائخ وقدمائهم، المعروفين بالورع والفتوة، مجاب الدعوة. وهو من موالي علي بن موسى الرضا، مات ببغداد ودفن بها سنة 200ه-.
(7) هو بشر بن الحارث أبو نصير. قال الخطيب فيه: كان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد. وتفرد بوفور العقل، وحسن الطريقة واستقامة المذهب سكن بغداد ومات بها سنة 227ه-.
(8) هو أبو الحسن سري بن المغلس السقطي. إمام البغداديين وشيخهم في وقته، وأول من تكلم بلسان التوحيد وحقائق الأحوال مات سنة 251ه-.
(1/95)

التستري(1) رحمهم الله.
وكان شأن هؤلاء الانقباض عن الناس وقلة المخالطة، وخروج الكثير منهم إلى الجبال والشعاب، والسياحة في الفيافي والقفار؛ رياضة للنفس، وقطعا لعوائدها ومألوفاتها، وتصحيحاً لمقامات اليقين: من التوكل على الله، والإخلاص له، والزهد في الدنيا، وفي المال والجاه، والمنزلة في قلوب الناس.
وكان الأكثر من رجال الله على مثل هذا الوصف وهذا السبيل. وكان من ظهر للناس منهم أو جالسهم، إنما يجلس مع الخاصة، ويخوض معهم في العلوم الخاصة.
وكان أحدهم إذا كثر عليه الناس يترك الجلوس ويقوم عنهم، وربما أمر بعضهم بغلق الباب عليه وعلى أصحابه من الخاصة؛ لدقة العلوم التي يتذاكرون بها، ويتفاوضون فيها بينهم.
_____________
(1) هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري. أحد أئمة القوم ومن أكابر علمائهم المتكلين في علوم الرياضيات والإخلاص وعيوب الأفعال. توفي سنة 283ه-.
(1/96)

وكانوا يفرُّون من الشهرة، ومن نصب أنفسهم للفتيا، وتقلد الولايات والأحكام، والجلوس لعامة الناس شغلاً منهم لأنفسهم، وحرصاً على سلامة دينهم وصلاح قلوبهم.
ولما لقي هرم بن حيان(1) أويساً القرني رحمهما الله بشاطئ الفرات بعد أن طلبه مدة قال له: حدثني بحديث أحفظه عنك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أويس: إني لم ألقَ رسول الله (بأبي وأمي رسول الله) ولكني لقيت رجالاً رأوه، وقد بلغني من حديثه، وأكره أن أفتح على نفسي هذا الباب! لي شغل شاغل في نفسي! لا أحبُّ أن أكون محدثاً ولا مفتياً ولا قاضياً، أو كما قال رحمه الله، والقصة في ذلك مشهورة.
وكان يقال: مثل بشر بن الحارث مثل العين العذبة، يردها الواحد بعد الواحد. ومثل أحمد بن حنبل مثل دجلة، يردها البر والفاجر.
وقال بشر رحمه الله: فضلني أحمد بن حنبل رحمه الله بثلاث: ذكر منها أنه نصب إماماً للعامة.
__________
(1) - العبدي الأزدي، من بني عبد القيس من كبار النساك من التابعين كان أمير عبد القيس في الفتوح. ولي بعض الحروب في أيام عمر وعثمان بأرض فارس، وكان من سكان البصرة. وعده ابن أبي حاتم في الزهاد الثمانية من كبار التابعين. مات في إحدى غزواته بعد سنة 26ه-.
(1/97)

وكان أحمد يقول في بشر: إنه قعد على مثل حد السيف (أي من الورع والاحتياط للدين، والتقلل من الدنيا). فانظر رحمك الله إلى هؤلاء الأئمة، كل منهم يفضل صاحبه على نفسه، ويشهد له بالسبق والتقدم.
وقال بشر: أشتهي أن أحدث، ولو ذهبت عني شهوة الحديث لحدَّثت. وروى أنه دفن بضعة عشر ما بين قوصرة وقمَّطر(1) من الكتب.
ورئي الإمام محمد بن يوسف الأصفهاني وهو يدفن كتبه ويقول: كنت محدثاً فكان ماذا! كنت مفتياً فكان ماذا! كنت قاضياً فكان ماذا! أو كما قال.
ومثل ذلك كان شأن رجال أقبلوا على الله وعلى الدار الآخرة، واشتغلوا بخاصة أنفسهم، وتجردوا لعبادة ربهم، وفيهم يصدق قول من قال: كان العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طُلِبوا هربوا (أي فراراً بدينهم، واحترازاً عمن يشغلهم عن عبادة ربهم).
_________________
(1) القوصرة- بتشديد الراء وتخفف-: وعاء التمر. والقمطر- بتشديد الميم المفتوحة وتخفيفها: ما تُصان به الكتب.
(1/98)

…وكان العلماء في تلك الأزمنة متكاثرين ومتوافرين. وكان القيام بفرض الكفاية من تعليم من ليس يعلم حاصلا بالبعض منهم وقائما به. فتفرغ أمثال هؤلاء الذين ذكرناهم للعمل والعبادة، والاعتزال عن الناس، والإقبال بكنه الهمة على الدار الآخرة، وترك ما يشغلهم عن ربهم وعن طاعته، والتجرد لعبادته كائنا ذلك ما كان.
ثم إن من أهم المهمات على سالكي هذه الطريق بعد أخذ ما لا بدَّ لهم من العلم، التحرِّي البالغ، والحرص التام على تناول الحلال، ثم على الاقتصار منه على قدره؛ كضرورة الحاجة من المطعم والملبس، ونحو ذلك من الحاجات المعاشية, وأن لا يتساهلوا في ذلك، ولا يأخذوا فيه بالرخصة وما يجوز مما هو شأن العامة؛ بل يجتهدوا في طلب الحلال المطلق الصافي عن جميع الشوائب. فإن صفا لهم ذلك وتيسر وهم بين ظهراني الناس، وإلا خرجوا في طلبه إلى حيث يوجد، ويتيسر من المواضع التي يوجد ذلك فيها من الجبال والبراري التي يكثر فيها وجود الأشياء المباحة المقتاتة ولو من الحشيش.
وقد أخذ بذلك واعتمده كثير من رجال الله، الذين لهم عناية بصفاء قلوبهم
(1/99)

وصلاحها واستعدادها لمعرفة الله، والمكاشفة بأسراره وغيوبه في ملكه وملكوته- رضي الله عنهم أجمعين- فبلغنا عن بعضهم أنه كان يقتات الحشيش حتى اخضر جسده، وكان بعضهم إذا لم يجد الحلال المطلق يستف من الرمل الأيام الكثيرة؛ نقل ذلك عن سفيان الثوري وغيره، رحمهم الله تعالى.
وأما ما يقوله العلماء رحمة الله عليهم: إن الحلال هو الذي لا يعلم الإنسان سبباً ظاهراً في تحريمه، وإن من أكثر ماله حلال تجوز معاملته، فذلك صحيح، وهو الذي يسع عامة المسلمين ويتيسَّر لهم، وما جعل الله عليهم في الدين من حرج ولكن الجائز والمباح، وموضع الرخصة والسعة غير الورع والإحتياط والأخذ بعزائم الدين، ولكل مقام رجال، ولكل حال مقال.
وقد بالغ رجال من هذا الصنف في الإقتصار من الحلال الصافي، على ما لا بد منه في حفظ القوة التي لا بد منها في إقامة أمر الله وفرائض دينه. وانتهى بعضهم إلى الإقتصار على حد الضرورة من ذلك. ولهم في ذلك سير وأقوال معروفة عن سهل بن عبد الله التستري وغيره من أئمتهم.
(1/100)

وقد شرح ذلك الإمام حجة الإسلام رحمه الله في كتاب (كسر الشهوتين من الإحياء) وفي غيره من كتبه التي ألفها في علومهم وشرح طرائقهم.
وقد كان أبو سليمان الداراني(1) رحمه الله يقول: أحلى ما تكون العبادة إذا التصق بطني بظهري. وقال أيضاً: لأن أترك لقمة من عشاي أحبُّ إليَّ من قيام ليلة. وأقوالهم في ذلك كثيرة مشهورة.
وقد ردَّ بعضهم أصول هذه الطريقة إلى أربعة: قلة الطعام، وقلة المنام، وقلة الكلام، واعتزال الأنام. قال: وبها صار الأبدال أبدالاً، وهي أركان بيت الولاية، وفي ذلك يقول قائلهم:
بيت الولاية قسَّمَت أركانَه ... سادتُنا فيه من الأبدال
ما بين صمتٍ واعتزالٍ دائمٍ ... و الجوع والسهر النزيه العالي

__________
(1) - هو أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الداراني. و(داريا): قرية من قرى دمشق كان كبير الشأن في علوم الحقائق والورع، توفي سنة 215ه-.
(1/101)

وقد نظمناها في بيت من آخر التائية وهو:
وكن في طعام والمنام وخلطة ... ونطق على حد اقتصار وقِلَّةِ
وفي الرائية التي مطلعها:
يا زائري حين لا واش من البشرِ .............................
وبالرياضة من صمت ومخمصة ... مع التخلي عن الأضداد والسهرِ
ومن آخر العينية أيضاً:
والنفس رضها باعتزال دائم ... والصمت مع سهر الدجى وتجوُّعِ
وقد قال حاتم الأصم (1)رحمه الله تعالى: من أراد طريقنا هذا فليوطن نفسه على أربعة ألوان من الموت: موت أبيض وهو الجوع، وموت أحمر وهو مجاهدة النفس، وموت أخضر وهو طرح الرقاع بعضها إلى بعض، وموت أسود وهو احتمال الأذى من الخلق، أو كما قال.
وقال الجنيد رحمه الله تعالى: لا يصلح طريقنا هذا إلا لأقوام كُنِسَت بأرواحهم المزابل (أي من تذلُّلهم لله، وتواضعهم لعباده، وخضوعهم وخشوعهم لعظمته).
__________
(1) هو أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف الأصم. من قدماء مشايخ خراسان من أهل بلخ مات سنة 237ه-.
(1/102)

واعلم أن الصادقين من أهل هذا الطريق قد قلوا وعزوا، حتى صاروا أعز من الكبريت الأحمر، حتى قال بعض المحققين بفقدهم وخلوا الأرض منهم؛ وفي كلامه نظر. وقد يعبر عما قل وعز وجوده بالمفقود، والأرض لا تخلو عن قائم لله بحججه، وفي الحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وفي الحديث الآخر: (ليجدن ابن مريم من أمتي رجالاً هم مثل حوارييه وخير منهم)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ولكنهم يقلون ويستترون عند فساد الزمان وعموم الفتن، وغلبة الغفلة والإعراض عن الله (فمنهم) من يعتزل الناس مع الإقامة بين أظهرهم. (ومنهم) من يستتر عنهم بحرفة ونحوها. (ومنهم) من يخرج إلى البراري والقفار؛ فراراً إلى الله بدينه، واحترازاً من الفتن والمفتونين.
قال بعض العارفين: إنما خرج أهل الحق من بين أظهر الناس إلى القفار والبراري؛ لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء السوء، الذين هم علماء عند أنفسهم، وجهَّال عند أهل الله تعالى من رجال الحق. انتهى ما ذكره بمعناه.
(1/103)

فأهل هذه الطريقة أحرص الناس على الإستتار والخمول، والفرار عن الناس خصوصا عند فساد الزمان. وإلى أهل هذه الطائفة الإشارة بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به، لو أقسم على الله لأبره) (1) منهم البراء بن مالك.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)(2) يعني بالغني: غني النفس القنوع.
قال رجل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: (مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله). قال: ثم من؟ قال: (رجل معتزل في شعب(3) من الشعاب يعبد الله، ويدع الناس من شره)، وقال عليه الصلاة والسلام: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف(4) الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن).
__________
(1) - روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك، وأبو نعيم عن أبي هريرة بلفظ (رب أشعث ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره) والأشعث: المغبر الرأس، أو المتلبد الشعر. والأغبر: ما لونه الغبرة، وهي التراب. والطمر: الثوب البالي.
(2) - رواه أحمد في مسنده عن سعد بن ابي وقاص.
(3) - الشعب- بكسر أوله-: الطريق، أو الجبل.
(4) - شعف الجبال: رؤوسها؛ جمع شعفة.
(1/104)

وعن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليسير من الرياء شرك, ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة. إن الله يحب من عباده الأبرار الأتقياء الأخفياء, الذين إذا غابوا لم يفقدوا, وإن حضروا لم يعرفوا, قلوبهم مصابيح الهدى, يخرجون من كل غبراء مظلمة). وقال عليه الصلاة والسلام: (أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ, ذو حظ من صلاة, وكان رزقه كفافا وصبر عليه حتى لقي الله, وأحسن عبادة ربه, وكان غامضاً(1) في الناس عجلت منيته,وقلَّ تُراثه, وقلَّت بواكيه) وفي مثله أنشدوا:
أخص الناس بالإيمان عبد ... خفيف الحاذ مسكنه القفارُ
له بالليل حظ من صلاة ... ومن صوم إذا طلع النهارُ
وفيه عِفَّة وبه خمولٌ ... إليه بالأصابع لا يُشارُ
وقل الباكيات عليه لما ... قضى نَحباً وليس له يسارُ
قال الشيخ الإمام عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني(2) رحمه الله تعالى
______________
(1) - خفيف الحاذ: خفيف الظهر غامصا: محتقرا مهانا.
(2) نسبة إلى بني يافع من حمير. ولد ونشأ في عدن. وتوفي سنة 768ه-.
(1/105)

(في كتابه روض الرياحين في الحكاية الخامسة والأربعين بعد المائة منه): روي أن أويساً القرني(1) رضي الله عنه, كان يقتات من المزابل ويكتسي منها, فنبحه كلب على مزبلة؛ فقال له أويس: كل مما يليك، وأنا آكل مما يليني ولا تنبحني. فإن جزتُ الصراط فأنا خير منك، وإلا فأنت خير مني. وكان أهله يقولون: هو مجنون. وأقاربه به يستهزئون، والصغار به يتولعون، وبالحجارة يرمون، وفيه أقول:
سقى الله قوماً من شراب وداده ... فهاموا به ما بين بادٍ وحاضرِ
يظنهم الجهال جُنُّوا وما بهم ... جنونٌ سوى حُبٍّ على القوم ظاهرِ
سقوا بكوؤس الحب راحاً من الهوى ... فراحوا سكارى بالحبيب المسامرِ
يناجونه في ظلمة الليل عندما ... به قد خلوا منهم أويس بن عامرِ
__________
(1) هو ابن عامر بن جزء. من بني قرن (بفتحتين، بطن من مراد) من سادات التابعين، ومن أكابر الزهاد رث البيت قليل المتاع. يرجح أنه قتل في وقعة صفين مع علي كرم الله وجهه سنة 37ه-.
(1/106)

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء, الشعثة رؤوسهم, المغبرة وجوههم, المخمصة بطونهم, الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم, وإذا خطبوا المتنعمات لم ينكحوا, وإذا غابوا لم يفتقدوا, وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم, وإن مرضوا لم يعادوا, وإن ماتوا لم يشهدوا). قالوا: يا رسول الله، كيف لنا برجل منهم؟ قال: (ذاك أويس القرني). قالوا: وما أويس القرني؟ قال: (أشهل ذو صهوبة، بعيد ما بين المنكبين، معتدل القامة، آدم شديد الأدمة، ضارب بذقنه إلى صدره، رام ببصره إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله، يبكي على نفسه، ذو طمرين لا ثوب له، متزر بإزار صوف ورداء صوف، مجهول في أهل الأرض، معروف في أهل السماء، لو أقسم على الله لأبر قسمه، ألا وإن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء، ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد ادخلوا الجنة، وقيل لأويس: قف فاشفع؛ فيُشَفِّعه الله في مثل ربيعة ومضر، يا عمر، يا علي، إذا أنتما لقيتماه فاطلبا منه أن يستغفر لكما يغفر الله لكما).
(1/107)

قال: فمكثا يطلبانه عشر سنين لا يقدران عليه؛ فلما كان في آخر السنة التي توفي فيها عمر، قام على أبي قيس فنادى بأعلى صوته: يأهل اليمن، أفيكم أويس؟ فقام شيخ كبير طويل اللحية، فقال: إنا لا ندري ما أويس! ولكن ابن أخ لي يقال له أويس، وهو أخمل ذكرا، وأقل مالا، وأهون أمرا من أن نرفعه إليك! وإنه ليرعى إبلنا، حقير بين أظهرنا. فعمى عليه عمر كأنه لا يريده. وقال: أين ابن اخيك هذا؟ أبحرمنا هو؟ قال: نعم، قال: وأين يصاب؟ قال: بأراك عرفات. قال: فركب عمر وعلي رضي الله عنهما، وأسرعا إلى عرفات؛ فإذا هو قائم يصلي إلى شجرة والإبل حوله ترعى فشدا حماريهما، ثم أقبلا عليه، وقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ فخفف أويس من الصلاة، ثم رد عليهما السلام فقالا: من الرجل؟ فقال: راعي إبل وأجير قوم. فقالا: لسنا نسألك عن الرعاية والإجارة، ما اسمك؟ قال: عبد الله، قالا: قد علمنا أن أهل السموات والأرض كلهم عبيد الله؛ فما اسمك الذي سمتك به أمك؟ قال: يا هذان، ما تريدان بي؟ قالا: وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم أويساً القرني، فقد عرفنا الصهوبة والشهولة، وأخبرنا أن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء،
(1/108)

فأوضحها لنا، فإن كانت بك فأنت هو. فأوضح لهما منكبه، فإذا لمعة فابتدرا يقبلانه وقالا: نشهد أنك أويس القرني، فاستغفر لنا يغفر الله لك فقال: ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحداً من ولد آدم، ولكنه في البر والبحر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات. يا هذان قد شهر الله لكما حالي وعرفكما أمري؛ فمن أنتما؟ قال علي: أما هذا فعمر أمير المؤمنين، وأما أنا فعلي ابن أبي طالب؛ فاستوى أويس قائماً وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وأنت يا بن أبي طالب، فجزاكما الله عن هذه الأمة خيراً قالا: وأنت فجزاك الله عن نفسك خيراً. فقال له عمر: مكانك حتى أدخل مكة، فآتيك بنفقة من عطائي، وفضل كسوة من ثيابي، هذا المكان ميعاد بيني وبينك؛
فقال: لا ميعاد بيني وبينك يا أمير المؤمنين، ولا أراك بعد اليوم. تعرفني ما أصنع بالنفقة؟ ما أصنع بالكسوة؟ أما ترى على إزارين من صوف، متى تراني أبليهما! أما تراني قد أخذت من رعايتي أربعة دراهم، متى تراني آكلها؟ يا أمير المؤمنين، إن بين يدي ويديك عقبة كئودا لا يجاوزها إلا كل ضامر مخف مهزول، فأخف رحمك الله فلما سمع عمر ذلك
(1/109)

ضرب بدرته الأرض. ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه! ألا ليتها كانت عقيماً لم تعالج حملها! ألا من يأخذها بما فيها ولها (يعني الخلافة). ثم قال: يا أمير المؤمنين، خذ أنت ههنا حتى آخذ أنا ههنا. فولى عمر ناحية مكة، وساق أويس إبله فوافى القوم فأعطاهم إيَّاها وخلى الرعاية، وأقبل على العبادة حتى لحق بالله تعالى.
وفي صحيح مسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل) وساق الحديث.. إلى أن ذكر اجتماع عمر به وقوله: فاستغفر لي فاستغفر له، فقال له أين تريد؟ قال الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال أكون في غبراء الناس أحبُّ إليَّ.. وهذا بعض الحديث.
وفي رواية مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وكان له والدة هو بها برٌّ وكان به بياض فمُروه فليستغفرْ لكم).
(1/110)

قول أويس (غبراء الناس)، هو بفتح الغين المعجمة وإسكان الباء الموحدة وبالمد: وهم فقراؤهم وصعاليكهم، ومن لا تعرف عينه من أخلاطهم.
وروي عن علقمة بن يزيد رضي الله عنه قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم أويس القرني، ظن أهله أنه مجنون فبنوا له بيتا على باب دارهم وكانت تأتي عليه السنون لا يرون له وجها، وكان طعامه مما يلتقطه من النوى؛ فإذا أمسى باعه لإفطاره. فلما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في الموسم: أيها الناس، قوموا فقاموا، فقال: اجلسوا إلا من كان من اليمن فجلسوا. فقال: اجلسوا إلا من كان من أهل مراد فجلسوا، فقال اجلسوا إلا من كان من قرن، فجلسوا إلا رجلا وكان عم أويس؛ فقال له عمر: أقرني أنت؟ قال نعم. قال: أتعرف أويساً؟ قال أو تسأل عن ذلك يا أمير المؤمنين؟ فو الله ما فينا أحمق ولا أجنُّ ولا أجوع منه، فبكى عمر. ثم قال. بكَ لا بِهِ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يدخل الجنة بشفاعته مثلُ ربيعة ومضر).
وروي عن عمار بن يوسف الضبي قال: قال رجل لأويس القرني:
(1/111)

كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحب الله، وأمسيت أحمد الله، وما تسأل عن حال رجل إذا أصبح ظن أنه لا يمسي، وإذا أمسى ظن أنه لا يصبح، إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحاً. وإن حق الله تعالى في مال المسلم لم يدع له في ماله فضة ولا ذهباً، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدع لمؤمن صديقاً، كنا نأمرهم بالمعروف ويشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعواناً من الفاسقين؛ حتى والله لقد رموني بالعظائم، وايم الله لا أدع أن أقوم لله فيهم بحقِّه ثم أخذ الطريق (يعني يمشي) وخلاني.
وروي عن هرم بن حيان رضي الله عنه قال: بلغني حديث أويس فقدمت الكوفة، فلم يكن لي هم إلا طلبه، حتى سقطت عليه جالسا على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ؛ فعرفته بالنعت الذي نعت لي. فإذا رجل نحيل شديد الأدمة أشعث، محلوق الرأس مهيب المنظر؛ فسلمت عليه فرد علي ونظر لي، ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني.
(قلت): وفي انقباض أويس رضي الله عنه، وما كان عليه فيه من رثاثة الحال والتوحش والانعزال، وما نسب إليه الجهَّال من الجنون والاختلال،
(1/112)

وما كان فيه من التقشف والابتذال، وغير ذلك من سائر الأحوال. أظهر دليل لمن نحا ذلك النحو من الفقراء الصادقين، ولا مبالاة بإنكار من ينكر عليهم؛ بزعم أن ذلك خلاف السنة، ولم يدرِ أن السنَّة العظمى هي ترك الدنيا والإعراض عن الورى، والإقبال على المولى سبحانه وتعالى.
قال هرم: فقلتُ يرحمك الله يا أويس، وغفر لك؟ كيف أنت؟ وخنقتني العبرة من حبي إياه، ورقتي عليه لما رأيت من حاله حتى بكيت وبكى. قال: وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان! فكيف أنت يا أخي من دلك علي؟ قلت: الله. قال: لا إله إلا الله، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. قلت: ومن أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم ولا رأيتني؟ قال: أنبأني العليم الخبير، وعرفت روحي روحك، حتى كلمت نفسي نفسك، إن المؤمنين يعرف بعضهم بعضا، ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا، وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل، قلت: حدثني رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن لي معه صحبة! بأبي وأمي رسول الله! ولكني قد رأيت
(1/113)

رجالا رأوه وبلغني من حديثه، ولستُ أحبُّ أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثاً، أو قاضياً، أو مفتياً، في نفسي شغل شاغل عن الناس.
فقلت: أي أخي، اقرأ عليَّ آيات من كتاب الله تعالى أسمعها منك، وأوصني بوصية أحفظها عنك؛ فإني أحبُّك في الله، فأخذ بيدي، فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. قال ربي، وأحقُّ القول قول ربي وأصدق الحديث حديث ربي، ثم قرأ: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } إلى قوله: { الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فشهق شهقة وأنا أحسبه قد غُشِيَ عليه.
ثم قال: يابن حيان مات أبوك حيان،ويوشك أن تموت أنت، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، ومات أبوك آدم، وماتت أمك حواء يابن حيان، ومات نوح نبي الله، ومات إبراهيم خليل الله، ومات موسى كليم الله، ونجي الله، ومات داود خليفة الله، ومات محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، ومات أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات أخي وصديقي عمر بن الخطاب! فقلت له: يرحمك الله! إن عمر لم يمت. قال: بلى قد نعاه إلي ربي ونعى إلي نفسي،
(1/114)

وأنا وأنت في الموتى، ثم صلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بدعوات خِفَاف.
ثم قال: هذه وصيتي إياك: كتاب الله، ونعي المرسلين، ونعي صالحي المؤمنين؛ فعليك بذكر الموت، ولا يفارقن قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم، وأنصح الأمة جميعا. وإياك أن تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار، وادع لي ولنفسك. ثم قال: اللهم إن هذا زعم أنه يحبني فيك، وزارني من أجلك؛ فعرفني وجهه في الجنة، وأدخله علي دارك دار السلام، واحفظه ما دام في الدنيا حيا، وأرضه في الدنيا باليسير، واجعله لما أعطيته من نعمتك من الشاكرين، واجزه عني خيرا، ثم قال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، لا أراك بعد اليوم - يرحمك الله - تطلبني؛ فإني أكره الشهرة وأحب الوحدة، لأني كثير الغم ما دمت مع هؤلاء الناس حيا، فلا تسأل عني ولا تطلبني. واعلم أنك على بال وإن لم أرك وترني، واذكرني وادع لي فإني سأدعو لك وأذكرك إن شاء الله تعالى فخذ أنت ههنا حتى آخذ أنا ههنا. فحرصت أن أمشي معه ساعة فأبى علي، وفارقته يبكي وأبكي! وجعلت أنظر إليه
(1/115)

حتى دخل بعض السكك. ثم سألت عنه بعد ذلك وطلبته فلم أجد أحداً يخبرني عنه، وما أتت علي جمعة إلا وأنا أراه في منامي مرة أو مرتين.
وروي عن أصبغ رضي الله عنه قال: كان أويس رضي الله عنه إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، ويركع حتى يصبح، ويقول: هذه ليلة السجود فيسجد حتى يصبح، كان إذا أمسى يتصدق بما في بيته من الطعام والثياب ثم يقول: اللهم من مات جوعانا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به.
وروي عن النضر بن شميل(1) رحمه الله تعالى. قال: كان أويس يلتقط الكسر من المزابل فيغسلها فيتصدق ببعضها ويأكل بعضها ويقول اللهم إني أبرأ إليك من كل كبد جائع.
وروي عن عبد الله بن سلمة رضي الله عنه قال: غزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأويس القرني معنا فلما رجعنا مرض فحملناه فلم يستمسك فمات،
__________
(1) النضر بن شميل بن خرشه المازني التميمي. أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة. ولد بمرو من بلاد خراسان واتصل بالمأمون العباسي فأكرمه وقربه. وتوفي بمرو سنة 203ه-
(1/116)

فنزلنا فإذا قبر محفور، وماء مسكوب، وكفن وحنوط، فغسلناه وكفناه، وصليت عليه (يعني ودفناه) ومشينا. قال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره، فرجعنا فإذا لا قبر ولا أثر.
وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال: نادى مناد يوم صفين: أو في القوم أويس القرني؟ فوجد في القتلى من أصحاب علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين. والله أعلم. انتهى ما ذكره اليافعي رحمه الله تعالى مع حذف يسير.
وعن ذي النون(1) المصري رحمه الله قال: بينما أنا ببعض سواحل الشام، إذ أنا بامرأة مقبلة؛ فقلت لها: من أين؟ فقالت: من رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فقلت لها: وإلى أين؟ فقالت: إلى قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ فقلتُ لها: صفيهم لي، فأنشأت تقول:
قومٌ همومُهمُ بالله قد علقت ... فما لهم همم تسمو إلى أحدِ
________________
(1) أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم المصري الإخميمي. وكان أبوه إبراهيم نوبياً. وكان رضي الله عنه رجلا نحيفا تعلوه حمرة. توفي سنة 245ه- ورأى الناس طيورا خضرا ترفرف على جنازته حتى وصلت إلى قبره.
(1/117)

فمطلب القوم مولاهم وسيدهم ... يا حسن مطلبهم للواحد الصمدِ
ما أن تنازعهم دنيا ولا شرف ... من المطاعم واللذات والولدِ
ولا لباس لثوب فائق أنق ... ولا لروح سرور حل في بلدِ
فهم رهائن غدران وأودية ... وفي الشواهق تلقاهم مع البَددِ
وقيل للجنيد رحمه الله تعالى: إن أبا سعيد الخراز(1) كان كثير التواجد عند وفاته، فقال: ليس بعجب أن تطير روحه اشتياقاً إلى الله عزَّ وجلَّ. وكان في حالته تلك ينشد هذه الأبيات.
حنين قلوب العارفين إلى الذكرِ ... وتذكارهم عند المناجاة للسرِّ
أُدِيرَت كئوسٌ للمنايا عليهمُ ... فاغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكرِ
همومهم جوالة بمعسكر ... ومن أهل ود الله كالأنجم الزُّهرِ
فأجسادهم في الأرض قتلى بحبِّه ... وأرواحهم في الحجب نحو العُلا تسري
__________
(1) - أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز. من أهل بغداد. وهو من أئمة القوم وجلة مشايخهم. قيل: إنه أول من تكلم في علم الفناء والبقاء. مات سنة 279ه-.
(1/118)

فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم ... وما عرجوا عن مس بؤس ولا ضر
ولما حضرت الجنيد رحمه الله الوفاة دخل عليه أبو محمد الجريري(1) رحمه الله فقال: ألك حاجة؟ قال: نعم، إذا مِتُّ فاغسلني وكَفِّني وصَلِّ عليَّ، فبكى الجريري وبكى الناس معه. ثم قال الجنيد: وحاجة أخرى، فقال: ما هي؟ فقال: تتخذ لأصحابنا طعام الوليمة؛ فإذا انصرفوا من الجنازة رجعوا إلى ذلك حتى لا يقع لهم تشتت فبكى الجريري ثم قال: والله لئن فقدنا هاتين العينين لا اجتمع منَّا اثنان أبداً! قال أبو جعفر الفرغاني: فكان كذلك الأمر بعد وفاة الجنيد، وإنما كان ذلك الإجتماع ببركة الشيخ رضي الله عنه.
قال الجريري رضي الله عنه. وكان في جوار الجنيد رضي الله عنه مصاب في خربة، فلما مات الجنيد رحمه الله ودفناه ورجعنا من جنازته، فقدمنا ذلك المصاب فصعد موضعاً عالياً،
______________
(1) هو أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري. كان من كبار أصحاب الجنيد أقعد بعد الجنيد في محله لتمام وصحة طريقته وغزارة علمه. وتوفي سنة 311ه-.
(1/119)

وقال لي: يا أبا محمد، أتراني أرجع إلى تلك الخربة وقد فقدت ذلك السيد ثم أنشأ يقول:
ووا أسفي من فراق قوم ... هم المصابيح والحصون
والمدن والمزن والرواسي ... والخصب والأمن والسكون
لم تتغير لنا الليالي ... حتى توفتهم المنون
فكل جمر لنا قلوب ... وكل ماء لنا عيون
ثم قال: غاب عنَّا، ذلك آخر العهد به رحمة الله عليهم.
وقال بعض العلماء: رأيت الإمام الغزالي رضي الله عنه في البرية وعليه مرقعة وبيده عكاز وركوة، فقلت له: يا إمام، أليس التدريس ببغداد أفضل من هذا؟ فنظر إليَّ شزراً وقال: لما بزغ بدر السعادة في فلك الإرادة، وظهرت شمس أصول الوصول.
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزلِ ... وعدت إلى مصحوب أوَّل منزلِ
ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه ... منازل من تهوى رويدك فانزلِ
وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في وصف رجال الله
(1/120)

وخلفائه في أرضه من عباده: أولئك هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا؛ بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، هيجوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله تعالى في بلاده، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقا إلى رؤيتهم؟!. انتهى. رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين، ونفعنا والمسلمين بهم.
{ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

* * *
(1/121)

(1/122)

***********************
الصنف الثالث
دعوة الأمراء والسلاطين
وولاة أمور المسلمين
**********************
(1/123)

(1/124)

الصنف الثالث
وهم الأمراء والسلاطين والملوك والولاة لأمور المسلمين
القول في نصيحتهم وتذكيرهم، وتنبيههم وتحذيرهم
* * *
اعلم أن الولاة لا بد منهم، ولا غنى للناس عنهم، والولاية أمر خطير والولاة في غاية الخطر؛ فإنهم إن قاموا بما يلزمهم من حق عباده تعبوا ونصبوا، وإن ضيعوا ذلك هلكوا وعطبوا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة يوم القيامة) وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من والٍ على الناس إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، فكَّه عدلُهُ أو أوبقه جورُهُ)،
(1/125)

وقال عليه الصلاة والسلام: (ليَوَدُنَّ رجالٌ لو أن ذوائبهم معلقة بالثريا ولم يلوا من أمر الناس شيئاً).
وقال عليه الصلاة والسلام: (كم من متخوِّض في مال الله تعالى بغير حقٍّ له النار يوم القيامة).
والوعيد الوارد في حق من ولي أمر الناس، ثم لم يأخذ بالعدل والإنصاف، ويجتنب الظلم والجور شديد، هائل، ولذلك زهد فيها المتقون. وفر منها المشمرون الذين هم من خشية ربهم مشفقون، ومن ابتلي منهم بذلك ولم يجد بدا مما هنالك، كان على غاية من الخوف والإشفاق، والتحفظ والاحتياط، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ما كان عليه من كمال العدل ونهاية الاحتراز: من يأخذها بما فيها (يعني الإمارة) وددت أن أنجو منها كفافاً، لا عليَّ ولا لي، وكان من شدة خوفه من الإضاعة لشيء من أمور المسلمين وحسن النظر فيها لا ينام إلا خفقاناً وهو قاعد ويقول: إن نمتُ بالنهار ضيَّعت أمور المسلمين، وإن نمتُ بالليل ضيَّعت نفسي؛ فكيف لي بالنوم بين هاتين؟!
وكان علي - رضي الله عنه - إذا اجتمع في بيت المسلمين المال؛
(1/126)

دعاهم ففرَّقه عليهم حتى لا يبقى فيه درهم ، ثم يأمر بكنسه و نضحه بالماء ، و يصلي فيه ، ويقول: كما يشهد عليَّ بجمع المال فيه يشهد لي بالصلاة فيه.
ولما ولي الأمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سمع في داره بكاء كثير، فسألوا عن ذلك فقيل: إنه خير نساؤه وجواريه بين أن لا يأتيهن أو الفراق، وقال: إني قد شغلت عنكن بما كلفته من القيام بأمر المسلمين؛ فاخترن الإقامة معه. فروي أنه لم يغتسل من جنابة مدة خلافته إلا مرتين، وكانت خلافته قريباً من سنتين ونصف(1).
وأراد مرة أن يغتسل فأتي بقمقمة من نحاس فيها ماء حار وكان برد شديد؛ فسأل: على أي شيء سخنتم هذا الماء؟ فقيل له: على مطبخ العامة، فأبى أن يغتسل به، وأراد أن يغتسل بماء بارد، فقال له الخادم: إن اغتسلت بهذا الماء البارد أصبح الناس ولا خليفة لهم (يعني تموت من شدة البرد). فقال: كيف أصنع وهذا الماء لا يحل لي؟ فقال الخادم: تقوم الحطب الذي يوقد به على مثل هذا الماء وتجعله في بيت مال المسلمين، فقوَّمه وردَّه في بيت المال.
__________
(1) - وليها سنة 99ه- وتوفي سنة 101ه-.
(1/127)

وسير الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم في أمثال ذلك معروفة ومنتشرة، يطول ذكرها ولكنه لم يتم ذلك ويثبت على وجهه كما يجب وينبغي إلا للخلفاء الأربعة: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان الشهيد، وعلي المرتضى رضوان الله عليهم، وكانت مدة خلافتهم هي المدة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة ثم يكون ملكاً عضوضاً(1) ) الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة) فكانت هذه المدة هي مدة الخلفاء الأربعة، مضافا إليها الأيام التي استخلف فيها الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي نحو من ستة أشهر؛ فتمت بها الثلاثون سنة من حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن صالح الحسن بن علي رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان وبايع حين رأى ما رأى، وأبصر الذي أبصر، وتم فيه رضي الله عنه ما وعد به جده رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) __________
(1) - عضوضاً: شديداً؛ أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم. كأنهم يُعَضُّون فيه عضَّاً.
(1/128)

فلم يكن في مدة الإسلام من حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أيامنا هذه. أيام، ولا زمان فيه من العدل والإحسان وإماتة الجور والعدوان وإقامة الحق والدين، وجهاد الكافرين والمعتدين، تشبه ولا تقارب مدة خلافة الخلفاء الراشدين المهتدين، التي هي الثلاثون سنة المنصوصة في حديثه عليه أفضل الصلاة والسلام.
نعم؟! قد سار بنحو من سيرتهم وقريباً منها جداً الخليفة الصالح (عمر بن عبد العزيز الأموي) رحمه الله تعالى، ولكنها قصرت مدة خلافته، ولقي من الناس ومن أهل بيته خصوصاً مشقة وتعباً، وشدة ومعاناة ومقاساة، لأن الناس قد بعد بهم العهد عن زمان العدل وإقامة الحق، وذلك من حين صالح الحسن بن علي وبايع لمعاوية رضي الله عنهم، إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز، وذلك نحو من ستين سنة، فاندرست في هذه المدة أكثر سنن العدل والإنصاف وظهرت شعائر الظلم والجور، ومال الناس عن الصواب، فتعسَّر ذلك وصعب على عمر بن عبد العزيز رحمه الله إعادتهم وإرجاعهم إلى مثل ما كان عليه الحال، والعهد به من أيام
(1/129)

الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، حتى إنه بلغنا أن عمر بن عبد العزيز سأل من بعض عباد الله الصالحين أن يدعو له بالموت لما اشتد عليه أمر الناس، وثقل عليه القيام بالحق والعدل كما ينبغي؛ فتخير الموت والانتقال إلى الدار الآخرة التي هي خير وأبقى، وليس ذلك منه عن جزع وتبرم، ولكن خوفا وإشفاقا من أن يستقبله الكارهون لأمر الله تعالى، وإقامة العدل في عباده من المحبين للجور والظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، بأمر لا يطاق، ويؤول إلى فتنة واختلاف وفرقة؛ فتخير ما عند الله على ذلك.
وقد سبقه إلى ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ حيث اختلف عليه أهل العراق، ورأى منهم ما رأى من التباطؤ عن نصرة الحق، ومجاهدة أهل البغي؛ حتى روي أنه قال: اللهم أرحني منهم وأرحهم مني؛ ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فشكا إليه ما لقي من الأمة من الاختلاف والمنازعة؛ فقال له عليه الصلاة والسلام: (أدع الله عليهم) فقال علي رضي الله عنه: اللهمَّ أبدلني خيراًَ منهم، وأبدلهم شرَّاً مني.
ولما بلغت ملك الروم وفاة عمر بن عبد العزيز رحمه الله شق عليه ذلك،
(1/130)

وقال فيه كلاماً حسناً يثني به عليه، وقال في آخره: ولكن لا يبقى أهل الخير مع أهل الشرِّ إلا قليلاً أو كما قال.
ثم إنه لم يكن فيمن استخلف على المسلمين بعد الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وبعد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى من سار بالسيرة المرضية المحمودة المستقيمة لا من بني أمية ولا من بني العباس رضي الله عنه. إلا أن بني أمية كانوا أضيع لأمر الله وأشد تهاوناً بحرماته، وأقلَّ تعظيماً لشعائره من بني العباس، وبينهم في تلك تفاوت بعيد وتباين بيِّن، وإلى الله العظيم مآل الجميع، وعليه حسابهم، وهو عليم بما يفعلون، وسيجزيهم بما يفعلون { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }.
وحيث قد صار متعذرا أو متعسرا على من ولي شيئا من أمور المسلمين، أن يسير فيهم بسيرة أهل العدل والإحسان، المجانبين للظلم والعدوان، فيتعين على كل من كان منهم حريصا على ابتغاء رضوان ربه وثوابه، ومشفقا من سخطه وعقابه، أن يكون في سيرته وفي جميع أفعاله وأقواله مقتديا ومتأسيا بأئمة الحق والهدى، والعدل والإنصاف، ما وجد إلى ذلك
(1/131)

سبيلا، باذلا فيه ما يمكنه ويستطيعه، من غير ميل إلى اتباع الهوى وإيثار الدنيا على العقبى، وأقل ذلك أن يكون في سيرته في جميع أموره إلى ولاة العدل والإحسان أقرب وأشبه منه بولاة الجور والطغيان، والظلم والعدوان، وليكن معترفا بتقصيره، وخائفا مشفقا على نفسه من تخليطه وتفريطه، غير مغتر بربه ولا معجبا بنفسه، ولا ظانا ولا متوهما أن له قدما مع ولاة العدل والحق والإنصاف؛ فلعله بذلك يتخلص وينجو، وإن كان النجاة والخلاص من أبعد شيء وأعزه في حق ولاة هذه الأزمان والأعصار.
على أنه قد يغلب على كثير منهم الإعجاب بأنفسهم والاغترار بربهم، وإن كانت سيرتهم قبيحة، وأعمالهم سيئة منكرة، وذلك من شؤم تلبيس الشيطان عليهم وسوء خداعه، وخفي سعيه في هلاكهم؛ فإنهم لو شهدوا تقصيرهم واعترفوا بتخليطهم، وأنهم لا يقومون بما يجب عليهم من حق ربهم وحق من استرعاهم من عباده وولاهم أمرهم من خلقه، لربما رجعوا إليه وتابوا مما هم فيه، واستغفروا ربهم لذنوبهم، فأقل ما يجب عليهم الاعتراف بالاقتراف والتقصير، والعزم على التوبة منه إلى الله تعالى.
(1/132)

... ومن أهم المهمات على من ولي شيئاً من أمور المسلمين، أن يتبصر في الدين ويتعلَّم ما لا بدَّ له من علمه من علوم الإيمان وعلوم الإسلام ليعرف ما فرض الله عليه من طاعته، وما حرَّم عليه من معصيته، وما أوجب عليه سبحانه وتعالى من حقِّ ربوبيته في نفسه، وفي حقِّ من ولاه أمرهم من عباده، فإن العالم يعرف ذلك ويهدي إليه، والجاهل بصدد كل شرٍّ وإضاعة، والجهل قبيح بكل واحد؛ ولكنه برؤساء الناس وأرباب المراتب منهم أشر وأقبح؛ لأنهم لأنفسهم ولغيرهم.
…ثم على الوالي أن يكون من أحرص الناس على إقامة فرائض الله تعالى. واجتناب محارمه، وتعظيم شعائر دينه وحرماته.
وعليه أن يأمر رعيته بذلك ويحثهم عليه؛ فإن الله تعالى ما ولاه أمر عباده إلا ليقيم فيهم دينه، وما أمر به من طاعته؛ وحرمه من معصيته، وأما ما يدور على الولاة من أمور الدنيا والمعاش فهو تابع لذلك ولاحق به. والأصل هو السعي في إقامة الدين وأمر الله في عباده.
وعلى الوالي أن يحرص على إزالة المنكرات ومحو آثارها،
(1/133)

ولا يُمَكِّن أحداً من التظاهر بها. ومن أظهر من شيئاً زجره أبلغ الزجر، وعاقبه أشدَّ العقوبة على حسب ما يقتضيه الشرع الشريف أو السياسة السلطانية، كل ذلك مع أهله وفي محلِّه.
وعليه أن يقيم حدود الله على عباده إذا قامت الحجة وصحت بها البينة، مثل حد الشرب للخمر والسرقة وغيرهما، ولا يتساهل في ذلك ولا يقصر عنه. وفي الحديث: (حدٌّ يُعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً).
وفي إقامة حدود الله على المعتدين لهم ولغيرهم من الزجر عن الباطل والمنكر، ما لا مزيد عليه، وبذلك تصلح أحوالهم، وتحسن طرائقهم. وفيه من إخافة الظالمين ورد المعتدين، وردع الفاسقين ما تحمد عواقبه، وتحسن آثاره قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن: أي إن الذين يمنعهم القرآن عن محارم الله هم الذين بحيث لو لم يكن سلطان لكان تقواهم لله وخوفهم منه يمنعهم من ترك ما فرض عليهم من حق ربهم، ويردعهم عن الوقوع فيما حرمه عليهم وأخذ ما ليس لهم. وأما الكثير من الناس فهم الذين يردُّهم خوف السلطان عن التعدي،
(1/134)

وأخذ ما ليس لهم بحق، ولولا خوفهم من السيف والسوط ونحوهما لم ينكفوا ولم يرعووا؛ لقصور نظرهم على أمور الدنيا وأحوال المعاش؛ وقد قيل: الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، وقيل أيضا: الدين والملك توأمان.
ثم إن كان السلطان الذي هو قائم بالملك عادلا صالحا، كانت أخوة ملكه للدين صحيحة. سليمة وإن كان السلطان إنما رغب في الملك وتقلده، وحرص عليه ليحصل لنفسه الرياسة والرفعة على الناس، وليكون نافذ الأمر مسموع الكلمة رغبة في الدنيا وشهواتها، كانت أخوة الملك الذي هو صاحب للدين غير صحيحة ولا حقيقة؛ بل هي صورية مجازية، وما يتفق ويقع من الملك الذي هذا وصفه في حفظ أمور الدين، وحماية أمور المسلمين، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم فذلك بحكم الاتفاق والتبعية لتوقف استقامة الملك والرياسة الذي هو بصددها على ذلك.
وافهم ههنا قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الله يؤيد هذا الدين بالبر والفاجر)، وفي رواية (بالرجل الفاجر)، وفي رواية ( بأقوام لا خلاق لهم)، وفي رواية ( برجال ما هم من أهله).
(1/135)

وأكثر ملوك هذه الأزمنة بل وأزمنة قد خلت، إنما نيتهم الدنيا ونيل الرياسات فيها، والتمتع بالشهوات منها، وقد ارتبط بقيامهم في ذلك خيرات كثيرة، ومصالح دينية ودنياوية من أمن البلاد والعباد، وقهر أهل الفساد والبغي والعناد؛ فسبحان الله العليم الحكيم، المدبر العظيم. وقد قال عز من قائل كريم: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }، وفي الآية الأخرى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }. وذلك عام فيمن نيته الآخرة والدين من الدافعين، و فيمن نيته الدنيا والرياسات والشهوات العاجلة الفانية { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً } وأعمالهم وأقوالهم وظواهر أحوالهم تدل على نياتهم وضمائرهم { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }.
وينبغي للسلطان (وفقه الله تعالى) أن يكون شفيقاً رفيقاً في موضع الرفق، ومع من يحسن معه ذلك من الضعفاء والمساكين،
(1/136)

والمظلومين وذوي الحاجات. وأن يكون فيه شيء من الشدة والغلظة على الظالمين والمتجبِّرين، وأهل البغي والتعدِّي حتى تقوم له الهيبة في صدورهم، وتُقيَّد من خوف السطوة أيديهم. ويكون ذلك كلُّه من الرفق والشدة بقدره في مواضعه ومع أهله، وذلك من حسن السياسة؛ فليكن السلطان (أصلحه الله) عارفاً بطرائقها ومواقعها.
* * *
…فعلى حسن السياسة والعلم بها مدار كبير في أمور الولايات، واستصلاح الرعايا، وهي من ثمرات العقول الراجحة والعلوم الغزيرة؛ ولذلك لا يحسنها ولا يقوم بها كما ينبغي، إلا من كمل في علمه وعقله، وبصيرته وصبره، ولذلك لم يوصف به من الملوك والسلاطين إسلاما وجاهلية إلا الآحاد منهم والأفراد. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: سياسة الناس أشد من سياسة الدواب، وذلك بين لإخفاء به.
* * *
وعلى السلطان -أصلحه الله- أن يفتح الباب ويُسَهِّل الحجاب؛
(1/137)

ليتيسَّر الوصول إليه لمن أراده، ورغب فيه من المتظلمين وذوي الحاجات. ثم ما أمكنه المباشرة له من ذلك بنفسه باشره، وما لم يمكنه مباشرته لشغل هو أهم منه وأصلح للمسلمين، فينبغي له أن يقيم فيه ويستكفي من يثق به في دينه وكفايته من وزرائه ووجوه دولته.
* * *
وعليه: أن لا يوسط بينه وبين رعيته، ولا يستعمل عليهم إلا أهل الخير والدين، والأمانة والصيانة؛ فإن السلطان بوسائطه وعماله الذين يكونون بينه وبين الناس. فمهما كانوا أخيارا وأمناء بلغوا عنه وبلغوا إليه الأمور على ما هي عليه من غير تغيير ولا زيادة ولا نقصان، ومهما كانوا أشرارا مفسدين خونة بلغوا إليه الأمور على حسب أهوائهم، ووفق أغراضهم الفاسدة؛ فتلتبس بسبب ذلك الأمور، وتضطرب الأحوال، وينسب ما يصدر منهم إلى السلطان مما يستحسن أو يستقبح. فليتحرز السلطان غاية التحرز، وليتحفَّظ نهاية التحفُّظ من وسائط السوء، وعمال السوء.
* * *
(1/138)

وعليه (أيده الله تعالى): أن يظهر من نفسه الرغبة في الخير والطاعة، وإقامة أمر الله في عباده، ومحبة العدل والإنصاف، وكراهية الظلم والجور؛ حتى يتقرب إليه أعوانه، والمتصلون به بفعل مثل ذلك، وإظهار العمل به، ويرفعون إليه ما عرفوا منه الرغبة فيه، وحب القيام به من تلك الخيرات والمبرات، فقد قالوا: (السلطان كالسوق، يجلب إليها ما ينفق فيها) ومعناه: أنه إن عرف منه الميل إلى العمل بالحق والخير أكثر أعوانه من ذكر ذلك عنده، وتقربوا إليه بالمعاونة. وإن عرف منه ضد ذلك كان الأمر منهم على وفق ما يناسبه وينفق عنده. وهذا الأمر قد عرف بالمشاهدة والتجربة، وفي قريب منه قيل: (الناس على دين ملوكهم).
* * *
ثم من ظهر له من وسائطه وعمَّاله حسن النصيحة والأمانة والكفاية، زاد في تقريبه وإكرامه وإعلاء منزلته. ومن ظهر منه غِشٌّ وخيانة وإضاعة، حذَّره من ذلك وهدَّده؛ فإن انزجر وإلا حطَّ منزلته وعزله وأبعده؛ فإنه لا خير في أهل الغشِّ والخيانة والإضاعة، بل هم السبب في تخريب الممالك، و هلاك الرعايا، واجتراء الأعداء.
* * *
(1/139)

وليتخذ السلطان -أيده الله- وزيراً عاقلاً، صالحاً ناصحاً، وفي الحديث: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزيراً صالحاً، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه. وإذا أراد به سوءاً جعل له وزيراً غير صالح، إن نسي لم يذكِّره، وإن ذكر لم يُعنه).
وليحترز والي الأمر من الظلم فإنه أساس الخراب وأصل الفساد، وسبب الدمار والبوار. وإذا عرف به وانتشر عنه كرهته الرعية ونفرت عنه، وأحبت زواله وهلاكه، وانطلقت ألسنتها بذمه والدعاء عليه، قال عليه الصلاة والسلام: (خير أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشر أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم) الحديث. ومعنى الصلاة ههنا: الدعاء لهم. وقال عليه الصلاة والسلام: (يد الله على الأمير ما لم يجر؛ فإذا جار رفع الله عنه يده) وقال تعالى: { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً } والقاسطون: هم الجائرون. وأما المقسطون: فهم أهل العدل والإنصاف.
(1/140)

وليعلم السلطان -أصلحه الله-: أنه لا يحلُّ له في أموال المسلمين قليل ولا كثير، وأن الضرائب المضروبة عليهم من الجبايات والمكوس والعشور كلها من الظلم الفاحش، والجور الشنيع. والأموال التي تحلُّ له ولأعوانه: إنما هي أمور المصالح من الأموال التي لا مالك لها معين، ومن مات ولا وارث له، وما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية ونحوها، وأشباه ذلك من الأموال.
…وقد ذكر الإمام حجة الإسلام (رحمه الله تعالى) في كتاب الحلال والحرام من الإحياء: وجوه الدخل التي منها يكون أموال السلاطين، وحصرها في عشرة أقسام، وبينها بينا حسنا.
وعليه (أصلحه الله) أن يجتنب الإسراف والتبذير، حتى لا تدعوه الحاجة إلى أخذ أموال المسلمين واستلاب ما في أيديهم، والله تعالى إنما ملكه وولاه عليهم ليحفظ أنفسهم وأموالهم، ويحرسها من الظالمين والمعتدين؛ فإذا ظلمهم هو واغتصبهم ما في أيديهم، فمن الذي يحفظ ويردُّ أهل العدوان! وقد صار الحافظ معتدياً، والحارس ضعيفاً؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
(1/141)

وعلى والي الأمر -أصلحه الله تعالى-: أن يحرص كلَّ الحرص على نصرة المظلوم، والقيام مع الضعيف حتى يأخذ له حقَّه من القوي. وليجتهد في ذلك كل الاجتهاد.
وأن يكون ناصحاً لرعيته، باذلاً وسعه في حمايتهم والذبِّ عنهم، ولا يغشَّهم ولا يطمع فيهم، ولا يستكثر لهم ما في أيديهم.
وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر، ويحرص كل الحرص على إيصال النفع لهم، ودفع الضر عنهم فيما يتعلق بأمور دينهم وأمر معاشهم؛ فإن الله تعالى إنما أقامه لذلك، وفي الحديث: (أيما وال ولي ولم يحط رعيته بالنصيحة إلا حرم الله عليه الجنة) الحديث.
* * *
ومهما كان الوالي مصلحاً حسن الرعاية جميل السيرة، كان على الرعية أن يعينوه بالدعاء له، والثناء عليه بالخير. ومهما كان مفسداً مخلطاً، كان عليهم أن يدعوا له بالصلاح والتوفيق والاستقامة، وألا يشغلوا ألسنتهم بذمِّه والدعاء عليه؛
(1/142)

فإن ذلك يزيد في فساده واعوجاجه، ويعود وبال ذلك عليهم. قال الفضيل رحمه الله: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا للإمام؛ لأن الله إذا أصلح الإمام أمن العباد والبلاد. وفي بعض الآثار عن الله تعالى أنه قال: (أنا الملك وقلوب الملوك بيدي؛ فمن أطاعني جعلتهم عليه نعمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة. فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك. وسلوني أعطف قلوبهم عليكم) الأثر بمعناه.
ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجور وقيل له: أفلا ننابذهم يا رسول الله؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) وقال: (إن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم) وفي حديث آخر: (أدوا الذي عليكم واسألوا الله الذي لكم). وإنما نهى عليه الصلاة والسلام عن منابذتهم ونزع اليد من طاعتهم؛ لما يترتب على تلك من الفتن، والبلايا العامة التي يكون فيها هلاك الأنفس والأموال. وقيل: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم.
ومن الولايات المخطرة تولي القضاء بين الناس؛ فعلى من يلي ذلك أن يتأنى ويتثبت، ويجتهد ويحكم بين عباد الله بما أنزل الله، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله،
(1/143)

وفي الحديث: (من جعل قاضياً فقد ذُبِحَ بغير سكين).
وفي الحديث أيضاً: (قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة: قاضٍ قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة. وقاضٍ قضى بالباطل وهو لا يعلم أو يعلم فهما في النار). فليتحفَّظ القاضي -أرشده الله- غاية التحفُّظ من المحاباة والمداهنة، ومراعاة خواطر الناس. وليراقب الله تعالى وحده، وليقضِ بالحق الذي أراه الله؛ فإن التبس عليه أمر فليتثبت حتى يتبين له الحق، فإن استبان وإلا فيعدل عن القضاء في تلك الواقعة إلى الصلح الواقع على التراضي والاختيار، من غير إكراه ولا إجبار.
وليعلم أن أمر القضاء خطر مخوف إلى الغاية، ولذلك حذر منه الأئمة الأعلام من السلف الصالح مثل الإمام سفيان الثوري، والإمام أبي حنيفة وأشباههما، وعرضوا أنفسهم بسبب الامتناع للضرب والحبس والفرار في البلاد، وذلك مشهور من سيرهم. ولم يزل أهل الحزم والاحتياط من أهل العلم يفرون من تولي القضاء، ويمتنعون منه أشد الامتناع؛ خوفا على أنفسهم، واحتياطا لدينهم. وقد ولي قاضي القضاة الشيخ المحقق إسماعيل
(1/144)

بن محمد الحضرمي اليمني(1)، وولَّى بعض أصهاره زبيد، ثم إنه دخل عليه في بعض الأيام فرأى عنده ثياباً لم يكن يراها عنده قبل أن يولِّيَه القضاء، فقال له: من أين لك هذا؟ فقال له: من بركتك يا أبا الذبيح. فقال له: ذبحني اللهُ إن لم أعزلك! فعزله. وحكاياتهم في مثل ذلك كثيرة مشهورة. وفي تخويف القضاة وتحذيرهم قيل:
إذا خان الأميرُ وكاتباهُ ... وقاضي الأرض داهنَ في القضاءِ
فويل للأمير وكاتبيه ... وقاضي الأرض من قاضي السماءِ
وليحذر كل الحذر من قبول الرشوة على الأحكام؛ فإن ذلك من أعظم الآثام. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراشي والمرتشي والرائش) والرائش: هو الساعي بينهما.
ومن الولايات المخطرة التولي على أموال الأيتام وأشباهها من الأوقاف والصدقات؛ قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر
__________
(1) - هو قطب الدين، فقيه شافعي حضرمي، مولده ووفاته في قرية الضَّحِي (كفَتِي) من أعمال المهجم التابعة لزبيد، وتوفي سنة 676ه-.
(1/145)

-رضي الله عنه-:(1) (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) وقد عليه الصلاة والسلام أكل مال اليتيم من الكبائر الموبقات؛ وقال الله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }.
وأما الأوقاف والصدقات فينبغي للشفيق على دينه أن يتباعد عنها، وألا يتولى على شيء منها؛ فإن بلي بشيء من ذلك فليتق الله فيه، وليبالغ في حفظها وحسن القيام والنظر عليها أولا. ثم يصرفها في مصارفها، ويضعها في مواضعها؛ فإنه قد يأثم من المتمولين لنحو الأوقاف والصدقات من لا يخون فيها ولا يأخذ منها شيئا، ولكنه يضيعها ولا يحسن الحفظ لها؛ فلا بد في ذلك مع الأمانة من حسن الحفظ والكفاية، فالمضيع والخائن سيان في الإثم والتعدي.
__________
(1) - أبو ذر الغفاري كان يظل نهاره أجمع يتفكر فيما هو صائر إليه. وكان يرى تحريم ادخار ما زاد على نفقة اليوم. توفي رضي الله عنه بالربذة سنة 31ه- أو 32ه-.
(1/146)

ثم إن الوالي المتصف بالعدل والإحسان، السائر في رعيته بالسيرة الحسنة المرضية، عند الله بمكان، له في حسن قيامه بذلك من الله الثواب العظيم والجزاء الكريم؛ فليصلح في ذلك نيته، وليقم فيها صابرا محتسبا لوجه الله تعالى. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله) الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: (من إجلال الله تعالى إجلال ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، والسلطان المقسط)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يوم من سلطان عادل أفضل من عبادة ستين سنة). وقال عليه الصلاة والسلام: (السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه المظلومون). وقال عليه الصلاة والسلام: (المقسطون على منابر من نور يوم القيامة: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم).
وأما إذا جار الإمام وظلم فإنه بأشر المنازل وأسوأ الأحوال! وعليه يتضاعف العقاب والعذاب بعدد من ظلمهم من خلق الله،
(1/147)

وأضاع حقوقهم وأهمل أمورهم، ولم يمنع بعضهم من ظلم بعض، إلى غير ذلك من الذنوب التي يتعرض لها ولاة السوء وأمراء الجور. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا؛ فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا).
وقال عليه الصلاة والسلام: (يجاء بالإمام الجائر يوم القيامة فتخاصمه الرعية، فيفلُجُون عليه (1) فيقال له سِدَّ ركناً من أركان جهنم).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إنه سيكون من بعدي أمراء من صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض).
فإذا كان هذا حال من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم في الشر، فكيف يكون حال هؤلاء الأمراء في أنفسهم! نعوذ بالله من البلاء، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا من أهل العدل والإحسان؛ العاملين بطاعته وما يرضيه في السر والإعلان.
* * *
__________
(1) - يغلبونه.
(1/148)

واعلم- أنه كما يجب ويتعين على من ولي أمرا من أمور المسلمين: أن يعدل فيمن ولاه الله أمرهم، وأن ينصح لهم؛ فكذلك يجب على كل أحد أن يعدل في رعيته الخاصة به من أهله وأولاده وما ملكت يمينه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). وقد ورد أن الإنسان يكتب جبارا وما يملك إلا أهل بيته؛ أي فيجور عليهم. وورد أيضا: (أن أهل الإنسان وولده يتعلقون به يوم القيامة فيقولون: يا ربنا، خذ لنا حقنا منه، فإنه لم يعرفنا ما يجب علينا من حقك).
فعليه أن يعلمهم ما يلزمهم من طاعة الله وفرائضه، واجتناب محارمه، ويحملهم على القيام بذلك فعلا وتركا.
وعليه ألا يظلمهم حقوقهم التي جعلها الله عليه لهم، وألا يمكن بعضهم من ظلم بعض، ويأخذ للمظلوم منهم من ظالمه.
وأما المملوك فعليه أن يقوم له بطعامه وكسوته، وألا يكله من العمل والخدمة ما لا يطيق، وألا يضربه ولا يشتمه بغير حق؛ فإنه إن فعل ذلك اقتص له منه يوم القيامة؛ كما وردت بذلك الأخبار.
(1/149)

وإن كان في ملكه شيء من البهائم وجب عليه أن يتعهده، ويحسن النظر عليه في علفه وسقيه ونحو ذلك، يتولى ذلك بنفسه أو يوليه من يثق به من أولاده وخدمه. وفي الحديث: (اتقوا الله في هذه البهائم اركبوها صالحة )(1) أو كما قال. وورد في الخبر: (أن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) (2) وبالله التوفيق والإعانة، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله تبارك وتعالى.
* * *
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده عن سهل بن الحنضلية بلفظ(اتقوا الله في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة) اه-. من الجامع الصغير.
(2) - رواه احمد في مسنده عن أبي هريرة. وخشاش الأرض: هوامها وحشراتها.
(1/150)

************************
الصنف الرابع
دعوة التجار والزراع والصناع
************************
(1/151)

(1/152)

الصنف الرابع
وهم التجار والزراع، والصناع والمحترفون، وأشباههم من المباشرين لأحوال المعاش والمشغولين بالسعي له، وبعض هذه الأشياء تعد في فروض الكفايات المعاشية والمعادية؛ سيما ما هو منها بمثابة الأصول كالزراعة والحياكة ونحوهما، القول في نصيحتهم وتذكيرهم وتنبيههم وتحذيرهم.
* * *
قال الله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }، وقال تعالى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } الآية؛ فسعي الإنسان على نفسه وعلى من يلزمه السعي عليه من أهل وولد لطلب الحلال مأمور به، وفي الحديث: (طلب الحلال فريضة بعد الفريضة) وفيه أيضا: (من أمسى كالاًّ من عمل الحلال أمسى مغفوراً له) وفي الخبر أو الأثر: (إن الله يحب المؤمن المحترف، ويبغض السَّبَهْلَلَ الذي لا هو في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة).
(1/153)

وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم السعي على نفسه ليكفها عن مسألة الناس وعلى أهله وأولاده الضعفاء كالمجاهد في سبيل الله، وفي الحديث:(التاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين).
ولكن على التاجر في تجارته، والصانع في صناعته وظائف يلزمه القيام بها؛ إما فرضا وإما ندبا متأكدا.
فأول ذلك أن يتعلم من العلم ما يعرف به ما فرض الله عليه وندبه إليه في تجارته أو حرفته وصناعته، وإلا وقع في المحرمات والشبهات،وصار بذلك في سبيل الشيطان وليس في سبيل الرحمن.
فعلى التاجر أن يتعلم من أحكام البيع والشراء، والربا والسلم، والقرض والرهن، والإجارات ونحوها، والمعاملات التي تقع له كثيرا ما لا بد له من علمه، ولا يباشر شيئا من المعاملات حتى يعلم حكم الله فيه.
وكذلك يجب على الصانع المحترف أن يتعلم حكم الله في صناعته وحرفته، وما يجب عليه فيها من النصيحة للمسلمين؛ وإلا أثم ووقع في الحرج.
(1/154)

وليجتنب الكذب والخلف في الوعد؛ فإنه قد ورد: (ويل للتاجر من (لا والله)، (وبلا والله). وويل للمحترف من غد وبعد غد).
ومما ينبغي ويتأكد على التجار والمحترفين إصلاح النية فيما يباشرونه ويتعاطونه من أسباب التجارات والصناعات، وأن تكون نياتهم في ذلك العفاف وتحصيل الكفاف، وكف النفس عن مسألة الناس، والتشوف إلى ما بأيديهم، والقيام بمن يلزمهم القيام بهم من الأهل والأولاد ونحوهم، ليكونوا بهذه النيات من العاملين بطاعة الله تعالى، والساعين في ابتغاء مرضاته وثوابه. وأن يقصدوا مع ذلك صلة الأرحام، والتصدق على الفقراء والمحتاجين، وإعانة الضعفاء والمساكين بما فضل الله عن حاجاتهم وحاجات من يلزمهم القيام بهم؛ فنية المؤمن خير من عمله. وقد يبلغ بالنية إذا صلحت ما لا يبلغه بالأعمال، والنية تتيسر لكل أحد إذ لا كبير مؤونة فيها. والأعمال قد يتعسر القيام بها في بعض الأحيان.
فإن نوى التاجر والمحترف بتجارته وحرفته إعانة المسلمين،
(1/155)

وتسهيل الوصول إلى الأشياء التي هو بسبيلها وساع فيها لم يخل من ثواب، وإن إنما يعطيهم ذلك بمقابلة ومعاوضة منهم، فإن فضل الله واسع، وإكرامه فائض.
ومن المهم المتعين على أهل التجارات والصناعات أن لا يشتغلوا بها عن إقامة الصلاة المفروضة؛ بحيث يخرجونها عن أوقاتها، أو يصلونها باستعجال واستيفاز يحصل به إخلال بما يجب من إتمام ركوع أو سجود ونحوهما من أركانها؛ فإن البعض منهم قد تحمله شدة الحرص على سرعة العود إلى تجاراتهم وصناعاتهم على مثل ذلك، وهو من المحرمات المحظورة في الدين.
بل ومن المتأكد عليهم ألا يؤخروا الصلوات عن أوائل أوقاتها، وعن فعلها في الجماعات، فإن ذلك كله (أي تأخير الصلاة عن أوائل الأوقات وتفويت الجماعات) من الخسران في الدين، الذي لا تقابله الدنيا كلها لو أعطيها أحدهم. وألا يقصروا في رواتب الصلوات، ووظائف الخيرات ونوافل العبادات التي يمكنهم المداومة عليها، وأن يكون في حين مباشرته لتجارته أو صناعته تاليا للقرآن أو ذاكرا لله، لا يشغله عن ذلك إلا أمر مهم، ليس اللهو واللغو،
(1/156)

والإستغراق بحديث الدنيا؛ فإن الجمع بين التلاوة للقرآن والذكر لله وبين مباشرة أسباب التجارة والصناعة ممكن ومتيسر في أكثر الأحوال أو الكثير منها؛ لمن وفقه الله تعالى وأهمه أمر دينه وأحوال آخرته ومعاده.
ومن الواجب المتأكد على أهل التجارات والحرف والصناعات اجتناب الكذب والغش في تجاراتهم وصناعاتهم؛ فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (من غشنا فليس منا) حين رأى الصبرة من الطعام وأدخل يده الشريفة فيها فأصابت بللا فقال: (يا صاحب الطعام ما هذا؟) فقال: أصابته السماء يا رسول الله -يعني المطر-؛ فقال: (هلا جعلته ظاهرا ينظره الناس. من غشَّنا فليس منَّا).
* * *
ومن الكذب الشديد التحريم على التجار وأرباب الصناعات أن يقول أحدهم: أخذته بكذا وأعطيت به كذا؛ وهو كاذب يخدع بذلك أخاه المسلم ويغشُّه؛ فربما صدقه الآخذ منه ثقة به فيظلمه ويأكل ماله بالباطل.
* * *
(1/157)

وعليهم أن لا يكثروا الحلف بالله على سلعهم وصنائعهم وإن كانوا في ذلك صادقين؛ فإن الله أعز وأجل من أن يحلف باسمه على أمر من أمور الدنيا: وأما الحلف بالله تعالى مع الكذب والفجور فذلك من الكبائر، وفي الحديث: (إن الله يبغض البياع الحلاف، وإن الذي يحلف بالله فاجرا ليروج بذلك متاعه أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم).
وقال عليه الصلاة والسلام: (اليمين منفقة للسلعة، ممحقة البركة) وفي رواية (للكسب).
وقال عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما).
فعلى أهل التجارات والصناعات أن يبينوا ما فيها من العيوب التي لا تعرف إلا بتعريفهم وبيانهم؛ فإن لم يبينوا فقد غشوا وظلموا. ومهما عاملوا من لا يحسن المعاملة لغباوته أو ضعفه فعليهم أن ينظروا له ويبالغوا له في النصيحة، ويعاملوه معاملة من يحسن المعاملة من أهل الحذق والمعرفة بأمور ذلك المبتاع الذي يرغب فيه ذلك الضعيف الذي لا يحسن، لا يسعهم إلا ذلك ولا يسلمون من سخط الله إلا به،
(1/158)

ولا يجعلوا ذلك الضعيف الذي لا يحسن فرصة ينتهزونها، وغنيمة يغتنمونها؛ كما يقع في ذلك من لا يخشى الله ولا يتقيه من الصناع والتجار.
وليحذر التجار كل الحذر من تطفيف الكيل وبخس الميزان؛ فإن ذلك من المحرمات الشنيعة، قال الله تعالى: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } إلى قوله تعالى: { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }. وقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر التجار، إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم من قبلكم: المكيال والميزان). أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وكان بعض السلف إذا وزن لغيره أرجح حبة، وإذا وزن لنفسه نقص حبة: أي من النقد، وكان يقول: لا أشتري الويل من الله بحبة.
وليحذر التاجر من الاحتكار، ومن ترويج النقد الزائف على الناس، ومن المعاملات الباطلة والبيوع المكروهة؛ فإن ذلك إن نفعه في دنياه فإنه سوف يضره في دينه وآخرته ضررا عظيما. ثم إنه يؤول به في دنياه إلى المحق والهلاك، وسوء العواقب في جميع أحواله.
* * *
(1/159)

فأما الاحتكار فهو أن يشتري الطعام ونحوه في حين حاجة الناس إليه بنية الادخار له إلى حين يغلو، ورد (أن المحتكر ملعون، والجالب مرزوق) وهو الذي يشتري ليبيع في وقته وينتفع بربح يسير.
وورد (أن من احتكر الطعام أربعين يوماً ثم تصدق به لم يكن تصدقه به كفارة لإثم احتكاره). وورد (أن المحتكرين يحشرون مع قتلة النفوس)، وقد أحرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه طعام المحتكر.
وأما ترويج النقد الزائف فهو من الغش المحرم، والخداع المحظور في الدين، إلا أن يكون هو النقد الذي يتعامل الناس عليه في البلد؛ فهو وإن غش من نحاس ونحوه فيجوز المعاملة عليه مهما كان هو النقد الرائج في البلد، ولكن متى خالفه البعض منه بزيادة الغش فيه، أو بكونه نحاساً خالصاً لم يجز له أن يروِّجه على الناس، ويدخله في جملة النقد الذي يتعاملون عليه؛ فإن ذلك منه غش ومخادعة. وعلى من وقع إليه شيء من النقد الذي هذه صفته أن يتلفه، بأن يلقيه في بئر ونحو ذلك من وجوه الإتلاف، أو يذهب به إلى من يستخلص مقدار الفضة منه، وما بقي من النحاس ونحوه يكون له قيمة على قدره؛ وأما الذي يكون في أصله نحاسا خالصا فلا يدخله بين الدراهم التي تكون فيها الفضة مما يتعامل عليه الناس؛
(1/160)

فإن فعل ذلك فقد غشَّ وخدع {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}.
وأما المعاملات الباطلة فأقبحها وأفحشها المعاملة بالربا؛ فإن المعامل به متعرض لحرب الله ورسوله، كما قال عز من قائل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ،فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ }، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَس ِّ } إلى قوله تعالى: { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ }. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الربا بضع وسبعون شعبة أدناها مثل أن يأتي الرجل أمه) الحديث. وما ورد في الربا من التشديد والتغليظ كثير منتشر.
والربا من الكبائر. وجملة القول فيه، أنه لا يحل بيع النقد بالنقد، ولا الطعام بالطعام الذي هو نوعه إلا يدا بيد، سواء بسواء؛ فإن اختلف النوع كالذهب بالفضة، والحنطة بالذرة، جازت المفاضلة، ووجب التقابض في الحال من غير تأخير ولا نسيئة.
(1/161)

والحيلة في الربا من الربا، وقد قال كثير من العلماء بعدم جوازها، وأنها لا تفيد شيئا سوى زيادة المقت والسخط، وخشية الاحتيال على الله في استحلال ما حرمه بغير حجة ولا وجه مسوغ. ومنهم من قال بجوازها بالنسبة إلى أحكام الدنيا دون أحكام الآخرة. وهذا أيضا شديد لمن تأمله؛ فإن أحكام الدنيا قد تناط من حيث الظواهر بأمور قريبة مع كونها في الباطن، وبالنسبة إلى أمور الآخرة من الأمور الهائلة المسخطة لله تعالى، الموجبة لمقته وشديد عقابه. وأنظر إلى حال المنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر؛ كيف تجري أموره الظاهرة كلها على مثل أمور المؤمنين، ثم يكون في الآخرة أسوأ حالا، وأشد عذابا من الكافرين الذين أظهروا الكفر؛ وذلك لمخادعته الله واحتياله عليه، فلا يأمن المحتال بالحيل التي يستحل بها ما حرم الله عليه أن يكون أسوأ حالاً ممن تعاطى ذلك المحرم ظاهرا من غير احتيال، فلعل الله أن يتجاوز عنه أو يوفقه للتوبة. وأما هذا المحتال فمتى يتوب من شيء يرى أنه ليس بذنب ولا محرم عليهلِلَّهِ وذلك من أعظم مكائد الشيطان، يوقع الإنسان في بعض مساخط الله، ثم يوهمه ويلبس عليه بأن ذلك من الطاعات أو من المباحات؛
(1/162)

فليحذر المسلم من أمثال ذلك وليحذر من تغرير الشيطان فإنه من اتخذ الشيطان وليَّاً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً، يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
فالمحتال في استحلال الربا الذي حرمه الله عليه بنذر أو إقرر ونحو ذلك، وهو يعلم من باطنه أنه لم يقصد بذلك النذر والإقرار إلا ليجيزه في الظاهر على من لا يعلم بالباطن من المخلوقين مغرر مخادع لله القوي الظاهر الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والذي يكتب لهؤلاء المحتالين والذي يشهد لهم بذلك مهما علموا ببواطن أمورهم، وغلب على ظنهم قصدهم ذلك بقرائن أحوالهم شركاؤهم في باطلهم وغرورهم، وما يترتب على ذلك من التعرض لعقاب الله وعذابه { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }.
ثم اعلم أن مداخل الربا كثيرة. وعلى التاجر أن يتعلم من ذلك ما يكثر وقوعه، ويكثر تعاطي الناس له، وما أشكل عليه بعد ذلك سأل عنه أهل العلم الذين يخشون الله ويتقونه، دون العلماء المترخصين المتأولين، الآخذين من العلم بظواهر أكثرها لا يصح،
(1/163)

ولا يستقيم عند العلماء بكتاب الله وسنة رسوله وسير السلف الصالح!
واعلم أن الربا وشبهه من المعاملات الفاسدة قد عمت في هذا الزمان وفشت جداً ودخل فيها الخاص والعام إلا من حفظه الله وقليل ما هم، وهذا شيء قد وعد به الصادق الأمين صلوات الله عليه وسلامه فإنه قال: (يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا فإن لم يأكله أصابه من غباره) الحديث.
* * *
ثم ينبغي للتاجر أن يأخذ في جميع معاملاته بالعدل والإحسان، الذين أمر الله بهما في قوله تبارك وتعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } الآية.
أما العدل فباجتناب الظلم والغش، وكتمان العيوب وبخس المكيال والميزان، وسائر ما يحرم عليه في بيعه وشرائه؛ مع القيام بما يجب عليه من النصيحة والأمانة والوفاء.
(1/164)

…وأما الإحسان فبأن يأخذ بالفضل والبر والمعروف، من إقالة النادم بيعته بعد لزوم البيع؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أقال نادما صفقته أقال الله عثرته). وأن يكون سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى. قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى). وأن يقنع بالربح اليسير، سيما مع صديقه وقريبه، والضعفاء من عباد الله من الفقراء والمساكين. وأن يكثر من الصدقات واصطناع المعروف، ويغتنم ذلك ما دام يمكنه ويستطيعه.
وللسلف الصالح المباشرين للأسباب سير حسنة معروفة في ذلك، ذكر الإمام الغزالي منها نبذة صالحة في كتاب آداب الكسب والمعاش من الإحياء.
وعلى الصانع والمحترف أن يأخذ بنحو ذلك من العدل والإحسان في صناعته وحرفته: من اجتناب الظلم والغش، والأخذ بالنصيحة والأمانة، والصدق والوفاء، وما شاكل ذلك من أفعال أهل التقوى والإحسان، الذين أخبر الله تعالى في كتابه بأنه معهم حيث يقول: { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }.
(1/165)

وينبغي للتجار والصناع إذا عاملهم من لا يحسن المعاملة لغباوة أو حاجة شديدة ألا يغتنموه ويغبنوه، بل ينظروا له الأصلح، ويقدروا أنه يحسن المعاملة والنظر لنفسه، وكونه من أعرف الناس بها، فيعاملوه على ذلك التقدير، وإلا وقعوا في بأس وحرج، وكانوا به من مؤثري الدنيا على الآخرة، وممن لا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
وبلغنا عن بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين: أنه كان يبيع حللا قيمة البعض كل واحدة منها ألف درهم، وقيمة البعض منها كل واحدة خمسمائة درهم، فاتفق أنه قام من دكانه وخلف فيه ولد أخيه، فجاء أعرابي يطلب حلة فعرض عليه من التي قيمتها خمسمائة درهم، فاشتراها منه بألف درهم وأعطاه الدراهم وأخذ الحلة ومضى؛ فوجده الرجل الصالح صاحب الدكان في طريقه والحلة معه؛ فقال: بكم أخذت هذه؟ فقال له: بألف درهم، قال له: إنما قيمتها خمسمائة، فقال له: قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى، ولكن ارجع معي،
(1/166)

فإما أن تأخذ من التي قيمتها ألف بدراهمك، وإما أن تأخذ خمسمائة وهذه الحلة التي قد أخذت، وإلا خذ دراهمك ودع لنا حللنا. فانطلق معه وأخذ خمسمائة درهم والحلة التي قد أخذها أولاً.
وعن السري السقطي (رحمه الله) أنه أخذ أيام كان يتجر شيئاً من اللوز بستين ديناراً، وكتب عليه الربح ثلاثة دنانير: فمكث أياماً قلائل ثم جاء الدلال ليأخذ منه اللوز وقال له بكم؟ فقال: بثلاثة وستين ديناراً. فقال له الدلال: قد صارت قيمته في هذا الحين تسعين ديناراً. فقال السري: إني قد نويت ألا أربح فيه إلا ثلاثة دنانير. وقال الدلال: إني قد عاهدت الله أن لا أغشَّ أحداً ولا أغبن مسلماً؛ فامتنع السري من البيع وامتنع الآخر من الشراء. وحكاياتهم في نحو ذلك كثيرة. وذكر الإمام الغزالي رحمه الله منها طرفاً صالحاً، وهاتان الحكايتان من جملة ما ذكره.
وهؤلاء وأشباههم من العاملين في دنياهم لآخرتهم والزيادة في دينهم وحسناتهم. قال الله تعالى فيهم: { رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
(1/167)

وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة).
* * *
وأما الزراع وأهل الحرث المشغولون بذلك فإنهم على خير من ربهم وسعي لأحوال معاشهم إذا أصلحوا في ذلك نياتهم، واتقوا الله ربهم، ولم يشتغلوا بما هم فيه من ذلك عن إقامة صلواتهم، واجتناب ما حرم الله عليهم من المعاملات المحظورة عليهم في دينهم من الربا ونحوه؛ فإن الزراعين كثيرا ما يأخذون بالمعاملة التي لا تصح، يحوجهم إلى ذلك حضور الحاجة في إقامة أنفسهم وعيالهم ومؤن زرائعهم، ثم إن الذي يحصل لهم من الزرائع لا يحضر إلا بعد وقت متراخ؛ لأن حين الحصاد يتأخر مدة عن حين إقامة الزرائع، وحاجة الزراع حاضرة إلى المؤن التي يقيمون بها أمر زراعتهم من البذر وغيره، فيرجعون إلى أهل التجارات ونحوهم يطلبون منهم ما يحتاجون إليه إلى أجل تحضرهم فيه فوائد زرائعهم، فلا يعطونهم إلا بالربا المحرم، حرصا على أرباح الدنيا وزياداتها، ومنافعها التي تضرهم في دينهم
(1/168)

وآخرتهم؛ فيشترك المعطي والآخذ في الحرام والآثام، والانتهاك والاقتحام للربا الذي هو من الكبائر الموبقات. وإن كان الآخذ عن ضرورة أو حاجة شديدة أعذر من المعطي له لطلب الربح والزيادة من تلك الأغراض الخبيثة، التي ربحها خسران وزيادتها نقصان؛ قال الله تعالى: { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } وفي البيع نسيئة وإلى أجل، وفي عقد السلم بشروطه مندوحة وسعة عن الأخذ بهذا الربا المحظور المذموم، وعن حيله التي قد قيل فيها ما قيل وفق ما تقدم قريبا.
وليكن الزارع طيب النفس، محتسبا للثواب من الله فيما يصاب به في زرعه من نقص أو آفة، وما يأكله ذي كبد رطبة من آدمي أو بهيمة أو طائر؛ فإن ذلك في صحائفه وموازين حسناته، مهما احتسبه وأراد به وجه ربه، وما عنده من حسن الأجر وعظيم الثواب؛ قال عليه الصلاة والسلام: (في كل كبد رطبة أجر) وقد ورد في ذلك الأخبار.
وليحرص على إخراج الزكاة من زرعه مهما وجبت عليه، وليفرقها على مستحقيها من الفقراء والمساكين، وبقية الأصناف الموجودين الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز حيث
(1/169)

يقول سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } الآية، وليعمهم بها إن اتسع لهم القدر الذي يخرجه، وإلا فلا يخرجها عنهم ويعطيها لغيرهم ممن ليس من الأصناف المذكورة في الآية الكريمة، فإن المتعدي في الصدقة كمانعها كما ورد.
وعلى أرباب الثمار والمواشي والنقود من الذهب والفضة والتجارات أن يخرجوا زكواتهم التي أوجبها الله عليهم في أوقاتها، وأن يفرقوها على المستحقين لها الذين سماهم الله في كتابه، وأن يقصدوا بذلك امتثال أمر الله وابتغاء وجه ثوابه الذي وعدهم به في الآخرة، ولا يقصروا عن ذلك، ولا يتساهلوا فيه بترك الإخراج رأسا والعياذ بالله! أو بإخراج البعض منها أو بإعطائها غير أهلها؛ فكل ذلك من الآثام والمحظورات المتعرض متعاطيها للوقوع في سخط الله وسخط رسوله وإن تفاوتوا في ذلك بحسب ما وقعوا فيه من تلك المهالك. فإن المقصر في الإخراج رأساً إثمه عظيم، وعصيانه لله فاحش فظيع!.
وقد قرن الله بين الصلاة والزكاة في غير موضع في كتابه العزيز: وقاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه الأعراب الذين منعوا الزكاة.
(1/170)

وقال رضي الله عنه: لأقاتلن من فرَّق بين الزكاة والصلاة، ولو منعوني عناقاً(1) (أو قال عقالاً) كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
وقد ورد في السنة المطهرة في معاني الزكاة تشديدات هائلة، عقوبات عظيمة لا نطول بذكرها، وهي معروفة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي منع الزكاة مضار عاجلة أيضاً؛ قال عليه الصلاة والسلام: (ما خالطت الناس مالا إلا محقته، وما هلك مال في بر ولا في بحر إلا بمنع الزكاة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء).
وعلى أهل التجارات والزراعات وغيرهم من أهل الأموال أن يتعلموا من أحكام الزكاة ما لا بد لهم من علمه، وما أشكل عليهم بعد ذلك فليسألوا عنه أهل العلم الذين يخشون الله. والقول في أحكام الزكاة وأدائها طويل منتشر، ومحل بسطه كتب الفقه فليطلب مريد ذلك منها.
__________
(1) العَنَاق -كسَحَاب-: الأنثى من ولد المعز.
(1/171)

ثم إن من أبرك وأعود ما يأخذ فيه الإنسان من أسباب المعاش (التجارة) مع الصدق والوفاء، والأمانة والنصيحة للمسلمين (ثم الماشية) قال عليه الصلاة والسلام: (تسعة أعشار الرزق في التجارة، وعشرة في الماشية) (وكذا الزراعة) مع أن التعب فيها كثير، والأجر والثواب لمن حسنت نيته واتقى ربه فيها عظيم، وفي الحديث: (التمسوا الرزق في خبايا الأرض) فيقال: إنه حث على الزراعة. وقال عمر رضي الله عنه: المتوكلون هم الزراع الذين يبثون بذرهم في الأرض، ويبقون منتظرين لفضل الله، أو كما قال رضي الله عنه.
ومن أطيب المكاسب وأحلها الاحتطاب والاصطياد، وأخذ الحشيش من المواضع المباحة، ومهما روعيت أسباب الحل مع الورع والاحتياط في أخذ هذه الأشياء وفي بيعها كانت من أحل ما يكتسبه الإنسان ويأكله. وقد أخذ بذلك كثير من عباد الله الصالحين سلفاً وخلفاً.
…ومن المستحب التبكير في طلب الرزق، قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لأمتي في بكورها).
وكان عليه الصلاة والسلام إذا بعث جيشاً أو سرية بعثهم من أول النهار.
(1/172)

وكان ابن وداعة الغامدي الصحابي رضي الله عنه وهو راوي هذا الحديث تاجراً، وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله.
* * *
ومن المستحب المتأكد الإكثار من ذكر الله في السوق، قال عليه الصلاة والسلام: (من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير: كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة). وقال عليه الصلاة والسلام: (التاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء). وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب الكسب كسب التجَّار، الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا، وإذا اتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم دين لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يُعَسِّروا)(1) وقال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يكون مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن).
__________
(1) رواه البيهقي عن معاذ. وعسر الغريم وأعسره: طلب منه الدين على عسرة، ولم يرفق به إلى ميسرته.
(1/173)

وقال عليه الصلاة والسلام: (من خير المعاش لهم رجل ممسك بعنان فرسه، يطير على متنه كلَّما سمع هيعة(1) أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه، ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من زرع زرعاً فأكل منه طير أو عافية كانت له صدقة(2) والعافية: هي الوحوش.
وقال عليه الصلاة والسلام: (سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورث مصحفاً،أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته)(3).
_______________
(1) الهيعة: الصوت الذي تفزع منه وتخافه من عدو.
(2) رواه ابن خزيمة عن خلاد السائب.
(3) رواه البزاز عن أنس.
(1/174)

وعن فاطمة رضي الله عنها قالت: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجعة؛ فحرَّكني برجله ثم قال: (يا بنية قومي اشهدي رزق ربك ولا تكوني من الغافلين؛ فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس).
* * *
(1/175)

(1/176)

****************************
الصنف الخامس
دعوة الفقراء والضعفاء وأهل البلاء
***************************
(1/177)

(1/178)

الصنف الخامس
وهم أهل الفقر والضعف والمسكنة ونحوهم من أهل الأمراض والبلاء
القول في نصيحتهم وتذكيرهم وتنبيههم وتحذيرهم
* * *
اعلم أن الفقر والضعف والمسكنة من الأمور التي جعل الله فيها ابتلاء واختبارا لعباده؛ لينظر صبرهم عليها ورضاهم بقضائه فيها، فمن صبر كان له أجر الصابرين، ومن سخط وجزع كان عند الله من الخاطئين، قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } إلى قوله تعالى: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }. وقال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } فالصبر على البلاء من الشدائد، والثواب عليه لمن صبر عظيم، كما قال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
(1/179)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يصب منه)(1).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط).
وقال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) وإنما جعلها الله سجن المؤمن ليزهد فيها ولا يرغب في طول الإقامة بها.
قال ابن عطاء الله(2)رحمه الله: إنما جعل الله الدنيا محلا للأكدار، ومعدنا لورود الأغيار تزهيدا لك فيها علم أنك لا تقبل النصح المجرد فذوقك من ذواقها ما يسهل عليك وجوه فراقها انتهى.
ومما ورد عن الله تعالى: (يا دنيا مُرِّي لأوليائي، لا تَحلِي لهم فتفتنيهم) وورد أيضاً: (إن الله إذا أقبل على عبده بوجهه كله صرف عنه الدنيا كلها).
__________
(1) رواه البخاري عن أبي هريرة.
(2) هو الشيخ تاج الدين بن عطاء اله السكندري، الزاهد الكبير، تلميذ أبي العباس المرسي والشيخ يلقوت. كان ينفع الناس بإشارته، ولكلامه حلاوة في النفوس وجلالة. له الكثير من المؤلفات: توفي سنة 707ه-.
(1/180)

وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: (يا موسى، إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين).
وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحبك، فقال له: (إن كنت كما قلت فأعد للفقر تجفافاً(1) فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه). فالفقر مع الصبر حلية الأنبياء، وزينة الأصفياء.
وفي الحديث: (الفقراء الصبراء جلساء الله يوم القيامة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (الله يذود عبده المؤمن عن الدنيا كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع العرة)(2).
وورد أيضا: (أن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب) ومعناه: أن أهل المريض قد يمنعونه بعض الأطعمة وبعض الأشربة خشية أن تضره. وفي الحديث (الحمية أصل الدواء).
__________
(1) - التجفاف- بكسر أوله -: ما جلل به الفرس من سلاح وآلة تقيه الجراح.
(2) - العرة والعر بضم العين المهملة وتشديد الراء: الجرب. والمراد بمراقع العرة: مواضع الهلكة.
(1/181)

ولما كانت الدنيا عند الله بأوضع المنازل، وأحقر الأشياء صان أولياءه وأحباءه عنها، ورفعهم عن الميل إليها والتمتع بها.
وقد بلغنا أن الله تعالى حين أرسل موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام إلى فرعون اللعين قال لهما: لا يروعنكما ما تريان عليه من زينة الدنيا، فلو أردت لزينتكما بزينة يعلم فرعون أن مقدرته تعجز عنها، ولكني أرغب بكما عن ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء). فانظر (رحمك الله تعالى) ما أحقرها عند الله، وما أهوتها عليه.
وقد ورد: (أن الدنيا تقول يوم القيامة لربها ياربِّ، اجعلني لأدنى أوليائك، فيقول لها سبحانه اسكتي يا لا شيء).
فقد علمت أنه سبحانه ما زوى عنهم نعيم الدنيا، وحماهم عن التمتع بشهواتها الفانية، وحذرهم منها إلا لخستها وهوانها، وكرامتهم عليه ورفعتهم لديه لئلا يتدنسوا بأقذارها ويشتغلوا بمتاعها عما هو خير لهم وأنفع وأبقى وأرفع من كرامته التي ادخرها لهم عنده في الدار الباقية التي
(1/182)

هم لها سابقون، وفيها مخلدون (تلك الجنة التي وعد المتقون) وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام) فيكونون في سرور وحبور، وروح وريحان. والأغنياء محبوسون للحساب، ومرددون بين تلك المخاوف والأهوال الصعاب، بسبب ما نالوه وتمتعوا به من لذات الدنيا وشهواتها.
* * *
ثم اعلم أن الفقراء الزاهدين في الدنيا المتجردين عنها على أقسام:
قسم منهم يفرون من الدنيا وإن عرضت عليهم عفوا صفوا فليس يرغبون فيها اغتباطا بفقرهم، وتفرغا عن الدنيا لطاعة ربهم وعبادته، وذكره ومناجاته. وقد ذكر عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: أنه جاءه شخص بعشرة آلاف درهم فلم يقبلها منه، وقال له: تريد أن تمحو اسمي من ديوان الفقراء بهذه العشرة الآلاف؟ لا أفعل لِلَّهِ
وعن بعضهم قال: رأيت فقيرا قاعدا على سجادة في المسجد الحرام، وكان معي شيء من الدراهم فوضعتها على سجادته، وسألته أن يقبلها فنظر إلي
(1/183)

شزراً وقال: يا هذا، اشتريت هذه الجلسة مع الله تعالى على الفراغ بكذا وكذا ألفاً غير العقارات والمستغلات، فتريد أن تخدعني عنها بدراهمك هذه؟ ثم قام ونفض سجادته ومضى؛ فتبددت الدراهم وجعلت ألتقطها. فلم أرَ أعزَّ منه حين ذهب وتركها، وأذلَّ مني حين بقيت ألتقط الدراهم! (الحكاية بمعناها). وحكاياتهم في مثل ذلك كثيرة معروفة.
ومن وصف أهل هذا القسم: الفرار من الدنيا ومن دخولها في أيديهم إذا أقبلت عليهم، وربما قيل لبعضهم: خذه وتصدق به فيأبى، فيقول: من جمعه أولى بتفريقه، تكون العهدة عليه في الجمع والتفريق.
والقسم الثاني لا يفرون من الدنيا إذا عرضت عليهم وأقبلت إليهم، ولكنهم يقبلونها ويفرقونها على المستحقين والمحتاجين في الحال الحاضر من غير انتظار ولا تأخير، وهؤلاء هم الأقوياء من حزب الله وخلفائه في عباده، ولهم الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه لم يفر من الدنيا حين أقبلت، ولكنه أنفقها في سبيل الله، ووضعها حيث أمر الله. فكان يعطي الرجل الواحد المائة من الإبل، وأعطى رجلاً غنماً بين جبلين، وأعطى العباس رضي الله عنه من المال
(1/184)

ما عجز عن حمله، وقال عليه الصلاة والسلام: (وما يسرني أن لي مثل أحد ذهبا)، تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه قيراط إلا أن أقول(1) به في عباد الله هكذا وهكذا) الحديث.
وكانت هذه سيرته عليه الصلاة والسلام. وكان يعيش هو وأهل بيته عيش الفقراء على التمر والماء، وعلى خبز الشعير الغير المنخول.
وكذلك كانت سيرة الخلفاء الراشين من بعده: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم أجمعين)، لم يفروا من الدنيا حين جاءت إليهم، ولم يمسكوها للتمتع بشهواتها؛ بل أخرجوها في الحال، وبقوا على ما كانوا عليه من التقلل والتقشف، وسيرهم في ذلك مأثورة ومعروفة. وقد بلغنا أن ابن الزبير أرسل لعائشة رضي الله عنها بمائة ألف درهم فأنفقتها من ساعتها وكانت إذ ذاك صائمة؛ فلمَّا قربت لها الجارية الفطور وكان خبزاً وزيتاً، قالت لها: ألم يمكنك فيما
__________
(1) - العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان؛ فتقول: قال بيده: أي أخذ. وقال برجله: أي مشى. وذلك على سبيل المجاز والاتساع.
(1/185)

فرَّقت اليوم أن تشتري بدرهم لحماً تفطرين عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت.
والقسم الثالث: قد يطلبون الدنيا ويسعون لها، ولكن لم يقدر لهم منها، ولم يقسم لهم فيها إلا مقدار الكفاية وأقل من ذلك. ولكن رضوا به وقنعوا وصبروا معرفة منهم بحسن الاختيار، وعلما بأن الله ما زوى عنهم فضول الدنيا إلا لخير أرادهم به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (قد أفلح كم من هدي إلى الإسلام وكان رزقه كفافا وقنع به). وقال عليه الصلاة والسلام في دعائه: (اللهم ارزقني ما يكفيني، وامنع عني ما يطغيني). وقال عليه الصلاة والسلام: (من رضي من الله بالسير من الرزق، رضي منه باليسير من العمل).
فأما من طلب الدنيا وجد وشمر في السعي لها لكي يتمتع بشهواتها ويتنعم بلذاتها فذلك من طلاب الدنيا، وأرباب الحرص عليها، وأمره محظور ويخشى عليه. فإن الطالب للدنيا على هذه الإرادة معدود من المؤثرين للدنيا الراغبين في متاعها، سواء حصل له ما طلبه وأمله منها أم لم يحصل له.
وإذا كان الطالب للدنيا ليبر بها ويتصدق منها، يقال له: يا طالب الدنيا لتبر بها تركك لها أبر وأبر!
(1/186)

فكيف يكون الأمر في حق من يطلبها للتمتع بالشهوات واللذات الفانيات!!
… فالنجاة في طلب الدنيا أن يطلبها العبد للعفاف والكفاف؛ فإن دخل في يده أكثر من ذلك من وجهه قدمه لآخرته، وادخره لنفسه عند ربه.
… وأما الفقير الذي يطلب الدنيا، فإن وجدها جمعها ومنعها، وإن لم يجدها تحسر عليها، واشتد حزنه وتأسفه على فقدها؛ فذلك مذموم الحال، وغير معدود من الفائزين في المآل سيما إذا اشتغل بطلبها والسعي لها عن طاعة ربه وحسن التزود لآخرته، ويخشى عليه أن يكون من الذين قيل فيهم: أشقى الأشقياء من جمع الله عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة!!
…فالفقر مع الصبر والقناعة بما قسم الله، والرضا بما قضاه لعبده من اختيار القلة على الكثرة، والضيق على السعة من الدنيا من أعظم النعم وأفضل الفضائل.
… وأما الفقر مع السخط والحزن، والتبرم والتضجر فذلك من أعظم البليات، وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفقر الذي يكون صاحبه على مثل تلك الصفة. وقال عليه الصلاة والسلام: (كاد الفقر أن يكون كفراً). فإن السخط لقضاء الله، وعدم الرضا بما قسمه،
(1/187)

من الذنوب المهلكة، والمعاصي الفظيعة الهائلة؛ فليحذر الفقير من ذلك غاية الحذر. وقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الفقراء، أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم، وإلا فلا).
…وأما الأمراض والعاهات، وأنواع المصائب والبليات التي يوجهها الله إلى بعض عباده فإن فيها لهم من الأجر والثواب، وحسن العواقب وكريم المآب مهما صبروا عليها، ولم يسخطوا قضاء الله عليهم بها، ولم يتبرموا ولم يجزعوا، وقد قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ } إلى قوله تعالى: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }. وقال عليه الصلاة والسلام: (ليتمنين أهل العافية يوم القيامة أن لو قرضت أجسادهم بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه). وقال عليه الصلاة والسلام: (عظم الجزاء مع عظم البلاء) وقال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا يُنصب لهم ميزان
(1/188)

ولا ينشر لهم ديوان، ويصبُّ عليهم الثواب صبَّاً ويُفرَغ لهم إفراغاً) الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يبرح البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة). وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحب الله عبدا وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صبا وسحه سحا؛ فإذا دعا العبد وقال يا رباه، قال لبيك عبدي، لا تسألني شيئا إلا أعطيتك، إما أني أعجله لك، وإما أني أدخره لك).
… وما ورد في ثواب البلاء مع الصبر والاحتساب كثير منتشر، ومع ذلك فليس ينبغي للإنسان أن يسأل الله البلاء ويدعو به، فإنه لا يدري ما يكون منه عند نزول البلاء عليه، فلعله يجزع ويسخط فيقع في الإثم والحرج؛ بل ينبغي له أن يسأل الله العافية، ويكثر من سؤالها؛ ففي الحديث: (ما أوتي الإنسان بعد اليقين أفضل من العافية، وما سئل الله تعالى شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية)، فهذا الذي ينبغي للعبد ويليق بضعفه، فإن وجه الله إليه بلاء، وأراده به كان عليه أن يصبر ويحتسب، ويرضى بقضاء الله تعالى، ويسأل ربه اللطف به والعافية والتثبيت والتأييد.
(1/189)

…وكذلك لا ينبغي لأحد أن يتمنى الموت لضر نزل به من مرض أو فقر أو نحوه من شدائد الدنيا؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) فإن خاف فتنة في دينه لم يكن عليه في ذلك بأس ولا حرج (أعني تمني الموت)؛ فقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عنهم أجمعين.
…ومن الصبر المحمود الذي يعظم الثواب عليه- الصبر على المصائب والفاقات وشدائد الدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الصبر في القرآن على ثلاث منازل: صبر على طاعة الله وله ثلاثمائة درجة، وصبر عن معاصي الله تعالى وله ستمائة درجة، وصبر على المصائب وله تسعمائة درجة. وفي الحديث: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) أي عند أول ما يرد عليه العلم بوقوع المعصية. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أصيب بمعصية، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله وأخلفه خيرا منها). وقال عليه الصلاة والسلام: (قال الله تعالى ما جزاء من قبضت صفيه من أهل الدنيا فصبر إلا الجنة).
(1/190)

…ومن الصبر المحمود - الصبر على ما يقع من أذى الناس بأقوالهم وأفعالهم، وهو أعلى الصبر، والصبر على ذلك من شأن الأكابر والأئمة، وأهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والصالحين، قال الله تعالى لرسوله الأمين: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }، وقال تعالى: { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ }. وقال تعالى إخبارا عن الرسل عليهم الصلاة والسلام: { وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا } الآية. وقال تعالى حكاية عن قوم موسى عليه الصلاة والسلام: { قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } الآية.
…فعلى من ابتلي بشيء من أذى الناس أن يصبر ويحتمل، ولا يكافئ ولا يقابل بمثل ذلك، وإن كان قد أبيح له ورخص له فيه، وليرض بنصر الله له، ولا يدع على من ظلمه ولا يسبه ولا يشتمه؛ فقد ورد: (من دعا على من ظلمه فقد انتصر) .
وورد: (إن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئه ثم يبقى للظالم عليه زيادة يطالبه بها يوم القيامة، فيعود الظالم مظلوماً، والمظلوم ظالماً).
(1/191)

…وأفضل من ذلك أن يعفو ويصفح من غير حقد ولا محبة شر، ولا بلاء لمن آذاه، قال الله تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }، وقال تعالى: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وقال عليه الصلاة والسلام: (ينادي مناد يوم القيامة ليقم من أجره على الله؛ فيقوم العافون عن الناس). وقال عليه الصلاة والسلام: من أعطي فشكر، ومنع فصبر، وظلم فغفر، وظلم فاستغفر ثم سكت، فقالوا ماذا له يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الحديث.
…وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله؛ إنهم ليدعون له ولدا ويجعلون له أندادا وهو مع ذلك يعافيهم ويرزقهم).
…وقال عليه الصلاة والسلام: (لقد أوذيت وما يؤذى أحد، ولقد أخفت وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذي كبد إلا شيئا يواريه إبط بلال). وذكر القشيري في الرسالة بإسناده قال: أتت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسرة خبز ؛
(1/192)

فقال: (ما هذا يا فاطمة؟) قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى آتيك به، فقال: (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث).
ولما شكت إليه صلى الله عليه وسلم ما تلقاه من الطحن وحمل الماء وغير ذلك من خدمة البيت وسألته خادما، فقال لها: (كيف أعطيك خادما وأدع أهل الصفة) ثم أمرها هي وعلياً رضي الله عنهما إذا أخذا مضجعهما من الليل: (أن يسبحا ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبِّرا أربعاً وثلاثين، ثم قال: وذلكما خير لكما من خادم) الحديث.
…وقد كان يأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهله الهلال والهلال في شهرين لا توقد في أبياتهم نار لطعام ولا غيره، إنما يكونون على الأسودين التمر والماء. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوين لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم الشعير). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل؛ فقال: (يا بن عمر، مالك لا تأكل؟ قلت: لا أشتهيه يا رسول الله،
(1/193)

قال لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذقْ طعاماً، ولو شئتُ لدعوت ربي عزَّ وجلَّ فأعطاني ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا بن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين. فو الله ما برحنا حتى نزلت: { وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }. فقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا باتباع الشهوات؛ فمن كنز دينارا يريد به حياة باقية فإن الحياة بيد الله عز وجل، ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما، ولا أخبئ رزقا لغد).
وقال عليه الصلاة والسلام: (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب! ولكن أشبع يوما وأجوع يوما؛ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك).
وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواسي الناس بنفسه(1)،
__________
(1) - أي بما يعمله في شأن نفسه خاصة ليتأسوا به.
(1/194)

حتى جعل يرقع إزاره بالأَدَم، وما كان يجمع بين عشاء وغداء ثلاثة أيام وِلاء حتى لحق بالله عزَّ وجلَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم وزاده شرفاً وكرامة لديه.

* * *
(1/195)

(1/196)

***************************
الصنف السادس
دعوة الأتباع
من الأولاد والنساء والمماليك
**************************
(1/197)

(1/198)

الصنف السادس
وهم الأتباع من الأولاد والآباء, والنساء مع الأزواج, والمماليك مع المالكين لهم
القول في نصيحتهم وتذكيرهم وتنبيههم وتحذيرهم
* * *
اعلم أن هؤلاء يكونون في الجملة في تبعية غيرهم, وتكون الحقوق الإلهية المتوجهة عليهم أكثر وآكد من الحقوق التي لهم على الذين يكونون في تبعيتهم من الآباء والأزواج والملاك, وإن كانت أيضا لهم حقوق في الجملة على ا لمتبوعين لهم.
* * *
أما الأولاد مع الوالدين من الآباء والأمهات فقد قال الله عز وجل: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }، وقال تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }،
(1/199)

وقال تعالى:{ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }، وقال تعالى:{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } إلى قوله تعالى: { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها) قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين) قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين).
ويروى عنه تبارك وتعالى أنه قال: (من أصبح مرضيا لوالديه مسخطا لي فأنا عنه راض، ومن أصبح مرضيا لي مسخطا لوالديه فأنا عنه ساخط).
وقال عليه الصلاة والسلام: (الوالد وسط أبواب الجنة؛ فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه).
وقال رجل: يا رسول الله، ما حق الوالدين على ولدهما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (هما جنتك ونارك).
(1/200)

وقال عليه الصلاة والسلام: (من سرَّه أن يمدَّ له في عمره، ويزادَ له في رزقه فليبرَّ والديه وليصل رحمه).
وقال رجل يا رسول الله: إن أبي أراد أخذ مالي! فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك).
وقال صلى الله عليه وسلم: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم. وعفوا تعف نساؤكم).
وقال عليه الصلاة والسلام: (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف! قيل: يا رسول الله من؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (أكبر الكبائر ثلاث: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور أو وشهادة الزور) الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ملعون من عقَّ والديه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات).
وقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المسلمين، اتقوا الله وصلوا أرحامكم؛ فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة الرحم، وإياكم والبغي فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة البغي.
(1/201)

وإياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجدها عاق لوالديه، ولا قاطع رحم، ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء، إنما الكبرياء لله رب العالمين. والكذب كله إثم إلا ما نفعت به مؤمنا أو دفعت به عن دين)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة حرم الله تعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث الذي يقر الخبث في أهله).
واعلم أن حق الوالدين من أعظم الحقوق، وبرهما من أهم المهمات، وأقرب القربات وأفضل الطاعات لله رب العالمين. وأن عقوقهما والإضاعة لحقهما من أفحش المعاصي، وأكبر الكبائر وأقبح المحرمات. فعليك رحمك الله بمعرفة حق والديك وحسن القيام ببرهما. واحذر كل الحذر من عقوقهما والتهاون بحقهما. واحرص كل الحرص على ابتغاء مرضاتهما ولزوم طاعتهما، وإدخال السرور على قلوبهما بكل وجه تستطيعه وتقدر عليه؛ مع الإحسان ومنع كل أمر يسوءهما ويشق عليهما ويجر إلى سخطهما. واستعن بالله واصبر { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.
واعلم أن بِرَّ الأمِّ يزيد على برِّ الأب، ولعلَّ سبب ذلك ما تقاسيه من
(1/202)

مشقة الحمل والوضع، وزيادة الشفقة والحنان، وما تحمله من مؤونة الرضاع والتربية ونحو ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام للسائل الذي سأله: من أحق الناس بحسن الصحبة؟ فقال له: (أمك ثم أمك ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك) الحديث.
ومن تمام بر الوالدين - صلة أرحامهما وأصدقائهما وأهل مودتهما، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه) وفي الحديث الآخر: (من حسن بر الوالدين صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما).
ومما ينبغي للوالدين وخصوصا في هذه الأزمنة فشا فيها العقوق، وقل فيها البر والبارون أن يعينوا أولادهم على برهم بالمسامحة، وترك الإستقصاء في طلب الحقوق والقيام بكمال البر؛ لئلا يحرجوهم ويوقعوهم في سخط الله، وليغتنموا دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (رحم الله والدا أعان ولده على بره).
وينبغي ويتأكد عليهم أن يحسنوا تربية أولادهم وتعليمهم وتأديبهم، وأن يحفظوهم من قرناء السوء وخلطاء الفساد، وأن يغرسوا في نفوسهم معرفة الحق والدين، ومحبة الخير وأهله،
(1/203)

والحرص على العمل به، وبغض أهل الباطل والفساد، والشر وأهله ليقع نشوءهم على ذلك، فيشتد حرصهم ورغبتهم إذا كبروا وأدركوا على الخير والصلاح والبر، ومجانبة الشر والفساد.
وكما يجب ويتأكد على الإنسان أن يبر والديه ويحذر من عقوقهما فعليه أيضا أن يصل أرحامه وأقاربه، فإن صلة الأرحام من الأمور المهمة في الدين، وهي (أعني الرحم) مما أمر الله به أن يوصل في قوله عز وجل من قائل: { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ }.
وقد لعن الله سبحانه وتعالى القاطعين لأرحامهم في قوله تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } الآية.
وفي الحديث عن الله تعالى: (هي الرحم وأنا الرحمن شققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) وأنه تعالى قال للرحم حين قامت فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة): أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك)،
(1/204)

وقال عليه الصلاة والسلام: (من سرَّه أن يُنسأ له في أجله، ويبسط له في رزقه؛ فليتقِ اللهَ وليصلْ رحمه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة قاطع رحم).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (صلوا أرحامكم ولو بالسلام).
وقال صلوات الله عليه وسلامه: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح، وهو الذي يضمر العداوة لقريبه المحسن إليه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (الصدقة على القرابة صدقة وصلة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه).
* * *
وأما النساء من الأزواج - فإن حقوقهم عليهن مهمة وكثيرة، وإن كان الحال من الرجال والنساء على ما وصف الله في كتابه العزيز حيث يقول تبارك وتعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ }، وقال تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ } الآية.
(1/205)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان ينبغي لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها إذا دخل عليها لما فضله الله عليها) الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة).
وجاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني رسولة النساء إليك، وما منهن امرأة علمت أو تعلم إلا وهي تهوى مخرجي إليك، الله رب الرجال والنساء، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء، كنب الله على الرجال الجهاد فإن أصابوا أجروا وأثروا، وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون؛ فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة؟ قال: (طاعة أزواجهن والمعرفة بحقوقهم. وقليل منكن من يفعله). وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على ظهر قتب بعير لم تمنعه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ينظر الله تبارك وتعالى
(1/206)

إلى امرأة لا تشكر زوجها، وهي لا تستغني عنه) .
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشها فلم تأته فبات عليها غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح).
ومن حقه عليها ألا تأذن في بيته لمن يكرهه، وألا تخرج من البيت إلا بإذنه، وألا تصوم تطوعا إلا بإذنه، وأن تحفظه في نفسها وفي ماله، وأن تحسن النظر على أولاده وخدمه، وأن تحفظ موضع سمعه وبصره وأنفه منها؛ فلا يسمع منها إلا خيرا، ولا يبصر إلا حسنا، ولا يشم إلا طيبا، وأن تكون مستعدة لأن يستمتع بها في أي وقت أراد، لا تمنعه نفسها إلا بعذر شرعي من حيض أو مرض أو نحو ذلك، وأن تكون شفيقة رفيقة متعطفة على أقاربه والمتصلين به.
وحقوق الزوج على زوجته كثيرة ومهمة.
وكما أن عليها له حقوقا فلها عليه حقوق أيضا في القيام بالنفقة والكسوة والمعاشرة بالمعروف، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خياركم خياركم لنسائهم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
وقال عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيرا فإنما
(1/207)

هن عوان(1) عندكم، أخذتموهن بأمانة الله تعالى، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) الحديث، وفي الحديث الآخر: (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وأن أعوج ما في الضلع أعلاه؛ فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت به على عوجه. فاستوصوا بالنساء خيرا). وقد تكرر منه عليه الصلاة والسلام الوصية بهن في غير ما حديث.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لن يفرك مؤمن مؤمنة. إن كره منها خلقا رضي منها بآخر) ومعنى يفرك: يبغض.
فيحتاج الإنسان في معاشرتهن إلى صبر وتغافل وحسن مداراة، فإنهن خلقن من ضعف. وقد وصفهن عليه الصلاة والسلام بنقصان العقل والدين، فقال: (ما رأيت أغلب للرجل الحازم منكن) أو كما قال صلوات الله عليه وسلامه. وقد قال: (الصبر عنهن خير من الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار).
فينبغي أن يسامحها الرجل بما يعسر عليها القيام به من حقوقه. ولا يسامحها بالتساهل بحقوق الله اللازمة عليها من الصلوات المكتوبات،
__________
(1) - قوله (عوان) أي مقهورات مأسورات. وواحدة العواني: عانية، يقول: إنما هن عندكم بمنزلة الأسرى.
(1/208)

والاغتسال من الجنابة، والتصون من الرجال الأجانب، والتبرج بالزينة لغير الزوج والمحارم؛ فإن الرجل الكامل هو الذي يسامح بحقوقه ولا يسامح بحقوق الله، والتهاون بدينه وحفظ حرماته، والرجل الناقص هو الذي يكون على العكس من ذلك؛ فاعتبر هذا في نفسك وفي غيرك.
ثم إنه قد غلب على النساء في هذه الأزمنة المفتونة من التبرج، وقلة الحياء والتصون ما لا يخفى، فينبغي لكل مسلم يخشى الله ويتقيه أن يبالغ في حفظهن وصيانتهن، ولا يقصر في ذلك عن شيء يمكنه ويستطيعه.
وينبغي لكل متديِّن شفيق على دينه ؛ أن يصون نفسه و دينه بزوجة صالحة يَعِفُّ بها نفسه، و يحصِّن بها فرجه ، و ليتمثَّل قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ( يا معشرَ الشباب : من استطاع منكم الباءة - يعني النفقة - فعليه بالنكاح ؛ فإنه أغضُّ للبصر، و أحصنُ للفرج، و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء)
وهذا هو الذي ينبغي ويتأكَّد في هذه الأزمنة، سِيَما في حق الشباب الذين تكون الشهوة هي الغالبة عليهم. وأما أهل النسك والدين من الذين غلب عليهم التجرد للعبادة، والإشتغال بمهمات الدين من العلوم والأعمال
(1/209)

فليس يخفى عليهم ما يكون من الأولى والأحسن في حقهم من التأهل أو تركه، فإن عندهم من البصيرة بدين الله ما يكشف لهم عما هو الأحسن والأولى بهم من ذلك، ويكون عندهم من رياضات النفوس وتأدب الجوارح ما يأمنون به على نفوسهم من الوقوع فيما يسخط الله تعالى عليهم.
والإنسان على نفسه بصيرة، والزمان قد عظم فساده وتفاحش، وخرج أهله عن شاكلة الصواب والإستقامة على جادة الحق والدين إلا من شاء الله، وقليل ما هم؛ فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله لِلَّهِ
وفي الحديث: (يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل فيه على يد أبويه، فإن لم يكن له أبوان فعلى يد زوجته وأولاده، يعيرونه بالفقر حتى يدخل مداخل السوء) أو كما ورد.
قال الحسن البصري رحمه الله: ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهواه إلا أكبه الله في النار، ولما سئل عليه الصلاة والسلام وقيل له: إذا أنت مت فظهر الأرض خير لنا أو بطنها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم أشراركم،
(1/210)

وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها).
فقد تبين أن المرأة الصالحة عون على الدين. والمرأة الغير الصالحة شغل عن الدين؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، التي إن نظرت إليها سرتك،وإن غبت عنها حفظتك في مالك وفي نفسها). وقال عليه الصلاة والسلام: (أعظم النساء بركة أخفهن مؤونة).
فمهما وجد الإنسان المرأة الصالحة التي تعينه على دينه وعلى أمر آخرته، كان التزوج أولى به وأفضل له، وإلا كان الترك لذلك والتفرغ لعبادة الله، والتخفف عن مؤونة النساء أحسن وأحمد عاقبة، وقد ورد في الحديث: (خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ، الذي لا أهل له ولا ولد). وكانت المرأة الصالحة من السلف الصالح تقول لزوجها إذا رأته مهموما: إن كان اهتمامك لأمر الآخرة فطوبى لك! وإن كان لأمر الدنيا فإنا لم نكلفك ما لا تقدر عليه.
وكانت رابعة الشامية امرأة أحمد بن أبي الحواري(1)رحمهما الله تعالى
__________
(1) أبو الحواري هو عبد الله بن ميمون من أهل دمشق وأحمد ابنه صحب أبا سليمان الداراني، وسفيان بن عيينة، وجماعة من المشايخ. وكان من العارفين الورعين. وبيتهم بيت الورع والزهد. ولقبه الجنيد بريحانة الشام. توفي سنة 240ه-.
(1/211)

تطعمه الطعام الطيب وتطيبه وتقول: اذهب بنشاطك إلى أهلك؛ وكان له امرأة غيرها، وكان إذا كان بعد صلاة العشاء تطيبت ولبست ثيابها، وأتت إلى فراشه وقالت له: ألك حاجة؟ فإن كان له حاجة معها وإلا نزعت ثيابها وانتصبت في مصلاها حتى تصبح. وكانت هي التي دعت ابن أبي الحواري إلى التزويج بها لأنه كان لها زوج قبله فمات عنها وورثت منه مالا، فأرادت ابن أبي الحواري يتصدى لإنفاق ذلك المال على أهل الدين والخير في إطعام الطعام ونحوه؛ لأن الرجل أوقف لذلك من المرأة وأقوم به، فلذلك دعته لأن يتزوج بها رحمة الله عليهما.
وأخبار النساء الصالحات من السلف في أمثال ذلك كثيرة.
وبلغنا أن فتحا الموصلي(2)رحمه الله كان إذا سافر إلى الحج أو غيره دخل النساء على زوجته وجعلن يتحنن ويتشفقن عليها لغيبته عنها وعن عياله فقالت لهن: إن فتحاً لم يكن رزاقاً،
_________________
(2) - هو أبو محمد الفتح بن سعيد الموصلي من أقران بشر الحافي، وسري السقطي. وكان كبير الشأن في باب الورع والمعاملات.
(1/212)

وإنما كان يأكل الرزق، فقد غاب من يأكل الرزق، وبقي من يرزق وهو الله تعالى، وبالله التوفيق والإستعانة.
* * *
وأما المماليك والأرقاء- فمن آكد الأشياء عليهم، وأهمها في حقهم بعد ما يجب عليهم من حق الله وفرائض دينه اللازمة طاعة ملاكهم وخدمتهم، والنصيحة لهم من عباد الله الذسن ملكهم الله رزقهم، وجعلهم لهم عبيدا وخولا، ولهم في القيام بذلك لملاكهم الثواب العظيم، وعليهم في تركه وإضاعته الإثم الكبير.
وقد وردت بذلك الأحاديث وكثرت فيه الآثار؛ قال عليه الصلاة والسلام: (المملوك الذي يؤدي حق ربه تعالى وحق سيده يؤتى أجره مرتين). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لولا الحج والجهاد وبر أمي لأحببت أن أكون مملوكا. يريد لما في ذلك من عظيم الثواب. فعلى المملوك حسن النصيحة لسيده، وكمال الأمانة فيما ائتمنه عليه من ماله، والقيام بما يستطيعه من خدمته من غير تكاسل ولا تقصير.
وعلى المالك أن يقوم له بنفقته وكسوته، وألا يكلفه من العمل ما لا يطيق، وأن لا يشتمه ولا يضربه إلا بحق.
(1/213)

ومتى احتاج إلى ضربه لأمر يترتب عليه صلاحه واستقامته في دينه أو فيما يتعلق بالخدمة اللازمة له فليكن ذلك على وجه لطيف، لا يعظم مشقته ولا يشتد تعبه على المملوك؛ فإنه إن تجاوز في ذلك القدر المأذون فيه يأثم ويحرج، ويقتص لمملوكه منه في الدار الآخرة كما ورد في الحديث، وإن عفا وصفح كان ذلك أفضل وأحسن؛ إلا أن تكون في الضرب والتأديب مصلحة بينة، وتكون في تركه مفسدة ظاهرة تعود على السيد أو على المملوك.
وقد سئل عليه الصلاة والسلام:كم يعفى عن المملوك في كل يوم؟ فقال: (سبعين مرة) .
وقال عليه الصلاة والسلام: (لخادم قصر في شيء: (لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك).
وقال عليه الصلاة والسلام: (للمملوك نفقته وكسوته، وألا يكلف ما يغلبه) يعني من الخدمة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (هم إخوانكم ملككم الله إياهم، ولو شاء لملكهم إياكم؛ فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم ولا تعذبوا خلق الله) الحديث.
وقد وردت بنحوه أحاديث وآثار كثيرة.
(1/214)

ومما يحرم على المملوك الإباق على سيده، وقد ورد فيه وعيد شديد، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) وفي رواية (فقد كفر حتى يرجع إليه) أي إلى سيده. وقال عليه الصلاة والسلام: ( أيما عبد مات في إباقة دخل النار وإن كان قتل في سبيل الله). وقال عليه الصلاة والسلام: (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم).
وذكر الشيخ العلامة أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله في كتابه (الزواجر عن اقتحام الكبائر) قال: قد روى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك. وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل فتنحَّى الرجل وجعل يهتف ويبكي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما تقرأ قول الله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } الآية إلى قوله تعالى: { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجدُ لي ولهم خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار.
* * *
(1/215)

واعلم أن من المتبوعين الذين يتأكد على الأتباع حقوقهم وكمال الأدب معهم - المعلمين للقرآن والعلم، والمشايخ والأساتذة الذين يربون السالكين، ويرشدون الطالبين؛ فيتعين ويتأكد على المتعلمين منهم، والسالكين المتربين بحسن نظرهم تعظيمهم وتوقيرهم، وإجلالهم واحترامهم، وحسن الأدب معهم، وكمال الإمتثال لما يشيرون به، ويرشدون إليه من العلم والأدب؛ وقد قال بعضهم: إن للمعلمين والمرشدين على المتعلمين والمسترشدين من الحق والطاعة والبر، مثل أو قريبا مما للوالدين على الأولاد، بل قال بعضهم: حق المعلم والمرشد آكد من حق الوالد؛ لأن الوالد يحفظ الولد من الآفات التي يخشى عليه منها في جسمه ودنياه، ويتسبب له في تحصيل ما يلتذ به، وتستريح إليه نفسه في أحوال معاشه. والمعلم والمرشد بتعليمه وإرشاده مما يضره في آخرته ومعاده، ويكون سببا له وسبيلا له في الوصول إلى دخول الجنة ونعيمها الدائم، والفوز بلقاء الله الذي هو غاية السعادات وأجلها.
وقد درج الأخيار من السلف والخلف على تعظيم المعلمين والأساتذة،
(1/216)

ومعرفة حقهم، وكمال الأدب معهم، حتى قال الربيع بن سليمان(1): ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة منه.
وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: من حقِّ العالم عليك أن تسلم على الناس عامة وتخصه دونهم بالتحية، وألا تجلس أمامه، ولا تشيرنَّ عنده بيدك، ولا تغمزنَّ بعينك، ولا تقولنَّ قال فلان خلافاً لقولك، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا تسارَّ جليسك في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه إذا قام ، و لا تلحَّ عليه إذا كسل ، و لا تعرض أي لا تشبع من طول صحبته.
وقد ذكر الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في كتاب (التبيان) نبذة صالحة من آداب المتعلم مع المعلم في آخر الباب الرابع.
وذكر الإمام الغزالي رحمه الله في كتاب (بداية الهداية) من ذلك طرفاً صالحاً.
* * *
__________
(1) - هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي، أبو محمد لمصري. صاحب الشافعي ورواية كتبه عنه: توفي سنة 270ه-.
(1/217)

... واعلم أن من أجل المتبوعين وأكرمهم وأعظمهم، وألزمهم حقاً على كافة المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه الإمام الأعظم على الإطلاق، والمتبوع الأكبر بالإجماع والإتفاق. فحقه أعظم الحقوق بعد حق الله، والأدب معه آكد الآداب، وطاعته ألزم الطاعات؛ فإن من أحبه وعظمه فقد أحب الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، قال الله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وقال تعالى: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ }، وقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }، وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } الآية، وقال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } والآية التي تليها.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه)،
(1/218)

وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلا اتباعي) الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله).
وقال عليه الصلاة والسلام: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى؛ فقالوا: ومن يأبى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من آذاني فقد آذى الله، , ومن آذى الله أدخله النار) الحديث.
... ومن تمام حبه وتعظيمه، وحسن الأدب معه عليه الصلاة والسلام - محبة أهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم، وتعظيمهم واحترامهم، قال الله تعالى: { قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }، وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } الآية، وقال عليه الصلاة والسلام: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)،
(1/219)

وقال عليه الصلاة والسلام للعباس رضي الله عنه: (لا يدخل قلب أحد الإيمان حتى يحبكم لله ولقرابتكم مني).
وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم: (أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم).
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: (وعترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي) الحديث. وقال أبو بكر رضي الله عنه: (أرقبوا محمداً في أهل بيته).
وقال عليه الصلاة والسلام: (احفظوني في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً(1)من بعدي، من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي، فوا الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه).
فليحذر المسلم المشفق على دينه من بغض أحد من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه،
__________
(1) - غَرَضاً: هَدَفاً .
(1/220)

فإن ذلك يضره في دينه وآخرته، ويعد به مسيئا إلى نبيه، ومؤذيا له صلى الله عليه وسلم، وليحبهم ويئن عليهم بالخير كما أثنى الله به ورسوله عليهم.
ومما ينبغي ويتأكد - كف اللسان عن كثرة الخوض فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ووقع بينهم من الحروب والفتن. ومن أهول ذلك وأعظمه إشكالا، مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم ما وقع بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم يوم الجمل(1).وبين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهم بصفين(2).
فليلتمس المؤمن الشفيق على دينه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمثال ذلك أحسن المخارج، ويحملهم فيه على أجمل المحامل اللائقة بفضلهم وجلالة أقدارهم؛ فإنهم رضي الله عنهم عدول أخيار أمناء.
___________
(1) كان في جماد الآخرة سنة 36ه-.
(2) صفين - بكسر الصاد وتشديد الفاء المكسورة-: موضع قرب الرقة بشاطئ الفرات، وكانت غرة صفر سنة 37ه-.
(1/221)

فليكن المؤمن المتبع لهم بإحسان على مثل ما وصف الله في قوله سبحانه: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام: (احفظوني في أصحابي وأصهاري، فمن حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة. ومن تخلى الله عنه أوشك أن يأخذه) وبالله الإعانة والتوفيق.

* * *
(1/222)

*********************
الصنف السابع
دعوة المشغولين بطاعة الله
ودعوة الملابسين لمعصية الله
*********************
(1/223)

(1/224)

الصنف السابع
وهم المشغولون بطاعة الله تعالى والملازمون لها من عامة المسلمين،
وكذلك الملابسون لمعاصي الله والواقعون فيها من العامة أيضاً
* * *
القول في تذكير المشغولين بطاعة الله من العامة
***
…اعلم أنه قد تقدم في ذكر الصنف الثاني الذين هم الخاصة من عباد الله نبذة من التعريفات والتنبيهات اللائقة بأحوال تلك الخاصة من أولياء الله والمنقطعين إليه، نفعنا الله بهم وبارك لنا ولكافة المسلمين فيهم، ولا حرمنا بركاتهم ومستجاب دعواتهم.
…فعلى العامي الملازم لطاعة الله تعالى والمداوم عليها، أن يتعلم ما لا بد منه من العلم الذي لا يصح ولا تتم طاعته إلا به من العلوم الظاهرة: مثل أحكام الطهارة والصلاة والصيام وما في معنى ذلك.
…وعليه أيضا أن يعرف من علوم الإيمان الإعتقادية ما يحصن به معتقده من العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله،
(1/225)

والعلم باليوم الآخر من البعث والحشر والميزان، والصراط، والجنة والنار، فيحصل من العلوم الإيمانية، والعلوم الإسلامية ما يصح به إيمانه وإسلامه، ويتمان ويكملان به، فذلك مقدم على اشتغاله بالعبادات ومواظبته عليها، فإن العلم كالأساس، والعبادة كالبنيان، وما لا أساس له لا ثبات له. وربما اشتغل المتعبد بطاعات وعبادات يستغرق بها أوقاته، ويتعب فيها نفسه وهو فيها غير محمود ولا مأجور. بل ربما كان ملوماً ومأزوراً إذا كان لم يعلم بما لا بد له من علمه في إقامة عباداته وصحتها، وكمالها من العلوم الإيمانية والإسلامية، فليكن المتعبد في نهاية الإعتناء بذلك، والإهتمام به، والتفرغ له. وقد قيل: من عبد الله بغير علم كان الضرر العائد عليه من عبادته أكثر من الإنتفاع بها. وذلك صحيح؛ فإن بعض المتعبدين الذين لا علم لهم قد يوقعون بعض العبادات على غير الوجه المشروع فيأثمون، ولو أنهم تركوا تلك العبادة لم يأثموا بتركها مهما كانت نافلة، فإن العلم هو المهم المقدم على الأخذ في العبادة والتفرغ لها.
…وعلى المتعبد أن يتحرى الحلال في مطعمه وملبسه، وسائر ما يحتاجه من أحوال معاشه؛ فإنَّ العبادة مع أكل الحرام ولبسه غير مقبولة،
(1/226)

لقوله تعالى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }. وقد قيل: العبادة مع أكل الحرام كالبناء على السرجين(1)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به). فليكن في غاية من التحري والإحتياط والإحتراز في مطعمه وملبسه، وسائر ما يحتاجه عن الحرام والشبهات، وإلا كانت عبادته مدخولة معلولة وغير مرضية ولا مقبولة.
…وعلى المتعبد أن يصلح نيته ويتفقدها من أول أمره ومبتدأ تعبده، فتكون نيته في ذلك مقصورة على إرادة وجه الله تعالى والدار الآخرة، وقصد التقرب إلى الله والخدمة له دون غرض آخر من الأغراض الدنيوية، والحظوظ النفسانية: من حصول جاه أو مال، أومحبة عند الناس، أو تعظيم أو ثناء منهم.
…وليحذر كل الحذر من مراءاة الناس بعلمه، والتصنع لهم بعبادته فيحبط بذلك عمله، ويخيب سعيه، ويبطل أجره وثوابه، وربما حصل له مع ذلك من الله العقاب وأليم العذاب؛ فإن الرياء من أعظم الجرائم الموبقات،
__________
(1) - السرجين - بكسر السين -: الزبل.
(1/227)

وقد سماه عليه الصلاة والسلام: (الشرك الخفي، والشرك الأصغر) وذكر أن القارئ لكتاب الله، والشهيد في سبيله، والمنفق لماله إذا أرادوا مع ذلك المحمدة من الناس، والذكر عندهم أنه سبحانه وتعالى يكذبهم ويسخط عليهم، ويأمر بهم فيسحبون إلى النار) الحديث.
…ولما حدث به بعض السلف رحمه الله تعالى بكى بكاء شديدا وقال: صدق الله تعالى حيث يقول: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ.أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ } الآية.
…وليس الرياء المحظور هو الخواطر التي تقع في قلب الإنسان من قبل الخلق، وهو غير مختار لها ولا مطمئن إليها؛ فإذا كانت هي الباعثة له على العبادة فقد أحبطت العبادة من أصلها، وإن كان له مع ذلك باعث ديني كان في ذلك تفصيل، وقد شرحه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة، والكل محظور منهي عنه، وفيه خطر وذم كثير، وردت به الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة؛ مثل قوله عليه الصلاة والسلام عن ربه تبارك وتعالى: (أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فنصيبي لشريكي وأنا منه بريء).
(1/228)

وورد: (أنه يقال للمرائين إذا التمسوا ثواب أعمالهم يوم القيامة: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم). وورد (أن أدنى الرياء شرك، وأن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا مرائي، يا غادر، يا خاسر، يا فاجر، اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا).
…فليحذر المسلم المتقي لربه، المشفق على دينه وآخرته كل الحذر من الرياء بجميع أنواعه وعلى جميع وجوهه، وليحترز من ذلك أتم الإحتراز، وإن وقع له شيء من خواطره وعوارضه فليجتهد في نفيها عن نفسه بإمكانه، وليكره ذلك، ثم يستغفر الله منها ويستعيذ بالله من شرها.
…وليحذر من التكبر على الناس بعبادته، واستعظام نفسه عليهم بطاعته؛ فإن ذلك مما يسخط الرب، ويحبط ثواب الأعمال الصالحة، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر). وقد قال صاحب الحكم رحمه الله: رب معصية أورثت صاحبها ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت صاحبها عزا واستكبارا فمن شأن المطيع المحسن أن يزداد بطاعته خشوعا لله، وخضوعا وتواضعا لعباده المؤمنين؛ وذلك من أفضل الطاعات.
(1/229)

…وكذلك فليحذر من العجب بنفسه وبطاعاته؛ فإن ذلك من المحبطات. وليعلم أن المنة لله عليه حيث استعمله بطاعته ورضيه لخدمته، مع أنه عبد حقير ذليل فقير، فقد شرفه سبحانه وأجله حيث جعله ممن يعبده ويطيعه، ويذكره ويشكره، فالفضل والمنة له تبارك وتعالى أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وعاجلا وآجلا.
…وليعلم أن حق الله على عباده ولزوم طاعته، ووجوب عبادتهم إياه، وخدمتهم له من الأمور التي لا يستطيع أحد من العباد أن يقوم بالبعض منها، ولو بلغ في الطاعة والعبادة ما عسى أن يبلغ، واجتهد وجد وشمر، حتى يستوفي إمكانه ويستفرغ استطاعته ووسعه، فليعترف العبد بتقصيره عما يجب عليه القيام به من عبادة ربه، وليعترف بمنة الله عليه فيما وفقه له من طاعته وخدمته، ولا يعجب بنفسه ولا بعمله فيهلك من حيث يرجو النجاة، ويخسر من حيث يأمل الربح؛ وقد قال عز من قائل عظيم: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
(1/230)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته هذا مع ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من نهاية الجد والتشمير، والإجتهاد في عبادة الله حتى قام من الليل إلى أن تورمت قدماه، مع ما له من المكانة والمنزلة عند الله التي لا يساويه فيها أحد من عباد الله المكرمين، وأصفيائه المقربين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وحديث الرجل العابد الذي عبد الله خمسمائة سنة في الجزيرة، وأنه يوقف بين يدي الله، فيقول له سبحانه وتعالى: (يا عبدي ادخل الجنة برحمتي، فيقول بل بعملي يا رب، فيأمر الله به، فيحاسب بنعمة البصر فتستغرق جميع عباداته خمسمائة عام وتبقى نعم الله عليه كثيرة، فيأمر الله به سبحانه إلى النار، فيقول: يا رب، أدخلني الجنة برحمتك فيأمر
الله به سبحانه إلى الجنة برحمته) وفي الحديث طول.
* * *
…فليعلم العبد المتعبد لله، أن الفضل لله عليه أولا وآخرا، وباطنا وظاهرا، وعلى كل حال وفي كل موطن، وكيفما تقلبت به الأحوال فليحمد الله ويشكره، وليعترف بالمنة له والنعمة،
(1/231)

وبالقصور والتقصير عما يجب له من الحق، ومن العبادة والخدمة، ولو بلغ من ذلك ما بلغ، وانتهى فيه إلى ما عسى أن ينتهي. وقد بلغنا: (أن لله ملائكة منذ خلقهم الله تعالى وهم في عبادته، منهم القائم لا يركع، والراكع لا يسجد، والساجد لا يرفع إلى يوم القيامة؛ فإذا كان ذلك اليوم رفعوا رؤوسهم إلى ربهم، وقالوا: سبحانك. ما عبدناك حق عبادتك) الأثر في ذلك بهذا المعنى أو قريب منه.
…وعلى المشغول بعبادة الله تعالى أن يكون في عبادته خاشعا لله وخاضعا، حاضر القلب لا يغفل عن الله، ولا يكون مشغول الظاهر بعبادته تعالى، ومشغول القلب بحديث النفس في أمور الدنيا وأحوال المعاش وذكر الناس؛ فيكون بذلك سيئ الأدب مع ربه حيث يعبده، ويعمل له بظاهره دون باطنه، وبجسمه دون قلبه، وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).
…وكذلك يحذر من العمل مع العجلة فيه، وقلة التأني حتى لا يتمكن مع ذلك من إعطاء العبادة حقها من واجب أو مسنون متأكد، مثل الذي لا يرتل في قراءته ولا يتدبر، ولا يطمئن في ركوعه واعتداله وسجوده وجلوسه؛ فلا يحصل بسبب ذلك من صلواته وقراءته على طائل ولا نافع،
(1/232)

وربما تبطل العبادة بسبب ذلك من أصلها إذا أخل منها بواجب؛ فيكون قد تلبس بعبادة غير صحيحة، فيخرج منها مأزورا غير محمود ولا مأجور.
…وعليه أيضا أن يتفقد في عبادته، ويقتصر منها على القدر الذي يقدر على المداومة عليه من غير ملالة ولا فتور. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (تكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا). وقال عليه الصلاة والسلام: (القصد القصد تبلغوا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). فعلم أن القليل من العمل يداوم عليه صاحبه خير من الكثير الذي لا يداوم عليه. ومن شأن الشيطان لعنه الله: أن يغري الإنسان في أول الأمر بالإستكثار من العبادة والإفراط فيها، لكي يرجع في آخر الأمر: إما إلى الترك والملالة، وإما إلى فعلها مع العجلة فيها، التي لا يتمكن معها من إقامتها على وجهها من الخشوع والخضوع مع الله فيها. فيصير حاله كحال من لم يعمل أو أدنى؛ فرب فعل لا يحسنه صاحبه يكون التارك له أحسن حالاً منه، كما هو معروف ومشاهد من حال من يعمل ولا يحسن، وقد قال الله تعالى: { إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }،
(1/233)

وقال تعالى: { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
…فانظر كيف يخص الإحسان ويشترطه في الأعمال، تعلم به أن الإحسان في العمل أهم من العمل نفسه، وفي الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) فإذا عملت طاعة فتأن فيها وتثبت وأحسن، وأعط كل جزء منها ما يكمل به ويتم: من الخشوع والحضور مع الله فيه تكن من المحسنين، ويكون الله سبحانه وتعالى معك إذ يقول تعالى: { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }.
…وعليك ألا يمر بك وقت ولا ساعة ولا نفس غلا ويكون لك وظيفة من الخير تستغرقها به من صلاة أو تلاوة قرآن أو ذكر الله، أو مطالعة علم نافع، أو تفكر في أمر ديني أخروي، أو شغل بمعاش لا تستغني عنه في الإستعانة على معادك وآخرتك؛ من غير ترخص ولا تأويل ولا تعلل. بل يكون وجه الإستعانة به بينا ظاهرا، والله يتولى هداك وإعانتك، ويأخذ بناصيتك إلى ما يحبه ويرضاه، ويقرِّب إليه ويزْلِفُ لديه فإنه الولي المعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
* * *
(1/234)

القولُ في تذكير الملابسين للمعاصي من عامة المسلمين
وتخويفهم وتحذيرهم
***
…اعلم أن المعاصي أقذار وأرجاس، وأوساخ وأدناس؛ قد عصم الله منها رسله وأنبياءه، وحفظ منها أولياءه وأصفياءه وابتلى بها الأعداء والأشقياء، والمطرودين والبعداء من الذين حقَّت عليهم الكلمة، وتخلّفَت عنهم العناية.
…ثم إن من أولئك الطوائف من تداركته الرحمة، ووفق للتوبة فلحق بأهل الطاعات، و ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) و ( من تاب تاب الله عليه ). و (إن الله يقبل العبد ما لم يُغرغِر ) أي تبلغ روحه الحلقوم من الموت.
…منهم من أصرَّ على المخالفة، وتمادى على المعصية، حتى خرج من الدنيا وصار إلى الدار الآخرة، فلقي ربه دِنساً ملطَّخاً بقاذورات المخالفات، فكان أمره على نهاية من الخطر، وغاية من الإشكال والضرر، وخصوصاً إن كان الذي مات وهو مصّر عليه من الكبائر الموبقات؛
(1/235)

مثل ترك الصلاة المكتوبة، ومنع الزكاة المفروضة، ومثل الزنا وشرب الخمر، وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، ومثل عقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، وأشباه ذلك من المعاصي الموبقات، والذنوب المهلكات.
…وعلى الجملة فالشرور كلها والبليات بجملتها المستَجْلِبة للعقوبات والمهلكات العاجلة والآجلة، الدنيوية والأخروية، الظاهرة والباطنة، إنما سببها الوقوع في الذنوب والمخالفات، خلاف أمره وركوب نهيه. قال الله تعالى: { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت: 29/40]، وقال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [ الشورى: 42/30] وقال تعالى: { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [النحل:16/45] إلى قوله تعالى: { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 16/47].
…فعلى المؤمن الخائف من ربه، المشفق على نفسه المصدِّق بالرجوع إلى
(1/236)

الله، وأنه ملاقيه أن يجتنب الذنوب والمعاصي كل الاجتناب، ويحترز منها غاية الاحتراز ويبتعد عنها غاية البعد، ويُنَزِّلها في الاجتناب لها بمنزلة السموم القاتلة، والمياه المغرقة، والنيران المحرقة، فإن الملابسة لها والوقوع فيها أشد من ذلك كله من وجوه كثيرة، كما يعرف ذلك من له بصيرة في الدين، وعلم بسِيَر عباد الله المؤمنين المتقين، { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء: 21/49] { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة: 2/46].
…وليحذر كل الحذر مهما وقع في شيء منها من الاحتجاج بسبق القضاء والقدر عليه من الله بالوقوع فيها، وأن ذلك مكتوب عليه، وليس له محيص عنه؛ فإن ذلك من الحجج الداحضة التي لا تغني عن صاحبها شيئاً ولا تنفعه، بل تضره وتزيده من الله بُعداً، وتعرّضه للمقت والسخط من الله.
وعلى الجملة، فالإيمان بالقدر خيرِه وشرِّه واجب في أصل عَقْد الإيمان، والاحتجاج به على الله غير جائز، بل ذلك من الأمور المخطرة الشنيعة، وما دام الإنسان واختياره معه فليس له رخصة ولا سَعة في أن يترك أوامر الله ويرتكب نواهِيَه،
(1/237)

وليس ينفعه قوله: هذا مقضِيٌّ وقد كتب عليَّ. ومن أين له علم ذلك ؟. ومسألة القدر هذه مسألة مشكلة، وفيها أغوار بعيدة يتعسّر العلم بها على الخاصة فضلاً عن العامة.
... وكذلك مِن أضرّ الأشياء على الواقعين في معاصي الله تعالى وترك أوامره أماني المغفرة، وقوله: ( إن الله كريم رحيم، يغفر الذنوب للعصاة ولا يبالي ) وذلك صحيح وحق لِلَّهِ ولكن لا بد للعبد من امتثاله لأمر سيده الكريم الرحيم، واجتنابه لما نهاه عنه، وعليه أن يبذل جهده واستطاعته في ذلك، ويستفرغ فيه طاقته وإمكانه، ثم يرجو بعد ذلك غفران ربه ورحمته، ولا يتمنى ولا يغتر من غير جِدّ ولا سعي؛ فيكون بذلك ممن قال فيهم تبارك وتعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } [ الأعراف: 7/169] الآية، وقال تعالى { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً } [ مريم: 19/59].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الكيِّس مَن دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) ومعنى دان نفسه: حاسبها.
وقال عمر - رضي الله عنه -: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل توزَنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله تعالى.
(1/238)

وقال أبو عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله عنه-: ألا رُبَّ مبيِّض لثيابه مدنِّسٌ لدينه، ألا رُبَّ مُكْرِم لنفسه وهو لها مهين. بادروا السيئات القديمات بالحسنات الجديدات؛ فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء، وعلم حسنة لَعلَت فوق سيئاته حتى تقهرها.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: إن أماني المغفرة قد لعبت بأقوام حتى خرجوا من الدنيا مفاليس ( يقول: من الأعمال الصالحة ). وقال أيضاً: وإياكم وهذه الأماني فإنها أودية النَّوكى أي ( الحمقى ).
واعلم أن الله تعالى لم يذكر الرحمة والمغفرة في وصفه لنفسه بذلك، إلاّ وقيّد ذلك بقيود وشرطه بشرائط. مثل قوله تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [ طه: 82]، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة: 218] ونحو ذلك من الآيات، وما وجد منها مطلقاً فيحمل على المقيد منها، وقد قال عزَّ من قائل كريم: { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الجاثية:21] الآية،
(1/239)

وقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص: 28]، فقد عُلِمَ وتَبيَّن أن الرجاء بلا عمل ولا سعي غرور وأماني. ومع ذلك العمل والسعي رجاء وحسن ظن.
ثم إنا وقد بسطنا الكلام في بيان هاتين المسألتين: الاحتجاج بالقدر عند الإضاعة لأمر الله، وأماني المغفرة مع ركوب المخالفة وتسويف التوبة في الكتاب المسمى ب- ( النصائح الدينية ) فينظره من أراد المزيد على ما هنا، والكل شاف كاف بعون الله وبركات رسوله لمن اتّبع الهدى واجتنب الردى، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وكذلك ينبغي للإنسان ألاّ يحدث نفسه بالتوبة من الذنب قبل الوقوع فيه؛ فإن ذلك يسهِّل عليه الوقوعَ فهي ن ويهوِّن على قلبه الارتكابَ له؛ فيكون مثاله مثال الذي يتناول الطعام المسموم اعتماداً على أنه يتناول الدواء الشافي منه، فيكون ذلك سبب هلاكه أو مرضه؛ لأن الدواء ربما يتناوله من غير استجماع لشرائط التناول له، وربما تعرض عوارض أُخر تمنعه من تناول الدواء من تسويف وتأخير، وقصد معاودة وغير ذلك.
(1/240)

واعلم أن الاجتناب للذنب والتباعد عن المعاصي أسهل وأيسر من التوبة منها بعد الوقوع فيها من وجوه كثيرة. وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتوبة من الذنوب إذا وقعوا فيها، ورغبهم في ذلك ووعدهم بقبولها فضلاً منه، ووصف نفسه بذلك في كتابه العزيز، فقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [ الشورى: 42/25] وقال تعالى: { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } [ غافر: 40/3] الآية.
…ثم إن للتوبة شرائط لا تتم إلاّ بها، ولا تصير أهلاً لأن تُقبَل إلاّ باجتماعها، والإتيان بها على وجهها.
فأوَّل ذلك وأولاه الندم الصادق على ما سلف منه من الذنوب، قال عليه الصلاة والسلام: ( الندم توبة ) المعنى: أنه إذا صح الندم وكان صادقاً كاد أن يتضمن ويجمع شرائط التوبة كلها.
…ومن شرائطها: أن يعزم على أن لا يعود إلى الذنب الذي تاب منه ما عاش، وأن لا يكون في حال توبته ملابساً ولا مصراً على شيء من الذنوب التي تاب عنها.
(1/241)

...وعلى التائب أيضاً: أن يخرج من مظالم العباد التي كان ظلمهم بها في نفس أو عِرض أو مال، وأن يبالغ في ذلك نهاية إمكانه واستطاعته، وأن يقضي ما فاته من فرائض الله المكتوبة عليه من الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك، فإنها لا تتمّ توبته ولاتصير أهلاً للقبول من الله حتى يأتي بجميع ذلك وما ضاق عنه الوقت الحاضر أخذ فيه وعزم على التدارك حسَب الإمكان والاستطاعة، من غير تسويف ولا تكاسل.
ثم إنه لا يزال بين الخوف والرجاء: يخاف أن لا تقبل منه التوبة لتقصيره عن القيام بشرائطها وما يلزمه فيها، ويرجو من فضل ربه قبول توبته وغفران حَوْبته(1)، والعفو عن ذنبه بمحض جوده وكرمه، فإنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
ومن علامات التائب الصادق في توبته: ملازمة الحزن والانكسار، وكثرة البكاء والتضرُّع والاستغفار، وهجران المواطن التي عصا الله فيها، ومفارقة قرناء السوء وخلطاء الفساد من الفجار.
...ثم إن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر، ولا بدَّ في جميعها من التوبة، __________
(1) الحوبة - بفتح الحاء. والحُوْب - بضمها -: الإثم.
(1/242)

غير أنها من الكبائر أوجب وآكد، وقد تُكَفَّر الصغائر بالصلوات والجماعات والحسنات، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( الصلاة إلى الصلاة كفَّارة لما بينها إذا اجتنبت الكبائر، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينها إذا اجتنبت الكبائر، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحُهَا ).
وقال مولانا جلّت قدرته: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [ هود: 11/114].
وقد اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في تعريف الكبائر وعدِّها حتى قال بعضهم: إنهما مبهمة في الذنوب؛ ليكون الإنسان على نهاية التحفظ والاحتراز من المعاصي كلها، و ذلك على نحو ما قالوه في اسم الله الأعظم في أسمائه تعالى، وفي ساعة الجمعة في ساعات يومها، وليلة القدر في ليالي شهر رمضان، وذلك له وجه، ولكن ما صحّت به الأحاديث في تعريف أمثال ذلك هو المعتمد والمأخوذ به، وبالله التوفيق.
(1/243)

وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور وشهادة الزور ) الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام: ( اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات ) والأحاديث بنحو ذلك كثيرة.
…وقد ألف الشيخ الإمام أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي - رحمه الله تعالى - كتاباً حافلاً سمّاه ( الزواجر عن اقتحام الكبائر ) فعَدَّ فيه منها ما يزيد على الأربعمائة ولكنه قد يقيّد في أول تراجمها بقيود وينبّه في آخرها بتنبيهات يكاد يسلم بذلك من الاعتراض عليه في عدِّ ذلك من الكبائر.
…وقد ذكر الشيخ أبو طالب المكي - ر حمه الله تعالى - في كتاب ( قوت القلوب) أن الكبائر سبع عشرة، ثم عدَّها فقال: الكبائر سبعُ عشرة، أربع في القلب: الشرك بالله، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. وأربع في اللسان: القذف، وشهادة الزور، والسحر - وهو كل كلام يغيِّر الإنسانَ أو شيئاً من أعضائه -
(1/244)

واليمين الغموس وهي التي يُبطِل بها حقًّا أو يثبِت بها باطلاً. وثلاث في البطن: أكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا، وشرب كل مسكر. واثنتان في الفرج: الزنى، واللواط. واثنتان في اليد: القتل، والسرقة. وواحدة في الرِّجْلِ: الفرار من الزحف. وواحدة في جميع البدن: عقوق الوالدين. انتهى، وهو كلام حسن جامع لا يكاد يصادَف مثلُه في بابه.
…فعليك - رحمك الله - بالاحتراز من جميع الذنوب من صغائرها وكبائرها؛ فربَّ صغيرة قد تكون على صاحبها أضرّ من كبيرة. والذنوب كالنار قد تحرق الشرارة منها القرية الواسعة.
…وعن زين العابدين علي بن الحسين - رضي الله عنهما - أنه قال: إن الله سبحانه خبَّأ ثلاثاً في ثلاث: خبّأ رضاه في طاعته، فلا تحتقروا من الطاعة شيئاً فلعلّ رضاه سبحانه يكون فيه. وخبّأ سخطه في معصيته، فلا تستحقروا شيئاً من المعاصي، فلعلّ سخطه سبحانه يكون فيه. وخبّأ ولايته في خلقه، فلا تستحقروا منهم أحداً فلعلّه أن يكون وليًّا لله تعالى. انتهى.
وقد ورد: ( لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار ).
(1/245)

وقال بعض السلف: المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه. وقال غيره: الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذّابين. وقال آخر: إن كنت تعصي الله وأنت ترى أنه يراك فأنت مستهزئ بنظر الله. وإن كنت تعصيه وأنت ترى أنه لا يراك فأنت كافر. وقال آخر: من عصى الله فهو وهو يضحك دخل النار وهو يبكي. وقال آخر: المؤمن يرى ذنبه كالذي ينحت في أصل جبل وهو تحتَه، كلُّ ساعة يخاف أن يقع عليه. والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه، فقال بيده هكذا فأطاره. نسأل الله أن يجمِّلنا بسَتره، ويسترنا بعافيته، ويعافيَنا من مخالفته وعصيانه وإضاعة أمره، فإنه نعم المستعان وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

* * *
(1/246)

***********************
الصنف الثامن
دعوة المُشركين وأهل الكفر
***********************
(1/247)

(1/248)

الصّنفُ الثامِنُ
وهم المشركون الّذين يدعون مع الله إلهاً آخرَ، تعالى عما يقولون وعمّا يدّعون علوّاً كبيراً، وهم أصناف: منهم المشركون، ومنهم المعطّلون والجاحدون، إلى غير ذلك.
وكلهم في ضلالة وظلمات بعضها فوق بعض، غير أن البعض منهم أشد ضلالة وكفرا، وأكثر بهتاناً وافتراءً وليس لأحدٍ منهم حجّة ولا برهان بوجه من الوجوه. القول في دعوتهم إلى الله وإلى توحيده، والإقرار له سبحانه بالألوهيّة والربوبية من غير شريك له في ذلك ولا منازع.
* * *
…قال الله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [ محمد:19]، وقال تعالى: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً }[ طه: 98]، وقال تعالى: { إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ }[النساء:71]
(1/249)

وقال تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 63]، وقال تعالى: { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران: 18]، وقال تعالى: { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون:117]، وقال تعالى: { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص: 88] وقال تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } [ النساء: 48]، وقال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] وقال تعالى: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [المائدة: 72].
... وإذا كان هذا التشديد العظيم الهائل، والوعيد الفظيع الشنيع، في حق من يدعو مع الله إلهاً آخر، ويشرك به سواه في الألوهية، مع أنه يُقِرُّ ويعترف لله بالألوهية والربوبية؛ فيكف يكون الحال، وعظيم الوبال والنكال في حق من ينكر أنه ليس للعالم إله من المعطلِّة، أو يقول: إن له إلهاً غير الله تعالى وتقدس عن قوله وافترائه { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
(1/250)

أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف:179]. والأنعام والبهائم، بل والنباتات والجمادات مقرَّة ومعترفة وشاهدة لخالقها وموجدها بالألوهية والوحدانية والربوبية، ولو كانت تنطق لأعربت عن ذلك وأفصحت به، قال الله تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء: 44] الآية، وقال تعالى: { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [النحل: 48] إلى قوله تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50].
…ولما كانت العرب قد أعطيت من التمييز، وأُيُّدت من المعقول بما لم يؤيَّد به غيرُها من الأمم لم يصدر عنها الإنكار لوجود الحق سبحانه وتعالى؛ بل أقرت بوجوده، وبكون الخالق لكل شيء والرازق له، كما حكى الله ذلك عنها في غير ما آية من كتابه، مثل قوله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزخرف:87]، وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ العنكبوت:61]، وقوله تعالى: { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ المؤمنون:84 - 85 ] إلى غير ذلك من الآيات المصرِّحات بما ذكرناه عن مشركي العرب.
(1/251)

ويبين ذلك ما حكى الله عنهم في قوله تعالى أنهم قالوا فيما أشركوا به من دون الله { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر:3] أي أنهم جعلوها وسائل ووسائط، يقصدون بعبادتهم التقرّب إلى الله فأخطأوا في ذلك، ولكنهم أقرُّوا بوجود الحق وبكون الخالق لهم ولكل شيء، وأنهم إنما عبدوا ما عبدوه من الأصنام لتكون وسائل لهم عنده، ومقرِّبات لهم إليه؛ وكانوا - أعني مشركي العرب - يرجعون إلى الله في الشدائد، وكشف المهمات والمصائب، ولا يطلبون ذلك ولا يسألونه إلاّ منه، كما أخبر الله بذلك في كتابه عنهم في مثل قوله تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء: 67] وقوله تعالى: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل: 53] أي تتضرعونَ وَتستغيثون.
ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبعضهم: ( كم لكم من إلهٍ ؟ قال: عشرة. فقال عليه الصلاة والسلام: إلى أيِّهم ترجع عند الشدائد ؟ فقال إلى الله، فقال: (أسلم يا فلان فإنه ليس لك من إله غير الله) الحديث،
(1/252)

وقال عليه الصلاة والسلام لآخر وهو يدُّله على الله: ( هو الذي إذا ضلّت راحلتك وأنت بأرض فلاة فدَعَوْتَهُ ردَّها عليك. وإذا أصابك عامُ سَنة فدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لك ).
…وما أحسب أن أحداً يعقل إلاّ وهو متألِّه إلى إله، تقضي عليه بذلك فطرته التي فطره عليها، وتشهد له بربوبيته خِلْقَتُهُ التي خلق عليها، أصاب في ذلك من أصاب، وأخطأ من أخطأ وما من إله الله العزيز الحكيم.
…فمصنوعاته سبحانه، ومخلوقاته ومبتدعاته التي ملأ بها أرضَه وسمواتِه، شاهدة له بالألوهية، وناطقة له بالوحدانية، وقد أجاد وأحسن القائل الذي يقول:
أيا عجباً كيف يَعصي الإلهَ ... أم كيف يجحدهُ الجاحدُ
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أثرٌ شاهدُ
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحدُ
ولما دُعِي أصحاب الكهف إلى عبادة غيره سبحانه وتعالى، وأن يعترفوا بالربوبية للعبد المربوب، الذي ليس بأهل لذلك أنكروا ولم يُقِرُّوا، ولم يعترفوا، لِمَا قذف الله في قلوبهم من النور، وألقى فيها من التصديق و الإيمان به تعالى:{فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً
(1/253)

لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } [ الكهف:18/14]. إلى قوله تعالى: { يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً } [ الكهف: 18/16].
…وكذلك شأن السحرة الذين جاء بهم فرعون اللعين، ليدفع بسحرهم وكيدهم - بزعمه - الحقَّ والبرهان الذي بُعث به موسى وهارون عليهما السلام، فعندما عرفوا وتحققوا أن الأمر الذي بُعِث به موسى وهارون عليهما السلام، أمر سماوي إلهي لا يطاق له دفاع، ولا يستطيع أحد أن يرده ولا يغالبه، أقروا بالحق واستسلموا، وأسلموا وآمنوا بالله وحده فقالوا: { قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ الأعراف:121 - 122] ولم يردَّهم عن ذلك، ولم يصرفهم عنه ما توعدهم به فرعون لعنه الله، من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وصَلبِهم على جذوع النخل؛ بل قالوا في الرد عليه والاستهانة بما توعَّدهم به: { لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ } [ طه:72 ] إلى قوله تعالى: { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ طه:73 ].
…ثم إنه لعنه الله لم يَسَعْه ولم يُمْكِنْه أن يردَّ عليهم، ولا أن يدفعهم عن الإيمان بالله؛ لأنه عرف وتبيّن له بأن لا حجة له بذلك، ولا قوة له على الدفع؛
(1/254)

فعدل إلى قول لهم: { آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } [ الأعراف: 7/123 ] تكبراً منه، ومدافعة بما لا ينفعه ولا يقوم له به حجة؛ لأن الإيمان بالله، والتوحيدِ له هيبة لا يمكن لأحد يعقل أن يدفع أحداً عنه، ولا يجادله فيه؛ لأنه الأمر الواضح البيِّن، الذي قامت به الحجج، واتفقت عليه الأدلة القاطعة من السمعيات والعقليات.
…فاعلم ذلك وتأمله حق تأمّله؛ فإنه أمر مهم ويكاد يشار إليه بما ذكره الله تعالى في آيات عديدة مثل قوله تعالى: { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [المؤمنون: 23/117]، وقوله تعالى: { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ يوسف: 12/40] الآية، وقوله تعالى إخباراً عن أصحاب الكهف: { هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } [ الكهف: 18/15 ].
فالمدَّعي مع الله إلهاً آخر لا تقوم له بما ادّعاه حجة البتة؛ بل حجّته بذلك بينة البطلان والاستحالة، فلذلك يعدِل المدعي لها إلى غير ذلك، كما عدل إليه فرعون لعنه الله.
(1/255)

وكذلك نمرود فيما حكى الله عنه من محاجَّته إبراهيم الخليل عليه
الصلاة والسلام في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ } [البقرة:258] إلى قوله تعالى: { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [البقرة:258].
…ثم اعلم أن التوحيد أعظم النعم وأكبرها، وأنفعها لأهله في الدنيا والآخرة فعلى من أنعم الله به عليه وأكرمه به أن يعرف قَدْرَ نعمةِ الله بذلك، وأن يسعى في حفظها ودوام الشكر والاغتباط بها، وأن يجتهد في تقوية توحيده، وثباته وتأكيده بملازمة الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة، والطاعات الخالصة التي هي من فروع التوحيد وثمرات الإيمان مع الاحتراز والاجتناب لأضداد ذلك من الأخلاق السيئة والأعمال المنكرة التي هي من مُضْعِفات الإيمان، وموجِبات تزلزله واضطرابه حالاً ومآلاً سيَّما عند الموت؛ قال الله تعالى: { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون } [ الروم:10].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ).
(1/256)

وكان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يقولون: المعاصي بريد الكفر؛ فلْيبذُل المؤمن نهاية جهده وإمكانه في حفظ إيمانه وتقويته، وتأكيده وتثبيت أركانه، وليستعن بالله وليصبر على ذلك، ويداوم عليه حتى يأتيه اليقين.
... ثم اعلم أن الإيمان هو أصل الأصول، وأنفس النفائس، وأعز الأشياء. وهو مع ذلك أشدها خطراً، وأشقها حفظاً، وأحوجها إلى حسن التعهُّد والتفقد، وحسن النظر والاحتياط، وكل عزيز ونفيس فعلى مثل ذلك يكون ويوجد. ولا يزال المؤمن الشفيق على دينه، المحتاط لإيمانه ويقينه سائلاً من الله ومتضرعاً غليه: في أن يُثَبِّتْه على دينه وإيمانه، وأن لا يُزيغ قلبه بعد إذ هداه إلى توحيده ومعرفته، وأن يكون خائفاً من سلب ذلك وتزلزله.
وقد كان بعض السلف يحلف بالله إنه ما أَمِنَ أحد على إيمانه أن يُسلَبَهُ إلاّ سُلِبَه، وذُكِر عن إبليس -لعنه الله- أنه قال: قصم ظهري الذي يسأل الله حسن الخاتمة؟ أقول متى يُعجَب هذا بعمله؛ أخشى أنه قد فطن.
فالأمر الذي عليه المدار والتعويل والذي لا ينبغي لعاقل من أهل الإيمان أن يكون أعظم اهتماماً به وأشدَّ حرصاً عليه وسعياً له من سلامة التوحيد وحفظ الإيمان حتى يموت ويخرج من الدنيا على ذلك بفضل الله وحسن تأييده وتثبيته؛
(1/257)

فإنه إن خرج من الدنيا على ذلك سلم من الشرِّ كله وفاز بالخير كله دائماً أبداً. وإن خرج من الدنيا على خلاف ذلك خسر خسراناً مبيناً، وهلك هلاكاً مؤبداً والعياذ بالله لِلَّهِ.
فَفَقْدُ التوحيد والإيمان هو الذي لا ينفع مع فقده شيء بحال كائناً ذلك الشيء ما كان، ولو كان عمل الأولين والآخرين، وحيث بقي مع العبد توحيدُه وإيمانه وسلِما له، فليس يضّره شيء ولو كان عاصياً مذنباً، فإما أن يغفر الله له أو يعفو عنه، وإن عاقبه على ذنبه كانت عقوبة منقضية غير مُخلَّدة ولا مؤبدة؛ فإنه لا يُخلَّد في النار مؤمن، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان.
وقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يموتوا على الإيمان والإسلام، ووصف أنبياءه ورسله والصالحين من عباده: بأنهم يسألونه ذلك، ويدعونه به، ويتواصَون به حرصاً عليه وإعظاماً له واغتباطاً به؛ فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران: 102]، وقال تعالى: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [البقرة:132] وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام: { أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف:101]،
(1/258)

وقال تعالى إخباراً عن المؤمنين من السحرة حين توعدهم فرعون لعنه الله: { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الأعراف: 7/126].
…وقد وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأحاديث الكثيرة الشهيرة في بشارة أهل التوحيد والإيمان، ومن مات وهو لا يشرك بالله شيئاً بالنجاة من النار والفوز بالجنة وغير ذلك من الخيرات والدرجات. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته، ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنّة حق والنارَ حقٌّ أدخله الله الجنّة على ما كان من العمل ). وفي رواية لمسلم: (من شهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله حرَّم الله عليه النار ).
وجاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان ؟ قال: ( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار ).
وقال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: ( يا معاذ، ما من عبد يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، صادقاً من قلبه إلاّ حرَّمه الله تعالى على النار )
(1/259)

قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا ؟ قال: ( إذا يتَّكلوا ) فأخبر بها معاذ عند موته تأتُّما ) أي مخافة من الإثم في كتمان هذا العلم.
…وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى )، وقال عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة رضي الله عنه: ( اذهب فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبُه فبِشّره بالجنَّة ).
…وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: ( يا معاذ، هل تدري ما حقّ الله على العباد، وما حقّ العباد على الله ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال ( فإنَّ حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. وحق العباد على الله أن لا يعذّب من لا يشرك به شيئاً لِلَّهِ فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس ؟ قال: ( لا تبشِّرهم فيتَّكِلوا ).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ( المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [ إبراهيم:27]،
(1/260)

وقال عليه الصلاة والسلام: ( أتاني جبريل، فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله دخل الجنة، قلت يا جبريل، وإن سرق وإن زنى لِلَّهِ ؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى ؟ لِلَّهِ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى لِلَّهِ ؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى ؟!: قال نعم وإن شرب الخمر ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( أتاني آت من عند ربِّي فخيَّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( قال الله تعالى: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتَني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم لو أتيتني بِقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ).
وحديث الرجل من هذه الأمة الذي يصاح به فتنشر له تسعة وتسعون سجِّلاً من الخطايا كل سجل مدُّ البصر؛ فتطرح في كفِّه الميزان فيقول الله تعالى: ( إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ) فتخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله فيقول الرجل: ما هذه البطاقة في جنب هذه السجلات فيقول الله تبارك وتعالى: ( إنك لا تُظلم ).
(1/261)

فتطرح البطاقة الكِفّة فيرجح بها الميزان وتطيش تلك السجلات . قال عليه الصلاة والسلام: ( ولا يثقل مع اسم الله شيء ) - حديث مشهور.
وبلغنا أن رجلاً كان بعرفات وقت الحج، أنه أخذ سبع حصيات فأشهدها أنه يشهد أن لا إله إلاّ الله، فرأى بعد ذلك في النوم أنه وقف بين يدي الله للحساب وأنه حوسب وأمر به إلى النار، فما جيء به إلى باب من أبوابها إلاّ وجاء حجر فسد ذلك الباب، وقيل له: إن هذه هي الأحجار التي أشهدتها بأنك تشهد أن لا إله إلا الله، ثم أمر به إلى الجنة، فجاءت لا إله إلا الله ففتحت له أبواب الجنة بفضل الله ورحمته).
والحمد لله رب العالمين.

* * *
(1/262)

****************
الخاتمة
مواعظ ومذكرات
****************
(1/263)

(1/264)

الخاتمة
في مَوَاعظَ وَمُذكّراتٍ يَسْتَيْقظُ بهَا المُعرضُ الغَافِلُ وَيتَذكْرُ بِهَا اللبيبُ العَاقِل إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى تَشتَمِل على آياتٍ من كِتَابِ الله وأحاديث من حَديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آثار تؤثر منَ الصّحَابَ وَالتّابعينَ. وَعَن العُلمَاء العَامِلينَ، وَعَبَاد الله الصَّالحين.
* * *
…قال تبارك وتعالى لرسوله الأمين: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل:125] وقال تعالى: { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة:275]، وقال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ النساء:63] وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً - وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً - وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [النساء:66 - 68 ].
(1/265)

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( تركت فيكم واعظين ناطقٌ وصامتٌ؛ فأما الناطق فكتاب الله، وأما الصامت فالموت ).
وقال العِرْبَاضُ بن سارية - رضي الله عنه -: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وَجِلَتْ منها القلوب، وذَرَفت منها العيون؛ فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع فأوصِنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهتدين عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة )
وقال عليه الصلاة والسلام: ( كأنَّ الموت فيها على غيرنا كُتب، وكأنَّ الحق فيها على غيرنا وجَب، وكأنَّ الذي نشيِّع من الأموات سَفر (1) عما قليل راجعون، نبوِّئُهم أجداثَهم، ونأكل تُراثهم (2)؛ كأنَّا مُخلّدون من بعدهم، قد نسينا كل موعظة، وأمِنّا كل جائحة ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سِلْعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ).
__________
(1) السَّفْر - بفتح فسكون -: المسافر. يقال: رجل سفر وقوم سفر.
(2) الأجداث: القبور والتراث ما يخلفه الميت.
(1/266)

وقال عليه الصلاة والسلام: ( يا أيها الناس، توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغلوا، وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن روح القدس نفيث في رُوعي: عش ما عشت فإنك ميت، وأحبِب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدّ نفسَك من أهل القبور ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سقمك وغناك بل فقرك، وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( بادروا بالأعمال فِتَنًا كقطَع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعَرَض يسير من الدنيا ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( كفى بالموت واعظاً، كفى باليقين غِنًى، وكفى بالعبادة شغلاً ) .
وقال عليه الصلاة والسلام: ( لو تعلمون ما أعلم لَضحكتم قليلاً ولَبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصُّعُدَات تجأرون إلى الله ). والصعدات: هي الطرق. وتجأرون: أي تتضرعون.
(1/267)

وقال عليه الصلاة والسلام: ( ما من صباح يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم اعطِ منفِقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللَّهمَّ أعطِ ممسكاً تلفاً ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( استحيوا من الله حق الحياء، فقالوا: إنا نستحي والحمد لله، فقال عليه الصلاة والسلام: ( من استحيى من الله حق الحياء حَفِظَ الرأسَ وما وعَى، وحفظ البطن وما حوى، وذكر الموت والبِلَى. ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( ما منكم من أحد إلاّ سيكلِّمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيْمَنَ منه فلا يرى إلاّ ما قدّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلاّ ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلاّ النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشِق تمرة ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلاّ فقراً مُنْسيًا، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مُفنداً، أو موتاً مُجهِزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر )،
(1/268)

وقال عليه الصلاة والسلام: ( أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد ).
وقال عليه الصلاة والسلام لعقبة بن عامر رضي الله عنه: ( أمسك عليك لسانك، ولْيسعك بيتُك، وابْكِ على خطيئتك ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافاً وقنَّعه بما آتاه ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( يتبع الميتَ ثلاث: أهله، وماله، وعمله. فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( يقول العبد مالي مالي ؟ وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأبقى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتارك للناس ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( الدنيا دارُ من لا دار له، ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن عمله ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه ).
وقال عليه الصلاة والسلام: (حُفّت الجنة بالمكاره وحُفت النار بالشهوات)
(1/269)

وقال عليه الصلاة والسلام: ( كل آتٍ قريب، والبعيد ما ليس بآت ). وقال عليه الصلاة والسلام: ( ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلاّ الجنة أو النار ).
وقال أبوبكر الصِّديق - رضي الله عنه - لما استُخلِف: إني قد وليت أمركم ولست بأخيركم، وإن أقواكم عندي الضعيفُ حتى آخذ له الحق، وأضعفَكم عندي القويُّ حتى آخذ الحق منه: فإذا أحسنت - أو قال استقمت - فأعينوني، وإذا رأيتموني زغت فقوّموني.
وقال - رضي الله عنه -: من مَقَتَ نفسه في ذات الله عزَّ وجلَّ أمَّنه الله من مقته.
وعن أم المؤمنين حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - أنها قالت لأبيها: يا أمير المؤمنين، ما عليك لو لبست ثوباً ألين من ثوبك هذا ؟ أو أكلت طعاماً غير هذا وقد فتح الله عليك الأرض، وأوسع لك الرزق ؟ فقال: إني سأخاصمك إلى نفسك أما تعلمين ما كان يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدة العيش ؟ فما زال يُذكِّرها حتى أبكاها ثم قال: قلت لكِ إنه كان لي صاحبان سلكا طريقاً، وإني إن سلكت غير طريقهما سُلِك بي غير طريقهما،
(1/270)

وإني والله لأشركنّهما في مثل عيشهما الشديد لَعلِّي أدرك عيشهما الرخِيّ، يعني بصاحبيه: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر - رضي الله عنه -.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: لما قَتل البغاة المعتدون عثمان بن عفان - رضي الله عنه - دخلوا خزائنه، فوجدوا فيها صندوقاً، فقالوا: هذا ما اختاره من فَيءْ المسلمين، فكسروه فوجدوا فيه حُقّةً فقالوا: فيها جواهر، فكسروها، فوجدوا فيها ورقة مكتوباً فيها: عثمان يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، عليها نحيا وعليها نموت، ووجدوا في ظهرها مكتوباً:
غِنَى النفس يُغنِي النفسَ حتى يكُفّها ... وإن مسَّها حتى يضرَّ بها الفقرُ
فما عُسرةٌ فاصبِرْ لها إن لَقِيْتَهَا ... بكائنةٍ إلاّ ومِن بعدها يُسْرُ
قال: فأُسقِط في أيدي القوم. وقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - لمن حضر تشحُّط عثمان في الموت حين جرح: ماذا قال عثمان وهو يتشحَّط في الموت ؟ قالوا: سمعناه يقول: اللهمَّ اجمع محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثلاثاً؛ ثم قال: والذي نفسي بيده، لو قال: لا يجتمعون أبداً، ما اجتمعوا إلى يوم القيامة.
(1/271)

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه -: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ؟ ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم عملك، وأن لا تباهي الناس بعبادة ربك: فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين، رجل أذنب ذنباً فهو يتدارك ذلك، ورجل يسارع في الخير.
…وقال - رضي الله عنه -: احفظوا عني خمساً فلو ركبتم الإبل في طلبهن لأنضيتمُوهن (1) قبل أن تدركوهن: لا يرجو عبد إلاّ ربه، ولا يخاف إلاّ ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له.
وقال - رضي الله عنه -: التقوى ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة.
__________
(1) أنضيتموهن: أَهزلتموهن.
(1/272)

وقال - رضي الله عنه -: أشدُّ الأعمال ثلاثة: إعطاء الحق من نفسك، وذكر الله على كل حال، ومواساة الأخ بالمال.
وقال ضرار بن ضمرة الكناني - رحمه الله - في وصفه حين وصف لمعاوية: وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليلُ سُدولَه وغارت نجومه، يتململ في محرابه، قابضاً على لحيته تململ السليم (1) ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه. ثم يقول: يا دنيا إليَّ وتعرضتِ أم إليَّ تشوفتِ ؟ هيهات هيهات لِلَّهِ غُرِّي غيري، قد طلقتكِ ثلاثاً لا رَجعة فيها؛ فعمركِ قصير، وعيشكِ حقير وخطركِ كثير. آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق، قال: فوكَفَتْ دموع معاوية على لحيته ما يملِكها.
وعن عمر - رضي الله عنه - قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مُصعب بن عُمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تمنطق به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوَّر الله قلبه لِلَّهِ لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشرب، فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون ).
__________
(1) السليم: الملدوغ.
(1/273)

ومرض خبّاب بن الأَرَتْ (1) - رضي الله عنه - فعاده نفر من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -، فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله. إخوانك تقدم عليهم غداً؛ فبَكَى وقال: أما إنه ليس بي جزع، لكن ذكَّرتموني أقواماً وسميتم لي إخواناً، وإن أولئك مضوا بأجورهم كما هي، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتيناه من بعدهم ( يريد من أمور الدنيا ).
وقال: عبد الله بن مسعود (2) - رضي الله عنه -: حبَّذا المكروهان : الموت والفقر، و أيمُ الله! إن هو إلا الغنى و الفقر
__________
(1) ابن جندلة. أسلم سادس ستة. وعذب لإسلامه عذاباً شديداً، وشهد المشاهد كلها. ونزل الكوفة ومات بها سنة 37 منصرف علي من صفين، وصلى عليه عليّ. وكان مرضه شديداً حتى كاد أن يتمنى الموت لولا النهي عنه.
(2) أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين؛ وشهد بدراً والمشاهد بعدها، ولازم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحدّث عنه كثيراً، وكان صاحب سره وسواكه ونعليه وطهوره في السفر. وكان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه وسمته، وهو أول من جهر بالقرآن، وأجهز على أبي جهل يوم بدر، وتوفي بالمدينة سنة 32هـ.
(1/274)

وما أبالي بأيهما بُلِيت! لِلَّهِ إن حق الله في كل واحد عنها واجب لِلَّهِ إن كان الغنى إنَّ فيه العطف، وإن كان الفقر إنَّ فيه الصبر، وقال: وما أبالي إذا رجعت إلى أهلي على أي حال أراهم بسرَّاء أم بضرَّاء، وما أصبحت على حالة فتمنيت أني على سواها.
وقال: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دِينُه، فيخرج ولا دين له. فقيل له: لم ذلك ؟ قال: لأنه يرضيه بما يُسخِط اللهَ تعالى.
وقال الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى -: وذلك لأن الداخل على السلطان معرَّض لأن يعصي الله تعالى، إما بفعله وإما بسكوته وإما باعتقاده، ولا ينفك عن أحد هذه الأمور.
وكان عمَّار بن ياسر(1) - رضي الله عنهما - طويلَ الصمت، _________________
(1) من بني ثعلبة بن عوف. من السابقين الأولين. وقد عذب لإسلامه هو وَأبوه وأمه. وكان - صلى الله عليه وسلم - يمر بهما وهما يعذبان فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنة ). شهد المشاهد كلها، واستعمله عمر على الكوفة. وهو الذي أخبره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه ستقتله الفئة الباغية. وقد قتل مع علي بصفين في شهر ربيع سنة 37 ه- عن 93 سنة. رضي الله عنه.
(1/275)

طويلَ الحزن والبكاء، وكان عامة كلامه عياذاً بالله من الفتنة.
ولما بنى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - داره قال لعمّار - رضي الله عنه - هلم انظر إلى ما بنيت؛ فانطلق عمّار فنظر إليه فقال: بنيت مشيداً، وأمَّلت بعيداً، وتموت قريباً.
ودخل معاذ بن جبل (1) - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: ( كيف أصبحت يا معاذ ؟ فقال: أصبحت بالله مؤمناً، فقال إن لكل قول مصداقاً، ولكل حق حقيقة، فما مصداق ما تقول ؟ فقال: يا رسول الله - ما أصبحت صباحاً قط إلاّ ظننت أني لا أُمسي، ولا أمسيت مساءً قط إلاّ ظننت أني لا أُصبح، ولا خطوت خُطوةً قط إلاّ ظننت أني لا أتبعها أخرى، وكأني أنظر إلى كل أمة، جاثيةً تدعى إلى كتابها، معها نبيُّها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله عزَّ وجلَّ، وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة؛ فقال صلى الله عليه وسلم : (قد عرفتَ فالزَمْ ).
__________
(1) الأنصاري الخزرجي، الإمام المقدم في علم الحلال والحرام. شهد المشاهد كلها، وأمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اليمن. وهو ممن جمع القرآن توفي بالطاعون في الشام سنة 17هـ عن 34سنة.
(1/276)

وقال عتبة بن غزوان (1) في خطبته بالبصرة: إن الدنيا قد آذنتَ بصَرْم، وولت حذاء (2)، ولم يبق منها إلاّ صُبابة كصبابة الإناء يتصابُّها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار قرار، فانتقلوا بخير ما يحضرنَّكم. ولقد بلغني أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنّة مسيرة أربعين عاماً. وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد بلغني أن صخرة لو هوت من شفير جهنم هوت سبعين خريفاً أفعجبتم ؟ ولقد رأيتُني وسعدَ بن مالك وإني لسابع سبعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلاّ ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، وأَصَبت بُردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فما من أولئك السبعة إلاّ أمير على مِصْر. ألا وإنكم ستجرِّبون الأمراء بعدي. وفي رواية: إني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وفي أنفس الناس صغيراً، وستجربون الأمراء بعدي. قال الحسن: فجربناهم فوجدناهم أنتاناً.
سعد بن مالك: هو سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه.
__________
(1) ابن جابر الحارثي المازني، باني البصرة. أسلم قديماً. وهاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً والقادسية. وولي البصرة فمصَّرَها. توفي سنة 17 ه-.
(2) آذنت: أعلمت وأخبرت. وصرم - بفتح فسكون -: انقطاع. وحذاء: بمعناه.
(1/277)

وقال سلمان الفارسي (1) - رضي الله عنه -: ثلاث أعجبتني حتى ضحكت: مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس مغفولاً عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط رب العالمين أم راض. وثلاث أحزنتني حتى بكيت: فراق محمد سيد الأولين والآخرِين وحزبِهِ، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، ولا أدري أينصَرفُ بي إلى الجنة أم إلى النار.
وقال حذيفة بن اليمان (2) - رضي الله عنه -: إن الرجل لَيدخل المدخل الذي يجب عليه أن يتكلم فيه لله تعالى فلا يتكلم، فلا يعود قلبه إلى ما كان عليه أبداً. وقال ليأتينَّ على الناس زمان لا ينجو فيه إلاّ من دعا بدعاء كدعاء الغريق.
وقال رجل لأبي الدرداء (3) - رضي الله عنه -: أوصني؛
_____________
(1) هو سلمان الخير. كان عالماً زاهداً. شهد الخندق وبقية المشاهد وفتوح العراق، وولي المدائن، كان يأكل من كسب يده ويتصدق بعطائه. توفي سنة 36هـ.
(2) العبسي: من كبار الصحابة. أسلم هو وأبوه. واستعمله عمر على المدائن وتوفي بها سنة 36 ه-.
(3) اسمه عويمر، أو عامر الأنصاري الخزرجي. أسلم يوم بدر، وشهد أحداً وأبلى فيها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: نِعم الفارسُ عويمر. وتولى قضاء دمشق في عهد عمر، وتوفي سنة 32ه-.
(1/278)

فقال: اذكر الله عزَّ وجلَّ في السراء يذكرك في الضراء، وإذا أشرفت على شيء من الدنيا فانظر إلى ماذا يصير. وقال - رضي الله عنه -: حبذا نومُ الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهرَ الحمقى وصيامَهم لِلَّهِ ولَذرة من ذي يقين وتقوى من البِّر، خير من أمثال الجبال من أعمال المغترين.
ولما مات زين العابدين علي بن الحسين (1) - رضي الله عنهما - وجدوه يعول مائة َ أهلِ بيت، وكان إذا أقرض قرضاً لم يستعده، وإذا أعار ثوباً لم يرجعه، وإذا وعد إنساناً لا يأكل ولا يشرب حتى يوفي بوعده، وإذا مشى في حاجة فوقفت قضاها من ماله، وكان يحج ويغزو ولا يضرب راحلته، وكان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة.
وقال الباقر محمد بن علي (2) - رضي الله عنهما -: ما الدنيا وما عسى أن تكون؟ هل هي إلاّ ثوب لبستَه،
__________
(1) هو الإمام علي بن الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي بالمدينة سنة 94هـ، ودفن بجانب قبر عمه الحسن، رضي الله عنهما.
(2) هو الإمام محمد بن علي زين العابدين. كان من النسَّاك. توفي سنة 114هـ ودفن بالمدينة.
(1/279)

أو مركب ركبته، أو امرأة أصبتَها !؟ وقال - رحمه الله -: كان لي صاحب وكان عظيماً في عيني، وكان الذي عظَّمه في عيني صغر الدنيا في عينه.
وقال - رحمه الله - لابنه: يا بُنيَّ، إياك والكسلَ والضجرَ، فإنهما مفتاح كل شر؛ فإنك إذا كسلت لم تؤد حقًا، وإذا ضجرت لم تصبر على حق.
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى لجعفر الصادق رضي الله عنه : حدِّثنا، فقال: إذا أنعم عليك بنعمة فأحببت بقاءها فأكثر من الحمد والشكر عليها لله عزَّ وجلَّ؛ قال الله تعالى: { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم: 7]. وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار؛ قال الله تعالى: { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ و بَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [ نوح:10- 12 ]. وإذا أحزنك أمر من السلطان أو غيره فأكثر من ( لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ) فإنها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة وقال - رضي الله عنه -: عجبت لمن أُعجِب بأمر نفسه، كيف لا يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله ؟ والله يقول: { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } [ الكهف: 18/39] وعجبت لمن خاف قوماً كيف لا يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل،
(1/280)

والله تعالى يقول: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } [ آل عمران:173 ] إلى قوله تعالى: { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } [ آل عمران:174 ]. وعجبت لمن مُكِر به كيف لا يقول: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ غافر:44] إلى قوله تعالى: { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } [ غافر:45 ].
وعجبت لمن أصابه غمٌّ كيف لا يقول: { لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء:87 ] إلى قوله تعالى: { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء: 88].
وقال رجل لعمرَ - رحمه الله تعالى -: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله عزَّ وجلَّ التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلاّ أهلها، ولا يثيبُ إلاّ عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل. وقال - رحمه الله -: في خطبته: أما بعد، فإن ما في أيديكم أسلابُ الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صَدع من الأرض غير ممهد ولا موسَّد، قد خلع الأسباب وفارق الأحباب،
(1/281)

وأُسكِن التراب وواجه الحساب، فقير لما قدم أمامه، غنيٌّ عما ترك بعدن. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي. ثم قال بطرف ثوبه على عينيه وبكى؛ فكانت هذه آخرَ خطبة خطبها.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: إن المؤمن قوّام على نفسه يحاسب نفسه لله عزَّ وجلَّ، إنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما يشق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفجؤهُ الشيء يعجبه فيقول: والله إني لأحبك وإني محتاج إليك، ولكن والله ما من وُصلة إليك، وهيهات، حيل بيني وبينك. ويفرُط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت بهذا، مالي ولهذا؛ والله لا أعود إلى مثل هذا أبداً إن شاء الله تعالى، وإن المؤمنين قد أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلَكَتِهم، وإن المؤمن أسيرٌ في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله تعالى، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره، ولسانه وجوارحه.
وقال - رحمه الله -: إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتصلحه،
(1/282)

فإذا فعلتَ ذلك لم تصلح عيباً إلاّ وجدت عيباً آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله تعالى من كان كذلك، وما سمع الخلائق بيوم قط أكثر عورةٍ بادية ولا عين باكيةٍ من يوم القيامة.
وقال - رحمه الله -: ويحك يا ابن آدم هل لك بمحاربة الله طاقة لِلَّهِ إنه من عصى الله فقد حاربه. والله لقد أدركت سبعين بدرياً أكثر لباسهم الصوف، لو رأيتموهم قلتم مجانين؛ ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خَلاق، ولو رأوا شراركم: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. والله لقد رأيت أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدمه. ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ولا يجد عنده إلاّ قوته، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله، فيتصدق ببعض وإن كان هو أحوجَ إليه ممن يتصدق به عليه.
وقال ثابت البُنَاني - رحمه الله -: إن أهل ذكر الله عزَّ وجلَّ يجلسون لذكر الله تعالى وعليهم من الآثام مثل الجبال؛ فإذا ذكروا الله تعالى يقومون من مجلسهم بعد ذكر الله عُطُلاً من الذنوب، ما عليهم منها شيء.
(1/283)

وقال - رحمه الله -: إذا وضع المؤمن في قبره احتوشته أعماله.
وقال: إن المؤمن إذا بعث من قبره تلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا يقولان له: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنتَ تُوعد.
وقال الربيع بن خيثم - رحمه الله -: أَعِدَّ زادك وجِدَّ في جَهازك وكن وصيَّ نفسك. وقال: إن الناس خافوا الله في ذنوب الناس، وأمنوا منه سبحانه وتعالى على ذنوبهم. ولما أصابه الفالج قيل له: لو تداويت ؟ فقال: قد عرفت أن الدواء حق، ولكني ذكرت عاداً وثمود وأصحاب الرَّس وقروناً بين ذلك كثيراً كانت فيهم الأوجاع وكانت لهم الأطباء؛ فما بقي المداوَى ولا المداوِي.
وقال مالك بن دينار - رحمه الله -: ما تَنعَّم المتنعمون بمثل ذكر الله سبحانه وتعالى.
وقال: إن الصدِّيقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة. وقال: لا يبلغ الرجل منزلة الصدِّيقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى منازل الكلاب.
(1/284)

وقال: نظرت في أصل كل إثم فوجدته حب الدنيا؛ فمن ألقى حبها استراح.
وقال: رأيت في بعض الكتب: أن الله عزَّ وجلَّ يقول: (( إن أهون ما أنا صانع بالعالِم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه )).
وقال: إذا لم يكن في القلب حُزنٌ خرِب، كما إذا لم يكن في البيت ساكن فإنه يخرَب.
وقال: سفيان الثوري - رحمه الله -: الأعمال السيئة داء والعلماء دواء؛ فإذا فسد العلماء فمن يشفي الداء ؟.
وقال: العالِم طبيب الدِّين، والدرهم داء الدِّين؛ فإذا جر الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوي غيره.
وكان يقول: ما طاق أحد العبادة ولا قوي عليها إلاّ بشدة الخوف. وقال: إنما يُطلَب العلم ليُتَّقَى اللهُ به، فمِن ثَم فُضِّل، ولو لا ذلك لكان كسائر الأشياء.
وقال الإمام أحمد بن حنبل(1) - رحمه الله -: وجدت الخلوةَ
__________
(1) الشيباني. أحد الأئمة الأربعة. ولد ببغداد، فنشأ مكِبًا على طلب العلم، وسافر في سبيله إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة والشام والثغور وحُبس وعُذّب في مسألة القول بخلق القرآن. توفي ببغداد سنة 214ه-.
(1/285)

أصلحَ لقلبي، وقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل. وقال له ولده عبد الله وهو صبي: يا أبت، هب لي قطعة؛ فقال: أبوك ما يملك قطعة لِلَّهِ ويومٌ لا يملك فيه قطعة أحب إليه من يوم يملك فيه قطعة. والقطعة شيء قليل جداً من الفضة.
وقال إبراهيم بن أدهم - رحمه الله تعالى -: اتخِذ الله صاحباً، وذر الناس جانباً. وقال - رحمه الله - أيضاً: من عرف ما يطلُب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن طال أمله ساء علمه، ومن أَطلق لسانه قتل نفسه.
وقال - رحمه الله -: ما أصدق اللهَ عبد أحب الشهرة.
وقال رجل لداود الطائي: أوصني. فقال له: صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفرَّ من الناس كما تفرُّ من الأسد.
وكان سفيان الثوري - رحمه الله - يقول: اللهم سلِّم سلِّم. وكان داود الطائي يقول: اللهم خلِّص خلِّص، ويقول: إنما يسأل السلامة من لم يقع؛ وأما من وقع فإنما يسأل الخلاص.
وسئل ابن المبارك (1) - رحمه الله تعالى -: مَن الناسُ ؟ __________
(1) هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، شيخ الإسلام الحافظ المجاهد التاجر. مات سنة 181هـ لما رجع من غزو الروم، ودفن بـ ( هيت ) مدينة معروفة على الفرات. وكانت إقامته بخراسان.
(1/286)

قال العلماء، قيل: فمن الملوك ؟ قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة ؟ فقال: الذي يأكل بِدِينه. وقال - رحمه الله -: العُجب أن ترى عندك شيئاً ليس عند غيرك، والكبر أن تزدري الناس.
وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: لم يُدرِك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، وإنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة. وقال - رحمه الله -: لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق الصدق وطلب الحلال. وقال - رحمه الله -: التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له، وتقبل الحق من كل من تسمعه منه. وقال: أبى الله أن لا يجعل أرزاق المتّقين إلاّ من حيث لا يحتسبون.
وقال أبو عبد الله خادم محمد بن أسلم الطوسي (1) - رحمه الله -: دخلت على محمد بن أسلم قبل موته بأربعة أيام بنيسابور، فقال: يا أبا عبد الله، تعالَ أبشِّرك بما صنع الله بأخيك من الخير،
__________
(1) هو محمد بن أسلم بن سالم الطوسي. من حفاظ الحديث، اشتهر بالصلاح، ونعته الذهبي ب- ( شيخ المشرق ). توفي سنة 242هـ .
(1/287)

وقد نزل بي الموت، وقد منَّ الله عليّ أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، وقد علم الله ضعفي وأني لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئاً يحاسبني عليه. ثم قال: أغلق الباب ولا تأذن عليّ لأحد حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدعُ ميراثاً غير كسائي ولبدي وإنائي الذي أتوضأ منه، وكتبي هذه، لا تكلف الناس مؤونة، وكانت معه صرة فيها ثلاثون درهماً، فقال: هذا لابني أهداه له قريب له، ولا أعلم شيئاً أحل لي منه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أنت ومالك لأبيك )، وقال: ( أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، ووَلَدُهُ من كسبه) كفنوني منه؛ فإن أصبتم بعشرة دراهم ما يستر عورتي فلا تشتروا بخمسة عشر، وابسطوا على جنازتي لبدي، وغطُّوا على جنازتي كسائي، وتصدقوا بإنائي أعطوه مسكيناً يتوضأ منه. ثم مات اليوم الرابع، فعجبت أن قال لي ذلك بين وبينه، فلما خرجت جنازته جعلن النساء يقلن من فوق السطوح: يا أيها الناس، هذا العالِم الذي خرج من الدنيا وهذا ميراثه الذي على جنازته، ليس مثل علمائنا هؤلاء الذين هم عبيد بطونهم، يجلس أحدهم للعلم سنتين أو ثلاثاً فيشتري الضياع ويستفيد المال.
(1/288)

وقال معروف الكرخِي - رحمه الله - لرجل: توكل على الله حتى يكون هو معك وأنيسك وموضع شكواك؛ وليكن ذكر الموت جليسَك لا يفارقك، واعلم أن شفاء كل بلاء نزل بك كتمانه، فإن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك ولا يمنعونك.
وقال معروف: إنما الدنيا قِدر يغلي، وكنيف يملأ ويرمى به. وقال: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عليه أبواب العمل وأغلق عليه أبوب الجدل. وقال: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلا من الله عزَّ وجلَّ. وجاء حجام يأخذ من شارب معروف وكان معروف يسبِّح، فقال الحجام: لا يمكن أخذ الشارب وأنت تسبِّح لِلَّهِ فقال: أنت تعمل وأنا لا أعمل لِلَّهِ.
وقال أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي - رحمه الله تعالى -: فقدنا ثلاثة أشياء لا نجدها: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة. وقال: من زيَّن باطنه بالمراقبة والإخلاص، زين الله ظاهره بالمجاهدة واتِّباع السنَّة؛ لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69]، وقال: إذا أنت لا تسمع نداء الله عزَّ وجلَّ، كيف تجيب داعي الله تعالى.
وقال بشر بن الحارث - رحمه الله -: يأتي على الناس زمان لا تقَر فيه عين حكيم، ويأتي على الناس زمان تكون فيه الدولة للحمقى على الأكياس.
(1/289)

وقال - رحمه الله -: إنك لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات حائطاً من حديد.
وقال الحسن المسوحي: رآني بشر بن الحارث يوماً وأنا أرتعد من البرد؛ فنظر إليّ وقال:
قَطْعُ الليالي مع الأيام في خَلَقِ ... والنومُ تحت رواق الهمِّ والقَلقِ
أحرى وأجدرُ بي من أن يقالَ غداً ... إني التمستُ الغنى من كفِّ ممتَلقِ
قالوا قنعتَ بذا، قلت القُنوعُ رضاً ... ليس الغنى كثرةَ الأموال والورِقِ رضيتُ بالله في عُسر وفي يُسُرٍ ... فلست أَسلُكُ إلاّ أوضحَ الطرق
وقال السَّرِي السقطي - رحمه الله -: من أراد أن يسلم دينه، ويستريح قلبه وبدنه، ويقلَّ غمُّه فليعتزل الناس؛ لأن هذا زمان عزلة ووحدة.
وقال: من لم يعرف قدر النِّعم سُلِبَها من حيث لا يعلم.
وقال: قليل في سُنَّةٍ، خير من كثير في بدعة، وكيف يقلُّ عمل مع تقوى لِلَّهِ.
(1/290)

وقال ابن أبي داود: دخلت يوماً على السري وهو يبكي ودورقه مكسور، فقلت له: ما لك ؟ فقال: انكسر الدورق، فقلت له: أنا أشتري لك بدله، فقال له: من أين تشتري لي بدله وأنا أعرف الدانق الذي اشتُري به الدورق، ومَن عَمِله ومِن أين أُخذ طينه، وأيَّ شيء أكل عاملُه حتى فرغ من عمله ؟ لِلَّهِ.
وسئل ذو النون المصري عن المحبة لِلَّهِ فقال: أن تحب ما أحب الله، وتُبغض ما أبغض الله، وتفعل الخير كله، وترفض ما يَشْغَلُك عن الله، وأن لا تخاف في الله لومة لائم، مع العطف للمؤمنين، والغلظة للكافرين، واتِّباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدين. وقال - رحمه الله -: قال تعالى: ( من لي مطيعاً كنت له ولياً، فليثق بي وليحكم عليَّ فوعزَّتي وجلالي لو سألني زوال الدنيا لأزلتها ). وقال - رحمه الله -: كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضاً للدنيا وتركاً لها، فاليوم يزداد الرجل بعلمه للدنيا حباً لها وطلباً. وكان الرجل ينفق ماله على علمه، ويكسب اليوم بعلمه مالاً، وكان يُرى على طالب العلم زيادة في باطنه وظاهره فاليوم يُرى على كثير من أهل العلم فساد الباطن والظاهر. وقال: الأنس بالله نور ساطع، والأنس بالخلق غم واقع.
(1/291)

وقال سهل بن عبد الله التستري - رحمه الله -: إن الله عزَّ وجلَّ قال لآدم عليه الصلاة والسلام: يا آدم، أنا الله لا إله إلاّ أنا، فمن رجا غيرَ فضلي وخاف غير عدلي لم يعرفني. وقال سهل: البلوى من الله عزَّ وجلَّ على وجهين: بلوى رحمة، وبلوى عقوبة؛ فبلوى الرحمة تبعث صاحبها على إظهار فقره وفاته إلى الله سبحانه وتعالى، وترك تدبير نفسه واختيارها، وبلوى العقوبة تبعث صاحبها على اختيارات نفسه وتدبيرها، وقال سهل: استجلِب حلاوة الزهد بقُصر الأمل، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس، وتعرّض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر، وتزيَّن لله عزَّ وجلَّ بالصدق في الأحوال كلها، وإياك والتسويفَ لِلَّهِ فإن التسويف يُغرِق الهلكى، وإياك والغفلة لِلَّهِ فإن فيها سواد القلب واستجلب زيادة النعم بعُظم الشكر ولستَ بالغاً منه شيئاً.
وقال سهل: الغضب أشد على البدن من المرض؛ لأنه إذا غضب دخل عليه من الألم أكثر مما يدخل من المرض، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (( لاتغضب)) وكرَّر مراراً.
وقال سهل: يأتي على الناس زمان يذهب الحلال من أيدي أغنياءهم، وتكون أموالهم من غير حلها، فيسلط الله بعضهم على بعض فتذهب لذة عيشهم ويلزم قلوبَهم خوفُ فقر الدنيا،
(1/292)

وخوف شماتة الأعداء، ولا يجد لذة العيش إلاّ عبيدهم ومماليكم، ويكون ساداتهم في بلاء وشقاء وعناء، وخوف من الظالمين، ولا يستلذ بعيش يومئذ إلاّ منافق لا يبالي من أين أخذ ولا فيم أنفق، ولا كيف أهلك نفسه لِلَّهِ وحينئذ تكون رتبة القراء رتبة الجهال، وعيشهم عيش الفجار، وموتهم موت أهل الحَيرة والضلال.
وقال الجنيد بن محمد - رحمه الله -: البلاء سراج العارفين، ويقظة المريدين، وهلاك الغافلين. وسئل الجنيد عن الشفقة ؟ فقال: أن تعطي الناس من نفسك ما يطلبونه، ولا تحمِّلهم ما لا يطيقون، ولا تخاطبهم بما لا يعلمون. وقال: إذا صحت المودة سقطت شروط الأدب. وقال: يا معشر الشباب، جدُّوا قبل أن تعجزوا، واجتهدوا قبل أن تطلبوا أثراً بعد عين؛ فإني تذكرت مجاهدات كانت لي تقبِّح في عيني بَطالتي اليوم. قال منصور بن علي: وكانت حالته إذ ذاك من أعظم أنواع المجاهدات.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: الناس في هذه الدنيا على خمسة أصناف: العلماء هم ورثة الأنبياء، والزهاد هم الأدلاّء، والغزاة هم أسياف الله، والتجار هم أمناء الله،
(1/293)

والملوك هم رعاة الخلق، فإذا أصبح العالِم طامعاً، وللمال جامعاً، فبمن يُقتَدَى ؟ وإذا أصبح الزاهد راغباً فبمن يُستدل ويهتدى ؟ وإذا أصبح الغازي مرائياً والمرائي لا عمل له فبمن يُظفَر بالعدا ؟ وإذا كان التاجر خائناً فبمن يؤمن ويُرتضى؟ وإذا أصبح الملك ذئباً فمن يحفظ الغنم ويرعى ؟ فو الله ما أهلك الناسَ إلاّ العلماء المداهنون، والزهاد الراغبون، والغزاة المراؤون، والتجار الخائنون، والملوك الظالمون { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [الشعراء: 26/227].
وأنشد الشيخ الصالح عبد العزيز الديريني - رحمه الله - لنفسه في هذا المعنى:
إذا ماتَ ذُو علمٍ وتقوى ... فقد ثُلِمَتْ من الإسلام ثُلمَهْ
وموتُ العابدِ المَرضيِّ نقصٌ ... ففي مَرآه للأسرار نَسْمَهْ
وموتُ العادِل الملِك الموَلَّى ... بحكم الحق مَنقصَةٌ وقَصمَهْ
وموتُ الفارس الضِّرغام هَدْمٌ ... فكم شهِدَت له بالنصر عَزْمَه
(1/294)

وموتُ فتًى كثيرِ الجُودِ مَحْلٌ ... فإن بقَاءه خِصبٌ ونِعْمَه
فحسبك خمسةٌ يُبكى عليهم ... وموتُ الغير تخفيف ورَحْمَهْ
روي: أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد من إياد، فسألهم عن قُسّ بن ساعدة؟ فقالوا هلك. فقال: - رحمه الله -، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل أحمر، وهو يقول: أيها الناس، اجتمعوا، واستمعوا وعُوا، فإن من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، أما بعد: فإن في السماء لَخَبَر، وإن في الأرض لَعِبَر، أبْحرٌ تمور، ونجوم تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، أقسم قسم بالله قسماً: إن لله ديناً أَرْضى من دينٍ أنتم عليه لِلَّهِ ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ؟ أَرَضُوا فأقاموا، أم تُركوا فناموا، سبيل مؤتلف، وعمل مختلف. ثم قال أبياتاً لا أحفظها )! فقال أبوبكر - رضي الله عنه -: أنا أحفظها يا رسول الله، فقال: ( هاتها ) فقال:
في الذاهبين الأوَّلينَ ... من القرون لنا بصائرْ
لما رأيتُ موارِداً ... للموت ليس لها مصادرْ
ورأيتُ قومي نحوَها ... تمضِي الأصاغرُ والأكابرْ
(1/295)

لا يَرجِعُ الماضي إلَيَّ ... ولا من الباقين غابِرْ
أَيقَنْتُ أني لا محَالةَ ... حيث صارَ القوم صائرْ
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رحم الله قُسًّا لِلَّهِ إني لأرجو أن يبعه الله أمة وحده.

* * *
(1/296)

خاتمة الخاتمة
* * *
وَلنَخْتِم هذهِ الخَاتمَةُ المُبَاركَة بالأحاديث التي خُتِمت بها الكُتُب السبعة
التي هيَ أصُول الدِّين وَالإسلام وَأمّهات الشّريعة والأحكامِ
تيمّنًا وَتبرّكاً بحديث رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَتفَاؤُلاً وتَرجّيًا مَن الله حسن الختام، وَهِيَ:
كتاب (( الموطأ )) للإمام مالك بن أنس (1) رحمه الله، وكتاب ( الجامع الصحيح ) للإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله (2)، وكتاب (الجامع الصحيح) للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري رحمه الله تعالى (3)
__________
(1) إمام دار الهجرة، مالك بن أنس الأصبحي، ولد بالمدينة وتوفي بها سنة 179ه-.
(2) إمام الأئمة وأمير المؤمنين في الحديث. ولد ببخارى سنة 194 ه- وتوفي ليلة الفطر سنة 256ه-.
(3) كتابه أصح الكتب بعد البخاري. أخذ عن البخاري وشاركه في كثير من الأحاديث من شيوخه، ولد بنيسابور، ورحل إلى الأقطار الإسلامية، وتوفي بظار نيسابور سنة 261ه-.
(1/297)

وكتاب (السنن) للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله (1)، وكتاب ( الجامع ) للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمذي رحمه الله (2)، وكتاب ( السنن ) للإمام أبي عبد الرحمن أحمد ابن شعيب النسائي (3) رحمه الله، وكتاب ( السنن ) للإمام محمد بن يزيد بن ماجه (4) رحمه الله.
وقد اجتمعت هذه الكتب المعظمة عندنا والحمد لله وذلك من فضل الله ومَنِّه.
سبحانه لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، غير أن الذي صار إلينا من سنن النسائي هو ( المجتبى ) من السنن الكبيرة له.
___________________
(1) أحد أئمة الدنيا حفظاً وفقهاً وعلماً وورعاً. انتَخَب كتابه السنن من خمسمائة ألف حديث، توفي بالبصرة سنة 275هـ.
(2) إمام جليل في علوم الحديث. تتلمذ للبخاري وشاركه في أكثر شيوخه، وكتب عنه البخاري. كان يُضَرب به المثل في الحفظ. مات بترمذ سنة 289هـ.
(3) الخراساني: ثم البصري أحد الأئمة المبرزين في الحديث، حتى قال الذهبي: هو أحفظ من مسلم توفي سنة 303هـ.
(4) القزويني، أحد الأئمة الأعلام في علم الحديث. له مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ، توفي سنة 273هـ.
(1/298)

... خاتمة كتاب ( الموطأ )، عن محمد بن جُبير بن مطعِم (1) عن أبيه جبير بن مطعم - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بِيَ الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس قَدمي، وأنا العاقب ).
... خاتمة ( صحيح ) البخاري؛ عن أبي زُرعة (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ).
... خاتمة ( صحيح ) مسلم، عن قيس بن عبادة (3) قال: سمعت أبا ذر يُقسِم قَسَماً أن { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [الحج: 19] أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث (4) رضي الله عنهم أجمعين وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة.
__________
(1) المدني. كان أعلم قريش بأحاديثها. وكان أبوه من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة توفي في خلافة سليمان بن عبد الملك.
(2) هو أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي الكوفي، التابعي قيل: اسمه كنيته، رأى عليّاً، وكان انقطاعه إلى أبي هريرة.
(3) أبو عبد الله من ثقات التابعين قدم المدينة في خلافة عمر وسكن البصرة، وخرج مع ابن الأشعث فقتله الحجّاج سنة 85ه-.
(4) ابن المطلب بن مناف من أبطال قريش في الجاهلية والإسلام ومن السابقين في الإسلام استشهد ببدر.
(1/299)

... خاتمة: ( سنن ) أبي داود، عن وهب بن منبِّه عن أخيه عن معاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر أؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا ).
... خاتمة ( جامع ) الترمذي، عن المَقبُري (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قد أذهب الله عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء: مؤمن تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب ) هذا حديث حسن. وعن المغيرة (2) بن أبي قرة السدوسي قال: سمعت أنساً - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله أَعقِلها وأَتَوَكَّل، أو أُطْلِقُها وأتوكل ؟ قال: ( اعْقِلها وتوكل ).
... خاتمة ( سنن ) النسائي، عن الشعبي(3) عن أم سلَمة رضي الله عنها
__________
(1) هو سعيد بن أبي سعيد. والمقبري: نسبة إلى مقبرة بالمدينة، كان مجاوراً لها، اختلف في وفاته ما بين سنة 117 - 126ه-.
(2) في الأصل: ( أبي فروة ) وهو تحريف، كان كاتب يزيد بن المهلب، وفتح معه جرجان في أيام سليمان بن عبد الملك.
(3) هو عامر بن شراحيل الحميري الكوفي. قال ابن شبرمة: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء. ولا حدّثني رجل بحديث إلاّ حفظته ولا حدّثني رجل بحديث فأحببت أن يعيده عليّ. اختلف في وفاته وكانت ولادته لستٍّ سنين خلت من خلافة عمر.
(1/300)

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال: ( باسمك ربي أعوذ بك أن أزِل أو أُزَل، أو أَضِلّ أو أُضَلّ، أو أظلِم أو أُظلَم، أو أجهل أو يُجْهَل علي ).
... خاتمة ( سنن ) ابن ماجه، عن يزيد بن أبي مريم عن (1) أنس - رحمه الله - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة. ومن استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجره من النار ).
…وعن أبي صالح (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ما منكم من أحد إلاّ له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات الرجل ودخل النار ورث أهل الجنة منزله؛ فذلك قوله تعالى: { أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } [المؤمنون: 23/10].
* * *
_______________
(1) في الأصل: ( يزيد عن أبي مريم ) هو خطأ. مولى سهل بن الحنظلية الأنصاري، كان إمام الجامع بدمشق. قال أبو حاتم: من ثقات أهل الشام. مات سنة 44 هـ. وقيل بعد سن 45 هـ.
(2) أبو صالح: هو ذكوان أبو صالح السمان المدني. وثقه أحمد بن حنبل. مات سنة 101هـ.
(1/301)

…تمت خواتم هذه الكتب الشريفة من الأحاديث النبوية المنيفة، وبتمامها يتم الكتاب، والله الهادي إلى الحق والصواب. ونسأله حسن الختام وحسن المآب وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق. سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عمّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
... قال مؤلفه:
وكان الفراغ من تأليفه بعون الله وتيسيره بكرة يوم الجمعة السابع أو الثامن والعشرين من شهر المحرم سنة أربع عشرة ومائة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الأكرمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين آمين.

* * *
(1/302)

فهرس الكتاب :
خطبة الكتاب
المقدمة
الصنف الأول دعوة العلماء بالدين
الصنف الثاني دعوة العباد والزهاد
الصنف الثالث دعوة الأمراء والسلاطين وولاة أمور المسلمين
الصنف الرابع دعوة التجار والزراع والصناع
الصنف الخامس دعوة الفقراء والضعفاء وأهل البلاء
الصنف السادس دعوة الأتباع من الأولاد والنساء والمماليك
الصنف السابع دعوة المشغولين بطاعة الله ودعوة الملابسين لمعصية الله
القول في تذكير المشغولين بطاعة الله من العامة
القول في تذكير الملابسين للمعاصي من عامة المسلمين
الصنف الثامن دعوة المشركين وأهل الكفر
الخاتمة مواعظ ومذكرات
خاتمة الخاتمة
(1/303)


Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "الدعوة التامة و التذكرة العامة - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-3"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip